الفصل السادس

الانشغال المحموم بالمال

أصبح من الأمور المألوفة اليوم أن تطالع في الصفحة الأولى لجريدة عالمية أخبار مجاعة من المجاعات، وترى معها صور الموتى أو من هم على شفا الموت من الأطفال (خصوصًا)، ثم إذا أنت قلبت الصفحات لتطالع أخبار المال والتجارة، قرأت كم بلغت أرباح شركة صناعية (عالمية)، ودهشت حين تعلم أن المواد الأولى التي تستخدمها هذه الشركة تشتريها من بعض الدول الفقيرة، ومن بينها تلك الدولة التي ابتليت بالمجاعة، فإذا عجبت ولم تصدق هذا الذي يحدث، فأنت «طالب مستجد» في علوم السياسة والاقتصاد، وإذا لم تعجب وقلبت الصفحة في ضيق، فأنت قد تمرست وسئمت اللعبة!

وقد كنت «مستجدًّا» عندما حاولت، في أواسط السبعينيات، ترجمة موضوعات اقتصادية من الإنجليزية إلى العربية، فوجدت نفسي غارقًا في بحار أفكار جديدة عليَّ، ومصطلحات لا دراية لي بها، فطفقت أسأل وأسأل حتى أصبحت في النهاية مولعًا بالاقتصاد، ومنكبًّا على الصفحات الاقتصادية في الصحف والمجلات الأجنبية المتخصصة، وعلى مر الزمن رأيتني أقيم علاقات لا مفر منها بين علوم الاقتصاد والتجارة الدولية، وبين حياة الإنسان التي هي شغلي الشاغل في كل ما أقرأ وأكتب — أدبًا كان أم سوى ذلك.

وأول علاقةٍ من هذه العلاقات المحتومة هي القوة الجديدة التي اكتسبها المال منذ فجر العصر الحديث. كان المال دائمًا، ولا شك، القوة المحركة للمجتمعات سواء في الإمبراطوريات القديمة أو في «دول الهامش»، ولم يفقد المال سلطانه قط في أوروبا منذ العصور الوسطى وحتى العصر الحديث — مع فارق واحد وهو أن قوة المال في الماضي كانت مصاحبة لقوة الإنسان، جسديًّا ومعنويًّا، فالغني لم يكن لديه مفر من اللجوء إلى القوة البشرية لحماية ثروته (أو لاكتسابها أصلًا)، ولم تكن القوة البشرية تُشترى بالمال (رغم أن حرفة الجندي من أقدم الحرف في العالم، ويكفي أن اسم الجندي بالإيطالية والفرنسية والإنجليزية مثلًا معناه الأجير) ولكنها كانت تُشترى بقيم معنوية لا خلاف عليها، مثل الولاء للزعيم أو لرئيس العشيرة أو القبيلة (أو الملك) أو الإيمان الديني، أو ما في عداد ذلك من العقائد؛ ومن ثَم لم يكن يذكر المال إلا ذكرت القوة الجسدية وذكر العلم وذكر الإيمان! وحتى العصور الوسطى كان «المال والبنون» مقترنَين أبدًا، وكانت «البسطة في العلم والجسم» لازمة للمال، ولن ينتصر فتًى يستخدم جيشًا من المأجورين، ولنا في فتوحات الإسلام خير مثلٍ لانتصار القوى المعنوية على الثراء، بل والقوة المادية الجبارة لأكبر إمبراطوريتَين على وجه الأرض هما الفرس والروم.

ما هي القوة الجديدة إذن التي اكتسبها المال؟ إنها دون جدال انفصال قوة المال عن قوة الإنسان! هذا هو الفارق الذي لم ينتبه إليه كثير من المهتمين بالعلوم الإنسانية، وخصوصًا في تحليل مسارات الأدب الحديث. لقد أصبحت للمال قوةٌ مستقلَّة في ظل نظام الدولة الحديثة الذي يحمي كل فرد ما دام لم ينتهك القانون، ويحمي كل بناء أو هيكل اجتماعي حتى لو كان قائمًا على باطل؛ فالباطل في ميزان القيم الإنسانية قد يكون مقبولًا في القانون، والعلاقة بين القانون والقيم المعنوية أو المثل العليا ما تزال مجالًا للجدل والنقاش.

ونظام الدولة الحديث يتيح لأي شخص — أيًّا كانت قيمه ومبادئه، وأيًّا كان موقعه من سلم الرقي الإنساني — أن يصبح ذا مالٍ وفير، بل وأن يمكنه عن طريق هذا المال من شراء ضعاف النفوس، واستغلال الآخرين، وزيادة ثروته يومًا بعد يوم بما يفوق طاقة أي إنسان على كسب المال بالجد والعرق، والنماذج على هذا لا حصر لها؛ نماذج العصاميين الذين يبدءون من الصفر وينتهون بالملايين بل بالمليارات.

ووجود المال في أيدي من لا يؤمن بالقيم الإنسانية العليا خطر أي خطر على مستقبل الإنسان، ولكنه بكل أسف القاعدة التي لا رادَّ لها؛ فالمستعمر الذي كان يشحن سفنه من غرب أفريقيا بأبناء ذلك الساحل من السود؛ كي يبيعهم في الأرض الجديدة (أمريكا) مقابل القطن والسكر والتبغ وما إلى ذلك، لم يكن يصغي إلى أنين الأسرى الذين لم يناصبوه العداء، ولم يدخلوا في حرب معه، بل لقد كان الجنود ينطلقون خلف أبناء القبائل في طراد يشبه صيد الغزلان، وكان تقييمُهم يتبع نفس القواعد؛ فإذا كان الأسير ذا صحة جيدة بيع بثمن مرتفع، وإذا كان معتلًّا أو به عيوب خلقية بيع بثمن بخس!

وكذلك وجود المال في أيدي مَن لا يعرفون كيف ينفقونه، أو من ليسوا أهلًا لإنفاقه — فالنظم السياسية تحمي كل ذي مال مهما كان، وتدافع عن الملكية أيَّما كان المالك وأيًّا كانت الملكية! وحتى تلك النظم التي نادت بالتقدُّم وعدلت من نظم الملكية، تحولت آخر الأمر إلى مالكة تتصرف في الأملاك وفقًا لقواعد وقوانين أبعد ما تكون عن الحِجا والرشاد! وسرعان ما أملت هذه الأوضاع ألوانًا معينة من السلوك لم تقف عند حد حماية المال أيًّا كان مالكه، بل امتدت لتوحد ألوانًا من السلوك تتميز بمحاولة اغتصاب أموال الآخرين، إما بالمخاتلة أو عنوة — وأصبح أحد المثل العليا في عالم الاقتصاد الدولي هو «الحصول على شيء ما دون مقابل» وهو المثل الذي يفسر به العلماء إقبال الناس على القمار بشتى ضروبه — من الميسر التقليدي (على منضدة القمار) إلى مراهنات سباق الخيل وسباق الكلاب بل وسباق الفئران والسيارات! وما زلت أذكر أن الضرائب التي دفعها أصحاب محلات المراهنة على سباق الخيل للحكومة البريطانية عام ١٩٦٥م، تجاوزت مبلغ ثلاثة آلاف مليون جنيه! ولم يتضمن الكتاب الذي ذكر ذلك الرقم الكلي الذي دفعه أبناء الشعب لهذه المحلات، والتي استحقَّت هذه الضريبة.

وبالتدريج اكتشف الناس أن النقود وحدها — دون سواها من عوامل القوة البشرية — تكفي لتوفير القوة اللازمة، وإن كانت محدودة في نهاية المطاف، للإنسان، فانكبُّوا عليها يكنزونها ولا ينفقونها، ونشط العلماء يدرسون وسائل الكسب والثراء، ونشأ علم الاقتصاد الذي أصبح مجموعة من العلوم المتشابكة المعقدة (كان الله في عون المتخصص فيها)، وتعرض العالم في القرن العشرين لموجة فكرية اعتقد أنها من أخطر الموجات التي شهدتها الثقافة الإنسانية؛ ألا وهي الولع الأعمى بالثراء — وهو ولع لأنه حب مشبوب ساخن، وهو أعمى لأنه لا يعرف حدودًا ولا أسبابًا ولا مبررات؛ فهو المال من أجل المال أولًا، ثم المال من أجل صنم جديد عرفته أوروبا وأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية واسمه «مستوى المعيشة». وهذا صنم عجيب جدير بالتأمل.

سيقول لك علماء الاقتصاد إن الإنسان له حاجات، ولا بد من إشباعها، وسيقولون لك إن المرء لا يكفيه المأكل والملبس والمسكن، بل لا بد له من العلاج إذا مرض، والنزهة إذا سئم، والعلم إذا جهل! وسيقولون أيضًا إن كل ذلك يأتي بالمال أو بالعمل الذي يدر المال. فإذا سألتهم ما بال «مستوى المعيشة»؟ قالوا لك هو مستوى توافر ما يفي بهذه الحاجات — مستوى المأكل والملبس والمسكن والعلاج والنزهة والعلم! فإذا سألتهم بعد ذلك: وهل ثَم فارق بين مَن يأكل طعامًا مفيدًا وشهيًّا ولكنه رخيص، وبين من يحصل على نفس القيمة الغذائية والمذاقية مقابل الأموال الطائلة؟ قالوا لك لقد دخلت في فرع معقد من فروع الاقتصاد. وأحالوك إلى كتاب أو كتابَين!

والواقع أن الحاجة لم تعُد إلا عنصرًا واحدًا من عناصر العملية الاقتصادية، وهي العنصر الأول ولا شك في حالة من يتضوَّرون جوعًا في بلدان العالم الثالث، ولكن عناصر أخرى كثيرة بدأت تتشابك معها في العالم المتقدم منها المنافسة (ذلك الدافع البشري الجبار)، ومحاولة التفوق على الأقران، ومنها توفير القدرة على بناء القوة العسكرية التي تضمن استمرار هيمنة المهيمن وغنى الغني، ومنها الإحساس الشديد بالعزلة في عالم لم يعُد فيه للفرد مجال للتواصل مع غيره من البشر، أو للتجاذب النفسي والتطارح الروحي الذي يهب هذه الحياة معناها، ويدفع الإنسان دفعًا إلى الإحساس بعالم الروح والعالم الآخر.

وهذا يكفي لتفسير التناقض الذي أحسَّه المستجد، عندما قرن خبر الصفحة الأولى عن الموت جوعًا، بأخبار الشركات المتعددة الجنسيات (عبر الوطنية التي تصل أرباحها إلى آلاف الملايين!) إن التضخم الذي عانت منه بعض دول أوروبا في فترة من الفترات وجد حلًّا مؤقتًا في تقديم هذه الدول معوناتٍ وقروضًا إلى الدول النامية، ولكن هذه المعونات قطرة من بحر (إذ ما قيمة ٣ مليارات مثلًا، إن قُورنت بإنفاق عسكري يبلغ ۹۰ مليارًا ويأتي بأرباح تفوق هذه المعونة عدة مرات من نفس الدول النامية؟) وكذلك كانت القروض سلاحًا ذا حدَّين؛ إذ ساعد البلدان النامية في المدى القصير وأثقل ميزانياتها بأعباء رهيبة في المدى البعيد، حتى حد من طاقتها على أن تكون أسواقًا حاضرة لمنتجات الدول الصناعية، وكان ذلك من عوامل الانكماش العالمي الذي بدأ من ثلاث سنوات، ولم تبدُ بوادر انحساره إلا عن بلد أو اثنَين هذا العام!

أرأيت أيها القارئ ما فعلنا حين تناولنا موضوع التجارة الدولية؟ لقد نحينا كل العوامل جانبًا وركزنا على المال — ذلك الصنم الأكبر — ولم تعُد عيوننا التي تغطيها الغمامة ترى قيمًا أخرى سواه، وكذلك ستوحي إليك الصحيفة الأجنبية التي تتحدث عن «تدهور» الاقتصاد الأمريكي! إنها تتحدَّث في الحقيقة من عدم ارتفاع مستوى المعيشة في العام الماضي في الولايات المتحدة إلا بنسبة ٪۱٫٥ — مما جعل معظم الأمريكيين لا يشترون سيارات جديدة كبيرة، ويؤجلون شراء الضيعة، أو بناء حمام السباحة حتى العام القادم. ترى هل يعني ذلك نفس الشيء حين نتحدث عن النمو بمعدل ٣٪ في إحدى الدول النامية؟

ولذلك لم يفهم الإنجليز غاندي حين قال: إنني لا أحتاج إلى البضائع الإنجليزية! ولذلك لا يمكن للعالم أن يفهم زاهد اليوم في إيران أو أفغانستان، حين يقول إنني سأضرب عرض الحائط بملذات الحياة وأشتري الآخرة بالدنيا! إنه على استعداد للموت لأن قيمة الحياة التي سلبها الفقر جوهرها قد انخفضت حتى كادت تتلاشى. وإذا كان الحوار لازمًا أو محتومًا مع أمثال هؤلاء، فينبغي أن نذكر أن عدم وجود المال في أيديهم جعل أيديهم صفرًا من الحياة نفسها — والموت لا شك سبيل اليقين إلى الآخرة. وقس على ذلك أحوال كلِّ مَن يعيش في عالم مولع كل الولع بالمال، بينما يجد نفسه مضطرًّا إلى نشدان سبيل آخر يعوضه عن حرمانه. وربما كانت لدينا في مصر نماذج كثيرة من هؤلاء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥