الفصل الثامن

المسرح الغنائي كظاهرة ما بعد الحرب

عندما أُلغيَت الرقابة على «المصنفات الفنية» تمامًا في بريطانيا عام ١٩٦٩م، تسابق المنتجون في تقديم مسرحيات وأفلام تتضمن مناظر «مخلة» وإن لم تصل إلى حد الفاضح البذيء. وقد وصف أحد النقاد ذلك بقوله إن وراء النزعة الدينية المتأصلة في نفوس الشعب البريطاني، منذ أيام ثورة أوليفر كرومويل في القرن السابع عشر، أي منذ أيام حكم البيوريتان — وهم من اصطلح على ترجمة اسمهم بالمتطهرين وإن كان تعبير الأصولية الحديثة أقرب إليهم. ودار نقاش غريب عن مدى تدين الفرد في إنجلترا بالمقارنة بغيره من بلدان العالم — سواء الغربي أو الشرقي — وكاد المتحدثون يجمعون على أن الإحساس بالدين يختلف عن التدين؛ ومن ثم فربما كان الإنجليزي العادي أقلَّ مراعاة لطقوس دينه، ولكنه يفصح عن إحساسه بالدين في إيمانه الواضح بالصدق، واحتقاره الذي يصل إلى درجة الإدانة التامة للكذب، واعتباره أن الأمانة صفة أساسية في الإنسان المحترم، وكذلك إقباله على مساعدة الغير وغوث الملهوف، ومد يد العون للصديق وللجار وهلم جرًّا.

وانبرى من بين الإنجليز أنفسهم مَن قوض هذا الرأي تقويضًا، وشن حملة لم تخبُ جذوتها على مدى السبعينيات، على مدى النفاق الذي يتسم به الإنجليز، والذي يظهر في التناقض بين القول والفعل في معظم مجالات الحياة، خصوصًا عند التعريض للشعوب الأخرى؛ إذ يميل الإنجليزي للقياس بمقياسَين؛ فمقياسه الذي يطبقه في بلاده أو مع أهل جلدته يختلف عن المقياس الذي يطبقه مع الأجانب، وربما كان ذلك راجعًا إلى اغتراب الإنجليز عن أوطانهم؛ ومن ثم نزوعهم إلى مساعدة الأقلية المغتربة معهم، وأما صفات الصدق والأمانة فقد أرجعها النقاد المنصفون إلى مزاولة مهنة التجارة، وهي مهنة تقتضي هذه الصفات وإلا عرضت التاجر للخراب والكساد.

وأيًّا كانت أسباب إحجام الإنجليز عن استغلال رفع الرقابة في تقديم المخزي والمرذول سنوات عديدة؛ فقد استمر المسرح الإنجليزي في تقديمه الجديد والممتع من الكوميديات غير الغنائية حتى أواخر السبعينيات، كأنما ليعرض النقص في هذا اللون المسرحي الذي تتطلبه كل أمة تخرج من محنة الحرب، رغم تأخر ظهوره في بريطانيا سنوات طويلة؛ إذ لم يكن يعرض منه سوى مسرحية شعر والمسيح. فباستثناء العرض العاري أوكالكتا الذي يقتصر المخرج فيه على تعرية أجساد الممثلين، ومسرحية أقذر عرض في المدينة التي تتوسل أيضًا بدرجة ما من الكشف عن الأجساد، كان المسرح الإنجليزي في السبعينيات يتطوَّر على أيدي العمالقة توم ستوبارد (٤٠ مسرحية منوعة) وآلان إيكبورن (٥۰ كوميديا فاقعة) وغيرهما من الكتاب، وإن كان الآخرون قد ارتضوا التجهُّم سبيلًا، سواء بسبب الأيديولوجيا مثل إدوارد بوند أو بيتر شافر وغيرهم (وآخرهم آلان إدجار) أو بسبب العصبية اليهودية، مثل أرنولد ويسكر.
وفجأة، ودون تمهيد، انصرف الجمهور في أواخر الثمانينيات عن هذَين اللونَين من المسرح (الكوميدي والعقائدي)، وأصبح يتجه إما إلى الكلاسيكيات (التي يقدمها المسرح القومي بشعبه الثلاث أو فرقة شكسبير الملكية) وإما إلى المسرح الغنائي. وبرز على الساحة منتج شاب (في أوائل الأربعينيات) اسمه كاميرون ماكنتوش، من شمال إنجلترا لا يشرب ولا يدخن بل يهوى جمع المال، ويفرض سلطته كمنتج على كل عناصر العمل الفني، فبدأ في تقديم العروض الموسيقية التي تعتمد على الغناء والرقص بصفة أساسية، وتختصر مساحة الكلمات والحبكة إلى ما لا يذكر؛ بحيث استطاع تقديم مسرحياته في خمس مدن أوروبية في نفس الوقت، ولم تمضِ أعوام حتى كان قد جمع ثروة تقدَّر بمائتَي مليون جنيه تتمتَّع — كما يقول النقاد — بالسيولة، مما يسهل له إذا أراد أن يغزو السوق الأوروبية دون عناء. وانتشرت في الأسواق موسيقى عروض القطط وشيخ الأوبرا وموبي ديك التي افتتحت في العام الماضي (۱۹۹۲م) والبؤساء إلى جانب العروض القديمة بطبيعة الحال، والتي أصبحت كلاسيكية.
وفي مطلع ۱۹۹۳م، توقَّف دارسو المسرح عند هذه الظاهرة، باعتبارها غير عادية وتدعو إلى تأمل خاص. ما الذي حدث لبلدٍ يتمتَّع بعراقة تقاليده المسرحية مثل بريطانيا، ولديه في حي واحد هو الوست أند أربعون مسرحًا بالتمام والكمال، كلها يعمل وكلها كامل العدد؟ ما الذي يجعل المنتج «يضع يده على قلبه» — على حد تعبير صحيفة الهيرالد تربييون عند افتتاح مسرحية موسيقية جديدة؟ — وأتانا من فرنسا من حاول تفسير ذلك وإن كانت مقاصده مشكوكًا فيها (باعتباره فرنسيًّا ومن ثم منافسًا للإنجليز):

«العودة إلى المسرح الغنائي عودة إلى المسرح القديم، وليس فيها ما يشين إلا إذا قضى المسرح الغنائي على المسرح الدرامي، ولكن ذلك لن يحدث؛ لأن الإنجليزي بطبعه محافظ وسوف يخجل بعد قليل من فرصة الحياة التي يكتشفها في الموسيقى، ويجد نفسه مضطرًّا إلى العودة إلى حزنه الفطري الذي لا طائل من ورائه.»

ويُنهي الكاتب الفرنسي مقاله، بالدعوة إلى الخروج من الدوائر التجريبية التي حصر الإنجليز أنفسهم فيها.

وما قلناه عن المسرح الإنجليزي ينطبق على المسرح الأمريكي، بل وعلى المسرح في بلدان أخرى كثيرة — متقدمة وغير متقدمة؛ فالواقع أن أسباب الإقبال على المسرح الغنائي تختلف عن أسباب الإقبال على المسرح الدرامي (كوميديا كان أم تراجيديا) أي إنه أصبح لدينا — على مستوى العالم — جمهوران: جمهور ينشد الموسيقى والرقص أي فنون الاستعراض، وجمهور ما زال يريد أن يسمع ما يقال ويتابع الأحداث، ويكفي أن الكلمة الإنجليزية للمشاهدين أو النظارة هي Audience (أي السامعين) وليس Spectators فهؤلاء هم مَن ينظرون دون مشاركة إيجابية مثل سباق الخيل … إلخ، ووجود الجمهورَين أو وجود نوعَين من الجمهور أمر مفهوم، خصوصًا بعد أن انفرط بالتدريج عقد التقسيمات الاجتماعية القديمة في مجتمعات الدول الكبرى، فذابَت الطبقة الأرستقراطية في الطبقة المتوسطة، وارتفع مستوى طبقة العمال ليقف على أعتاب المتوسطة.

وليس من قبيل المصادفة أن تصدر حكومة المحافظين تعريفًا جديدًا للطبقات، في عهد وزير التعليم سير كيث جوزيف، تأخذ فيه في اعتبارها المستوى الثقافي، وتكاد تتخلى عن الأسس التقليدية المعروفة وهي مستوى الدخل أو قيمة الممتلكات. وقد تأملت القواعد التي بنى خبراء التعليم على أساسها تقييم «الطبقة»، فوجدت أن الثقافة بالمعنى الحديث أي استجابة الإنسان للطبيعة والبيئة، عن طريق الآداب والفنون تحتل المركز الثاني بعد التفوق الذهني والتأثير في الجماهير! وقد يدهش زملائي الكتاب حين يعرفون أن الطبقة الأولى في تصنيف كيث جوزيف (الذي كان وزيرًا للتعليم إبان حكومة المحافظين الأولى) تتضمَّن أساتذة الجامعة والكتاب والإعلاميين (العاملين في مجال الإنتاج) الذين يذهبون إلى المسرح! وعندما ناقشت هذه التفاصيل مع أحد الأصدقاء في أواسط السبعينيات، قال لي إن هذا مؤشر مهم، وإن كنت سوف تراه أيضًا في الطبقة الثانية. ترى ماذا يقول ذلك الصديق الآن، إذا سألته عن تعريفه للمسرح الذي يشارك في تحديد الطبقة أو الفئة الاجتماعية؟ هل سيصر على أن يكون جادًّا بمعنى المسرح الدرامي كما نعرفه في التراث؟ أم سيضم إليه المسرح الغنائي؟

لا شك أن هناك فئةً من رواد المسرح لن يتردد أفرادها في الذهاب إلى المسرح الغنائي الدرامي جميعًا، بل ويشاهدون التجارب المسرحية الجديدة التي تجري طول الوقت في شتى نوادي المسرح، بل وفي المدارس والجامعات، ولكننا مهما بحثنا فلن نجد تعريفًا للمسرح يوازي التعريف الذي نشأ في بلادنا على مدى السنوات العشرين الأخيرة، أو قل هي ربع قرن من الزمان (منذ نكسة يونيو (حزيران)) — ألا وهو «حاجة بتضحك»؛ أي شيء مضحك — وإن كنت أنا أرى أن الحال أصبح مبكيًّا، بعد أن زخر هذا الصيف بعروض القطاع الخاص التي قاربت العشرين، والتي لا تنتمي إلى مسرح غنائي أو درامي أو أي شيء، ولا يعرف إلا الله ما هي.

إن ظاهرة المسرح الترفيهي، باعتباره نوعًا من العروض المطلوبة في فترة ما بعد الحرب (أي لتوفير الترفيه والتسرية) ظاهرة عالمية ومفهومة، ولكن الذي يحدث في «مسارحنا» لا ينتمي إلى لون بعينه من هذه الألوان، وهو ليس مفهومًا لأنه ليس مسرحًا بأي معنًى من المعاني؛ فهو اسكتشات سخيفة وبليدة ولا انتماء لها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥