الفصل السابع

رومانسية الرواية الجديدة

ليس من قبيل المبالغة أن نقول إننا توقَّفنا عن ترجمة الرواية العالمية الحديثة، منذ مطلع السبعينيات أو قبل ذلك بقليل، بل إن النماذج المترجمة قبل ذلك التاريخ لا تزيد على عدد أصابع اليد الواحدة، وقد قامت أستاذة جامعية مرموقة هي الدكتورة أنجيل بطرس سمعان، بإجراء دراسة وافية لما تُرجم عن الإنجليزية إلى العربية، وألقت الضوء على اتجاهات المترجمين ومدى صدق ترجماتهم، وإن كانت دون أن تقصد قد بينت أن عدد ما تُرجم ضئيل إلى أبعد الحدود، ولا يليق بأمة تفخر بعلاقاتها الوثيقة بالعالم من حولها.

ومن نتائج هذا الحصاد الهزيل أن توقَّف علمنا بفنون الرواية الحديثة خارج قاعات الدرس، وخارج اهتمامات المتخصصين، وواصلنا سيرنا في الطريق الذي شقه روائيُّو القرن التاسع عشر، وطوره روائيُّو القرن العشرين قليلًا، ثم انطلقنا كلٌّ منا في سبيل، فأبدعنا (والحق يقال) كلٌّ بأسلوبه الخاص، ووضعنا أسس رواية عربية أصيلة، مهما كان انتماؤها إلى روايات العالم.

وأعتقد أنه قد آن الأوان لرصد أهم اتجاهات الرواية الحديثة في العالم، من خلال الروايات التي يقرؤها الجمهور، أي إنني أفضل المدخل الذي يعتبر أن حياة الأدب رهن بما يحيا منه في صدور الناس، لا بما تختاره المؤسسة الأدبية للتحليل والنقد في الجامعات مثلًا. ولهذا المدخل مبرر قوي في نظري وهو أن الأدب كائن حي — يستخدم لغة الناس في الوصول إلى الناس والتفاعل معهم في لحظة زمنية معينة، فإذا نجح في ذلك واستطاع الوصول إليهم، كانت الحصيلة أقرب إلى التفاعل الحي منها إلى التأثير السلبي، بمعنى أنه حين يؤثر فيهم يكون قد تأثر بهم وتغير قليلًا أو كثيرًا؛ ولذلك نجد الروايات التي تخضع للمقاييس الفنية العالمية، وتتضمَّن كل أسباب النجاح، ولا تحظى مع ذلك بالاهتمام، وتقبع خامدة فوق رفوف المكتبات؛ لأنها لم تلقَ من النجاح الجماهيري ما يحقق لها الصدق الزماني أي الالتقاء مع اللحظة الإنسانية والتاريخية التي ولدتها. وقد نجد روايات لا يتحقق لها ذلك إلا بعد سنوات من كتابتها، أو حتى بعد وفاة مؤلفها مثل رواية «ذئب الأحراش» للكاتب الألماني هيرمان هسه التي تُرجمت إلى الإنجليزية في أوائل الستينيات (مع أنها كُتبت عام ١٩٢٦م) وبيع منها حتى عام ١٩٦٩م ما يقرب من ربع مليون نسخة.

وربما كان صدقها الزماني لم يتوافر إلا آنذاك — حين كان العالم قد بدأ يفيق من أهوال الحرب العالمية الثانية، وحين بدأ جيل جديد، جيل بريء طامح في العيش الكريم والحياة الآمنة، يناقش معنى تراث الآباء الذي أورثه سقم الحروب والنظم الاجتماعية المتناحرة، وفرض عليه فرضًا أن يشارك في إعادة بناء ما دمر، مضحيًا بالقليل أو بالكثير في سبيل ذلك.

كانت تلك الرواية تمثِّل موقفًا سابقًا لزمانه وهو موقف الفرد الذي يرفض المؤسسة الاجتماعية فكرًا، ويحترمها بل ويحبها في أعماقه؛ فهو فريد معزول ولكنه مرتبط وموصول؛ ومن ثم فالرواية تصور موقفًا إنسانيًّا أساسيًّا ينبع من رومانسية القرن التاسع عشر، ويشير إلى واقعية العشرين؛ فهو يأخذ من الرومانسية إيمانها بالذهن وقوته وعظمة الفرد، ويأخذ من الواقعية احتفالها بالبناء الاجتماعي الراسخ الذي تصعب زحزحته. أي إن المؤلف لا يخرج لنا رواية تنتمي إلى تيار بعينه، وتدين له بجذور الفكر أو فنون الصنعة، ولكنه يمزج بين التيارات اهتداءً بما كان يحسه في تلك الفترة بُعيد الحرب العالمية الأولى.

ولكن لماذا يستجيب الناس لرواية عابسة يائسة متشائمة وهم يتطلعون إلى غدٍ جميل مشرق؟ يقول أحد النقاد إنه تأثير الكاثارسيس الذي أشار إليه أرسطو؛ أي التطهير الذي يغسل النفوس من مشاعر بعينها حين يعيشها المرء في الكتاب بدلًا من الحياة! ولم تكن الستينيات قد طوت صفحتها، حين هب من يعارض هذا التفسير قائلًا إن الفن لا يقدم عالمًا بديلًا، ولكنه يغير فحسب من نظام العالم القائم، ولم تخلُ المناقشة الدائرة من التعرض لمفهوم «العالم» أو «النظام العالمي» ومفهوم التاريخ، خصوصًا على ضوء كتاب جورج لوكاتش الشهير «الرواية التاريخية».

وكأنما كان الأدب يسخر من النقاد في السبعينيات؛ إذ أخرجت المطابع عشرات (بل مئات) الروايات الرومانسية، ونعني بها تلك الروايات التي تدور حول قدرة الفرد على التمسك بحلمه مهما كانت قسوة الحياة، وغالبًا ما يتمثَّل ذلك الحلم في تحقيق الذات عن طريق إقامة علاقة بشرية مثمرة — أي علاقة بشرية ناجحة بغض النظر عن الزواج كمؤسسة اجتماعية. وتلفت جيل كامل من كتاب الرواية في أوروبا إلى ذلك التيار الذي لم يكونوا قادرين على تصنيفه، خصوصًا بعد اتجاه عدد من كبار النقاد إلى كتابة الرواية الساخرة — مثل مالكوم براد بري في إنجلترا — وما بدا للمؤسسة الأدبية من غلبة فنون الصنعة الجديدة على الرواية الحديثة، والتي وصفها يوجين لوبنسون في صحيفة واشنطن بوست بأنها «الألعاب النارية اللفظية»، ومشاهد الأحلام المتتابعة، والمؤثرات «السحرية الواقعية»، والصور البلاغية التي تحيل القارئ إلى الكاتب مباشرة، وتتطلب منه إلمامًا بالأطر الثقافية الخاصة التي يرسيها في البداية.

ماذا حدث؟ لقد تصدرت رواية «جسور مقاطعة ماديسون» قائمة المبيعات هذا العام في أمريكا — وهي قصة حب محدودة النطاق بين رجل وامرأة، كلٌّ منهما في خريف العمر — لمؤلف مجهول لنا واسمه روبرت جيمس والر، كان يعمل أستاذًا للاقتصاد في إحدى الكليات حتى عام ١٩٨٥م، ثم استقال ليتفرغ للكتابة، وعندما كتب هذه الرواية مستوحيًا علاقته بزوجته، لم يكن يتوقع لها النجاح بل إن الناشر لم يطبع منها سوى ۲۹۰۰۰ نسخة فقط في أبريل ۱۹۹۲م، ولكن عام ۱۹۹۳م شهد الطبعة التاسعة عشرة، وازدياد حجم المبيعات، وحتى وصل إلى نصف مليون.

ما الذي حدث؟ هذا ما ينبغي أن نسأله مرارًا وتكرارًا إزاء هذه الرواية القصيرة التي حققت أعلى مبيعات في أمريكا هذا العام. لقد رفضها النقاد طبعًا لأنها لا تستخدم فنون الصنعة الحديثة، بل تتوسل بأسلوب السرد السهل اليسير — أسلوب القص المباشر والتقدم المتواصل في الزمن دون التواءات أو انحناءات من أي نوع! — فقال أحدهم: «إنها تشبه زجاجة كوكاكولا فُتحت منذ فترة فهي غير فوارة وإن كانت حلوة!» وقال الآخر: «إنها بلغت الكمال مثل عبرات عين الحزين!» ولكن التحليل النقدي الوحيد الذي أعتقد أنه يفسر النجاح الجماهيري للرواية، ويبرر ما قلته عن التيار الجديد، هو ما قاله وليام ساودر من أن الرواية أيقظت في نفوس الأمريكيين إحساسًا بالانتماء لعالم الأحياء.

«وهو الإحساس الذي تخنقه السيارة كل يوم، والذهاب إلى العمل والعودة منه في مواعيد محددة، والاعتماد على الوجبات الجاهزة، والجري والتلهف على لا شيء في النهاية.»

والذي يقصده ساودر بعالم الأحياء هو عالم الطبيعة الذي يتجلى في إصرار المؤلف على استخدام صور الحيوانات، وتأكيد الدور الذي يضطلع به المكان، وهو الخلاء والغابة وشواطئ الأنهار والبحيرات، والتشبيهات بالنجوم والمذنبات وأجرام السماء. إن المؤلف يدعو القارئ إلى عالم تحرر من قبضة مسلسلات التليفزيون وعالم الآلات الذي يعيش فيه، وهو يدعوه إلى أن يقيم علاقة ما — حتى لو انتهت سريعًا كما يحدث في الرواية (بعد أربعة أيام) — وهو يحاول إحياء تراث د. ه. لورنس الإنجليزي، الذي أرسى أسس هذه الفلسفة الرومانسية في أوائل القرن العشرين. رغم أنه لا يحقق النجاح المنشود.

إن استجابة الناس لهذه الفورة العارمة من المشاعر، والتي يمكن تشبيهها بالشعر، تعتبر مؤشرًا على تحولهم من العالم القائم الذي خلقه كتاب منتصف القرن، وعلى رأسهم جورج أورويل، إلى عالم بسام يمكن أن يتضمَّن السعادة في مكان ما، ولكنه، كما قلنا، عالم مرتبط ببقعة معينة وزمن محدد، فكأنما هو عالم من صنع الخيال ولا علاقة له بالواقع.

ولكن الروايات الرومانسية ليست جميعًا من هذا النوع «السريع» (أو القصير أو الهزيل) الذي تشوبه العيوب؛ فلقد خرجت علينا صحف لندن في مايو ۱۹۹۳م، بأنباء النجاح الساحق الذي حققته رواية طويلة كتبها مؤلف هندي يدعى فكرام سيث وعنوانها «غلام مناسب»، وقالت الصحف إنها أطول رواية في تاريخ اللغة الإنجليزية؛ إذ يبلغ عدد صفحاتها ١٣٤٩ صفحة، وسعرها في المكتبات في لندن عشرون جنيهًا إسترلينيًّا، وقد قارنه النقاد بالكاتب الروسي العظيم ليو تولستوي، وكتب عنه دانيل جونسون في صحيفة التايمز اللندنية يقول إنه قد أصبح بالفعل أفضل كتاب جيله (وهو ما يزال في الأربعين)، وقال: «إن رواية «غلام مناسب» ليست فقط من أطول الروايات المكتوبة بالإنجليزية، بل ربما ثبت أنها أخصب وأعظم عمل فني صدر في النصف الأخير من هذا القرن، وربما ثبت أيضًا أنها الرواية التي ستعيد ثقة جمهور القراء الجادين في الرواية المعاصرة.» وقارنت صحيفة الجارديان البريطانية بين فكرام سيث (الهندي) وبين جورج إليوت (الإنجليزية) وجيته (الألماني)، وقالت إن كتابته تفصح عن معرفة «بأسرار تتخطى حدود فن الصنعة، بل حدود فنون الأسلوب.»

ورواية «غلام مناسب» هي حكاية ملحمية عن الهند، تقع أحداثها بعد مرور ٤ سنوات على الاستقلال والتقسيم — أثناء القلاقل العامة والاضطرابات الاجتماعية والسياسية — وتتناول أساسًا قصة حب تبدأ مع البداية وتنتهي بالنهاية، ولكنها تتضمَّن في أعطافها حياة أربع أسرات كبيرة، وتزخر بالشخصيات الثانوية، ورغم أنني لم أقرأ الرواية، فالفقرات التي عرضتها الصحف تدل على تمكن الكاتب من فن الصنعة، وخصوصًا فن التشويق في السرد.

وأرجو ألَّا يعجب القارئ أو يدهش، إذا علم أن الكاتب قد نال ما يقرب من مليون دولار حتى الآن «عن» الرواية — تنقسم إلى مقدم مكافأة يبلغ ٣٧٥٠٠٠ من فينكس هاوس (دار النشر البريطانية) ومقدم آخر يبلغ ٦٠٠٠٠٠ دولار من هاربر — كولنز (دار النشر الأمريكية). ولا أريد أن أختم هذه المقالة الموجزة، دون التأكيد على أننا نستطيع رصد الاتجاه الرومانسي في الرواية الحديثة في معظم روايات النصف الثاني من القرن العشرين، وليس (كما يحلو لبعض نقاد التفرقة بين الجنسَين أن يزعم) في روايات النساء فقط — من ميوريل سبارك، إلى إيريس ميردوخ، إلى إدنا أوبراين، إلى مرجريت درابل إلى فيي ويلدون … وحتى بنيلوبي لايفلي! — بل إن شيخ الرواية «الشعبية» (الجماهيرية) الحديثة وهو سومرست موم كان رومانسيًّا غارقًا في الرومانسية، ويكفي أن الروايتَين اللتَين تحملان قصب السبق اليوم من تأليف رجال!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥