الإنسان ومراتب الوجود
اشتهر عن الباحثين تعريفهم للنهضة الأوروبية بأنها الحركة التي وضعت الإنسان لأول مرة في مركز الكون، أو كما نقول بالتعبير الحديث «في بؤرة الصورة» بعد أن كان يعيش على هامش الوجود كائنًا ضعيفًا (كما أثبت إلياد في كتابه «تاريخ الفكر الديني»)؛ ومن ثم كان تصور وجود قوًى لا قبل له بمجالدتها تتحكم في مصائره وأحواله تصورًا جوهريًّا ولا غنى له عنه، حتى بعد قرون طويلة من نزول الأديان السماوية التي حملته الأمانة، وألقت على كاهله أعباء الوعي وما يقتضيه من تحمل المسئولية عن أفعاله مصيبًا كان أم مخطئًا. ومعنى ذلك أن موقعه على سلم الكائنات لم يكن رفيعًا — أي إن مرتبة وجوده كانت إلى حدٍّ ما منخفضة.
وإذا كان فكر النهضة الأوروبية قد غيَّر تمامًا من هذه التصورات، حين وضع الإنسان في مركز الكون باعتباره سيد الكائنات وخليفة الله في الأرض؛ فهو بذلك يلتقي مع ما يسمونه «التنوير» في الفكر الأوروبي أي معارضة التراث الديني المتحجر للكنيسة، والذي لا يمكن اعتباره تراثًا منزلًا (وهو ما يسمَّى بالاسكولية كما كان لويس عوض يكتبها) بل تراث وضعه بشر لهم أهواؤهم، وخلافاتهم أكبر من أن نتطرَّق إليها في هذا السياق.
واتسم تراث الإنسانية منذ عصر النهضة الأوروبية بالتناقضات التي لم تعُد محل جدالٍ اليوم — وأهمها تشدُّق الأوروبيين بالمساواة بين البشر وإعلاء شأن الإنسان، مع فعلهم كل ما من شأنه أن يؤكد إيمانهم بالتفاوت الشديد بينهم وبين أبناء شتى قارات الأرض! وتاريخ الاستعمار والرق يشهد على ذلك، وتسخير الدين والفكر والآداب والفنون لتحقيق هذا الهدف المتناقض أو المزدوج، ليس في حاجة إلى إعادة طرحٍ؛ فقد تولوا هم أنفسهم في حركات إصلاحية متوالية الكشف عن ذلك بالقول، سواء تولوا تغييره في الواقع أم لا.
ما موقع الإنسان إذن في هذه الآلة؟ إن التيار الرئيسي للأدب والفكر في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يشير إلى أنه تراجع عن موقع «خليفة الله في الأرض» تراجعًا مزريًا — وهو الموقع الذي أكده الرومانسيون واحتفوا به أيَّما احتفاء، عندما أكدوا طاقات الإنسان اللامحدودة ذهنيًّا وعاطفيًّا، واحتفلوا بقدرته على إعادة تشكيل الكون الذي يعيش فيه من خلال الطاقات التي وهبها إياه المولى سبحانه وتعالى — فهو الآن كائن عاجز ضعيف في كل مجال، وقدرته على تغيير أي شيء في حياته محدودة، بل هو ينتظر الموت دائمًا، وكل لحظة تمر تقترب به من النهاية المحتومة.
ولقد أشرت إلى التيار الرئيسي للأدب والفكر عملًا؛ لأن ثمة تيارات فرعية أو ثانوية تختلف معه أو تناقضه، ولكن التيار الرئيسي الذي جرى الاصطلاح على تسميته بالاتجاه الحديث (أو المودرني) يقوم على تجسيد ضعف الإنسان، وعجزه إزاء كل ما يحيط به من قوًى — سواء كانت تلك قوًى اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية لا يستطيع تغييرها مهما احتجَّ عليها، أو قوًى قدرية كالأمراض وكالموت آخر الأمر — ولذلك وجدنا أن تيار الشعر الحديث يتسم بالحزن أولًا، مع ما في ذلك من جهامة وقتامة وتشاؤم اشتبكت مع الأشكال الحديثة للشعر، وأصبحت هي أيضًا باعتبارها اتجاهًا نفسيًّا — علمًا على «الروح الحديثة».
ولم تكن معاداة المحدثين للرومانسية معاداة «فنية»، ولم يكن ما ذكره ت. س. إليوت «المعادل الموضوعي» جديدًا على الإطلاق؛ فهو ما قال به نقاد الأدب منذ أقدم العصور، ولكن العداء الحقيقي كان العداء لروح التفاؤل والعواطف المشبوبة والانطلاق والخيال ومكانية الكمال، وما إلى ذلك مما أتى به الرومانسيون في مطلع القرن التاسع عشر في إنجلترا، وقبل ذلك في ألمانيا، وبعده في فرنسا والعالم الحديث!
ولذلك يقول النقاد إن شاعرَي العصر الفيكتوري الكبيرَين تنيسون وبراوننج، يختلفان في أن الأول أقرب إلى روح الرومانسية والثاني إلى المودرنية، مع أنهما من نتاج عصر واحد وظروف واحدة إلى آخر ذلك مما هو معروف؛ ولذلك أيضًا نجد أن الاتجاه الحديث في شعر أواخر القرن العشرين هو التسليم بالهزيمة — هزيمة الإنسان أمام القوى الخارجية؛ ولذلك تشيع في شعر شعراء «الحركة» في بريطانيا روح المفارقة والسخرية، وكل ما يتصل بها من عجز عن تشكيل حياة الإنسان رغم كل الإمكانيات المادية الهائلة.
ولقد ورثنا نحن تلك الروح دون مبرر في البداية في شعرنا الحديث — ثم طرأ في الحياة ما بررها — كما حاكينا العالم في التشكيك في موقع الإنسان على سلم الوجود، مع أن لدينا من التراث الإنساني (منذ الفراعنة) والديني (منذ الأديان السماوية) ما يبرر وقوف الإنسان في وجه القوى المعادية، وتصديه لها بقوة مَن وهبه الله طاقات المجالدة والصبر على الشدائد. وأعتقد أن هذه الملاحظة الأخيرة تفسر كثيرًا من البلبلة في أدبنا الحديث، الذي أخذ من الغرب أشكالًا حديثة ومعها من المشاعر ما هو غريب عنه، ولكنه «موضة» فأوقع نفسه في تناقضات ليس هذا مجال الحديث عنها.