التعصب الديني والعقائدي
أصبح من المألوف أن تهتمَّ الصحافة العالمية بالاتجاه إلى معاداة الأجانب في بلدٍ من البلدان — خصوصًا حين يتخذ طابع العنف — ثم تهمله بعد قليل بل وتتجاهل ذكره كأن لم يكن — وعداء الأجانب ظاهرة قديمة في المجتمعات الأوروبية، ولا تفسير لها إلا ما ورثته أوروبا منذ عهود الاستعمار من إحساس بتفوق أبنائها على أبناء شتى الأعراق والملل والنحل؛ فالقوة العسكرية كفيلة بإيجاد هذا الإحساس، خصوصًا عندما يتبلور الإحساس بالقوة بعد حرب من الحروب، أو بعد الانتصار فيما كان يسمَّى بالحرب الباردة.
ما الذي حدث إذن حتى تتفجَّر الصراعات مرة ثانية بين الأجناس أو الأعراق؟ وكيف نحتفل اليوم بانتهاء الفصل العنصري في جنوب أفريقيا لنرى في أوروبا أوروبيين يهاجمون المستوطنين، لا لذنب سوى لون جلدهم أو دينهم أو لغتهم وهلم جرًّا؟ الواقع أن التقدم المادي. وما أحدثَته أنماط الحياة الحديثة من تغيُّرٍ في مفاهيم الشباب — (ماذا يريدون من الدنيا؟ وما عساهم فاعلون حين يبلغون أشدهم؟) — يعتبر العامل الأول في تحويل الدفَّة نحو التعصُّب — فالتقدم المادي يوحي بأنه امتياز موروث للشابِّ الأبيض ولا يقبل أن يشاركه فيه شاب أسمر أو أصفر أو أسود! فالشباب الأوروبي يقول إن آبائي بنوا هذه الحضارة لي أنا وحدي، لا لكل مَن يساهم في تطويرها مهما كان لون جلده! ولن أنسى الحوار العجيب الذي دار في بريطانيا في أوائل السبعينيات حول قبول وجود أجانب في بريطانيا باعتبارهم من الإنجليز! إذ انقضَّ أحد وزراء حزب المحافظين، واسمه أينوك باول على سياسة حكومة العمال السابقة في قبول بعض أبناء الكومنولث (أي مجموعة الدول التي تشارك إنجلترا في هذه المنظمة الاقتصادية، وأهمُّها كندا وأستراليا ونيوزيلندا وبعض البلدان الأفريقية والآسيوية) واتهمها بالسفه والبله، وبدأ خطابه المشهور قائلًا: «قبل أن تقضي الآلهة على أمة تصيبها بالجنون أولًا!» ولم ينتصر باول في هذه المعركة لأن الإنجليز اكتشفوا أنهم يحتاجون إلى الأجانب أكثر من حاجة الأجانب إليهم، ولو حدث وتمَّت المقاطعة لكانت بريطانيا الأكثر خسرانًا!
الجيل الجديد يريد أن يجني ثمار ما بناه الآباء، ولكنه يجد مزاحمة من الأجانب، حتى وصل عدد العاطلين (ممن يتقاضون إعانة البطالة) إلى نحو ثلاثة ملايين في بريطانيا، ويزيد الرقم قليلًا عن ذلك في فرنسا، وقل نفس الشيء عن إيطاليا وألمانيا وأمريكا وإن اختلفت الأرقام!
وإذا كانت هذه الأسباب الاقتصادية المباشرة تكمن خلف الظاهرة، وتفسر وجودها لمعظم دارسي الاجتماع، فإن المشغولين بأمور الثقافة لا يمكن أن يقبلوه وحده — بل هم لا يقبلونه على الإطلاق! فالشاب البروتستانتي في أيرلندا الشمالية أصبح يحمل السلاح اليوم، ويطلقه في ثقة واطمئنان على مواطنه الأيرلندي إذا كان كاثوليكيًّا، بعد أن شكل القسيس البروتستانتي إيان بيزلي هيئة الدفاع عن أيرلندا الشمالية لصد اعتداءات الكاثوليك وزود أعضاءها بالسلاح! وقال أحد هؤلاء الشبان منذ عهد قريب «أنا لا أعرف لماذا أطلق النار! ولكن لا بد أن يكون ثَم سبب قوي ما دام غيري من الكبار يطلقها!».
وينطبق نفس القول على مأساة تفتيت يوغوسلافيا، وتأييد روسيا للصرب، وخوف الغرب من خوض غمار معركة مجهولة العواقب. في سبيل الدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان أو المساواة العرقية أو الدينية — فالتطهير العرقي معناه طرد أو قتل كل مَن لا ينتمي إلى جنس بعينه، ولا يزعمَنَّ أحد أن الأسباب هنا اقتصادية! بل إننا نشهد حتى الآن صراعات غريبة خارج أوروبا، لا تفسير لها إلا ذلك الضعف البشري العجيب الذي ولدته الحضارة الحديثة — الضعف النابع من العزلة والإحساس بالوشية في عالم لا يأبه للإنسان، وأقدار تطحنه ولا قبل له بمجالدتها.
وقد يسأل متسائل هنا: «أفلا يمكن علاج ذلك كله عن طريق العودة إلى الدين؟» والإجابة اليسيرة بالإيجاب ليست في الحقيقة يسيرة؛ فليس من اليسير على شخص درج على اعتبار نفسه مركز الكون، وحيدًا لا راعي له، أن يلجأ فجأةً إلى الله سبحانه وتعالى فتصفو روحه وتسمو! إن قرون «هدم» الدين (التي توجها الشيوعيون بأن أطلقوا عليه اسم أفيون الشعوب) تتطلَّب قرونًا أخرى لبناء العقيدة وغرس روح المساواة والتحاب والإحساس بين البشر!
هذا ما قاله سلمان رشدي بالحرف الواحد، فاكتسب عطف وتأييد كتاب فرنسا؛ إذ دعوه في الأسبوع التالي لزيارة باريس في حراسة مشددة، لكي يعلن لهم (لعنة الله عليه) أنه ينتمي إلى العالم المتقدم رغم أنه هندي؛ فالإلحاد يثبت أنه تشرب روح العصر وأدرك ضعف الإنسان وعجزه؛ ولذلك فهو يدعو العالم المتقدم إلى محاربة إيران لإلغاء الفتوى بإهدار دمه.
وقِس على ذلك ثلاث روايات جديدة صدرت عام ۱۹۹۲م، تقول إحداها واسمها «الرواية» (في الطبعة الفرنسية) إن التعصُّب معناه الاحتماء بقوة القبيلة أو الأمة، ونَبْذ ما هو غريب عنها — أفلا يعتبر ذلك من الوطنية التي يتفاخر بها الجميع؟ إن معناها كراهية كل ما هو مختلف عنك؛ وهذا هو موضوع «الرواية». وذكر أحد النقاد عندما عرض لهذا «الكتاب» في مجلة أسبوعية أن الإحساس بالانتماء الذي ينشده البشر لم يعُد مقصورًا على الأقلية؛ ولذلك فمؤلفة هذه الرواية تحاول أن ترتفع بمشاعر الأقلية إلى مستوى مشاعر الأكثرية، أو الأمة الواحدة!
وليس التعصُّب مقصورًا على ذلك، وهذا موضوع الفصل التالي.