القسم الأول

سيرة الأنساب الفلسطينية

وكما ذكرنا فإن السيرة تعني — بعامة: سيرة أنساب، ومن هنا لا تغفل سيرة ذات الهمة التأريخ لتلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة التي من صُلْبها انحدرتْ ذاتُ الهمة وابنها عبد الوهاب.

وكانت الواقعة الرئيسية التي أعلتْ مِن شأن الجد السلف لذات الهمة وهو جندبة، هي إنقاذه لقافلة الخليفة الأُموي عبد الملك بن مروان، وهي في طريقها من فلسطين — أو عبرها — إلى دمشق، مما دفع الخليفة إلى أنْ يبعث في طلبه، لكن في الطريق إليه، تحدثُ واقعةٌ جانبية، حين يصرع هشام بن عبد الملك بن مروان في حب (قتالة الشجعان) زوجة جندبة، إلى أن يتمكن من استلابها أو اختطافها منه.

وحين تنتهي مهمة جندبة في دمشق بعد أن كَرَّمَه الخليفةُ الأموي عاد جندبة إلى قومه في فلسطين، وتزوج بأميرة فلسطينية تدعى «حسنا» أنجب منها الصحصاح، الذي واصل تفوقه كقائد حربيٍّ، إلى أن فتح القسطنطينية،١ أو أنه كان القائدَ الحربيَّ للجيوش الإسلامية المتحالفة الغازية، وأبرزها — بالقطع — الطلائعُ البحرية الفلسطينية.
ولعلنا — ونحن نتعرض للصحصاح — نكون قد وصلنا إلى الجيل الثالث لأُسرة ذات الهمة التي ستُطالعنا سيرتها في الجيل الخامس لهذه الأسرة الفلسطينية الحاكمة؛ ذلك أن الأمير الصحصاح جدها تزوج بامرأتين ولدت له الأولى واسمها٢ ليلى ابنًا أسمتْه «ظالمًا»، والثانية المضطهدة ولدت له «مظلومًا»، ومظلوم هذا هو والد فاطمة أو الأميرة الذلهمة التي تواتر اسمها إلى ذات الهمة.

أما الصحصاح فهلك خلال صراعه مع النمور البرية التي افترستْه في العراء، وهو في الثامنة والثلاثين من عمره.

فتسرد علينا السيرة مطولًا أن ظالمًا اغتصب مُلك أبيه الصحصاح، وراح يضطهد أخيه مظلومًا وأهل بيته، الذين تسميهم السيرة ببني الوحيد، إلى أن ترك له الديار راحلًا لينزل بزوجته سعدة ومرزوق وفاطمة أو ذات الهمة الطفلة، فسكن إلى جوار قبائل طيء.٣

وهنا يتوقف راوي السيرة مطولًا عند ذات الهمة التي لم تكن أبدًا تقبل ضيمًا، بل كانت متعاليةً محتشمةً فصيحةً تنطق على الدوام بالشعر والحكمة، وفي عديد من المواقف تتصرف بذكورية أقربَ إلى الفروسية التي تفوقتْ فيها على أعتى الفتيان والأمراء، برغم أنها كانت ما تزال تكدح في كنف أمير يُدعى «الحارس»، كراعية نوق لدى قبائل طيء.

وفي بعض المواقع والنصوص تُلقب ذات الهمة بالداهية أو بداهية بني طيء؛ ذلك أن أمرها استفحل إلى حد أنها سيطرتْ بقوة إرادتها على عبيد بني طيء٤ ورعيانها، وتزعمتْهم في الكثير من الحروب القبلية التي هدفها حيازةُ الغنائم والأموال والمواشي، وكانت تصيح في عبيدها وهي تدعوهم ببني حام: «اهجموا بنا يا بني حام،٥ فنزلوا وأضرموا النيران وعقروا من الأغنام».

وما إن قويتْ شوكتُها وتعالى عدوانها وصيتُها؛ حتى استقلت عن أبيها وقبيلتها «طيء» وعادت بعبيدها وأموالها إلى حيث قبيلتها الأُم في أرض فلسطين، فنهبتْ أموال وغنائم عمها ظالم، إلى أن واجهتْه الذلهمة أو ذات الهمة، ونازلتْه بالحرب وجهًا لوجه، وهو عمها وأمير قبيلتها.

وبرغم أن والدها مظلوم انضم إلى أخيه ظالم — ظالمه — إلا أنها حاربتْ أبيها ذاته وأسرتْه، ملقيةً به من على جواده إلى التراب وداستْه بحوافر حصانها،٦ ثم عادت فنازلتْ عمها ظالمًا وهزمتْه في الميدان، وانتزعتْ منه قيادته وسطوته.

إلى أن كبر بدوره ابنُ عمها ظالم المسمى بسالم وأحبها على اعتبار أنها داهيةُ بني طيء وليست ابنةَ عمه فاطمة، وحين حاول الزواج منها رفضتْه في وحشية قائلة: «ما خُلقت إلا للنزال لا للرجال، ولا للفراش، وليس يُضاجعني غير سيفي ودرعي وعدة جلادي، ولا يكن خدري إلا صهوة جوادي وكحل غير النقع مرادي.»

بل والملفت أن الأميرة ذات الهمة كانتْ تتعمم بزي الرجال، وتخوض التجمعات مع الناس وتشارك في المعارك السياسية المستعرة في فترة حكم آخر الخلفاء الأُمويين مروان بن محمد، والإرهاص المُقبل بانتقال الخلافة إلى العباسيين.

ثم كيف أشارتْ بطلتُها الذلهمة على قومها بضرورة — بل حتمية — الدخول تحت لواء الدولة الجديدة الوليدة في بغداد.

وهكذا سارتْ ذات الهمة إلى الخليفة المنصور على رأس فرسان قومها، في عشرين ألف فارس، فخَيَّمُوا على مشارف العاصمة تحت راياتهم وبيارقهم، إلى أن استقبلها المنصور هي وعمها ظالم، وأبيها مظلوم، بصحبة أمير كلبي مقرَّب من الخليفة، هو: عبد الله، فكان أنْ خلع عليها المنصور الإمارة وعلى قومها، وهو شديد الإعجاب بشجاعتها وفصاحتها وهامتها المنتصبة الواثقة في حضرته.

حتى إذا ما عرجت بنا السيرة نحو قصص وفابيولات جانبية، منها مدى تعشق ابن عمها الأمير الحارث فيها ورغبته المضنية بالزواج من ابنة عمه، ووصل الأمر إلى مسامع الخليفة فاستدعاها قبل العودة إلى فلسطين ليُقنعها بالزواج من ابن عمها، فأجابتْه في فروسية ملفتة «أنا امرأة لا أحب قرب الرجال، أبغض أخبية النساء وربات الحجال، وقد أحببت ما ترى من القتال والتقلُّد بالسيوف الصقال، والرماح الطوال، فلستُ أُعد من جملة النسوان يا خليفة الرحمن، فسيفي دومًا حجلي والغبار كحلي والحصان أهلي، فماذا أصنع يا أمير المؤمنين بالحارث وبغيره من العالمين؟»

وكان أنْ وثب ابن عمها الحارث من فوره قائلًا: «أشهد على أنْ أتزوج بها على شرط يرضيها؛ ذلك أنها تكون سماءً أراها ولا تكون أرضًا أطأها.»

فقبلت ذات الهمة التي جاء دورها كمحاربة قائدة لاحقًا؛ ذلك أن الأخبار والأخطار المحيطة بالدولة الإسلامية من جانب الروم البيزنطيين ومَلِكِهم الذي تُلقبه السيرة «لاوون» وابنته التي تُسمِّيها السيرة بالملطية؛ تواترتْ من فورها بقرب هجومها على مداخل الدولة العباسية٧ على طول الشمال الغربي.
أما الأحداثُ التاريخية الفعلية فلا تبعد كثيرًا عما تسوقه السيرة عن هذه الحملة العسكرية ضد الروم، ففي عام ٦٩٢ ميلادية تمكن العرب من تمزيق شمل جيش الإمبراطور يوسيتنيان الثاني الذي حكم سنة (٦٨٥–٦٩٥) وهو ابن قسطنطين الرابع، وآخر إمبراطور من سلالة هرقل، وكان ذلك في مدينة سيبا ستوبوليس في قيليقيا، وفي حملات عسكرية تالية تم للجيش العربي ضَمُّ مدينة برغموم وساردس وغيرهما من مدن آسيا الصغرى، مما دفع بالعرب إلى مشارف القسطنطينية للمرة الثالثة، وبدأ ضرب الحصار على عاصمة الروم في مستهلِّ آب من سنة ٧١٦ ميلادية، وهو الحصارُ الذي دام أكثر من سنة، ولم يستطع الإمبراطور ثيودوسيوس الثالث الذي حكم عرش الإمبراطورية (٧١٥–٧١٧) وكان قد صده بمعونة الجيش، برغم أنه كان في سابق عهده موظفًا مغمورًا لعله أن يفعل شيئًا في وجه هذا الزحف العربي، غير أن العرب تعرضوا في تلك الأثناء لهجمات عنيفة قام بها ليو الذي تدعوه السيرة بليوون،٨ وهو قائد عسكري للجيش الأناضولي، وقام بشن هجمات أثارتْ حماسة الجماهير في العاصمة، وأكسبتْه شهرةً دفعتْ بزعمائهم الدينيين من الإكليروس لإعلانه إمبراطورًا خلفًا لثيودوسيوس، وأصبح يُعرف بالإمبراطور ليو الثالث فحكم (٧١٧–٧٤١) وهو مؤسس السلالة الملكية الأيزورية.

وكان ليو هذا قائدًا ممتازًا ومنظمًا عظيمًا، وقد عمد الروم إلى سد مضيق البوسفور عبر الرأس الذهبي بسلاسل حديدية منعتْ سفن الجيش العربي من عبوره والوصول إلى مرفأ العاصمة، وبسبب شدة البرد في تلك الأصقاع وهجمات البلغار المضادة على العرب، اضطر العرب للتراجع عن عاصمة الروم والكفِّ عن مهاجمتها مما رفع من مقام ليو، ذلك الجندي السوري المنبت المعمور، واعتباره منقذ أوروبا من الاحتلال العربي.

وهو ما حفظتْ السيرة اسمه بدقة «ليو-ليون»، ويلعب في هذا الحيز من السيرة أهم الأدوار المضادة للتحالف العربي بقيادة الأميرة ذات الهمة وقبيلتها التغلبية الفلسطينية.

والملفت أن هذه السيرة تستطرد في كيفية الاستعداد الأقصى للحرب من جانب ذلك الإمبراطور ليون أو ليو وابنه، في تجهيز الحرب وبناء الأسوار والقلاع، وتجهيز الجيوش وعقد المعاهدات والتحالفات السياسية في القسطنطينية، ومالطة ومداخل أوروبا — أو الغرب بعامة.

وتعود السيرة ملقيةً الأضواء على الجانب الآخر؛ أي مخاوف الخليفة المنصور من الحشود الحربية البيزنطية، وبحثه عن المُنقذ بعد اغتياله لقائده الفاتح، ومثبِّت أركان الخلافة أبو مسلم الخراساني على مذبح عرشه.

وعلى الفور أشار إليه وزيرُهُ المقرَّب الملقب بأبي أيوب قائلًا: «على أبوابك اليوم من بني كليب وعامر٩ مائة وستون ألف فارس أنجاد، فنَادِ بالجهاد.»
وكان أن استقبل الخليفةُ ذاتَ الهمة وأبويها، ومن فورهم ساروا إلى آمد ومالطة مرورًا بنصيبين التي انهزم فيها أميرُ قبائل بني سليم الملقب بالحصين بن ثعلب، إلا أن ذات الهمة أو الداهية لم تُثنها هزائمُ الروم البيزنطيين للعرب، بل فتحت معظم جزر مداخل بحر إيجة ومالطة، كاشفةً خلال حروبها عن تفوُّقها الحربي وخِداعها أو ذكائها إلى حد أنها رفعت عاليًا البيارق والشارات السوداء والأعلام العباسية، وقد أسمعت المأسورين بالتهليل والتكبير ففرحوا بذلك وتَمَنَّوُا الخلاص بأمر مالك الممالك، هذا وقد تأهب الروم للصدام عندما علموا أنهم من عصابة الإسلام، فقالوا: يا ترى من أوصل هؤلاء إلى هذا المكان؟١٠

ولا تغفل السيرة أدقَّ تفاصيلِ المعارك العربية بقيادة ذات الهمة ضد الروم البيزنطيين على النحو التالي:

قال الراوي: «هذا وإن بني كليب حملتْ على الروم؛ مِن شوقهم إلى الجهاد، وأجادوا الطعن بالسيوف الحِداد، وقد صدموا الروم بالخيل الجِياد، فتلقتْهم البطارقة كالرعد القاصف، وحملت الملعونة باغة وهي صائحة زاعقة فالتقاها عطاف بن الحارث، فتجاولا وتصادما ولم تكن إلا ساعة من النهار حتى حملت عليه الملعونة باغة وضربتْه بالسيف على هامته نزل السيف إلى نصف قامته فوقع إلى الأرض قتيلًا.»

فالملفتُ أن السيرة عبر سردها لأحداث القتال المحتدم على الجبهة الخارجية؛ تعود من فورها غائصةً وكاشفة عن أبعاد الصراعات الداخلية من قبائلية وسياسية، انتهتْ في تلك الحقبة باعتلاء الخليفة العباسي الخامس هارون الرشيد للخلافة الإسلامية.

ويبدو أن ذاتَ الهمة وقبيلتها استبشروا بالخليفة الجديد، هارون الرشيد أو هارون العلوي، الذي حارب طويلًا تحت رايات ذات الهمة — كما هو ثابتٌ تاريخيًّا — وذلك فيما قبل عام ٨٧٢ ميلادية، حين قاد جيشًا لأبيه الخليفة المهدي عبر آسيا الصغرى إلى أن وصل تخوم البسفور، وشارك في الكثير من الفتوحات التي شملتْ بحر إيجة حتى تخوم القسطنطينية — ذاتها — وأسوارها.

إلا أن السيرة لا تغفل عبر سردها غير المنحاز إلى حد كبير ضد الوزراء العباسيين الرجعيين والخونة إلى حد مكاتبة أولئك الوزراء للإمبراطور الروماني، وإنْ بالغت السيرة كثيرًا في أنهم كانوا مرتدين أو مسيحيين، من ذلك كبيرُ القضاة العباسيين واسمه «عقبة» وأولادُه الكثيرين، والذي تصفُه بأنه كان من «عبدة الصليب والأوثان»؛ ونظرًا لأنه كان مقرَّبًا من الخليفة الراحل المهدي؛ فإنه كان يمتلك كنيسةً ويعلِّق الصلبان من طوف أولاده الكثيرين، ويبدو أنَّ عقبة ذلك كان على دِرَاية عالية بعلوم عصره؛ ذلك أنه راسل الإمبراطور الروماني ذاكرًا «إنني رجل حفظت الأخبار وعرفت الأنشاد وقرأت الكتب اليونانية والصحف العبرانية.»

وسيلعب١١ هذا الوزيرُ دورًا سالبًا في تقسيم وإضعاف الخلافة، بل ويصل به تجسُّسه إلى حدِّ جذب الجيوش الرومية إلى عمورية بالأردن وفلسطين وتخوم الموصل بل بغداد ذاتها.

ونفس الدور السالب ذاتُهُ تعرضتْ له السيرةُ فيما يختص بالوزير الأول المقرب «الفضل بن الربيع» الذي كان له اليدُ الطولى لدى الرشيد داخل البلاط العباسي.

وعلى هذا استغل الفضلُ بن الربيع تلك اليد السلطوية الطُّولى في الفتك بالجناح الأكثر استبصارًا بالأخطار المحدقة بالدولة الوليدة، وهم البرامكةُ … الحلفاء الطبيعيين لذات الهمة وابنها عبد الوهاب والكيان الفلسطيني — البحري — بعامة.

وفي هذا تشير السيرة راصدة ذلك الصراع الأزلي بين جناحي الدولة أو الخلافة، وكيف كان الفضل بن الربيع حاجبُ الحُجَّاب؛ يتعصب لعقبة نكاية في جعفر البرمكي؛ لأنه رأى جعفر — كان يحب عبد الوهاب — ابن الأميرة ذات الهمة وبني كليب، «وكان الفضل أبخل أهل الأرض في طولها والعرض.»١٢
ورغم الصراعات السياسية القبائلية التي كانت تَفُتُّ في عَضُد وجسد الخلافة العباسية والبلاط، والتي كانتْ تشارك فيها زبيدة زوجة الرشيد المقرية، وجواريها وجواري الرشيد ذاته، وسَيَّافُه مسرور، برغم التحلل الضارب في جسد الخلافة؛ واصلت ذاتُ الهمة وابنها عبد الوهاب وسيد البطال — البطل الشعبي بالفعل لهذه السيرة — دفاعها عن مالطية١٣ والإشراف بالجيوش العربية على تُخوم القسطنطينية، وتهديدها.

وكانت ذات الهمة نهبًا لذاك التمزُّق والمؤامرات التي كانت تُحاك ضد البطال وابنها الأمير عبد الوهاب من جانب عقبة والفضل داخل البلاط العباسي.

حتى إذا ما خرج هارون الرشيد ليستردَّ عمورية ويعرج على مالطة، استقبلتْه ذات الهمة بخمسة عشر ألف رأس من رءوس قتلى أعدائها الروم عقب إحدى غزواتها، وهي التي وصل بها الأمرُ من المؤامرات التي كانتْ تُدَبَّر في البلاط بينما هي على جبهة القتال، فكان أن واجهتْ هارون الرشيد: «أقسم بمن أنشأ الأنام وفرض الحج والصيام، لولا خوفي على ثغور الإسلام من الكفرة اللئام، لرحلت إلى أي موضع كان، ولا أصبر على الذل والهوان.»١٤

وجاءت الحملة الخطيرة التالية ضد القسطنطينية عام ٧٨٢ ميلادية التي قادها هارون الرشيد بنفسه.

قال الراوي:١٥ «وكان الرشيد أشجعَ بني العباس وأقواهم قلبًا وأوفرهم فهمًا، واستوزر جعفرَ بن يحيى البرمكي والفضلَ بن الربيع، وأمر بجمع العساكر والأجناد، وقال: أنا أريد بنفسي أن أتولى الجهاد، وأنْ أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأنا لا بد ما أدخل بلاد الروم وأحثهم على القتال حتى يزنوا الجزية والمال، كما أَمَرَ الملكُ المتعال. فعندها جمع العساكر والأجناد، وقامت الدنيا على ساق وقدم، وسار الرشيد بعزم ونية إلى أن وصل إلى ملطية.»١٦
وتُوقفُنا السيرةُ — خلال أحداثها المتلاحقة بالحرب على طول آسيا الصغرى وجنوب أوروبا — على القنوات المتصلة بمصادرة المعلومات والتجسس؛ فبينما السيرةُ تصل في إدانتها لقاضي قضاة المسلمين في ذلك العصر المدعو: عقبة؛ حيث إنه كان يعمل لحساب الروم البيزنطيين، وملكهم مانويل، كان أبو محمد البطال١٧ يُواصل بَعْثَ عيونه وجواسيسه وبَصَّاصيه داخل القسطنطينية، بل داخل قصورها الإمبراطورية ذاتها، وداخل الكاتدرائيات والأديرة والكنائس الجاثمة المهيمنة على شئون الأمن والسياسة، ومركز تقرير القرار وتنفيذه على جبهات القتال الضاري، بدءًا من الكوفة ونصيبين حتى القسطنطينية المحاصَرة بالجيوش العربية، وعلى رأسها التحالف العربي الفلسطيني «البحري» بقيادة ذات الهمة وابنها الأمير الفاتح عبد الوهاب والأمير البطال، وهو المُناط به وبأعوانه وتابعيه من العيارين؛ البراعة الفائقة في جمع المعلومات والتلصص على حركات الجيوش ونقلها، ونوعية الأسلحة المستخدمة، وكل ما يَعِنُّ ويطرأ عليها من جديدٍ؛ من ذلك: المتفجرات النفطية، أو النار الإغريقية، التي — كما ذكرنا — كان أسبق من اخترعها أسيرٌ أو لاجئٌ سوري دمشقي وعن طريق استخدام جيوش ذات الهمة لها أمكن احتلالُ جزيرة رودس عام ٦٧٢ وكريت عام ٦٧٤ ميلادية.
فكما تذكر الثوابت التاريخية،١٨ فإن هذه الحملة التي قادها هارون الرشيد، كانتْ بمثابة الحملة الرابعة والأخيرة، التي تمكنتْ من الوصول إلى القسطنطينية عاصمة الروم وفرض الجزية والاستسلام على إمبراطورتها إيرين.

ومرجع هذا الانتصار بالطبع هو حنكةُ الرشيد وتفهُّمُه لجذور الانقسامية، من عصبية قبلية شوفينية، تمثلتْ أول ما تمثلتْ في ذلك الصراع والاقتتال الانقسامي الضاري بعيد الجذور، بين القبيلتين المهيمنتين في كلا الحرب والسلم، وهُم: بنو كليب الفلسطينيين وأميرتهم ذات الهمة، ومنازعيهم بنو سليم القيسيين، عرب شمال الجزيرة العربية وعمورية، بل وفلسطين ذاتها.

وهو الصراعُ أو ذلك التنافسُ القبليُّ بين القبائل الفلسطينية المتحالفة تحت رايات ذات الهمة، ومنازعيهم العرب الشماليين، وهو ما بدأتْ به السيرةُ أحداثها؛ حيث إن الأمويين كانوا قد سبقوا وقَدَّموا مع مطلع الخلافة الأموية بني سليم على منافسيهم التغلبيين — تحالف ذات الهمة وابنها عبد الوهاب — بل وحتى عندما انتقلت الخلافة إلى العباسيين في بغداد قدم الخليفة المنصور بني سليم على منافسيهم، وظل هذا هو الحال إلى أن أخذ التغلبيون مكانهم، منذ الجد السلف لذات الهمة الصحصاح.

حتى إذا ما تغير الحال وانتقلت الخلافة إلى العباسيين، عقب أُفول دمشق الأموية، وخاطبهم الخليفةُ المنصور عن طريق رُسُله، رده الأمير ظالمٌ — عم ذات الهمة — قائلًا: «ما الذي كان بيننا وبين المنصور حتى إنه عزلنا عن الملك، وأينما كان أبونا محبًّا لبني أُمية وقد هل الجميع وصاروا في القبور؟ فارجعْ إلى صاحبك — يقصد الخليفةَ المنصور — وقُلْ له: عرب البر لا يدخلون تحت طاعتك، ومن جاء إلينا كانت سيوفنا إليه أقرب من كلامه.»

إلا أن ذات الهمة تجاوزتْ حدة عمها — الذي قتله ابنها عبد الوهاب فيما بعد — ودخلت من فورها تحت لواء الخلافة الجديدة، لحين أنْ نَصَّبَها الخليفةُ أميرة لقبت فيما بعد — كمحاربة وفاتحة — بأم المجاهدين.١٩

واستنادًا إلى الطبري ودائرة المعارف الإسلامية؛ فإن التحالف القبائلي المعروف ببني سليم، وهم — كما ذكرنا — من العرب القيسيين أو العدنانيين أو المَعْديين؛ كانوا يقيمون بشمال الجزيرة العربية «مكة والحجاز» وإليهم كان يَنتسب عمرو بن عبد الله أمير مالطة، كما أن السيرة تنسب العدو الأكبر لعبد الوهاب وأمه ذات الهمة، وهو القاضي عقبة إلى قبائل بني سليم المنافسة.

ومن هنا حاول الرشيد جاهدًا إزالةَ الرواسب القبلية بين سليم وكليب، خاصة صبيحة الحملة التي قادها بنفسه لغزو القسطنطينية.

فقال الرشيد: هؤلاء القوم ما كان لهم خليفةٌ، ثم إنه نزل على نهر الدنول وجلس في السُّرادق الأعظم ودارتْ به الغلمان والخدم والترك والديلم، ودعا بعقبة «الوزير الشرير» إليه وأجلسه إلى جانبه ورفع شأنه وأعلى مكانه، فلما رأى البطالُ ذلك وكذا ذاتُ الهمة وعبدُ الوهاب، وسمعوا ذلك الخطاب؛ ما من أحد منهم أعطى جوابًا وفي الحال أحضر الإمام المقدمين الأعراب من بني سليم وبني كليب وأصلح بينهم، ونهاهم عن العناد، وقال: «أنتم في أرض٢٠ واحدة، وما يَصلح منكم الفساد، ومن الواجب عليكم أن تكونوا مثل الأهل، وتتركوا المكر والجهل، وتتأهبوا للقتال والجهاد، ولا يعودُ أحدٌ منكم يجلب مضرة، فأكون أنا فيها خَصْمَه، فأُهلكه.

وأما الشيخ عقبة يجب عليكم أن تُكرموه؛ لأجل علمه، وما هو فيه من العلم وحُسْن الشِّيَم والفضل والأدب والعمل، وإن كان تكلم البطال بكلام أو نطق بحرف واحد وقال مقال الحاسد، قطعتُ رأسه وأخمدتُ أنفاسه، فتأهبوا الآن إلى بلاد الروم؛ حتى يؤدوا الجزية وهم صاغرون.»

وبالطبع لم تصل مثلُ هذه المقولات التوفيقية إلى التلاحُم القومي في مواجهة الأخطار الإمبراطورية البيزنطية؛ ذلك أن الركائز والجذور البيئية كانتْ متنافرةً ما بين مجتمعات بدوية صحراوية، لا ترى في مثل هذه الحروب أبعد من مجرد التريُّض والسبي، وطلائع بحرية في الشام ولبنان وفلسطين، أكثر انفتاحًا وتوقُّدًا كشعوب بحرية٢١ أو شعوب الثغور — كما أسماهم القلقشندي.

لذا انتقل الصراع من فوره متوازيًا إلى ساحات الحروب والمعارك المستعرة، الدائرة بنفس ما يحدث على أيامنا، فاندفعتْ كُلُّ قبيلة تَكيد للأخرى داخل أروقة البلاط العباسي وحريمه، مع ما صاحب ذلك من أسر الأمير عبد الوهاب ذات غزوة سبيت فيها أميرة أو ملكة رائعة الحسن اسمها «الميرونة»، وحينما طالبه الرشيد بردها إليه في بغداد — وكان عبد الوهاب قد استحلها ودخل عليها، بل هو سيخلف منها ابنه «سيف الموحدين» الذي سيلعب دوره كجيل تالٍ بأسره بعد عبد الوهاب، على عادة السِّيَر الشعبية في تأريخها للأُسر الحاكمة، كما هو الحال بالنسبة لسيرتنا، وبالنسبة لسيرة «بيست آتريوس» التي هي الإلياذة الهومرية وحروبها الطروادية التي دامتْ عشرة أعوام متصلة.

فما أن ماطل عبد الوهاب في رَدِّ الأميرة المخوفة «ميرونة»، وارتفعتْ مكائد قاضيه المقرب عقبة؛ حتى تمكن من الإيقاع بالعقل الحربي المفكر الأمير سيد البطال، فسجنه الخليفة وحاول عبد الوهاب وذاتُ الهمة التوسلَ للخليفة بالإفراج عن البطال، وبأنهما لن يبرحا عرش الخليفة ليلحقا بجبهة القتال إلا ومعهما البطال، فما كان من هارون الرشيد إلا أن طرد الأمير عبد الوهاب، مذكرًا إياه بأنه مجرد عبد أسود ذميم، «فعندها صاح على الحجاب أن أخرجوا هذا الأسود الذميم من وجهي.»٢٢

وهكذا قدم هارون الرشيد من جديد منافسيهم الحجازيين من بني سليم، وعرب شمال الجزيرة العربية على التغلبيين، من أسرة ذات الهمة.

وكما ذكرنا فإن إبعاد عبد الوهاب وذات الهمة من جانب الخليفة وبلاطه، كان يعني ضرب وقمع الجناح أو التجمُّع الأكثر انفتاحًا وثورية، وهو ما اكتمل في ذلك العصر العباسي في نكبة البرامكة، التي تُشير — في جلاء — إلى ضرب وإضعاف ذلك التحالُف البرمكيُّ أو العجمي الفلسطيني، وبالرجوع للسيرة يتضح هذا:

قال الراوي: «وكان من قضاء الله وقدره أن الرشيد لما قبض على الأميرة وولدها الأمير عبد الوهاب والأمير هياج الكردي ووضعهم في المطامير، وكل أرباب الدولة استصوبوا رأي الرشيد في ذلك تعصبًا لعقبة إلا الوزير جعفر،٢٣ فإنه كان ما أعجبه ذلك؛ لأنه كان أشار إلى الخليفة ألا يفعل، فلم يرجع إليه بل هو صمم على ما هو معول، فلما رأى جعفر أن الخليفة لا يقبل منه، قام من مجلس الرشيد كأنه يقضي حاجة، وخرج من القصر إلى داره وهو في غاية الغضب والحنق، ويود لو أنه ذبح أرباب المشورة، مثال الفضل بن الربيع وداود الأديب وحازم بن شيخ الشيوخ وعقبة؛ لأن هؤلاء تعصبوا أو تحاملوا عليه وحملوا الرشيد وأغووه وأكثروا عليه الفضول وأغروه إلى أن أوقعوه.»
١  السيرة جزء أول ص٥٥١.
٢  يورد ابن النديم في الفهرست «قصة أوبالاد شعرية» باسم «ليلى والصحصاح» يبدو أنها قصةٌ شعريةٌ أو منظومةٌ نثريةٌ عن الصحصاح، جدِّ ذات الهمة.
٣  شمال الجزيرة العربية وما حول الطائف.
٤  كانت تسميهم بالحامريين أو بني حام.
٥  السيرة جزء أول ص٥١٣، وهي بالطبع التسمية التي أطلقها الساميون العرب على كل ذوي البشرة السوداء الحاميين؛ انتسابا إلى حام بن نوح «ابن اللعنة».
٦  دون أن تعرف بأنه والدها — كما تخبرنا السيرة.
٧  بالطبع سنتعرض لهذا الحدث السياسي العباسي البارز في حينه.
٨  المصدر السابق، فيليب حتى.
٩  لاحظ دولة بني عامر بالأندلس في بلنسية، المرجع السابق «المعجزة المغربية».
١٠  السيرة جزء واحد ٥٦٠.
١١  كما أنه من بعض مواقع السيرة وصياغاته للمؤامرات ضد الدولة العربية يذكر أنه يعرف الديموقراطية القبطية — لغة مصر — السيرة في ذلك العصر التي كان يستخدمها ويكتب بها «حتى لا يقرأها أحد إلا القبط، وكان عامله في أنطاكية.»
١٢  السيرة ٥٦٢.
١٣  أي جزيرة مالطة.
١٤  السيرة ج١ صفحة ٧٥٠.
١٥  سيرة ذات الهمة ج١ ص٧٧٨.
١٦  السيرة ج١ ص٧٢٣.
١٧  كما ذكرنا كثيرا ما تسمى سيرة ذات الهمة باسمه هو في الترجمات: البيزنطية، التركية، الفارسية. (المؤلف).
١٨  فيليب حتى.
١٩  السيرة ٧٤٤.
٢٠  يقصد في موقع واحد في مواجهة الأعداء.
٢١  Biet-Shebo.
٢٢  وهي كما يُلاحظ تضمينه صادفتْ الكثير من أبطال سيرنا وملاحمنا العربية، عنترة، الملك سيف، أبو زيد الهلالي، الاضطهاد بسبب اللون.
٢٣  أبي جعفر بن يحيى البرمكي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤