مناهج الفكر ومجالاته
إذا كان التغيُّر سمةً أساسية من سمات هذا العصر، فقد اكتسب في التسعينيات سرعة لاهثة؛ بسبب التقدُّم الذي أحرزته العلوم الطبيعية والرياضية بصفة خاصة، وبالتدريج بدأت مناهج البحث في الإنسانيات «تستعير» الكثير من هذه العلوم، خصوصًا فيما يتصل بالتصنيف والتبويب والقياس والاستقراء وما إلى ذلك، مهتديةً في كل مجال بتصور وجود «المطلق» الذي يرسي أسس اليقين، فيهب الإنسان راحة نفسية وذهنية لا غنى له عنها.
ولكن التطوُّر الفكري الذي صاحب هذه «الاستعارة» جعل الإنسان يطمح في توحيد مناهج البحث في شتى العلوم — الطبيعية منها والإنسانية — ودفعه دفعًا إلى محاولة إقامة كل شيء على أسس عددية لا تقبل الجدل، فرقم ٧ أكبر من رقم ٦ ورقم ٦ أكبر من رقم ٥، وإذا قبلنا مناقشة هذه البديهية انهار نظام تفكيرنا كله. وبدأ المفكرون يختطون سبلًا ومناهج جديدة (بهرتني أول الأمر) لمعالجة العلوم الإنسانية — استنادًا إلى مناهج العلوم الطبيعية، فبدءوا بإعادة تعريف بعض أسس الإنسانيات، التي كانت تحير القدماء، وخصوصًا بعض المفاهيم المجردة المستقاة من حياة الإنسان ولا وجود لها إلا في حياته، مثل «أنساق القيم»، أو «معايير الجمال»، أو معنى التناسق أو التضاد أو التناقض بين المجردات، ووجدنا بين المحدثين مَن حاول إعادة تفسير التراث الإنساني في إطار التعريفات الجديدة (وهي ليست صحيحة في كل الأحوال) للألفاظ الأساسية في كل علمٍ من العلوم الإنسانية.
وأقام أحدهم محورًا للعلوم الإنسانية يتضمَّن الدين والفلسفة والسياسة، باعتبارها مجالًا مشتركًا للبحث منذ أقدم العصور، وحاول تطبيق ما يسميه «بالمنهج العلمي» على هذا المحور، فأعجزه تداخل عناصر أخرى في كلٍّ منها، وهي عناصر تستعصي على التحليل المطلق (المؤدي إلى اليقين) مثل الاقتصاد الذي يتداخل مع كلٍّ منها، حتى مع الفلسفة، والجغرافيا التي تتداخل مع الاقتصاد، وبعض فروع العلوم الطبيعية التي لا غنى عن الإلمام بها لدارس هذه العلوم؛ ومن ثَم جرت محاولةٌ في جامعة كيمبريدج على مدى خمس سنوات (۱۹۸۳–۱۹۸۷م) لتحديد مناهج البحث اللازمة لكل علم من العلوم الإنسانية؛ بحيث يمكن للباحث تقليل نسبة الخطأ إلى أبعد حدٍّ ممكن، وكانت نقطة الانطلاق هي كتاب صغير للفيلسوف البريطاني س. أ. م. جود عنوانه «دليل إلى الفكر الحديث» يعيد فيه تعريف العلم الطبيعي الحديث (القائم على الملاحظة، والتجربة، والفرض، والنظرية والتنبؤ) منذ نشأته الثانية في القرن التاسع عشر (كانت الأولى في القرن السابع عشر) والمادية كما حدَّدها الفكر الماركسي أولًا، ثم كما أعاد تعريفها جونز وكوهن — وهي المعروفة بمادية الفكر الليبرالي.
أما إعادة التعريف فتتعلق بمعنى «الموجود» و«المتوهم» أي معنى كلمة «موجود» ذاتها؛ إذ بينما كان العلم منذ قرن أو بعض قرن لا يعترف إلا بالموجودات الحسية، أي التي تعترف بها حواسنا الخمس، أصبح يقبل الآن وجود ما لا يقع داخل نطاق الحواس من المجردات — «كالقيم» على سبيل المثال — وغيرها من المفاهيم المجردة المستقاة من حياة الإنسان الباطنة.
وركَّز دارسو كيمبريدج على أحد المفاهيم التي سبق أن تناولتها الفلسفة الإنجليزية وأكثرت فيها القول؛ وهو مفهوم «التوافق» أو ما شاعَت ترجمته «بالسعادة» — (وخطورة الكلمة الأخيرة إيحاؤها بالهناء أي بحالة من السرور والحبور هي عارضة عليها، وليست جوهرية فيها)؛ إذ ذهبت الفلسفة الإنجليزية الحديثة منذ جون ستيوارت ميل وأستاذه جيريمي بنتام (في مطلع القرن التاسع عشر) إلى أن التوافق أو التناغم من الأهداف التي يسعى إليها الإنسان في كده اليومي، وأن رجل الفكر يختار أن يختلف مع «الموجودات» (المحسوسة والمجردة) فيدخل في صراع من عوارضه الشقاء، وإن كانت «قيمة» سعادته المحدودة إذا تحققت، أكبر كثيرًا من سعادة غير المفكر الذي يهنأ بالتوافق طول عمره. وقال أحد دارسي مشروع كيمبريدج إن التسليم بقيمة متغيرة للتوافق يتناقض مع المنطق؛ إذ كيف نقبل أن تكون لدينا درجات متفاوتة من قيمة مطلقة؟
وانتهَت هذه الدراسة إلى أن حل هذا التناقض الظاهري يتمثَّل في الإقرار بضرورة وجود أكثر من منهج واحد للتناول العلمي — وذلك لأن العلوم الإنسانية تتضمن «قيمًا» متغيرة لا يمكن إخضاعها للمنطق الرياضي، أي تحويلها إلى مسائل حسابية أو إلى برامج حاسوبية (كمبيوترية)؛ ومن ثم الإقرار بضرورة تحديد المجالات المختلفة لكل علم من العلوم، وتحديد منهج لكلٍّ منها، طبقًا لمعطيات مجالها الخاص، ومعنى ذلك القبول بوجود مناهج علمية مختلفة (قد يصل اختلافها إلى حد التناقض) طبقًا لاختلاف هذه المجالات.
وقد تجلَّى هذا الاتجاه بصورة حاسمة عندما تعرض الباحثون لما يسمَّى بمجالات القانون ومجالات الفنون؛ إذ أثبتوا أن المناهج التقليدية المتبعة قد تتناقض مع المناهج المستعارة من العلوم الحديثة، والتي توحي بالدقة لاعتمادها على الحساب وتوسلها بالأرقام (والأرقام لا تخطئ كما يقال)، وشرعوا في ضرب الأمثلة مما يسمَّى بأسلوب دراسة الحالة أو دراسة الحالات، وهو في حقيقته منهج تطبيقي مستعار من علم الطب وعلم القانون، ويعتمد في أساسه النظري على أن لكل حالة منطقها ومجالها، وقد تجتمع مجموعة حالات لتشكل نمطًا يمكن اعتباره شريحة عمل، ومع ذلك تظل الفروق قائمة، بل وقد يُستعصى التعميم أحيانًا.
وهذا يعود بنا إلى ما ذكرناه في المقال السابق من علاقة النسبي بالمطلق، وضرورة الوعي بما هو فردي في علاقته بمجموعات الأفراد، وما هو عام حين يختلف عند التطبيق من فرد إلى فرد، ومن حالة إلى حالة؛ فالسارق لفظ عام، ولكن لكل سارق حالته، والشاعر لفظ عام ولكن لكل قصيدة منطقها، وكذلك المريض — أجل! — ماذا تقول في مريضَين يعانيان من نفس المرض ونفس الأعراض ويشتركان في كل شيء، ثم يُشفى أحدهما ويموت الآخر؟ هذا هو المجال الذي استعار الباحثون منه منهج دراسة الحالة.