الفصل الخامس

مناقشة واختبار نموذج ديلبروك

بلا شك، وكما أن النور مقياس ذاته والظلام، فإن الصحة مقياس ذاتها والخطأ.

سبينوزا، «علم الأخلاق»، الجزء ٢، قضية ٤٣

(١) الصورة العامة للمادة الوراثية

من الحقائق السابقة، تَبرز إجابة بسيطة جدًّا لتساؤلنا الذي يقول: هل هذه التركيبات، المكوَّنة من ذرات قليلة نسبيًّا، قادرة على الصمود لفترات طويلة أمام التأثير المربك والمزعج للحركة الحرارية التي تتعرض لها المادة الوراثية على نحو مستمر؟ سنفترض أن تركيب الجين يُشبه ذلك الذي لجزيء ضخم، والذي يكون قادرًا فقط على القيام بتغيير غير متصل، والذي يتمثل في إعادة ترتيب الذرات ويؤدِّي إلى جزيء أيسومري.١ إن إعادة الترتيب قد تُؤثِّر فقط في منطقة صغيرة من الجين، وعدد هائل من عمليات إعادة الترتيب المختلفة ربما يكون مُمكنًا. وعتبات الطاقة، التي تفصل بين التكوين الفعلي وأي تكوينات أيسومرية ممكنة، يجب أن تكون عاليةً بالقدر الكافي (مقارنة بمتوسِّط الطاقة الحرارية للذرة) لتجعل التغيير حدثًا نادرًا. وهذه الأحداث النادرة سوف نُشبهها بالطفرات التلقائية.

الأجزاء اللاحقة من هذا الفصل سوف تُكرَّس لاختبار تلك الصورة العامة للجين والطفرة (التي يعود الفضل فيها على نحو رئيسي إلى الفيزيائي الألماني إم ديلبروك) بمقارنتها بالتفصيل بالحقائق المعروفة عن الجينات. وقبل أن نقوم بذلك، قد نطرح على نحوٍ ملائم التعليق على أساس النظرية وطبيعتها العامة.

(٢) تفرُّد الصورة

هل كان البحث في الجذور الأعمق وتأسيس الصورة على ميكانيكا الكم ضرورةً حتمية لعرض المسألة البيولوجية؟ إن افتراض أن الجين هو جزيء أصبح اليوم — أجرؤ على القول — مألوفًا. وقليل من البيولوجيين، سواء أكانوا على علم بنظرية الكم أم لا، هم مَن سيَعترضون عليه. لقد غامرنا في قسمٍ سابق من هذا الكتاب بنسبه لفيزيائيٍّ ما قبل نظرية الكم بصفته التفسير الوحيد المعقول للديمومة الملاحظة. وكل الاعتبارات اللاحقة عن الأيسومرية، وطاقة العتبة، والدور المُهم لنسبة W:kT في تحديد احتمالية الانتقال الأيسومري، يمكن تقديمه جيدًا على أساسٍ تجريبي خالص في أي نسق دون أن نركن إلى نظرية الكم. فلماذا أُصر إذن بتصميم شديد على الرؤية القائمة على ميكانيكا الكم بالرغم من أنني قد لا أستطيع أن أجعلها واضحة في هذا الكتاب الصغير، ومن الممكن أن أصيب بها الكثير من القراء بالملل؟

إن ميكانيكا الكم هي الجانب النظري الأول المفسِّر اعتمادًا على القوانين الطبيعية لكل أنواع التجمُّعات الذرية التي نلاقيها فعليًّا في الطبيعة. وارتباط هايتلر ولندن مَلْمحٌ مُتفرِّد واستثنائي لتلك النظرية، الذي لم يُقدم لأجل تفسير الرابطة الكيميائية، بل بزغ في هدوء بنفسه، بطريقة عالية الإثارة والإلغاز، تَفرضه علينا اعتبارات مختلفة تمامًا. وقد ثبَت توافقه التام مع الحقائق الكيميائية المرصودة، وكما قلت، هو ملمح مُتفرِّد ومفهوم بالقدر الكافي بحيث يُمكن أن نقول بقناعة كبيرة إن «هذا الشيء قد لا يحدث مرة أخرى» في التطور اللاحق لنظرية الكم.

نتيجة لذلك، يُمكننا أن نؤكِّد دون تردُّد أنه لا بديل آخر للتفسير الجزيئي للمادة الوراثية؛ فالجانب الفيزيائي لا يترك أي احتمالية أخرى لتُفسِّر ديمومة تلك المادة. ولو أن الصورة التي يقترحها ديلبروك كان قد قُدِّر لها أن تفشل، لكان علينا ألا نقوم بأي محاولات أخرى. هذه هي أول نقطة أرجو طرحها.

(٣) بعض المفاهيم التقليدية المغلوطة

لكن من الممكن أن يُطرَح السؤال التالي: ألا يوجد بالفعل أي تركيبات أخرى محتملة مكوَّنة من الذرات عدا الجزيئات؟ ألا تحتفظ، على سبيل المثال، العملة الذهبية المدفونة في مقبرة لبضعة آلاف من السنوات بسمات الصورة المطبوعة عليها؟ صحيح أن العملة تتكوَّن من عدد هائل من الذرات، لكننا بكل تأكيد في هذه الحالة لسنا ميَّالين لعزو الاحتفاظ بالشكل لإحصاءات الأعداد الضخمة. الملاحظة نفسها تنطبق على تجمع البلورات المتكوِّن بأناقة، الذي نجده مدفونًا في إحدى الصخور، والذي لا بد أنه قد بقي هناك لفترات جيولوجية عديدة دون تغيير.

هذا يقودنا إلى النقطة الثانية التي أرغب في توضيحها. إن حالات الجزيء والجامد والبلورة ليست مختلفة في حقيقة الأمر؛ ففي ضوء المعرفة الحالية هي تقريبًا واحدة. ولكن لسوء الحظ، إن التعليم المدرسي يُبقي على آراء معينة تقليدية قد عفا عليها الزمن منذ سنوات طويلة، وهي تَحجب فهم حقيقية الأمور.

في واقع الأمر، ما تعلمناه في المدرسة عن الجُزَيئات لا يشير على الإطلاق إلى أنها أكثر قربًا إلى الحالة الجامدة منها إلى الحالة السائلة أو الغازية. على العكس؛ فقد علمونا أن نُميز بعناية بين التغيرات الفيزيائية كالانصهار أو التبخُّر، التي فيها يُبقي على الجزيئات (بحيث، على سبيل المثال، يتكون دائمًا الكحول، سواء كان جامدًا أو سائلًا أو غازيًّا، من الجزيئات نفسها، .) والتغيُّرات الكيميائية مثل احتراق الكحول:

حيث يخضع جزيء الكحول وثلاثة جزيئات من الأكسجين إلى إعادة ترتيب لتكوين جزيئين من ثاني أكسيد الكربون وثلاثة جزيئات من الماء.

بالنسبة للبلُّورات؛ فقد علمونا أنها تكون شبكات منتظمة ثلاثية الميل، يكون فيها تركيب الجزيء الواحد قابلًا للتمييز أحيانًا، كما في حالة الكحول ومعظم المركبات العضوية، بينما في بلورات أخرى مثل الملح الصخري (NaCL)، لا يُمكن على الإطلاق تحديد جزيئاتها؛ ففي الملح الصخري، كل ذرة Na محاطة بست ذرات Cl على نحوٍ مُتماثل والعكس صحيح، بحيث يكون اعتباطيًّا جدًّا تحديد الأزواج التي، إن وجدت، يُمكن اعتبارها شركاء جزيئَين.

وأخيرًا؛ فقد أخبرونا أن الجامد يُمكن أن يكون بلوريًّا أو لا، وأننا في الحالة الأخيرة نصفه بأنه لا بلوري.

(٤) «الحالات» المختلفة للمادة

الآن، لن أكون مخطئًا لو أنني قلتُ إن كل تلك العبارات والتمييزات غير صحيحة إلى حدٍّ ما، إلا أنها أحيانًا مفيدة لأغراض عملية. لكن فيما يتعلق بالتركيب الصحيح للمادة، فالحدود يجب أن تُرسم بطريقة مختلفة تمامًا؛ فالتمييز الأساسي هو بين محتوى «المعادلتَين» التاليتَين:

جزيء = جامد = بلوري.

غاز = سائل = لا بلوري.

يجب أن نشرح هاتين العبارتين باختصار؛ فما يُدعى بالجامد اللابلوري هو في حقيقة الأمر إما ليس لا بلوريًّا وإما ليس بجامد. ففيما يتعلق بألياف الفحم النباتي «اللابلورية»، إن التركيب الأساسي لبلورة الجرافيت قد كُشف النقاب عنه من خلال الأشعة السينية. وهكذا يكون الفحم النباتي جامدًا لكنه كذلك بلوري. وحيثما لا نجد تركيبًا بلوريًّا لشيء ما، فعلينا أن نعُد هذا الشيء مادةً سائلة ذات «لزوجة» عالية للغاية (الاحتكاك الداخلي). مثل هذه المادة سيتضح أنها ليست جامدة من خلال عدم امتلاكها لدرجة انصهار محدَّدة وحرارة انصهار كامنة. وعندما تُسخن، فهي تلين تدريجيًّا وتتحول لمادة سائلة في النهاية دون توقف. (أتذكر أننا بنهاية الحرب العالمية الأولى كنا نُعطى في فيينا مادة تُشبه الأسفلت بديلًا للقهوة. كانت صلبة للغاية، وكان على الشخص أن يستخدم إزميلًا أو فأسًا صغيرة كي يكسر القالب الصغير إلى قطع، عندها كان يظهر به شقٌّ ناعم، يُشبه الصدفة. لكن مع الوقت كانت تلك المادة تتصرَّف كسائل؛ إذ كانت تتكدَّس في الجزء السفلي من الوعاء الذي قد تتركها فيه لبضعة أيام، في تصرف غير حكيم من جانبك.)

إن استمرارية الحالتين، السائلة والغازية، قصة معروفة جيدًا. فيمكن تسييل أي غاز دون توقف بأن تعرف كيف تتعامل مع ما يُسمى بالنقطة الحرجة. لكننا لن نتعرض لذلك هنا.

(٥) التمييز المهم حقًّا

هكذا بات لدينا كل شيء مبررًا في المعادلتين السابقتَين، عدا النقطة الرئيسية، التي تتمثل في أننا نأمُل في أن تنظر للجزيء بعدِّه جامدًا؛ ومن ثم بلوريًّا.

إن السبب في هذا أن الذرات المكوِّنة للجزيء، سواء كان هناك الكثير منها أو القليل، تتَّحد من خلال قوى، لها بالضبط الطبيعة نفسها التي لتلك التي تخضع لها الذرات العديدة التي يتكوَّن منها أي جامد أو بلورة. فالجزيء يمتلك صلابة التركيب نفسها كتلك التي للبلورة. تذكَّروا أن هذه الصلابة على وجه الدقة هي التي نَعتمِد عليها لتفسير سبب ديمومة الجين!

إن التمييز المُهم بحقٍّ في تركيب المادة هو ما إذا كانت الذرات مترابطة معًا بقوى «التجمُّد» الخاصة بهايتلر ولندن تلك أم لا. في الجامد وفي الجزيء، كلها كذلك. أما في الغاز المكوَّن من ذرات مُنفرِدة (مثل بخار الزئبق)، فهي ليست كذلك. أما في الغاز المكوَّن من جزيئات، ففقط الذرات الموجودة ضمن كل جزيء هي التي ترتبط بتلك الطريقة.

(٦) الجامد غير المنتظم

إن الجزيء الصغير يمكن أن ندعوه ﺑ «جرثومة الجامد». وبدءًا من تلك الجرثومة الصغيرة للجامد، يبدو أن هناك طريقتَين مختلفتين لبناء تجمعات أكبر وأكبر. الأولى هي الطريقة المملة نسبيًّا التي تعتمد على تكرار التركيب نفسه في ثلاثة اتجاهات مرة بعد الأخرى. وهذه هي الطريقة المتبعة في البلورة النامية. وبمجرد أن يتأسس الانتظام، فلا يوجد حد معين لحجم التجمُّع. والطريقة الأخرى تبني تجمُّعاتٍ ممتدة أكثر فأكثر دون أداة التكرار المُملة. وهذه هي الحال في الجزيئات العضوية الأكثر تعقيدًا بكثير التي فيها كل ذرة، وكل مجموعة ذرات، تلعب دورًا منفردًا، ليس مكافئًا تمامًا لذلك الذي لكثير غيرها (كما هي الحال في التركيب المنتظم). من المُمكن أن يكون مناسبًا إلى حدٍّ ما أن نُطلق على هذا الجامد أو البلورة غير المنتظمة، ونعبر عن فرضيتنا كما يلي: نعتقد أن الجينَ — أو ربما الليفة الكروموسومية بأكملها٢ — جامدٌ غيرُ منتظمٍ.

(٧) تنوُّع المحتويات المضغوطة في الشفرة المصغَّرة

كثيرًا ما كان يُسئل كيف أن هذه النقطة الصغيرة جدًّا من المادة، نواة البيضة المخصَّبة، يمكن أن تحوي نص شفرة مفصلًا يتضمن كل التطور المستقبلي للكائن الحي؟ يبدو أن تجمُّعًا منظَّمًا جيدًا للذرات لديه مقاومة كافية للاحتفاظ بتنظيمه على نحوٍ دائم هو تركيب المادة الوحيد المتصوَّر الذي يُقدم مجموعة متنوعة من التنظيمات (الأيسومرية) المُمكنة، الضخمة بما يَكفي لتضمن نظامًا معقَّدًا من «التحديدات» ضمن حدود حيِّز صغير. في واقع الأمر، إن عدد الذرات في مثل هذا التركيب يجب ألا يكون ضخمًا جدًّا كي ينتج عددًا غير محدود تقريبًا من التنظيمات المُحتمَلة. للتوضيح، فكِّر في شفرة مورس. إن رمزَي النقطة والشرطة المختلفان والمُنظَّمان في مجموعات جيدة الترتيب لا تزيد عن أربع يَسمحان بوجود ثلاثين احتمالًا مختلفًا. هنا، إذا سمحتَ لنفسك باستخدام رمز ثالث بالإضافة إلى النقطة والشَّرطة وعدد مجموعات لا يزيد عن العشرة، فستستطيع أن تكون ٨٨٥٧٢ حرفًا مختلفًا؛ ومع خمسة رموز ومجموعات يصل عددها إلى ٢٥، فالرقم سيكون ٣٧٢٥٢٩٠٢٩٨٤٦١٩١٤٠٥.

من المُمكن أن يُقال إن هذا التشبيه قاصر لأن رموز مورس خاصَّتنا قد يكون لها تركيب مختلف (مثل: --. و-..)؛ ومن ثم فهي تشبيهٌ سيئ للأيسومرية. لعلاج ذلك الخلل، دعنا نلتقط، من المثال الثالث، فقط التجميعات المكوَّنة من ٢٥ رمزًا بالضبط وفقط تلك التي تحتوي على ٥ من كل من الأنواع الخمسة المفترضة (الخمس نقاط والخمس شُرط، وهكذا). إن الحساب التقريبي سيعطيك عدد التجميعات الذي سيكون ٦٢٣٣٠٠٠٠٠٠٠٠٠٠؛ حيث الأصفار على اليمين تُمثِّل البِنى التي لم أتكبَّد عناءَ حسابها.

في الحالة الحقيقية، إن «كل» ترتيب لمجموعة الذرات سوف يُمثِّل في كل الأحوال جزيئًا محتملًا؛ إضافة إلى ذلك، المسألة ليست شفرة تُعتمد اعتباطًا؛ فنص الشفرة يجب أن يكون هو نفسه العامل الفعال المؤدي إلى التطور والنمو. لكن من ناحية أخرى فالرقم المختار في المثال ٢٥ لا يزال صغيرًا جدًّا، وقد تصورنا فقط التنظيمات البسيطة في خط واحد. ما نرجو توضيحه هو ببساطة أنه مع الصورة الجزيئية للجين لم يعد من غير الوارد أن الشفرة المصغَّرة يجب أن تتناسب بدقة مع الخطة العالية التعقيد والتحديد للنمو والتطور، وأنها يجب أن تحتوي بطريقة ما على الوسائل التي تجعلها تعمل.

(٨) المقارنة بالحقائق: درجة الاستقرار؛ عدم استمرارية الطفرات

الآن دعنا ننتقل أخيرًا لنُقارن الصورة النظرية بالحقائق البيولوجية. السؤال الأول الواضح هو: هل هذه الصورة تستطيع بحقٍّ أن تُفسِّر الدرجة العالية من الديمومة التي نلاحظها. وهل قيَم العتبة المطلوبة — للمضاعفات العالية لمتوسِّط الطاقة الحرارية — معقولة؟ وهل هي ضمن النطاق المعروف من الكيمياء العادية؟ ذلك السؤال بسيط جدًّا؛ إذ يمكن إجابته بالإيجاب دون فحص الجداول. فجزيئات المادة التي يستطيع الكيميائي عزلها عند درجة حرارة معيَّنة يجب أن يكون لها عند درجة الحرارة تلك عمرٌ قدره بضع دقائق على الأقل. (هذا هو الحدُّ الأدنى، لكن المعتاد أن أعمارها أكبر كثيرًا.) لذا، فقيَم العتبة التي يُصادفها الكيميائي يجب بالضرورة أن تكون بالضبط بالقيمة الأُسية المطلوبة للتفسير العملي لأي درجة ديمومة يمكن لعالِم الأحياء أن يصادفها؛ فنحن نتذكَّر من الفصل السابق أن قيم العتبة التي تتراوح ضمن مدى ١ : ٢  تقريبًا سوف تُفسِّر الأعمار التي تتراوح بين أجزاء من الثانية وعشرة آلاف عام.
لكن دعوني أذكر أمثلة لنرجع إليها فيما بعد. إن نسب المذكورة أمثلةً في نهاية الفصل السابق، التي كانت كالتالي:

والتي تُنتج أعمارًا تساوي:

١ / ١٠   ثانية، و١٦ شهرًا، و٣٠ ألف سنة.

على التوالي، تَتناسب في درجة حرارة الغرفة مع قيم العتبة التالية:

٠٫٩ و١٫٥ و١٫٨ إلكترون فولت.

يجب أن نشرح وحدة «الإلكترون فولت» التي تُعدُّ ملائمة للغاية للفيزيائي لأنه يمكن تصوُّرها. على سبيل المثال، الرقم الثالث (١٫٨) يعني أن إلكترونًا، سُرِّع بفرق جهد كهربي يساوي فولتين تقريبًا، سوف يكتسب طاقة كافية بالكاد لإحداث عملية الانتقال عن طريق الصدم. (للمقارنة، بطارية كشاف الجيب العادي لها فرق جهد كهربي ٣ فولتات.)

هذه الاعتبارات تجعل من المتصوَّر أن التغيُّر الأيسومري للتكوين في جزء ما من الجزيء خاصتنا والناتج عن تذبذب عرضي في الطاقة الاهتزازية، يُمكن بالفعل أن يكون حدثا نادرًا بما يَكفي بحيث يُفسَّر طفرةً تلقائيةً. وهكذا، بواسطة مبادئ ميكانيكا الكم الأساسية نستطيع تفسير أكثر حقيقة مُدهشة عن الطفرات، الحقيقة التي جذبت في البداية انتباه دي فريس للطفرات؛ أعني أنها تنوُّعات «قافزة» دون وجود تكوينات وسيطة.

(٩) استقرار الجينات المنتخَبة طبيعيًّا

مع اكتشاف زيادة معدَّل حدوث الطفرات الطبيعية من خلال أي نوع من الأشعة المؤيَّنة؛ فقد يُفكر أحدهم في عزو المعدَّل الطبيعي للنشاط الإشعاعي للتربة أو الهواء أو الأشعة الكونية. لكن عند عقد مقارنة كمية بين نتائج هذا النشاط ونتائج الأشعة السينية، سيتبيَّن أن «الإشعاع الطبيعي» أكثر ضعفًا بكثير، ويُمكن أن يكون مسئولًا فقط عن جزء صغير جدًّا من المعدَّل الطبيعي.

مع التسليم بأننا يجب أن نُرجع الطفرات الطبيعية النادرة إلى التذبذبات العرضية للحركة الحرارية، يجب ألا نندهش جدًّا من أن الطبيعة قد نجحت في اتخاذ هذا الاختيار الدقيق لقيَم العتبة كما هو ضروري لجعل الطفرات نادرة؛ إذ إننا تَوصَّلنا، سابقًا في هذه المحاضرات، إلى استنتاجٍ مفاده أن الطفرات المُتوالية مُضرة بعملية التطور. إن الأفراد الذين يَكتسبون عن طريق الطفرات تكوينات جينية ليست مستقرَّة بالقَدر الكافي سوف تكون لديهم فرصة ضئيلة لرؤية ذريتهم التي ستَطفر بسرعة وعلى نحوٍ «فائق الجذرية». إن الأنواع ستكون خاليةً منهم؛ ومن ثم سوف تجمع الجينات المُستقرَّة عبر الانتخاب الطبيعي.

(١٠) الاستقرار المُنخفِض أحيانًا للأفراد الطافرين

لكن بالتأكيد بالنسبة للأفراد الطافرين الذين يُنتَجون في تجارب التكاثر خاصتنا والذين نختارهم، بصفتهم أفرادًا طافرين، لدراسة ذُريتهم، لا يوجد سبب يجعلنا نتوقع أنهم جميعًا يجب أن يُظهِروا ذلك الاستقرار العالي جدًّا؛ إذ إنهم «يُجرَّبون» فقط — أو لو أن ذلك قد حدَث؛ فقد «نُبذوا» في عمليات التكاثُر البرية — ربما بسبب قابليتهم العالية للغاية للتطفُّر. على أيِّ حال، نحن لسنا مُندهِشين على الإطلاق حين نعلم أن بعض هؤلاء الأفراد يُظهِرون فعليًّا درجة أعلى بكثير من القابلية للتطفُّر مقارنة بالجينات «البرية» العادية.

(١١) درجة الحرارة تُؤثر في الجينات غير المستقرة على نحوٍ أقل من تلك المستقرة

هذا يُمكِّننا من اختبار معادلة القابلية للتطفر خاصتنا، التي كانت:
(فلنتذكر أن هو الوقت المتوقَّع لحدوث طفرة بطاقة عتبة .) نحن نَسأل هنا: كيف يتغير مع درجة الحرارة؟ يُمكن أن نصل بسهولة من المعادلة السابقة في تقريبٍ جيِّد إلى أن نسبة قيمة عند درجة حرارة إلى تلك عند درجة حرارة هي:
لكون الأُسِّ سالبًا الآن، فمن الطبيعي أن تكون النسبة أقل من ١. سيقل الوقت المتوقَّع لحدوث الطفرة مع رفع درجة الحرارة، وستزداد القابلية للتطفر. يمكن اختبار ذلك الآن، وقد اختُبر بالفعل في ذبابة الفاكهة في نطاق درجات الحرارة الذي تستطيع الحشرات تحمُّله. والنتائج كانت من الوهلة الأولى مفاجئة؛ فقد زادت قابلية التطفر «المُنخفضة» للجينات البرية بوضوح، لكن قابلية التطفر «العالية» نسبيًّا الحادثة مع بعض الجينات الطافرة بالفعل لم تَزِد، أو على أي حال زادت على نحوٍ أقل بكثير. هذا بالضبط ما نتوقعه عند مقارنة المعادلتَين خاصتنا؛ فالقيمة الكبيرة ﻟ ، التي طبقًا للمعادلة الأولى تكون مطلوبةً لجعل قيمة كبيرة (الجين المُستقِر)، سوف، طبقًا للمعادلة الثانية، تجعل للنسبة المحسوبة هناك قيمة صغيرة، ما يَعني زيادة معتبرة في القابلية للتطفر مع زيادة درجة الحرارة. (يبدو أن القيم الفعلية للنسبة تقع بين ١ / ٢ و١ /  ٥. والقيمة المقابلة لها، ٢٫٥، هي تلك التي في التفاعُلات الكيميائية العادية نطلق عليها معامل فانت هوف.)

(١٢) كيف تُنتِج الأشعةُ السينيةُ الطفرات؟

نتحول الآن إلى معدَّل التطفُّر المُستحَث بواسطة الأشعة السينية. لقد استنتجنا بالفعل من تجارب التكاثُر؛ أولًا (من خلال تناسُب معدَّل التطفُّر والجرعة) أن حدثًا ما منفردًا ينتج الطفرة؛ وثانيًا (من خلال النتائج الكمية، ومن حقيقة أن معدَّل التطفُّر يتحدَّد بواسطة كثافة التأيُّن المتكاملة، وأنه غير معتمد على الطول الموجي) أن هذا الحدث المنفرد يجب أن يكون تأيُّنًا أو عمليةً مشابِهةً يجب أن تحدث داخل حجم معين، يبلغ فقط نحو ١٠ مسافات ذرية مكعَّبة كي تنتج طفرة محدَّدة. وبحسب صورتنا؛ فالطاقة المطلوبة لتخطِّي العتبة يجب أن تزوَّد بوضوح من خلال تلك العملية التي تشبه الانفجار، التأين أو الاستثارة. أنا أصفها هنا بأنها تُشبه الانفجار؛ لأن الطاقة المستهلكة في عملية تأيُّن واحدة (المُستهلَكة، عرضًا، ليس بواسطة الأشعة السينية نفسها، لكن بواسطة إلكترون ثانوي تُنتجه) معروفة جيدًا، ولها قدر كبير نسبيًّا يبلغ ٣٠ إلكترون فولت. وهي مُلزَمة بأن تتحوَّل إلى حركة حرارية مُتزايدة على نحوٍ هائل حول النقطة حيث انبعثَت، وأن تَنتشر من هناك في صورة «موجة حرارية»، موجة من تذبذبات قوية للذرات. إن هذه الموجة الحرارية يجب أن تكون ما تزال قادرةً على توفير عتبة الطاقة المطلوبة، ١ أو ٢ إلكترون فولت، في متوسِّط «نطاق عمل» قدره ١٠ مسافات ذرية، وهذا أمر يُمكن تصوره، على الرغم من أنه من المُحتمَل لفيزيائي غير متحيِّز أن يتوقَّع نطاق عمل أقل قليلًا. في كثير من الحالات، من المتوقَّع تمامًا — بل وهو ما يُرصَد بالفعل — ألا يَنتج عن الانفجار انتقال أيسومري منظَّم، ولكن إصابة للكروموسوم، إصابة تُصبح مميتة عندما، في ظل عمليات تهجين بارعة، يُزال الشريك غير المصاب (الكروموسوم المقابل من المجموعة الثانية) ويُستبدل به شريكٌ جينُه المقابل معروف بأنه مصاب.

(١٣) فعاليتها لا تَعتمد على القابلية التلقائية للتطفُّر

هناك عدد لا بأس به من السمات الذي يُمكن فهمه بسهولة من صورتنا، حتى وإن لم يكن يُمكن توقعه منها. على سبيل المثال، إن الفرد الطافر غير المُستقِر لا يُظهِر في المتوسِّط معدَّلًا أعلى بكثير من التطفر الناتج عن الأشعة السينية من ذلك المستقر. والآن ومع انفجار يزوَّد بطاقة قدرها ٣٠ إلكترون فولت، فأنت بالتأكيد لن تتوقَّع أنه سوف يكون هناك اختلاف كبير إذا ما كانت طاقة العتبة المطلوبة أكبر قليلًا أو أقل قليلًا؛ لنقل ١ أو ١٫٣ فولت.

(١٤) الطفرات العكسية

في بعض الحالات دُرس الانتقال في كلا الاتجاهَين؛ أي من جين «بري» معيَّن إلى فرد طافر محدَّد، ورجوعًا من هذا الفرد إلى الجين البري. في مثل هذه الحالات يكون معدَّل الطفرات الطبيعي هو تقريبًا نفسه أحيانًا، ومختلفًا تمامًا في أحيان أخرى. للوهلة الأولى سيكون الأمر محيِّرًا؛ لأن العتبة التي يجب تجاوزها يبدو أنها واحدة في كلتا الحالتين. لكن بكل تأكيد يجب ألا تكون كذلك؛ لأنها يجب أن تُقاس من مستوى الطاقة الخاص بالتكوين البادئ، وهذا من المُمكن أن يكون مختلفًا بالنسبة للجين البري والجين الطافر. (ارجع للشكل ٤-٢ حيث «١» من المُمكن أن يشير للأليل البري و«٢» للأليل الطافر، الذي سيُشار لاستقراره الأقل بالسهم القصير.)

إجمالًا، أعتقد أن «نموذج» ديلبروك نجح في تجاوز الاختبارات على نحوٍ جيِّد تمامًا، ويحقُّ لنا استخدامه في تناول جوانب أخرى أبعد وأكثر عمقًا.

هوامش

(١) تحريًا للوضوح، سأستمرُّ في تسمية هذا بالانتقال الأيسومري، رغم أنه سيكون من الغريب استبعاد إمكانية حدوث أي تبادُل مع البيئة المحيطة.
(٢) إن كونه شديد المرونة لا يتعارض مع ما نقوله؛ فالسلك النحاسي الرفيع شديد المرونة، ومع ذلك يُعدُّ جامدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤