مقدمة

البحث في الحضارة دراسة شائقة وشاقة في آنٍ واحد: هي شائقة لأنها تصوِّر التاريخ بصورة حية شاملة، وتحاول أن تبعث الماضي متكاملًا بقدْر الإمكان. والحق أنه منذ أخذ بعض الباحثين على عاتقهم كتابة تاريخٍ لحضارة البشر، زال عن البحث التاريخي كثير من جفافه، وأصبحت الصورة التي تقدِّمها إلينا الكتب التاريخية قريبة من تصوُّرنا وفهْمنا؛ ففيها يتمثَّل الإنسان مكتمل الأوجه؛ إذ نتأمله صانعًا أو زارعًا، وشاعرًا أو كاتبًا، وفنانًا وصاحب عقيدة، وسياسيًّا وحاكمًا.

على أن هذه النظرة المتكاملة هي ذاتها التي جعلت من البحث في الحضارة دراسة شاقة؛ فلكي يصل الباحث في هذا الميدان إلى تكوين حكم عام على حضارة مجتمع، ينبغي عليه أن يلمَّ بكافة مظاهر هذه الحضارة، من علم وأدب وفن ودين وسياسة؛ أي إن بحثه يتشعب إلى حدٍّ كبير، ويكاد يصبح من المستحيل جمْع كل هذه الأبحاث والوصول منها إلى حكم شامل على الحالة الحضارية لمجتمعٍ ما، إلا بعد جهد ضخم في المجال الفكري، وفي مجال التحصيل في الوقت ذاته.

ومن هنا كانت الصلة وثيقة بين البحث في الحضارة وبين التفكير الفلسفي؛ إذ إن النظرية لا بُدَّ أن تقوم بمهمة التأليف بين مختلف العناصر التي تتجمَّع لدى الباحث في الحضارة، وينبغي أن يسعفه تفكيره الفلسفي في إصدار الحكم العام الذي ينتهي إليه، ما دام الاقتصار على البحث التفصيلي يزيد من دقة الحكم فحسب دون أن يقدم محتوًى أو مضمونًا له. وهذا الاستناد إلى التفكير الفلسفي يُضْفِي على البحث في الحضارة مزيدًا من الطرافة، ومزيدًا من العمق في الآن نفسه.

ونحن لا ندَّعي أننا نقدم في هذا الكتاب بحثًا شاملًا في الحضارة؛ إذ إن كل معارف البشر وإنتاجهم يمكن أن يدخل — بمعنًى معين — في نطاق الحضارة، وإنما يهدف الكتاب إلى معالجة هذا الموضوع بإيجاز شديد: فهو يقدِّم في القسم الأول منه محاولة نظرية لتعريف الحضارة وتحديد مجالها، ثم يعرض بعض التطوُّرات التاريخية التي طرأت على الحضارة الحديثة، وأخيرًا يعالج بعض المشكلات التي أثارتها هذه التطوُّرات.

ولقد اقتصرنا في حديثنا عن التطوُّرات التاريخية وعن المشكلات، على الفترة الحديثة من التاريخ الحضاري؛ لأنها هي الألصق بنا، وهي الأجدر بالإيثار طالما أن من الواجب علينا أن نختار، ولمَّا كنا نعتقد أن أهم ما يُميِّز هذه الحضارة الحديثة، وما دارت حوله وتأثرت به كل العناصر الحضارية الأخرى، هو التقدُّم الصناعي الضخم، والقدرة على ابتداع الآلات وتطويعها لخدمة الإنسان، فقد جعلنا محور البحث التاريخي — في الأغلب — هو التطوُّر في طريقة استغلال الإنسان للقوى الطبيعية، وأثر ذلك في حياته، وما نشأ عنه من مشكلات نظرية وعملية.

وقد يُقال إن مشاكل الآلة والصناعة لم يكن لها تأثير كبير إلا في الغرب، وإننا نحن أهل الشرق لا زلنا بعيدين عن التأثُّر بها، ونحن نسلِّم بذلك، ولكن ينبغي أن ندرك أن تطورنا — في اتجاهه الصاعد — سيسير حتمًا في هذا المجال، ونحن قد بدأنا بالفعل نواجه المشاكل التي تُثار في مجتمعٍ يعتمد على الصناعة، وتلعب فيه الآلة أكبر دور في الإنتاج، وخليق بنا قبل أن ننغمس في هذا التطوُّر المقبل أن نستفيد من تجرِبة الآخرين في هذا المجال، ونطَّلع على أخطائهم، ونعمل على تجنُّبها، ولو كان في دراسة حضارة الآلة ما يؤدي بنا إلى فهْم الأصول التي ترجع إليها مشاكلها، وإدراك الطريقة التي ينبغي أن تُنظَّم بها العلاقات الاجتماعية فيها، والعمل على تفادي ما وقع فيه غيرنا من أخطاء في الوقت الذي نُقبل فيه على نهضة اجتماعية شاملة؛ لكان في هذا الكفاية.

فؤاد زكريا
أبريل ١٩٥٧م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤