الفصل الثالث

الانحلال الاجتماعي وأنساق القيم

كان من نتائج إحساس الإنسان بالعزلة في كون حافل بكائنات لا تختلف كثيرًا عنه في ضعفها، وعجزها عن التصدي لأقدارها (ناهيك عن التحكم فيها) أنه بدأ يفقد ثقته في الرباط القوي الذي يشد الأرواح بعضها إلى بعض — أي ذلك الحبل المتين الذي يمتد من قلب إلى قلب، ومن عقل إلى عقل، فيجعل من الأفراد أمة، ومن الفرد وذاته كيانًا ممتدًّا عبر الموت إلى العالم الآخر، أو إلى عالم حي وزاخر، رغم وجوده في الغيب وتواريه عن العيون الكليلة! وأحيانًا ما يدفع الإحساس بالعزلة إلى اليأس، بل قد يدفع الإنسان إلى الانتحار؛ لأن العزلة والبشرية صفتان متنافيتان، ولكنه يدفعه في كل حال (وهذا هو ما يهمنا هنا) إلى التركيز على ذاته؛ لأنه لا يستطيع أن يرى غيرها في الوجود، وقد يصبح غريب الأطوار منطويًا على نفسه كرهبان الفكر، أو منغمسًا في الملذَّات يطلبها لذاتها، وقد يندمج مع غيره من البشر لكي يتصور أنه غير معزول، وبين هذا وذاك درجات من التواصل والعزلة لا نهاية لها!

وعندما صور وليام جولدنج — منذ سنوات عديدة — هذه الحال التي انتهى إليها الإنسان في بعض رواياته (ومنها ما هو معروف للقارئ العربي مثل رواية «بعل الذباب» التي تحوَّلت إلى فيلم سينمائي عجيب) هاجمه النقاد لتشاؤمه الشديد، ورفضوا أن يكون في الأطفال مثل هذا الشر؛ ولذلك لم يروع الكتاب في إنجلترا في فبراير ۱۹۹۳م، عندما قام طفلان كلٌّ منهما في العاشرة باختطاف طفل في الثانية، وقتله بصورة وحشية! لقد روع الجمهور بطبيعة الحال واضطر رئيس الوزراء إلى التعليق على الحادث تعليقًا مريرًا، ولكن الكتاب التزموا الصمت أو أصدروا تعليقات موجزة مثل «الطفلان ينتميان للبشرية فلماذا نتبرأ منهما؟» «أو لم نعُد رومانسيين حتى تهزنا هذه الحوادث العارضة؛ فالشر من سمات الأطفال أيضًا.»

ونادرًا ما تهتم الصحف القومية في البلدان المتقدمة بأخبار الانحلال الاجتماعي ومظاهره؛ فهذه من اختصاص صحف الجريمة والفضائح، ويندر أن نجد من التعليقات العلمية ما يبرر ما يحدث؛ ففي أكتوبر ۱۹۹۲م انتحر رجل بعد أن قتل زوجته بزجاجة شمبانيا في إنجلترا؛ بسبب عواقب الانكماش الاقتصادي الذي أدى إلى فقدانه وظيفته في إحدى الشركات، بعد تسلمه مكافأة نهاية خدمة قدرها نصف مليون جنيه، إلى جانب معاش شهري يزيد على ٤٥ ألف جنيه إسترليني! وقرأنا القصة في صحيفة صنداي تايمز — ولاحظنا أن الكاتب لا يعجب مطلقًا لما حدث، بل يقبله في أعماقه لأنه لا يرى في الرجل إلا فردًا معزولًا عن كل طاقة روحية ممكنة — فإذا اهتزت علاقته بزوجته (وهذا ما حدث) أو تزعزع وضعه الاقتصادي (وهذا ما حدث أيضًا) لم يعد للحياة معنًى، وكان الانتحار هو الاختيار الطبيعي! وحتى قرأت خبر هذا الحادث لم أكن قد استوعبت قصة الكاتب الإنجليزي أنجوس ويلسون، الذي يصور فيها فردًا يكتشف أنه غير مهذب أو غير محب للناس — ومع تعمق الكاتب في تحليل شخصيته نكتشف أننا نشاهد نموذجًا عاديًّا من نماذج البشر في العالم الذي نخر فيه سوس العزلة!

ولكن الانحلال اتخذ صورًا خطيرة دفعت كتاب الصحف القومية والدولية في العالم إلى تناوله بصورة مباشرة — ولا حياء في العلم — فكتب جورج ف. ويل في صحيفة هيرالد تريبيون (مارس ۱۹۹۳م) يدافع عن استخدام وسائل منع الحمل للمراهقات في بلتيمور بالولايات المتحدة، وفي معرض دفاعه عن ذلك يورد الإحصائيات التالية:

«تأملوا الآن بعض الأرقام التي أوردها داجلاس بيشاروف وكارين جادرنر في صحيفة «ذي أميريكان إنتربرايز». سوف يمارس الجنس عشرة ملايين مراهق ١٢٦ مليون مرة هذا العام، وستكون النتيجة نحو مليون حالة حمل، و٤٠٦ آلاف حالة إجهاض طبي، و١٣٤ ألف حالة إجهاض طبيعي، و٤٩٠ ألف حالة ولادة، ٦٤ في المائة منها (أي ٣١٣ ألفًا) لأمهات غير متزوجات.»

ولقد أصبحت قضية الأم غير المتزوجة من القضايا الشائعة في الأدب الغربي، وما زلت أذكر «الطاحونة» التي قرأتها منذ سنوات عديدة للكاتبة البريطانية مرجريت درابل، وهي التي تصور فيها اكتشاف إحدى الكاتبات للحب الحقيقي عند إنجاب طفلتها «أوكتافيا»، دون زواج من والد الطفلة، وكيف تموت مشاعرها تمامًا عندما ترى ذلك الرجل (جورج) بعد فترة انفصال قصيرة. وأذكر أنني ناقشت المؤلفة في مؤتمر كيمبريدج عام ۱۹۸۷م حول تمجيد صورة الأم غير المتزوجة، فانطلقت تلقي في وجه الحاضرين بحجج الحركة النسائية من عدم حاجة المرأة إلى الرجل، وضرورة إعادة النظر في الزواج باعتباره مؤسسة اجتماعية يستغلها الرجل لحسابه، خصوصًا عندما يكون ضعيفًا مثل جورج في الرواية المذكورة، وأعقبتها كاتبة أخرى فقالت إن وظيفة الأدب اليوم أن يعيد بناء أنساق القيم الموروثة من العصر الفيكتوري؛ حيث كانت السيطرة الاقتصادية للرجل هي العامل الحاسم في العلاقة مع امرأته. ولم ننتهِ — بطبيعة الحال — إلى حل وسط!

وأثناء قيامي في فرنسا للعلاج هذا العام، كان من الطبيعي أن تذكر لي إحداهن أن لديها أبناءً وهي غير متزوجة، أو أن تبدي إحداهن دهشتها لمنظر الأسرة التقليدية (الأب والأم والأبناء) وهو المنظر الذي يعتبره الفرنسيون مقصورًا على بلدان الجنوب، أما في أوروبا فهو لم يعُد يظهر إلا عند شعوب البحر الأبيض، مثل أهل إيطاليا وأسبانيا — جيرانهم الألداء — فهم يكنون احتقارًا لتمسكهم بالروابط التي لم تعد غير ذات موضوع في بلدهم «المتقدم».

هذا التيار الانحلالي — وأنا أقول هذه الكلمة واعيًا بمدلولاتها تمامًا؛ إذ ما معنى أن تدعو فتاة إلى العشاء ذات مساء، ثم تصحبها لقضاء الليلة وربما لم ترها بعد ذلك مطلقًا؟ — ليس مقصورًا على «الجرائم» الكبرى، وما يدخل في عدادها كالاغتصاب وهتك العرض وقطع الطريق (الحرابة) والسطو المسلح وما إلى ذلك، ولكنه يتعدى ذلك إلى أنماط من السلوك ربما لم تدخل في عداد الجرائم على الإطلاق، مثل انعدام الهمة أو الشهامة وهي ما يسمونها «بالسلبية» — وأنصع أمثلتها ما قصه عليَّ صديقي ماهر البطوطي الذي يقطن في ضاحية كوين في نيويورك؛ إذ قال إنه كثيرًا ما يشاهد جرائم قتل ترتكب في الطريق العام، وأحيانًا أمام منزله، أو على بعد خطوات منه دون أن يتدخل أحد للقبض على الجاني أو لإنقاذ الضحية. وقد تكون «السلبية» بدافع الخوف في معظم الأحيان، ولكن برامج التليفزيون التي عالجت هذه الظاهرة أثبتت أن انشغال كل امرئ بنفسه هو السبب الحقيقي؛ إذ حاول أحد المذيعين فتح إحدى السيارات الواقفة عنوة — دون أن تكون سيارته — كأنه لص يحاول سرقتها، فلم يتعرَّض له أحد، بل إنه عندما طلب العون من المارة وجد من يساعده دون مسألة!

العزلة إذن — ذلك الإحساس الذي ولدته التيارات الفكرية المعاصرة — ذات علاقة وطيدة بالانحلال، ومحاولة وضع أنساق قيم جديدة، قيم تعترف ببنوة من ولدوا دون زواج شرعي، وتقبل ممارسة الجنس في كل مرحلة عمرية، ولا تدين كثيرًا مما نعتبره شائنًا من أنماط السلوك، ولكن العزلة لها عواقب أخرى سنعرض لها في الفصل التالي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥