الفصل الخامس

العنف والدين

عندما سمع العالم عن اعتزام الانتحار الجماعي لأفراد الطائفة الدينية الأمريكية التي تسمي نفسها طائفة «معبد الشعب» عام ۱۹۷۸م، حول أنظاره في ذهول إلى أمريكا الجنوبية حيث اجتمع ما يزيد على أربعمائة فرد — بقيادة زعيمهم شارون — لكي «يصعدوا معًا إلى السماء»، وجعل العالم يتأمل ما يحدث بين مصدق ومكذب؛ إذ كان بين المنتحرين أطفال ومراهقون ونساء وشيوخ ورجال!

لقد حول العالم أنظاره — كما أقول — ولكنه لم يفعل شيئًا! فإن أحد الاتجاهات المعاصرة الكبرى في الثقافة العالمية هو أن يوفر أكبر قدر من الحرية في العقيدة والسلوك لأبناء المجتمع، ما دام لم تتعارض حريتهم مع حريات الآخرين. والواضح أن الجماعات الدينية الكثيرة المنتشرة في أوروبا وأمريكا، والتي كان منشؤها الطوائف المسيحية الكثيرة (٢٥٠ في إنجلترا وحدها) لا تفتئت على حريات الآخرين، وانتحار ٤۰۰ أو ٥۰۰ لن يضر أحدًا في نظر الدولة؛ ومن ثم فلا داعي للجور على حريات هؤلاء الأفراد.

وفي مطلع عام ۱۹۹۳م، اجتمع مئات من طائفة أخرى تطلق على نفسها اسم «الفرع الداودي» في مقر لهم أجادوا تحصينه، بالقرب من مدينة واكو في ولاية تكساس بالولايات المتحدة، ومنهم أطفال ونساء وشيوخ. واكتشف مكتب الأسلحة النارية والكحول والتبغ (الفدرالي) أن أفراد الطائفة ارتكبوا مخالفات صريحة يعاقب عليها القانون، فقرروا اقتحام المقر يوم الأحد ۲۸ فبراير ۱۹۹۳م، ولكن الذي حدث كان كارثة إذ أطلق هؤلاء النار بضراوة على الشرطة، فقتلوا أربعة وقُتل منهم اثنان، وبدأت فترة عصيبة من الخوف على الرهائن المحتجزين في ذلك المكان الذي يشبه القلعة. وبعد أن انتهى الكابوس (مايو ۱۹۹۳م) كان حصاد الموقعة ٩٤ قتيلًا وجريحًا.

كيف تنشأ أمثال هذه الطوائف ولماذا تتجه إلى العنف؟ أما المنشأ فعادة ما يستند إلى نص من نصوص الكتاب المقدس (وخصوصًا أسفار العهد القديم) إذ ينبري أحد آباء الكنيسة من الصغار، فيفسره تفسيرًا يلائم هواه مما يغضب عنه السلطات الدينية، وهنا قد يجد العامة فيه نموذجًا للشهيد الذي يستمد علمه من علم الله؛ ومن ثم لا بد له من اختلاف مع المجتمع، وقد يجدون فيه نموذجًا للقديس الذي صفت نفسه وشفت روحه؛ فهو يرى الحقيقة وغيره لا يراها؛ ومن ثم لا بد من اتباعه بغية الوصول إلى بر النجاة.

الزعيم إذن مهم، أو قل الزعامة التي قد تتضمَّن أكثر من فرد واحد؛ لأنه يستطيع أن يجمع حوله من الأفراد من يعتمد تصديقهم له على قوة شخصيته أو قوة إيمانه، لا على قوة إقناعه. ولقد اخترت الحادثة التي أشرت إليها؛ لأنها تمثل ما يستطيع زعيم الطائفة أن يفعله بمن حوله (اسمه دافيد كوريش). بل إن الطائفة نفسها قد أسسها رجل لا يجيد الإنجليزية ويعتمد على اللاتينية لغة الكنيسة القديمة؛ إذ ولد في بلغاريا وهاجر إلى أمريكا واسمه فكتور هوتف، وكانت رسالة هذا المؤسس بسيطة موجزة: اتبعوني يا أعضاء كنيسة الأدفنتيست نصل معًا إلى فلسطين؛ حيث يقيم الرب كنيسته الحقة وأكون أنا اليد اليمنى للمسيح.

وقد أدى تركيزه على تطهير كنيسة الأدفنتيست من المنافقين إلى غضب هذه الكنيسة عنه، وطرده، فأسس طائفة جديدة أطلق عليها اسم عصا الراعي، واتخذ مقره في واكو بولاية تكساس. أما اتجاه الجماعة إلى العنف، فعادة ما يبدأ عند وفاة الزعيم. فعندما مات فكتور هوتف عام ١٩٥٥م، حاولت أرملته أن تخلفه، وركزت حملتها على ما كان قد وعد به من عودة إلى الحياة بعد الموت، ولما مرَّت السنوات دون أن يعود، أطلقت هي نبوءة بذبح أفراد كنيسة الأدفنتيست اليوم السابع، ممن انحرفوا عن الطريق القويم وإنشاء مملكة الله بين المؤمنين الصادقين، ولكن هذه النبوءة لم تتحقق أيضًا، فعزلها الأعضاء وتولى الزعامة أحدهم وهو بنيامين رودن.

واشتعل الشجار مرة أخرى عند وفاته عام ۱۹۷۸م؛ إذ تولَّت الزعامة أرملته واسمها «لوا» حتى عام ١٩٨٤م، ولكن ابنه جورج هبَّ مطالبًا بحقه في الزعامة، واشتبك مع أحد الأعضاء الجدد «فيرنون هاول» في صراع تحول إلى معركة بالأسلحة النارية بينهما، هما وأتباعهما، انتهت بانتصار هاول. وكان هاول يوم الأحد ۲۸ فبراير ۱۹۹۳م من بين من يطلقون مدافعهم الرشاشة على أفراد قوة الشرطة التي حاصرت مقر الطائفة.

اتجاه الطائفة الدينية إلى العنف هنا مبعثه إيمان أعضائها بوجود قوة إلهية توحي إلى زعيمهم، وتأمرهم بالموت في سبيله؛ لتحقيق الأهداف الدينية العليا، وهي الأهداف التي تضمن لهم دخول الجنة. وهذا الإيمان الديني قوة غير عقلانية بطبيعة الحال، وهي قوة لا تناقش ولا تقبل الجدل؛ فالمؤمن — أيًّا كان دينه — يسمع ويطيع، وكلما أتى إليه مَن يطلعه على نبوءة تستند إلى تفسير لآيات الكتاب المقدس، آمن به واتبعه.

والغريب أن عداء أعضاء الطوائف الدينية المذكورة لا ينصب على الملحدين مثلًا ممن يعلنون إلحادهم في الصحف، أو ممن يعلنون إلحاد الدولة كلها (كما فعلت ألبانيا حتى العام الماضي) أو ممن ينبذون الدين دون أن يعتنقوا الإلحاد مذهبًا (مثلما فعل الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية التي كانت تعتنق الاشتراكية)، ولكنهم يعتبرون أن أعداءهم الألداء هم من يقولون إنهم مؤمنون وفي «باطنهم» كفر! فإذا سألت أحد أفراد طائفة من تلك الطوائف كيف تعرف ما في باطن هذا الشخص، أجاب بأنه يتوسل بقوة إلهية مستمدة من الزعيم تمكنه من الكشف عن بواطن المنافقين.

شخصية الزعيم إذن هي المفتاح للعنف في سلوك هذه الجماعات؛ إذ يستطيع أن يقنع أصحابه بأن له صلة خاصة بالملأ الأعلى، وبأنه يسمع ما لا يسمعه الآخرون، فإذا هبَّ مِن بينهم مَن يقول إنه هو أيضًا يسمع مثل هذه الأصوات وقع صدام رهيب؛ لأنه لا يقبل الحسم المنطقي، ولا التفاوض، ولا المشاركة في الزعامة، بل لا يحسمها إلا السيف.

وإلى جانب شخصية الزعيم، توجد عوامل أخرى منها حيرة الأفراد وضياعهم وإحباطهم وحاجتهم إلى الانتماء إلى جماعة توفر لهم اليقين، خصوصًا عن طريق النبوءة التي تثبت، إذا تحققت، وجود عالم روحي ينكره المجتمع أي إنكار! وقد يكون القتل والقتال لونًا من الانتحار الذي قد تكون له أسباب مناقضة للضياع، مثل الترف والشبع والري والحياة في مجتمع الكثرة! فأبناء شمال أوروبا الذين ينتحرون يهربون في الحقيقة من عالم لا معنى له، إلى عالم مجهول، أما أفراد الطوائف الدينية الذين ينتحرون، فهم يهربون من عالم لا معنى له إلى عالم له معنًى.

وما أيسرَ أن تقنع مَن حقَّق كل شيء يتمناه أن يترك هذه الدنيا! قد نجد هذا الكلام غريبًا في مصر؛ إذ يندر أن يحقق أحد كل ما يتمناه، ولكن الجوع الشديد له نفس تأثير التخمة، كلاهما يؤدي إلى الثورة ولفظ الحياة! ومن يدرس حياة دافيد كوريش الذي تزعم الطائفة المذكورة ثم انتحر، سيدهش من الهناء الذي كان يعيش فيه، والبلهنية التي كان يتقلب في أعطافها، ثم يشفق عليه ويأسى له حين زعم أنه هو المسيح قد عاد إلى الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥