الفصل التاسع

الحركة النسائية

من المحال على المثقف «المتوسط» — أو قل العادي — الذي نال قسطًا معقولًا من التعليم، ولم يفقد اهتمامه بما يدور حوله في المجتمع والعالم؛ من المحال عليه أن يتجاهل ما يسمَّى بالحركة النسائية الجديدة في بلادنا، أو ما أسميته أنا في مقال سابق لي بتيار نصرة المرأة Feminism. ومتابعة أجهزة الإعلام الغربية بالتحديد، خصوصًا إذا كان هذا المثقف يحب «النظر» في الكتب من وقت لآخر، سوف تقنعه بأن الموضوع خطير، وإذا كان ذلك المثقف امرأة (متزوجة أو غير متزوجة) اتخذ الموضوع أبعادًا شاسعة وربما غير مجرى حياتها نفسه! فما هي تلك الحركة النسائية الجديدة؟
الواضح أنها تختلف عن حركات تحرير المرأة (Emancipation of Women) التي امتدت على مدى القرن العشرين منذ المطالبة بحق التصويت والانتخاب، إلى المطالبة بسائر حقوق المرأة ومساواتها الكاملة مع الرجل، والتي انتهت في الستينيات بما يسمَّى تحرير المرأة وحسب Women’s Lib والذي كان في جوهره محاولة للتحرر الجنسي، أي للتحرر في العلاقة مع الرجل — والتمتع بمزايا الاختيار التي يتمتع بها — وكانت إحدى قادة هذه الحملة هي الإنجليزية جيرمين جرير (التي عدلت عن موقفها فيما بعد)؛ إذ إن جميع حركات التحرير — حتى قبل القرن العشرين وربما ابتداءً بالسيدة ماري وولستونكروفت — زوجة الفيلسوف الإنجليزي وليام جودوين، ووالدة الروائية ماري شلي (زوجة الشاعر المعروف) — كانت تركز على المكانة الاجتماعية للمرأة؛ من حيث حقها في العمل والمشاركة في الحياة العامة على قدم المساواة مع الرجل، دون التعرض للأسس الفلسفية التي يمكن أن تصلح موضوعًا مستقلًّا للدراسة، أو كما فعل عالم النفس الأشهر كارل جوستاف يونج للأسس النفسية (والجسدية بطبيعة الحال) للاختلاف أو الاتفاق مع الرجل.

أما الحركة الجديدة، فهي موجهة بالدرجة الأولى نحو هذه الأسس الفكرية، من خلال ما كتب عن الرجل والمرأة منذ أقدم عصور التاريخ أي إنها تتخذ المادة الأولية للدراسة من الأدب المكتوب، أو ما أصبح يدخل في عداد ذلك، كالتاريخ المكتوب والدراسات الإنسانية التي اكتسبت من الاحترام على مر الزمن ما يرقى بها إلى مصاف ثمار القريحة البشرية الرفيعة. وكان المدخل لهذه الدراسات هو إعادة التقييم أو إعادة النظر إلى كل ذلك، انطلاقًا من أن تراث الإنسانية في معظمه مكتوب من وجهة نظر الرجل، وأن صورة المرأة فيه بل كل ما يتعلق بالمرأة فيه متأثر بسيادة الرجل؛ ولذلك فالأساس الذي تقوم عليه صورتها في الحاضر جائر ظالم، بل ولا يصلح أساسًا قط؛ ومن ثم بدأت الدراسات المتخصصة في العديد من فروع المعرفة، وهي تهدف في النهاية إلى إنصاف المرأة وتبيان مدى الحيف الذي تعرضت له، ومدى الاستغلال بل والاستعباد الذي خضعت له، على مر القرون من جانب الرجل.

وبرزت أسماء عديدة في هذا الميدان الجديد، الذي تفرَّع إلى عدة ميادين، أهمها بطبيعة الحال هو ميدان العلاقة الجنسية، فرائدات هذا الميدان يقلن باختصار إن الرجل خدع المرأة بما يسمَّى «أسطورة الجمال»، حتى يستغلها جسديًّا بحجة وضعها على منصة تمثال لتقديسها. وبرز من بين أصوات الباحثات في هذا الصدد صوت نعومي وولف (Naomi Wolf) التي أكدت في مقال حديث لها:

«إن المرأة ليست أجمل ولا أقبح من الرجل، وإنه قد آن الأوان لكي يقلع المرء/المرأة عن ذكر امرأة مقرونة بالجمال؛ لأنه في هذه اللحظة يكون قد تبنَّى وجهة نظر الرجل.»

وتوالَت الكتب التي تتناول هذا الموضوع الشائك منها كتاب في ثلاثة مجلدات عن التاريخ الجنسي للمرأة، ومنها كتاب صدر في العام الماضي تطالب فيه مؤلفته واسمها سوزان فالودي (Susan Faludi) بوضع حد نهائي لكل ما من شأنه أن يقنع المرأة أن لديها بالفطرة جاذبية أو حسنًا خاصًّا؛ فذلك يؤدي إلى رد فعل مغبته واضحة وهو اكتفاؤها بذلك أو تصورها أن امتيازها عن الرجل في الجمال يغنيها عن امتيازها عنه في مجالات أخرى، وقد أطلق على هذه الفكرة «نظرية رد الفعل»، وانضمَّت إلى الدراسات في هذا الاتجاه أسماء لامعة مثل كاترين ماكينون (Catharine MacKinnon) التي تُطالب بوضع قانون جديد من وجهة نظر المرأة، وأطلق على عملها في هذا المجال اسم «القانون النسائي»، وأندريا دوركين Andrea Duorkin التي وضعت «نظرية الاغتصاب» ومفادها أنه لا ينظر رجل إلى امرأة أيًّا كان وأيًّا كانت إلا واغتصبها بيده أو بعينه أو بخياله (وذلك أضعف الإيمان)؛ ومن ثم صدرت كتب منوعة تقول بصراحة إن النساء أصبحْنَ بصفة عامة أهدافًا لمطامع الرجال في كل، وعلقت إحدى الكاتبات وهي كاترين نور Katherine Knorr على هذا الكتاب قائلة:

«ليس من اليسير على النساء مزاولة العمل مع الرجال؛ فكثير من هؤلاء لا يشعرون بالارتياح لمجرد وجودهن معهم، هذا إذا لم يناصبوهن العداء، مع كل ما يجره ذلك من عواقب، ولكن هذه ليست مؤامرة؛ فليس من اليسير على الرجال العمل مع النساء أيضًا، وسوف تدهش بعض اللواتي يثرْنَ العواصف حول المضايقات الجنسية، حين يكتشفْنَ قلة عدد الذين يحلمون باحتضان زميلاتهم في العمل وهم جالسون خلف مكاتبهم. فأغلب الرجال في المكاتب مشغولون بمشاكلهم مع رؤسائهم ومصاريف المنزل الباهظة ومتاعب الأولاد. وهذه هي مصادر قلق النساء العاملات تقريبًا، وإن اختلفت الأولويات.»

ولكن هذا لا ينفي حقيقة المضايقات الجنسية التي تتعرض لها النساء في العالم «المتقدم»؛ إذ يقول إحصاء حديث أُجريَ في عدة مدن أسبانية إن ٤٣٪ من جميع النساء من مختلف الأعمار، يتعرضْنَ مرة على الأقل في العام لمثل هذه المضايقات، وقيل إن النساء في أمريكا يتعرضْنَ لها بنسبة أكبر، وربما كان ذلك سبب الضجة التي أثيرت حول رفض الكونجرس تعيين القاضي الأمريكي كلارنس توماس (Clarence Thomas) قاضيًا بالمحكمة العليا؛ بسبب ما اتهمته به أنيتا هل (Anita Hill) من أنه تعرض لها أو ضايقها جنسيًّا، وحتى الآن لا يعرف أحد طبيعة هذه المضايقة، رغم الكتب التي صدرت حول هذا الموضوع وآخرها كتاب عنوانه «أنيتا هل الحقيقة» من تأليف دافيد بروك (David Brock).

وإلى جانب هذه النزعة إلى «تحرير المرأة جسديًّا» بمعنى ضمان حق الاختيار والإرادة لها في علاقتها مع الرجل، وهو ما تكفله القوانين وإن تعذر تطبيقه، تتجه الحركة النسائية أيضًا إلى المطالبة بعدد من الحقوق الاجتماعية التي ما تزال «معلقة»، مثل المساواة في الأجر مع الرجل إذا كانا يؤديان نفس العمل (وهذا حق لم يكفله القانون الإنجليزي مثلًا إلا منذ سنوات معدودة) وحق المرأة في تقاضي جزء من دخل الأسرة مقابل جهودها في المنزل — لا بصفة صدقة بل كحق ثابت مؤكد — ومثل حق المرأة في اختيار العمل واختيار الملبس والمأكل بغض النظر عن آراء الرجل. وكان يمكن أن تتخذ المطالبة بهذه الحقوق صورة المطالبة بأي حقوق أخرى من جانب أي فئة اجتماعية، كالنقابات مثلًا أو الهيئات غير الحكومية وما إليها، ولكنها تتخذ في الحقيقة صورة «البحث العلمي» الذي يقرر مقدمًا النتائج التي يريد التوصل إليها، (من إدارة في نهاية الأمر للرجال الملاعين) فالاغتصاب جريمة تعاقب عليها جميع القوانين، ولكن الحركة النسائية تجعل منها مسألة خلافية بإثارة مدى صرامة العقوبة، ومدى استحقاق المغتصب (أي من ينتهك عرض امرأة ولو بلمسة من يدها ضد إرادتها) لدرجات العقوبة المختلفة. وكذلك فالعصاب مرض نفسي معروف، وهو يؤدي إلى ظواهر سلوكية معروفة يعاقب القانون على بعضها، ولا يعاقب على البعض الآخر، ولكن الحركة النسائية تركز على العصابيين من الرجال بسبب أنماط سلوكهم المرضية، وقس على ذلك القضايا الاقتصادية التي سبقت الإشارة إليها مثل المساواة في الأجور، أو تقاضي جزء من دخل الأسرة مقابل الغسيل أو الطهو، أو ما لا أستطيع ذكره صراحة في هذا المقال. وقد صدرت في بريطانيا قوانين تمنع التمييز بين الجنسَين لأي سببٍ من الأسباب؛ فمنعت مثلًا نشر إعلان يقول: «مطلوب بائعون لهم خبرة»، وعلى المعلن أن يقول مطلوب بائعون / بائعات لهم / لهن خبرة، وهكذا يفعلون، ولكن المعلن يعقد امتحانًا في آخر الأمر ويختار الرجال؛ ومن ثم يتعرَّض لسهام زعيمات الحركة النسائية.

وقد دافعت بعض الشركات عن ذلك قائلة إنها تفضل الرجال لبعض الأعمال، والنساء لأعمال أخرى؛ فالصناعات الإلكترونية الدقيقة في اليابان لا يعمل فيها إلا الفتيات، دون اعتراض الرجال، بينما لا يعمل في قطع الأخشاب وشحنها في كندا إلا الرجال. كما دافعت بعض الشركات عن عدم المساواة في الأجور قائلة إن تعيين المرأة يمثل مخاطرة اقتصادية؛ فقد تترك العمل في أي لحظة بسبب الزواج والرحيل مع زوجها، أو بسبب الحمل وحاجتها إلى رعاية أطفالها، فإذا قيل للشركة إن عليها تعيين عمال مؤقتين حتى تعود النساء، ردَّت الشركة قائلة: وهل عليَّ حينئذٍ أن أفصل من عينتهم؟ وهل هذا هو السبيل إلى قهر البطالة؟

وقد ثارَت في بريطانيا عام ۱۹۹۳م مساجلات ساخنة في أجهزة الإعلام، وصفها أحد المعلقين بأنها أسوأ ما يمكن أن يحدث لقضية من القضايا، إذا نشأ استقطاب بين مؤيدي المرأة والغالبية العظمى لهم من النساء، ومؤيدي الرجال ومعظمهم من الرجال؛ أي إن المجتمع انقسم إلى معسكرَين كأنما قامت الحرب؛ ولذلك فعندما نشر نيل ليندون (Neil Lyndon) كتابه المشهور «كفانا حروبًا بين الجنسَين»، انقضَّت عليه النساء بزعامة الدكتورة أنيت لوسون (Dr. Annette Lawson) وقلْنَ له بصراحة إن الحرب لم تتوقَّف عبر تاريخ الإنسانية الطويلة، وإن العداء الظاهر بين الجنسَين بسبب الحركة النسائية ظاهري فقط؛ ففي أعماقه يكمن الحب الذي يهيئ للمجتمع الاستمرار.
ولا بد أن أنهي هذا الفصل باقتطاف عبارة وردت في مقال كتبَته أنا كويندلين (Anna Quindlen) في صحيفة نيويورك تايمز، في ۲۸ أبريل ۱۹۹۳م، تسب فيه دافيد بروك بسبب كتابه عن أنيتا هل، ثم تقول:

«إن أخطر تأثير لموجة الجنون، التي تصاحب الحركة النسائية، هو أن الأنين والشكوى من الأنوثة يوحيان بأن النساء هن في الحقيقة ثمار هرموناتهن، أي إنهن مخلوقات ضعيفة ينهشها الرجال على الدوام؛ ومن ثم فهن في حاجة إلى الحماية، وربما تطلَّبت هذه الحماية استصدار تشريعات حكومية وإنفاق الكثير من الأموال.»

أي إنها تخشى أن يرى المجتمع في الحركة النسائية مظهرًا لضعف المرأة ضعفًا مرده أنوثتها، أي أن يتصور المجتمع أن الشكوى والتباكي على ضياع الحقوق يرجع إلى ضعف متأصل في المرأة؛ بسبب طبيعة تكوينها مما يقتضي تدخل الدولة لتلافي عواقب هذا الضعف. وقد حذرت من ذلك الكاتبة التي سبق لي الإشارة إليها وهي كاترين نور، فقالت في مقال حديث تعليقًا على ما سمِّي ﺑ «حوار الكتب» إنه من الخطأ تخصيص مناهج دراسية لدراسة أوضاع المرأة — خصوصًا على مستوى الدراسات العليا — فذلك يوحي بالقطع بأن المرأة كائن له من الصفات ما يجعله في حاجة إلى مساعدة المجتمع، والأخطر من ذلك أنه يوحي بأن النساء يغبطْنَ الرجال على قوتهم، ويتمنين في أعماقهن لو كن رجالًا.

وإذا شئنا أن نربط هذه الحركة العالمية بالحركة النسائية في بلادنا، فلا بد أن نذكر أننا من أوائل بلدان العالم في إقرار وجود المرأة على قدم المساواة مع الرجل، في جميع مراحل التعليم والعمل، والنساء يعملْنَ جنبًا إلى جنب مع الرجال في الحقول وفي الأسواق (ولذلك فأنا فخور بريف مصر وأهله) ومن تختار من النساء أن تهب نفسها للأسرة وحياة المنزل أو من تضطرها الظروف إلى ذلك تحيا — غالبًا — حياة مكرمة، وإن كانت بعض قوانين الأحوال الشخصية ما زالت في حاجة إلى تنقيح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥