مقدمة

السيرُ والملاحم العربية والأخطار الخارجية

الاعتداءات والأخطار الطامعة والمتربصة بأمتنا العربية تاريخيًّا كانت — على الدوام — القاسمَ الرئيسي لمعظم تَرِكَتِنا الشعبية الفولكلورية العربية، من السير والملاحم والقصص الشعرية المعروفة بالبالادا أو البالاده — كما أسماها الكلاسيكيون العرب.

وفي الإمكان تحديدُ ذلك العدو الطامع والمتربص بأمتنا منذ حوالي الخمسة آلاف عام، ممثلًا في الإمبراطوريتين الفارسية والرومانية، امتدادًا إلى الحروب البيزنطية الوسطوية التي صاحبت ظهور الإسلام مع اضمحلال الخلافة الأموية في دمشق والانتقال بها إلى عباس بغداد، وتؤرخ لهذه الحروب القارية الممتدة، السيرة الفلسطينية المنشأ «الأميرة ذات الهمة» والتي تُعد أطول سيرة في التاريخ؛ إذ يصل حجمها إلى ٢٦ ألف صفحة.

ويُمكن حصر السير والملاحم العربية التي تجمعها الحروب والأخطار القارية أو الآنية بعامة، وأهمها هنا: عنترة، وحسان اليماني الملك التبع، أو ذا اليمنين وسيرته التي نُفرد لها فصلًا ضمن فصول هذا الكتاب، وحمزة العرب المتعارف عليها في الطيغان الشعبية باسم الأمير حمزة البهلوان، وفيروز شاه، وآخر الملوك — التباعنة — اليمنيين، وهو الملك سيف بن ذي يزن.

وسيرة عمر النعمان غير المطبوعة أو المتداولة، والتي ما تزال إلى أيامنا مخطوطةً محفوظةً بمكتبة جامعة «توبنجن» بألمانيا الغربية.

أما الحروب التي مجالُها روما وبيزنطة؛ فترد في ثنايا الزير سالم — أبو ليلى المهلهل — وسيرة بني هلال التي مجالها ريادة وفتح المغرب العربي «تونس وقلاعها السبع» والوصول بالجيوش العربية — المهاجرة — الزاحفة من الجزيرة العربية بشمالها القيسي العدناني وجنوبها اليمني القحطاني، والمتحالفة تحت شعار أو شارة الهلال — الفلكية — إلى قرطاج ومداخل أوروبا الجنوبية بعامة، بالإضافة إلى الأندلس، أو شبه جزيرة أيبريا.

ثم تُوغِل أطول سير التاريخ بلا استثناء، لتلك الأميرة الفلسطينية فاطمة بنت مظلوم التي أسميت بذات الهمة ابنها عبد الوهاب، لتغطي أحداثها مؤرخة بكل الدقة والرصد الأقرب إلى الإحصاء لتلك الحروب والأخطار البيزنطية أو الرومية كما تسميها السيرة، وهي الحروب والهزات التي امتدت قرابة الأربعة قرون، بدءًا من القرن الثامن الميلادي حتى أواخر العاشر، أو مع أُفول الدولة الأموية في دمشق وانتقال الخلافة الإسلامية إلى بغداد وخلفائها: المنصور، السفاح، الرشيد، حتى عصر الخليفة الواثق بالله.

فالسيرة الشعبية هي — في أحسن أحوالها — سيرة أنساب قبيلة أو عشيرة أو عائلة حاكمة، مثلما هو الحال بالنسبة للإلياذة الهومرية، والتي لا تعدو سيرة أنساب قرابية تؤرخ لأسرة أتريوس وحروبها في آسيا الصغرى التي بؤرتُها حصار طروادة.

مع ملاحظة مدى التداخُلات بين كِلْتَي السيرة والملحمة، فكلتاهما — في معظم الأحوال — موضوعها الجوهري هو الحروب والأحداث الجلل من حصارات وهجرات وسبي وخوارق وبطولات وفروسية.

وقد يجيءُ الاختلافُ الوحيد بين السيرة والملحمة في الصياغة، فبينما تجنح لغة السيرة إلى الرواية وضوابطها التي تسرد بالحكي القصصي أو الروائي النثري، دون أن يخلو الأمر — طبعًا — من الشعر وإنشاده؛ وهو ما يخالف الملحمة التي قوامها الشعر الغنائي أو الإنشادي، دون أن يخلو الأمر من حيث الصياغة اللغوية الروائية.

فالملحمةُ قصةٌ شعريةٌ طويلةٌ، ذات اهتماماتٍ بطولية، وقد تكون الملحمة مدونة أو شفاهية، كما قد تَجمع بين الخصيصتين أو المجالين، مثلما هو الحال بالنسبة لسِيَرِنا الملحمية العربية: الملك سيف، بني هلال، الزير سالم … إلخ.

ولعل أهم ما عرف العالم القديم من ملاحم — شفوية — هو الإلياذة والأوذيسة الهومرية، كذا يرد مثل أهم ملحمة مدونة، ممثلًا في «الإينادة» لفرجيل.

وفي اللاتينية فارساليا لوكن، وأغاني رولان في العصور الوسطى، وملحمة السيد في الإسبانية، وملحمة الشاعر ميلتون عن الفردوس المفقود، ومعركة الضفادع والفئران نصف الهرموية … إلخ.

وعادة ما تُستولد الملحمة من التقاليد الأدبية الشفهية، وتمتد موضوعاتُها واهتماماتها لتشمل الأبطال الأسطوريين؛ مثل إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل في سارة وهاجر، وأيضًا الأبطال التاريخيين أو المقدسين، بالإضافة إلى تناولها للأبطال الحيوانيين — أو الطوطم — مثلما هو الحال في معركة ضفادع، لأبي الشعر الملحمي في التاريخ هومير.

وقد استخدمت معظمُ شعوب العالم القديم الملاحم الشعرية؛ لحفظ تاريخها وموروثاتها من جيل لآخر، تُنشد وتغني دون حاجة للكتابة في مجتمعات تغلب عليها الأمية، وإن لم يخل أمر تاريخها من الأحداث والنضالات البطولية والتجمع القومي؛ حيث كان لمُنشدي الملاحم والمغنين الشعبيين الدور الكبير في معظم مجتمعات ما قبل المعرفة بالكتابة.

وكان للنبلاء ورؤساء العشائر — خاصة في أفريقيا، وبشكل خاص في السودان — مغنُّوهم الملحميين.

وأقدمُ بذور الأغاني البطولية الملحمية عُرفت منذ ١١٠٠ق.م ووصلت إلى أقصى ذيوعها فيما بين ٩٠٠ و٧٥٠ق.م، بعد هوميروس.

أما أقدم أشكال الملاحم — الشعرية — التي عرفها العالم القديم قاطبة؛ فقد وُلدت في الشرق الأدنى القديم أو عالمنا العربي، تَغَنَّى بها السومريون القدماء بالعراق وترجع إلى ٣ آلاف عام ق.م؛ حيث كانوا ينشدونها خلال حروبهم الطويلة في آسيا الصغرى، التي قادها ملوكهم الأوائل أنمركار، ولو جلابا مذا، ثم البطل الأسطوري جلجاميش، وعثر على خمسة قصائد ملحمية لجلجاميش من هذا النوع، منها تَشَكَّلَ فيما بعد جسدُ ملحمته الشهيرة التي انحدرت بدورها إلى البابليين الذين أضافوا إليها وأعادوا بناءها إلى أن اكتملت كأقدم ملحمة عرفها العالمُ القديمُ قاطبة، وظلت معروفةً متواترة على طُول التاريخ العربي الكلاسي، إلا أنهم تعارفوا عليها باسم قلقاميش.

كذلك ابتدع البابليون القدماء ملحمةً أخرى منذ مطلع الألف الثانية ق.م، يقومُ موضوعها على الموتيفات والسمات الأسطورية، بأكثر من البطولية، فهي تُرسي قصة الخلق — للعالم والإنسان — حتى مجيء الإله ميردوك، كبير الآلهة البابلية، فهي تصويرٌ لمخاطر البطل الأسطوري أو الإنسان الأول، وموضوعها بعامة لا يبعد بنا أيضًا عن جلجاميش ومخاطره وبحثه الدائم عن الخلود والأمن.

كذلك عثر على العديد من الأغاني البطولية الملحمية ضمن مكتشفات رأس الشمرا ترجع إلى القرن ١٤ق.م بسوريا الشمالية، ودونت بالأبجدية الفينيقية، تتحدث إحدى هذه القصائد الملحمية عن حياة وبطولات الإله بعل، وقصيدة ملحمية أخرى تدور حول بطل يدعى أكحل آلهات، كما عثر على قصيدة ملحمي يدور موضوعه حول إشراك الإلهة الأنثى عناث في اغتيال أخيها بعل، وإعادته ثانية للحياة على غرار الأساطير التموزية والأدونيسية لأدونيس إله فينيقيا الممزق.

كما عُثر على ملحمة أوغارتية سورية تشير إلى الأصول الأولى للحروب الطروادية، تُعرف بملحمة «كريت»، وكذا الملحمة الهندية — الفارسية — الرميانا، ثم الملحمة الهندية الآرية الكبرى، المهابهاراتا.

وإذا كنا انتهينا من تعريف كلتي السيرة والملحمة وكيف أن الفارق بينهما لا يعدو أن يجيء لغويًّا متصلًا بالصياغة المتداخلة ما بين النثر والشعر، بالإضافة — طبعًا — إلى بضعة فوارق طفيفة، ما بين الاهتمام بالأنساب والبنية القرابية، في حالة السيرة، والرعاية القصوى للحرب وشعر البطولة في الملحمة.

ويحق لنا تعريف شكل أدبي فولكلوري ثالث، وهو البالادا، أو قصة الحب والعشق الشعرية الملحمية، وأبرز أنماطها في بلداننا العربية: حسن ونعيمة، عزيزة ويونس، يوسف وزليخة، شفيقة ومتولي، سارة وهاجر، عالية وأبو زيد الهلالي، وهكذا.

فالبالادا تسميةٌ أُطلقت على هذا النوع من الأغاني الفلكلورية الملحمية التي كانت في مثناها أغاني تؤدى بمصاحبة الموسيقى والرقص مثل البالاتا الإيطالية، فهي قصةٌ شعريةٌ أو أغنية ملحمية، بأكثر منها ملحمة، أقرب إلى الابتهالات البكائية والجنائزية، مثلها مثل أغاني الشهنامات الفارسية الإيرانية، وقصائد «السيد» الفرنسية، وبالاد نبلونجز الألمانية الإسكندنافية، والبليانات السوفيتية والأغاني القصصية التي سبقت اكتمال ملحمة «كاليغالا» الفنلندية، وكذا أغاني رولان، وبيولف، ثم بالاد سفند دايرنغ الدانماركية، التي تقارب قصتنا الملحمية سارة وهاجر، وإن كان في كلتيهما يشيع الحس النسائي، الذي هو الملمح الأكثر أصالة للجسد الفولكلوري العالمي بأكمله، من حيث الاحتفاء بمأثورات مثلث العائلة الخالد، الزوج والزوجة والابن، وصراع الضرتين، وطقوس الزواج والميلاد، واضطهادات زوجة الأب، التي تدفع بالأم إلى الخروج من قبرها، لتنقذ طفلها — القدري — المضطهد من براثن زوج أبيه.

ويرجع ظهور هذا الشكل الأدبي الفولكلوري في التراث العالمي بعامة، فيما بعد القرن الخامس عشر، وقد لعبتْ حركات الإصلاح الديني في الغرب دورًا دافعًا في تنشيطه والاستفادة من رُواته ومنشديه المحترفين مثل النسوة الندابات، منشدات البلينا السوفيتية، برغم أن بعض الكنائس في العصور الوسطى حاولت تحريم إنشاده، واضطهاد رواته وحفظته ومنشديه.

ولقد احتفت المدرسة الأسطورية بريادة آندرولانغ بإرجاع ذلك القصص الشعائري الغنائي إلى عصور موغلة في القدم.

ولا شك في أن بعض نماذج هذا القصص الشعري الملحمي، عَمَّرَ عُمُرَ الشعائر والممارسات الوثنية الطوطمية الموغلة في القدم، طالما أنه مرتبط بتقويمات ومناسبات دنيوية، يراد لها الحفظ والانتشار، ولو من جانب المؤسسات الدينية التي عادةً ما تتحرك في خدمة المسار السلطوي، ولو للعائلات المنسبة أو التي تضفي صفات وهالات القدسية والتقديس على أنسابها؛ بما يحفظ لها استمرارها وتوصلها السلطوي.

فالبالادا قصةٌ شعريةٌ فولكلوريةٌ، تروي أحداثًا ملحمية يُراد لها الحفظ والاتصال، عادة ما تكون على درجة عالية من الأهمية والخطورة، وعلى المستويات البنيوية من سياسية وشعائرية واجتماعية وتقويمية، تنتهي بكاملها عند هدف أخير، هو حفظ البنية الطبقية، دون أي اعتبار لِمَا طرأ على مجتمع أو مجتمعات هذه السير والبالاد الملحمية من تغيرات في علاقات إنتاجية، والشروط والمتطلبات التي تعيش فيها الناس — وعن طريقها وعبرها — يتحدد وعيها.

إن تطوُّر الأفكار والمعتقدات يجيء مُسايرًا لتطوُّر التاريخ (خاصة تلك التي يكون موضوعها الشعائر والمنتجات الروحية).

فمثل هذه الموروثات الروحية المدعَّمة بسلطة العادة والتوارث، وكذا التفسيرات المغلوطة لكلا التراث والتاريخ مجللة أو محمية، بما أسماه آرثر تيلور بالأنيزم، من روحانيات يضفيها الإنسان على كل شيء، وبخاصة الطبيعة الموحشة الغامضة من حوله.

وعلى هذا فالبالادا في أحسن حالاتها قصة «أنساب» أو عائلة أو قبيلة، مع الأخذ في الاعتبار أن العصب أو الجسد الفولكلوري العربي بعامة؛ قبائليٌّ.

بالإضافة إلى أنها — كما ذكرنا — قصةٌ أو أغنيةٌ شعرية، عادة ما كانت تؤدَّى بمصاحبة الموسيقى والرقص.

وهنا نكون قد استكملنا التعريف بالسيرة والملحمة، والبالادا، والفوارق الهامشية بينهما، قبل التعرُّض لموضوعات هذا الكتاب الذي يقع في قسمين، يختص الأول بالمداخل أو الأنساق أو الأبنية، التي هي في موقع القاسم المشترك الأهم لمحصلة تركتنا من السير والملاحم والبالادا العربية على المستوى القومي؛ من ذلك: القسمات والعناصر المشتركة في الفولكلور العربي التي تساعدها وتدفع بها مثل هذه الأعمال الكبرى — من سير وملاحم وقصص شعرية إنشادية — على الوضوح والتَّبَدِّي، وأبرز هذه المداخل والأنساق، قضية الأمن وافتقاده من فولكلورنا العربي؛ نظرًا للترابط التراثي التاريخي من المنطلق القومي، وحيث تنشط مثل هذه السير والملاحم أكثر فأكثر في مواجهة الأخطار والاعتداءات الخارجية، من غزو، وفرض سيطرة، وحروب قارية وهجرات جماعية.

ومنها أبرز ظواهر وملامح سيرنا وملاحمنا العربية، التي قد تجتذب الباحثين والأثنوجرافيين، مثل البحث في الخلفيات التاريخية التي عادة ما ترتكز الأحداث الجوهرية لسيرنا عليها؛ من ذلك مُخاطرة الملك سيف بن ذي يزن وبحثه عن كتاب النيل، أو الخلفية التاريخية لهجرات وحروب قبائل التحالف الهلالي مرورًا بالمغرب وتونس، حتى أبواب الأندلس.

وكذا الحروب الإسلامية ضد الروم البيزنطيين ومحاصرة العرب للقسطنطينية، وظاهرة استفاضة سيرة الأميرة ذات الهمة في الخوض في الحروب الطويلة التي عُرفتْ بحرب الأيقونات، ومنها كنوز كنيسة أيا صوفيا.

وكذا الحروب ضد الفرس التي تعرضت له أكثر من سيرة عربية، أو الدور الذي اضطلع به «العيارون» وتابعوا الأبطال الملحميين في سيرنا.

ويلعب الماءُ ومواردُه ومترادفاته؛ من عطش، وماء يعيد الصبوة والشباب، وماء الخلود، هكذا دورًا رئيسيًّا في فولكلورنا العربي، بل قد يكون هو بذاته — الماء كمصدر للزرع والضرع — سببًا للإغارة والهجرات والحروب، التي هي بدورها موضوعُ هذه السير والملاحم والبالادا.

كذلك فإن من قَسَمات وسِمات سيرنا وملاحمنا، هو التعرف — باستفاضة — للبنية القرابية القبائلية.

القسمات القومية المشتركة لسيرنا وملاحمنا

تتبدى القسمات والعناصر المشتركة في فولكلورنا العربي على المستوى القومي، واضحةً كلَّ الوضوح بالنسبة لتركتنا الشعبية العربية بعامة، في تراثَي السير والملاحم، بأكثر منها في بقية أنشطة الفولكلور العربي الأخرى، مثل الحكايات والشعر الغنائي وبقية الحقول الإبداعية، من مسرح مرتجل وميلوديات موسيقية وأزياء ووحدات زخرفية.

ذلك نظرًا للترابط التراثي التاريخي الذي ينتظم من داخله تراثَي الملاحم والسير، التي — كما ذكرنا — تنشط أكثر من مواجهة الأخطار والاعتداءات الخارجية؛ من غزو وفرض سيطرة وهجرات جماعية، ومن هنا تمس مثل هذه الأحداث والهزات الكبرى كل مجتمع وكيان عربي هزًّا مباشرًا، يتصل — أول ما يتصل — بأمنه المفتقَد المهدَّد على الدوام.

فكما يلاحظ — عبر عدة أمثلة نسوقها — كيف أن السيرة الهلالية تبدأ أحداثها بالهجرة بين تحالف كلا عرب الجزيرة العربية، شمالًا وجنوبًا تحت شارة أحد أطوار القمر — للسنة الهجرية — ألا وهو الهلال مرورًا بالشام وفلسطين ولبنان ومصر وليبيا، حتى ينتهي الرحال والترحال بتلك القبائل العربية في تونس وعاصمتها قرطاج مواصلة فرض اتصالاتها وحروبها على طول الشمال الأفريقي، حتى مداخل أوروبا الجنوبية والأندلس.

ومن جانبٍ آخرَ يواصلُ عنترة حروبه وبطولاته من اليمن والجنوب العربي حتى العراق، ومملكة الملك النعمان فيما بين الرافدين حتى بلاد الفرس، ونفس الشيء نلمسه في الحروب القارية التي بدأها المقاتلُ العربي الفاتح حمزة البهلوان في سيرته حمزة العرب، بدءًا من موطنه ومنطلقه من أم القرى أو مكة المكرمة، مرورًا بالعراق، وعاصمة ملكه آنذاك «المدائن» التي كان مثلها مثل الجزيرة بأكملها تحت نير الإمبراطورية الفارسية فيما قبل الإسلام إلى أن يقف حمزة مهددًا ومحاصرًا طهران، عاصمتها، مدافعًا عن تحالفه القبائلي العربي، في مواجهة التحالف الفارسي المستعمر، إلى أن توقعه أحداث سيرته الملحمية في حب «مهردكار» ابنة أحد الكياسرة أو القياصرة، ليصبح أُلعوبة في يد كسرى، يجمع له الجباية أو الجزية، على طول إمبراطوريته، المترامية على طول غرب آسيا، وآسيا الصغرى، واليونان، وروما، ومصر.

والمُلاحَظ أن سيرة الأمير حمزة البهلوان تُبدع إلى حد الرصد الإثنوجرافي، في وصف أحوال البلدان التي يمر بها الجيش العربي الذي قاده حمزة العرب في وجه أشلاء الإمبراطوريات الثلاث الهامة، وهي مصر الفرعونية بآثارها وقلاعها وشوارعها، وآلهتها الوثنية ونيلها وعادات أهلها، والنوبية والسودانين في مصر. ونفس الشيء بالنسبة لوصف السيرة الدقيق لبقايا الملامح الهيلينية اليونانية في العاصمة أثينا، بمعابدها، ومجمع آلهتها، بل والأكروبول ذاته، تصفه السيرة بكل دقة.

وكذا الشوارع وعلاقات البيع والشراء وأزياء النساء وآداب الطعام والحديث، وتبادُل التحايا وحب الورود وأصناف الطعام والشراب والمسارح وأقنعة الممثلين الجَوَّالين — التروبادورز — وهكذا إلى أن تنتقل إلى روما، والمدن والدول على طول الساحل الفينيقي في لبنان وفلسطين، حيفا، يافا، صُور، صَيْدا، بيروت وجبيل، بدقة أقرب إلى كتابات الرحالة هيردوت وأحاديثه التسعة، على طول دول الشرق الأوسط التسع، من حيث الرصد والتسجيل.

وعليه: فإن للقسمات المشتركة أو المتجانسة، الأقرب إلى التطابق، والدفع إلى المزيد من الاهتمامات والانصهارات القومية، بما يحتِّم ضرورة انتماء تراثنا هذا من السير والملاحم، انتماءً يجيء قوميًّا، بأكثر منه محليًّا.

فلن تنتمي يومًا سيرة عنترة إلى موطنها — الجغرافي — اليمن والجنوب العربي الأعم، ونفس الشيء بالنسبة للملك سيف، وعمر النعمان، وملوك قحطان التباعنة؛ ذلك أن لمثل هذه السير والملاحم العربية، حركتها الأفسح، سواء أكانت الحركة الداخلية للأحداث والعلاقات القرابية للبيت أو الشعب الواحد، وحركتها الخارجية بالحرب والهجرات والريادات، أو حتى الأحداث الكبرى، مثل صراع الضرتين، سارة وهاجر، واضطهاد إسماعيل أبا العرب، وإحلال الضحية الحيوانية بديلًا من البشرية، أو خروف العيد «عيد اللحم أو الضحية».

وتكثر أمثال هذه السير والملاحم والبالاد ذات السمات العربية القومية بأكثر من المحلية والإقليمية، مثل سارة وهاجر، ويوسف وزليخة، وعزيزة ويونس، وعنتر وعبلة، وسعد اليتيم، والإمام علي والملك الهضام في المجتمعات الأكثر أُمِّيَّة، كما أن من خصائصها التواجدُ في المجتمعات المغرقة والموغلة في عبادة السلف، فعلى أرض هذه المجتمعات السلفية تجد مثل هذه السير والملاحم ازدهارها وتَواتُرها؛ حيث تخالط فيها الأساطيرُ والخرافات التاريخَ الفعلي الأركيولوجي، وعلى كلا الزمان والمكان، أو التاريخ والكيانات التي فيها تجري أحداث السير والملاحم؛ فالإغراق في الأمية إلى حَدِّ تقديس أعلامها والتبتل بالسلف، يشير إلى آفة السلفية وتحجرها في الماضي المندثر الغابر، على الحاضر الآني الماثل، باستخدام كل وسائل وآلات التعسف السلطوي للتراث الخالد، وهو ما تحفظه هذه السير والملاحم، ذات الأُصول والعلاقات الضاربة في العبودية والإقطاعية، والتي هي ليست في مداها الأخير سوى سِيَر وملاحم الحكام، الحافظة بكل الدقة الممكنة لأنسابها وعلاقاتها القرابية، بدءًا من سيرة بيت أتريوس في الإلياذة الهومرية، ومرورًا بسيرنا، الزير سالم، كما سيتضح ويلاحَظ في مدى حِفاظ هذه السير الأُسرية القبلية على أَدَقِّ أنساقها وعلاقاتها القرابية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤