الإبداع والنقد
الخلاف بين المبدعين والنقاد قديم قدم الإنسان نفسه؛ فالصانع حين نزع في عصر سحيق إلى الابتكار والتجديد في صنعته، وشعر بأنه ترك بصمته على ما يصنع، كان قد افتن فنًّا، أي اختط طريقًا؛ فالفن هو الفنن أو الفرع الذي يهتدي إليه الصانع بمهارة فطرية خاصة (لأنها تولد معه ولا يهبها إياه إلا المولى سبحانه وتعالى) اصطلحنا على تسميتها بالموهبة، وبعد أن فعل ذلك وجد مَن يقول له فيمَ اختلف عمن سبقوه وفيم اتفق معهم، وأحس بالحاجة الملحَّة إلى مَن يقول له «أبدعت!» أو «أحسنت!» وربما أضاف «ولكن هذا الجانب من عملك يحتاج إلى مزيد من الإتقان» مثلًا! وربما وقف الفنان عاجزًا عن إدراك أوجه الكمال والنقص في العمل، حتى يرشده إليها مرشد، وهو الذي اصطلحنا على تسميته بالناقد.
والذي أسميته بالصانع ليس بالضرورة صانع أشياء ملموسة؛ فالنجار صانع بالمعنى المقصود، وهو قد يغير من شكل كرسي مثلًا أو منضدة، بحيث يبدو فيها الابتكار، وإن قد تتسم بالطرافة التي قد يستمتع بها الآخرون وقد يرفضونها، فإذا جعل شكل قاعدة الكرسي أو ظهره على شكل ظهر حيوان مثلًا، وأضفى عليه من التفاصيل ما يوحي بذلك، فسوف يقبل عليه نفر وينفر منه نفر! وإذا «تفنن» أي سلك سبلًا جديدة في تصميم شكل الكرسي؛ بحيث يوحي بشيء آخر أو بحيث يبدو أبعد ما يكون عن الكرسي المألوف، فربما لم يجد من الجمهور من يقبل عليه ويشتريه. وقد يكون «الصانع» شاعرًا تخصص في كتابة مدائح العظماء أو احتفالات القرية أو القبيلة أو العشيرة، فإذا صنع بشعره ما يصنعه النجار من ابتكار وتجديد، فقد يجد من المستمعين من يقبل شعره، وقد يقابل بالرفض والاستنكار. وقس على ذلك كل مَن نطلق عليه لفظ الفنان في أيامنا — من ممارسي الفنون العملية، كالرسم والنحت والموسيقى والرقص والتمثيل، إلى ممارسي الفنون اللفظية، كالكُتاب والشعراء.
ولكن من ذا الذي يتولَّى التوجيه والذي اصطلحنا على تسميته بالناقد؟ جرى العرف على اعتبار الناقد مرجعًا في فنون الصنعة، لإحاطته بدقائق المجال الفني الذي يتعرض له، وهي الدقائق التي قد تبلغ حدًّا من الرسوخ يجعلنا نطلق عليها «المبادئ» أو «الأصول»، كالإيقاع في الشعر وكالحوار في المسرح وكالوصف في القصة وما إلى ذلك، وعلمه به يتأتى من دراسة تاريخ كل مجال فني وصلته بغيره من المجالات، وهو يتوسل في اكتساب هذا العلم بما اصطلح على تسميته «الحساسية الفنية»، وهي من باب الموهبة أيضًا، وإن كانت في رأي الكثيرين موهبة تنزع إلى التلقي أكثر مما تنزع إلى العطاء، أي إن عملها في رأي البعض «سلبي» أكثر من أن يكون إيجابيًّا. وهذا مربط الفرس كما يقولون؛ إذ إن هذه النظرة إلى الناقد (وهي نظرة قديمة بل ذات جذور ضاربة في أعماق الزمن السحيق) هي التي فجرت التيار الجديد من الأفكار عن الإبداع والنقد، والذي قلب موازيننا رأسًا على عقب!
بدأت الدراسات التحليلية عام ١٩٥٧م في معهد ستانفورد بالولايات المتحدة، وهو المركز العلمي الذي نادرًا ما يستخدم لدراسة العلوم الإنسانية، ببعض الدراسات الخاصة بالإبداع عمومًا، وهو الموضوع الذي كان علماء النفس من السباقين في تحديد مساره (أذكر باحثًا مصريًّا حصل على الدكتوراه في هذا الموضوع في لندن عام ١٩٦٠م) وتوصَّل الباحثون إلى بعض الأسس والمبادئ التي تساعد في التمييز بين ثمار الموهبة وثمار الإبداع، وانتهوا باختصار إلى أن الموهبة مهارة فطرية في مجال من المجالات، وأن اكتسابها ممكن وإن كان عسيرًا مضنيًا للبعض، مشوبًا بعيوب مؤكدة ودائمة لدى البعض الآخر، وأنها في ذاتها محدودة القيمة إلا إذا رعاها صاحبها وتولاها بالتنمية والتهذيب والتوجيه عن طريق العلم والمعرفة.
أما الإبداع فهو ملكة إنسانية لدى الجميع، وهو جزء لا يتجزأ مما يسمَّى بالذكاء الإنساني (وإن كانت اختبارات الذكاء تركز على ثلاثة مجالات فقط هي القدرة اللغوية، والطاقة السمعية البصرية، والقدرة الرياضية) وفي هذا الصدد نشرت عدة بحوث عن الابتكار لدى الأطفال في مختلف الأعمار، ثم لدى الكبار، وانتهت إلى أن الإبداع إذا كان يعني الابتكار، أي الإتيان بجديد في أي علم أو فن، فسوف يقف قاصرًا عن الاستجابة للتحدي الحضاري دون موهبة؛ ومن ثم فإن تضافر الموهبة مع الابتكار هو الذي يمكن تسميته بالإبداع.
وكأنما «جاء الفرج» للنقاد فالتقطوا هذه النتائج (التي ليست جديدة كل الجدة ولا تعتبر كاملة، رغم تنقيحها ومراجعتها من عام إلى آخر) وبنوا على أساسها الرأي الجديد الذي يقول إن الناقد يقوم بعمل الفنان المبدع تمامًا، وإن كان ذلك «بالعكس»، أي في الطريق المضاد، فإذا ركَّب المبدع شيئًا قام الناقد بفك هذا الشيء واستكناه طبيعته، وإذا كتب المبدع نصًّا قام الناقد بتفسير هذا النص وتأويله وشرحه؛ أي بإعادته إلى مواده الأولى، ومنها الشكل أو البناء الذي انتظم هذه المواد؛ ومن ثم نشأت في الستينيات عدة مدارس نقدية فلسفية، بمعنى مدارس تبحث في مذاهب النقد من الناحية النظرية، واتفقت جميعها تقريبًا على اعتبار العمل الفني (أي النص الأدبي) هو نقطة انطلاق الناقد الذي يجب ألَّا ينظر إلى سواه، وكانت في هذا تعتبر امتدادًا لمدرسة النقد الحديث التي ارتبطت باسم الشاعر والناقد ت. س. إليوت، ولكنها سرعان ما أثبتت — من خلال الممارسة والتطبيقات — مدى اختلافها عنها، وأهم جانب من جوانب الخلاف إصرارها على أن النص المكتوب ليس «نهائيًّا» أي إن الاعتماد عليه وحده قد لا يكفي؛ لأن اللغة نفسها كائن لا يمكن الاعتماد عليه اعتمادًا مطلقًا، والجانب المهم الآخر هو أن الإبداع الفردي أو «الموهبة الفردية» (كما كان إليوت يسميها) أقل أهمية بكثير من الأنماط البنائية الكامنة في كل عمل، والتي ينبغي على الناقد أن يحاول اكتشافها. وقد «تحول» عددٌ من النقاد الراسخين إلى الإيمان بهذا المبدأ أو هذه «النظرية»، فكتبوا تحليلات عديدة للأعمال الفنية القديمة، وانتهوا إلى هذه الأنماط المتكررة تنهل من مصدر واحد في نهاية الأمر — وأنها تتضمَّن من المعاني الفنية ما يفوق كثيرًا معاني الألفاظ، أو المادة التي تتناولها النصوص الأدبية.
ولا شك أن نشاط هذه المدرسة وما أنجزته — استنادًا إلى النماذج البنائية التي وضعها الباحثون اللغويون الأمريكيون بُعيد الحرب العالمية الثانية، استنادًا إلى جهود الفرنسي سوسير والأمريكي يلومفيلد في هذا الميدان — قد غيرت من عمل الناقد ومن تعريف النقد، فأصبح الإبداع سمةً لا شك فيها، وإن كان إبداعًا فكريًّا يحوم حول حمى الفن ويوشك أن يكون فنًّا، خصوصًا بعد أن وسع ليفي شتراوس الفرنسي من نطاق تطبيقات الأنماط البنائية، فجعلها صالحة للتحليل الاجتماعي والفكري والسياسي، مما ولد ردود أفعال متوقعة وطبيعية وصفت هذه المدرسة بأنها «غير إنسانية»؛ لأنها تركز على الأشكال والأنماط وتتجاهل المادة الإنسانية و«المضمون».
وفي نفس الوقت اتجه فريق آخر بقيادة جاك دريدا، الفيلسوف الذي شغل كرسي الأستاذية بجامعة السوربون وتأثر بالفيلسوف الألماني هايديجر، إلى ما يسمَّى بالتفكيك — ومعناه التزام النسبية في تناول أي نص، سواء كان نصًّا أدبيًّا أم تاريخيًّا أم قانونيًّا، انطلاقًا من استحالة الوصول إلى اليقين — ومن ثم قام أستاذ مرموق في جامعة ييل الأمريكية هو بول دي مان، بالدعوة لهذه المدرسة في تناول النصوص الأدبية وشرحها؛ ومن ثَم انتشرت سبل الإبداع أمام النقاد الذين أصبحوا يخرجون نصوصًا ممتعة تنتمي شكلًا إلى النقد، ولكنها في اتجاهها إلى الأصالة والابتكار (وفي الموهبة التي تنمُّ عن وجودها) تنتمي في الحقيقة إلى الإبداع.
ويمكن أن نقول نفس الكلام عن تيار آخر هو تيار التأويل أو التفسير، ومعناه — استنادًا إلى ما قاله التفكيكيون — ضرورة البحث عن المعنى الحقيقي للنص أو للعمل الأدبي؛ لأن النص — تعريفًا — ناقص، واللغة جهاز تشوبه العيوب؛ ومن ثم فلا بد من وضع النص في إطار علاقاته المتشابكة مع العالم الخارجي. وهنا أيضًا وجدنا مباحث فلسفية تتسم بالابتكار والأصالة، وتزعم الانتماء إلى النقد، بينما هي تتأرجح بين الكتابة الإبداعية التقليدية والكتابة الفلسفية المحضة.
لقد انفتحت الأبواب أمام النقاد حتى يكتبوا «نقدًا إبداعيًّا»، ويكفي أن نقارن النقد الذي كتبه أستاذ مرموق في الأدب الإنجليزي، وهو الأمريكي «جيفري هارتمان» قبل أن يتحوَّل إلى المذاهب الحديثة، والنقد الذي كتبه بعدها! لقد أطلق الكاتب لقلمه ولخياله العنان، فانبرى يبدع نثرًا يضارع شعر الشاعر الذي تخصص فيه وهو وليم وردزورث، وليته كان قد هجر النقد وتفرغ للكتابة الإبداعية مثل دافيد ديتشيز الاسكتلندي، أو كتب هذا وحده وذاك وحده مثل تيري إيجلتون ومالكوم براد بري! وقس على ذلك أمثلة الأسماء المحترمة مثل دافيد لودج الذي تفرغ للإبداع، وجورج شتاينر الذي رفض الإبداع وانحرف إلى السياسة!
ومع بداية التسعينيات هدأت العاصفة بعض الشيء، بل ومنذ أواسط الثمانينيات إذ بدأنا نسمع عن ما بعد البنيوية، وما بعد التفكيكية … إلخ، والتفت النقاد إلى ما يكتب من نقد فوجدوه مغرضًا وموجهًا في الغالب لإثبات قضية ما، بل وتنبَّه منهم الكثيرون إلى اللون السياسي الذي كان يكسو بعض هذه الاتجاهات، ويصبغها بأيديولوجيات لا جدال فيها، بل لقد اشتكى أحدهم في الملحق الأدبي لجريدة التايمز اللندنية ذات يوم في أواخر السبعينيات: «هل على النقدي المتنور أن يكون بنيويًّا أم تفكيكيًّا؟» وضجَّت الساحة بالضحك لأن الأيديولوجية اليسارية التي كانت قد ارتبطت ارتباطًا وثيقًا ببعض هذه المدارس نبذتها سرًّا وعلانية، ولم تمضِ عشر سنوات حتى انهارت هذه الأيديولوجية نفسها، التي كانت تمد بعض هذه المدارس بما تتصور أنه «الاحترام» الفكري!