الحركة النسائية
أما الحركة الجديدة، فهي موجهة بالدرجة الأولى نحو هذه الأسس الفكرية، من خلال ما كتب عن الرجل والمرأة منذ أقدم عصور التاريخ أي إنها تتخذ المادة الأولية للدراسة من الأدب المكتوب، أو ما أصبح يدخل في عداد ذلك، كالتاريخ المكتوب والدراسات الإنسانية التي اكتسبت من الاحترام على مر الزمن ما يرقى بها إلى مصاف ثمار القريحة البشرية الرفيعة. وكان المدخل لهذه الدراسات هو إعادة التقييم أو إعادة النظر إلى كل ذلك، انطلاقًا من أن تراث الإنسانية في معظمه مكتوب من وجهة نظر الرجل، وأن صورة المرأة فيه بل كل ما يتعلق بالمرأة فيه متأثر بسيادة الرجل؛ ولذلك فالأساس الذي تقوم عليه صورتها في الحاضر جائر ظالم، بل ولا يصلح أساسًا قط؛ ومن ثم بدأت الدراسات المتخصصة في العديد من فروع المعرفة، وهي تهدف في النهاية إلى إنصاف المرأة وتبيان مدى الحيف الذي تعرضت له، ومدى الاستغلال بل والاستعباد الذي خضعت له، على مر القرون من جانب الرجل.
«إن المرأة ليست أجمل ولا أقبح من الرجل، وإنه قد آن الأوان لكي يقلع المرء/المرأة عن ذكر امرأة مقرونة بالجمال؛ لأنه في هذه اللحظة يكون قد تبنَّى وجهة نظر الرجل.»
«ليس من اليسير على النساء مزاولة العمل مع الرجال؛ فكثير من هؤلاء لا يشعرون بالارتياح لمجرد وجودهن معهم، هذا إذا لم يناصبوهن العداء، مع كل ما يجره ذلك من عواقب، ولكن هذه ليست مؤامرة؛ فليس من اليسير على الرجال العمل مع النساء أيضًا، وسوف تدهش بعض اللواتي يثرْنَ العواصف حول المضايقات الجنسية، حين يكتشفْنَ قلة عدد الذين يحلمون باحتضان زميلاتهم في العمل وهم جالسون خلف مكاتبهم. فأغلب الرجال في المكاتب مشغولون بمشاكلهم مع رؤسائهم ومصاريف المنزل الباهظة ومتاعب الأولاد. وهذه هي مصادر قلق النساء العاملات تقريبًا، وإن اختلفت الأولويات.»
وإلى جانب هذه النزعة إلى «تحرير المرأة جسديًّا» بمعنى ضمان حق الاختيار والإرادة لها في علاقتها مع الرجل، وهو ما تكفله القوانين وإن تعذر تطبيقه، تتجه الحركة النسائية أيضًا إلى المطالبة بعدد من الحقوق الاجتماعية التي ما تزال «معلقة»، مثل المساواة في الأجر مع الرجل إذا كانا يؤديان نفس العمل (وهذا حق لم يكفله القانون الإنجليزي مثلًا إلا منذ سنوات معدودة) وحق المرأة في تقاضي جزء من دخل الأسرة مقابل جهودها في المنزل — لا بصفة صدقة بل كحق ثابت مؤكد — ومثل حق المرأة في اختيار العمل واختيار الملبس والمأكل بغض النظر عن آراء الرجل. وكان يمكن أن تتخذ المطالبة بهذه الحقوق صورة المطالبة بأي حقوق أخرى من جانب أي فئة اجتماعية، كالنقابات مثلًا أو الهيئات غير الحكومية وما إليها، ولكنها تتخذ في الحقيقة صورة «البحث العلمي» الذي يقرر مقدمًا النتائج التي يريد التوصل إليها، (من إدارة في نهاية الأمر للرجال الملاعين) فالاغتصاب جريمة تعاقب عليها جميع القوانين، ولكن الحركة النسائية تجعل منها مسألة خلافية بإثارة مدى صرامة العقوبة، ومدى استحقاق المغتصب (أي من ينتهك عرض امرأة ولو بلمسة من يدها ضد إرادتها) لدرجات العقوبة المختلفة. وكذلك فالعصاب مرض نفسي معروف، وهو يؤدي إلى ظواهر سلوكية معروفة يعاقب القانون على بعضها، ولا يعاقب على البعض الآخر، ولكن الحركة النسائية تركز على العصابيين من الرجال بسبب أنماط سلوكهم المرضية، وقس على ذلك القضايا الاقتصادية التي سبقت الإشارة إليها مثل المساواة في الأجور، أو تقاضي جزء من دخل الأسرة مقابل الغسيل أو الطهو، أو ما لا أستطيع ذكره صراحة في هذا المقال. وقد صدرت في بريطانيا قوانين تمنع التمييز بين الجنسَين لأي سببٍ من الأسباب؛ فمنعت مثلًا نشر إعلان يقول: «مطلوب بائعون لهم خبرة»، وعلى المعلن أن يقول مطلوب بائعون / بائعات لهم / لهن خبرة، وهكذا يفعلون، ولكن المعلن يعقد امتحانًا في آخر الأمر ويختار الرجال؛ ومن ثم يتعرَّض لسهام زعيمات الحركة النسائية.
وقد دافعت بعض الشركات عن ذلك قائلة إنها تفضل الرجال لبعض الأعمال، والنساء لأعمال أخرى؛ فالصناعات الإلكترونية الدقيقة في اليابان لا يعمل فيها إلا الفتيات، دون اعتراض الرجال، بينما لا يعمل في قطع الأخشاب وشحنها في كندا إلا الرجال. كما دافعت بعض الشركات عن عدم المساواة في الأجور قائلة إن تعيين المرأة يمثل مخاطرة اقتصادية؛ فقد تترك العمل في أي لحظة بسبب الزواج والرحيل مع زوجها، أو بسبب الحمل وحاجتها إلى رعاية أطفالها، فإذا قيل للشركة إن عليها تعيين عمال مؤقتين حتى تعود النساء، ردَّت الشركة قائلة: وهل عليَّ حينئذٍ أن أفصل من عينتهم؟ وهل هذا هو السبيل إلى قهر البطالة؟
«إن أخطر تأثير لموجة الجنون، التي تصاحب الحركة النسائية، هو أن الأنين والشكوى من الأنوثة يوحيان بأن النساء هن في الحقيقة ثمار هرموناتهن، أي إنهن مخلوقات ضعيفة ينهشها الرجال على الدوام؛ ومن ثم فهن في حاجة إلى الحماية، وربما تطلَّبت هذه الحماية استصدار تشريعات حكومية وإنفاق الكثير من الأموال.»
أي إنها تخشى أن يرى المجتمع في الحركة النسائية مظهرًا لضعف المرأة ضعفًا مرده أنوثتها، أي أن يتصور المجتمع أن الشكوى والتباكي على ضياع الحقوق يرجع إلى ضعف متأصل في المرأة؛ بسبب طبيعة تكوينها مما يقتضي تدخل الدولة لتلافي عواقب هذا الضعف. وقد حذرت من ذلك الكاتبة التي سبق لي الإشارة إليها وهي كاترين نور، فقالت في مقال حديث تعليقًا على ما سمِّي ﺑ «حوار الكتب» إنه من الخطأ تخصيص مناهج دراسية لدراسة أوضاع المرأة — خصوصًا على مستوى الدراسات العليا — فذلك يوحي بالقطع بأن المرأة كائن له من الصفات ما يجعله في حاجة إلى مساعدة المجتمع، والأخطر من ذلك أنه يوحي بأن النساء يغبطْنَ الرجال على قوتهم، ويتمنين في أعماقهن لو كن رجالًا.
وإذا شئنا أن نربط هذه الحركة العالمية بالحركة النسائية في بلادنا، فلا بد أن نذكر أننا من أوائل بلدان العالم في إقرار وجود المرأة على قدم المساواة مع الرجل، في جميع مراحل التعليم والعمل، والنساء يعملْنَ جنبًا إلى جنب مع الرجال في الحقول وفي الأسواق (ولذلك فأنا فخور بريف مصر وأهله) ومن تختار من النساء أن تهب نفسها للأسرة وحياة المنزل أو من تضطرها الظروف إلى ذلك تحيا — غالبًا — حياة مكرمة، وإن كانت بعض قوانين الأحوال الشخصية ما زالت في حاجة إلى تنقيح.