المطلق والنسبي
ربما كان أهم ملمح من ملامح عالم التسعينيات هو التغير السريع الذي أتت به الثورة الإلكترونية، أي ثورة الحاسبات الآلية كما يسمونها أحيانًا أو الحواسيب (جمع حاسوب أي كمبيوتر). وقد يسأل سائلٌ وما علاقة آلةٍ اخترعها الإنسان بتغيير حياته أو جانب منها؟ والإجابة هي أن البرمجة أي صياغة المعلومات صياغة حاسوبية (أي في برامج محددة) لم يقتصر تأثيرها على تيسير الحساب — أي حساب القيم والعمليات الرياضية خصوصًا في المجالات العلمية المتخصصة — ولكنه امتد ليشكل أسلوب الحساب نفسه؛ إذ جعل النظم الحاسوبية أسسًا للحساب تستوي فيها قيم الأرقام؛ ومن ثم بدأ يوحي بأن التساوي العددي هو التساوي الحقيقي، وأن الأرقام لا تكذب.
والتغيير الذي أحدثه الحاسوب في ثقافة الإنسان إذن منشؤه هو وضع أسس رقمية لعلوم الإنسان توحي (وليس إيحاؤها صائبًا بالضرورة في جميع الحالات) بسيادة العدد. وأنا لا أتكلم هنا عن الميكروكمبيوتر (أي الحاسوب الصغير أو الشخصي) الذي يستخدم في المكاتب والمنازل اليوم بدلًا من الآلات الكاتبة أو دفاتر التسجيل، ويستخدم في الشركات لإجراء العمليات الحسابية وكل ما يتصل بالشئون التجارية، فهذه آلات مفيدة تختصر الوقت إلى حد بعيد، ولكنني أتحدث عن الاعتماد على برامج الحاسوب التي أصبحت تحتل — بصورة متزايدة — مكان الكتاب في مكاتب العلماء، إلى الحد الذي غدت تهدد فيه العلوم الإنسانية بإحلال العدد محل النوع والقيمة، وخصوصًا بسبب تجاهل عامل من العوامل في أي عملية من عمليات هذه العلوم الحيوية.
الإنسان الحديث يتغير إذن نحو الإيمان بالآلة الحاسبة، أو بالآلة بصفة عامة، وهو في سبيل ذلك يتصور أنه يتقدَّم نحو المطلق، أي أنه أصبح يمتلك وسيلة الوصول إلى اليقين، بعد أن استطاع تحويل كل شيء إلى أرقام، والأرقام في ظنه لا تخطئ؛ ولذلك فقد وقف العلماء مشدوهين حين مات ثلاثة من رواد الفضاء السوفييت في طريقهم إلى الأرض، والحاسوب يؤكد أنهم أحياء (في السبعينيات) وكذلك عندما انفجر مكوك الفضاء الأمريكي بعد إطلاقه بدقائق، وقُتل رواد الفضاء السبعة (في الثمانينيات). لقد توالت تعليقات المعلقين آنئذٍ وكلها تدور حول عظمة الآلة ودقة الحساب، وأن سبب الكارثة بشري لأن الآلة لا تخطئ!
والتغيير الحثيث في اتجاه الإيمان بالآلة وما يصاحبها من إيمان بالعدد، يتناقض مع الأساس الفكري لأهم فرع من فروع الفلسفة الحديثة ذات الصلة الوثيقة بالرياضيات — وهو فرع فلسفة التحليل اللغوي التي أرسى أساسها فلاسفة ورياضيون، مثل برتراند راسل وهوايتهيد من ناحية، وفتجنشتاين ورايل من ناحية أخرى؛ فالأساس الفكري لهذه المدرسة ينزع نحو النسبية؛ لأنه يستقرئ قيمة الوحدة العددية أي الرقم المفرد، ويرفض أن يساوي بين رقمَين على الإطلاق؛ إذ يأخذ في اعتباره أولًا القيمة النوعية بكلٍّ منهما. وعندما شرعت في دراسة هذا الفرع في جامعة لندن (عام ١٩٦٥م) واستنكرت هذا التشكيك في علم الحساب كما نعرفه، لجأت إلى صديق لي متخصص في الرياضيات في نفس الجامعة كأنما لأستغيث به، وسألته في دهشةٍ ما مجموع واحد وواحد؟ وللقارئ أن يتصور مدى دهشتي عندما نظر إليَّ في هدوء وضيق يقول: «هذا يتوقف على …» بدلًا من أن يقول: «اثنين»! وكان بهذا يشير إلى أن المسألة تعتمد على نوع «الواحد» أي «الوحدة» الحسابية، فإذا أضفنا واحدًا (من نوع ما) إلى واحد من نوع آخر فلن تكون النتيجة اثنَين! والمفارقة هنا هي أن الدارسين يعزون التقدم في العلوم الحاسوبية إلى هذا المذهب الفلسفي نفسه؛ إذ يقولون بإيجازٍ إن تنقية التعبير عن طريق حذف الصفات (المضافة إلى الموصوف أو الكامنة فيه) يمكن أن تقترب باللغة من هذا المثل الأعلى وهو المثل الرياضي، أي نظام الأرقام المصمتة (أي التي لا تحتمل أي تأويل يخرج بها عن قيمها الأساسية).
ولذلك فبينما نرى أن العلوم الحاسوبية التي أدَّت إلى ازدهار صناعات جديدة فاءت بثروات طائلة على دول كثيرة (معظمها من الدول الكبرى وإن انضم إليها بعض الدول الآسيوية) تدين بمنشئها إلى فرع من فروع الفلسفة الحديثة، نجد أن تطوُّر هذه العلوم قد أوجد لونًا من الفكر المطلق، يتناقض في تطبيقاته وعواقبه مع الأسس الأولى لهذه الفلسفة التي ترتكن إلى النسبية؛ ومن ثم فإن الدارس ما يفتأ يواجه صورًا لهذا التناقض في كتابات المفكرين، الذين يزعمون أنهم نبذوا مذاهب «المطلق» إلى الأبد، عندما نبذوا الدين وأسسه المطلقة، بينما هم يحلون النظم العددية محل الصدارة في تفكيرهم، وتتسم مناهجهم في البحث بإيمان مطلق بقيمة العدد (والجداول) والشعور باليقين؛ حيث تنتظم الأرقام وتنضبط الحسابات.
وإذا كنا في هذه العجالة قد رصدنا ظاهرة انتقلَت من العلوم الطبيعية والتطبيقية إلى العلوم الإنسانية والنظرية، فلا بد أن نتحاشى نحن أيضًا التعميم الذي يجعلنا نتصوَّر ما يسمَّى بالنجاح المطلق، خصوصًا عندما يقع في مجال العلوم الطبيعية ويطلق عليه العامة صفة «العلمية»، فربما نجح هنا منهج وفشل هناك، ولا بد أن نذكر الأسس النوعية لكل شيء في حساباتنا، حتى نحقق التوازن بين النسبي والمطلق.