الفرد والمجتمع

في المجتمع الصناعي تتخذ مشكلة الفرد والمجموع صورةً جديدة، وتغدو من المشاكل المُلِحَّة التي تدور حولها أعنف المناقشات، وتظهر بصددها أشد الآراء تعارضًا؛ ذلك لأن الإنتاج يتخذ في ذلك المجتمع صبغة تعاونية بالضرورة، ومن المحال أن يُتصوَّر مجتمع صناعي يكون الفرد فيه — أو المجموعات الخاصة من الأفراد — هو أساس الإنتاج؛ فالفردية قد تُتَصَوَّر في المجتمع الزراعي؛ إذ يمكن أن يكتمل الإنتاج فيه بمجهود فرد أو جماعة خاصة من الأفراد. أما الإنتاج الصناعي فيبلغ من التعقُّد حَدًّا يجعل من الضروري تحقيق تعاون تام فيه. وأبسط نوع من أنواع الإنتاج الصناعي يمر بمراحل معقدة، ابتداءً من المادة الخام حتى السلعة المصنوعة، يتحتم فيها تعاون مجموعات كبيرة من الأفراد تعاونًا وثيقًا.

وإذن فتداخل الفرد في المجموع ضرورة لا مفر منها في أي مجتمع صناعي، وهنا تثار المشكلة الفلسفية والحضارية بأعنف صورها، فماذا يكون موقف الفرد من هذا المجموع الذي يندمج فيه؟ وهل يُقضى على فرديته وتضيع أصالته بعد أن تغلغل هو في المجتمع وتغلغل المجتمع فيه إلى هذا الحد؟ وما هو مصير الشخصية الإنسانية العميقة بعد هذا التداخل بينها وبين المجتمع؟ هل يختفي عنصر العمق فيها لتعيش كلها على السطح الخارجي، وترتبط بالباقين في علاقات شكلية سطحية فحسب، ويصبح الإنسان جزءًا لا معنَى له وسط آلة ضخمة هائلة تتجاوزه إلى أقصى حد، هي ما يُسمَّى بالمجتمع الصناعي؟

تلك إحدى المشكلات الأساسية التي واجهتنا بها الحضارة الصناعية الحديثة، بل ربما كانت كبرى هذه المشكلات، وارتباطها بالمشكلة السابقة — مشكلة الحرية والتنظيم — ارتباط وثيق؛ إذ إن القائلين ﺑ «ترْك الأمور تسير في مجراها» هم الذين يؤكدون أن شخصية الإنسان تتعرَّض للتضاؤل في المجتمع الصناعي، وأن طبيعة هذا المجتمع تقضي على كل عمق في تلك الشخصية، فينبغي إذن أن نقلل من التدخُّل والتنظيم إلى أدنى حد ممكن. والقائلون بأن الحرية لا تُتَصَوَّر إلا في ظل التنظيم، يؤكدون بعكس ذلك أن شخصية الإنسان قد ازدادت في العصر الصناعي عمقًا، وكل ما في الأمر أن تنظيم العلاقات الاجتماعية في هذا العصر ضروري لكي تتحقق كل النتائج المرجوة منه.

(١) قيمة الفرد في عصر الآلة

أهم ما يُميِّز طبيعة العمل الاجتماعي في عصر الصناعة صفةُ التخصُّص. وكلما ازدادت حياتنا تعقُّدًا، ازداد التخصُّص وتقسيم العمل دِقةً. وهذه الظاهرة لا تقتصر على مجال الاقتصاد وحده، بل هي تمتد إلى مجالات السياسة والإدارة والعلم. ومع ذلك فبينما أصبح هذا التخصُّص أمرًا مقبولًا في سائر الميادين، بعد أن وضح للجميع أن التخصُّص في العلم مثلًا قد أتى بأحسن النتائج على العلم وعلى الإنسان ذاته؛ فإن هذه الصفة قد وجدت مَن ينتقدها في ميدان العمل الاجتماعي، ومَن يعيب على المجتمع الحديث روح التخصُّص المفرط فيه.

ففي رأي كثير من المفكرين (وهؤلاء سنعرض لهم أمثلة فيما بعد) أن تقسيم العمل يحط من قدْر الشخصية الإنسانية، وأن الإنسان كان في العهود السابقة على عهد التخصُّص المفرط هذا، يكتفي بعمله الخاص، أو بعمل المجموعة المحيطة به مباشرةً، والتي تربطه بها علاقاتٌ شخصية، وكان تبعًا لذلك مستقلًّا عن غيره مكتفيًا بذاته، بينما أصبح في عصرنا الحالي مجرد جزء ضئيل من جهازٍ ضخم يتم به الإنتاج الاجتماعي، فلا هو شاعر بذاته وبقيمة الدور الذي يؤديه، ولا هو معتمِد على نفسه، أو على مجهوده الخاص في حياته. فالإنسان الحديث في حالة عبودية بالمعنى الصحيح، إنه يشعر دائمًا بالحاجة إلى الآخرين، وبأنه عالة عليهم، ولا يستطيع أن يتصوَّر نفسه مجردًا عن الجماعة المحيطة به، فقيمته الوحيدة إنما تنحصر في كونه جزءًا منهم فحسب، وهو بدونهم لا يساوي شيئًا. وهكذا فقدت شخصية الإنسانية أهم عناصرها، فقدت عنصر العُمق، واكتفت بكل ما هو سطحي، وأصبحت لا تجد نفسها إلا في الخارج، وفيما حولها فحسب.

فإذا قلنا إن طبيعة الحياة في هذا المجتمع الصناعي قد علَّمت الإنسان فضيلة التضامن والتعاون، كان رد هؤلاء المعترضين هو أن التضامن فضيلة «القطيع»؛ فالإنسان يحتاج إلى التضامن الكامل والتعاون الوثيق؛ لأنه عاجز عن أن يحقِّق لنفسه — بقواه الخاصة — شيئًا. والحق أن التضامن — في رأيهم — هو بهذا المعنى دليل على العجز والقصور، وليس فضيلة على الإطلاق. إن الأفراد في مثل هذا المجتمع متشابهون كلهم قاصرون كلهم، فليس أمامهم إلا أن يتعاونوا؛ لأن سطحيتهم تؤدي بهم جميعًا إلى السير في نفس الطريق.

(٢) نقد الحضارة الصناعية عند الكُتَّاب المعاصرين

أوضحنا من قبلُ الاتجاهَ العام الذي يسير فيه ناقدو الحضارة الصناعية، والصورة العامة للنقد الذي يوجِّهونه إليها. ولكن قد يظن المرء أن هذه الآراء لا تذيع إلا على نطاق ضيق، وأن القائلين بها فئة قليلة ضئيلة الشأن من الكُتَّاب، ولكن الحق أن صدى هذه الآراء لا زال يتردد حتى أيامنا هذه بقوة، وسوف نذكر فيما يلي أمثلة مفصَّلة لكُتَّابٍ معاصرين معروفين، هاجموا كلهم الحضارة الصناعية الحديثة على أساس أنها تحطُّ من قدْر الإنسان.

•••

فالكاتب والمفكر الإسباني المشهور «أورتيجا إي جاسيه Ortega Y Gasset» يقول في كتابه «ثورة الدهماء»:
علينا أن نعترف بحقيقةٍ واضحة، سواء أكنا نَعُدُّها خيرًا أم شرًّا، حقيقة لها أهمية عظمى في الحياة العامة لأوروبا في عصرنا الحالي، هي أن الدهماء أصبحوا يملكون زمام السلطة الاجتماعية كاملًا. ولما كان الدهماء — تبعًا لتعريفهم — ليسوا ممن ينبغي عليهم أن يوجِّهوا حياتهم الشخصية بأنفسهم، ولا يستطيعون ذلك، ناهيك بحكم مجتمع بأسره، فإن معنى هذه الحقيقة هو أن أوروبا تعاني من أشد نكبة يمكن أن تصيب الشعوب والأمم والحضارة، هذه النكبة قد حدثت في التاريخ من قبلُ أكثر من مرة، وخصائصها ونتائجها معروفة، وكذلك اسمها، فهي تُسمَّى: ثورة الدهماء١

وهو يؤكِّد وجود حالة نفسية تُسمَّى ﺑ «الدهمائية»، وهي حالة يمكن تعريفها حتى دون انتظار وجود أفراد يكونون كتلة من الدهماء. ففي وسعنا أن نحكم على فرد واحد بأنه من الدهماء أو ليس منهم. والدهمائية في رأيه هي حالة كلِّ مَن يعجز عن أن يضع لنفسه قيمًا معينة على أسسٍ معينة، سواء أكانت هذه القيم خيرًا أم شرًّا، فهي حالة مَن يشعر أنه هو «والآخرون سواء»، ولا يَحُسُّ من جراء ذلك بأدنى قلق، بل يستشعر السعادة إذ يرى نفسه مماثلًا للآخرين من جميع الوجوه.

وهو يطبِّق رأيه العام على مجالات عدة. ففي ميدان السياسة لم تصل كتل الدهماء في يومٍ من الأيام إلى درجة التحكُّم التي وصلت إليها اليوم. ومن هنا كان يشخِّص الموقف الحالي في السياسة بأنه «ديمقراطية مفرطة Hyperdemocracy».

وكذلك الحال في الميدان الثقافي: فالكاتب حين يمسك بقلمه يضع في ذهنه الدهماء وعقليتهم، ويحاول أن يكتب لهم، ويشعر بأنهم رقباء عليه؛ أي إن خصائص الدهماء هي التي تفرض نفسها في هذا الميدان بدوره، وهي تسحق في طريقها كلَّ ما هو ممتاز فردي رفيع.

بل إنه يصف العِلم الحالي بأنه قد أصبح بدوره علمًا للدهماء، فأهم ما يُميِّز الحضارة الحالية هو العالِم، والعالِم هو الإنسان الذي يمثِّل هذه الحضارة خير تمثيل، بل هو أرفع ما تعتز به هذه الحضارة. ولكن العِلم سار في طريق التخصُّص بالتدريج، حتى أصبح كل عالِم لا يجيد إلا عِلمًا واحدًا، بل فرعًا ضئيلًا من ذلك العلم، وأصبح العلماء — ومعهم الجماهير — يحملون على كل محاولة لتوسيع أفق النظرة إلى الأمور. ومن شأن هذا الإفراط في التخصُّص أن يجعل الأوساط من الناس قادرين على أن يكونوا علماء، بل إنه يؤكِّد أن العلماء الحاليين المتخصصين، هم بالفعل من الأوساط؛ إذ إن عِلمهم في معظمه آلي، والمنهج الذي يتبعونه هو نفسه آلي، وما على العالِم إلا أن يطبِّق هذه المناهج الآلية وهو مغلِق على نفسه أبواب ذلك الفرع الضئيل الذي تخصَّص فيه، وكأنه نحلة تعجز عن الخروج من خليتها، ومثل هذا الشخص لا هو بالعالِم ولا هو بالجاهل؛ فهو عالِم في ميدانه الخاص، وجاهل في بقية الميادين. ومن هنا دعا إلى إيجاد التوازن بين التخصُّص والعلم؛ حتى يعود «الإنسان المثقف» مرة أخرى، وهو الإنسان الذي قلَّ عدد أفراده في الوقت الحالي عن عددهم في عام ١٧٥٠م مثلًا.

(ولا تفوتنا هنا ملاحظة عابرة، هي اختيار السنة التي أشار إليها أخيرًا؛ أعني ١٧٥٠م، وهي التاريخ المحدَّد لظهور الانقلاب الصناعي، ولهذا الاختيار دلالته العميقة، من حيث إنه يحمِّل العصر الصناعي تبعة النقص الثقافي الذي أصبحنا — في رأيه — نعيش فيه.)

•••

ويحدِّثنا فيلسوف آخر، هو كارل ياسبرز Karl Jaspers، في الموضوع نفسه، فيتناول بالتحليل أثر التنظيم الفني والصناعي الحديث في كيان الفرد قائلًا: «ولكن إن كان من الضروري في آخر الأمر … أن يتحوَّل كل شيء إلى إشباع الحاجات العاجلة وحدها، وإلى الاستهلاك والتبادل، وإذا ما أصبح المسكن ذاته يُشيَّد بطريقة آلية، ولم يظل في العالم المحيط بالفرد روح، ولم يَعُد العمل سوى مهمة يقوم بها الإنسان يومًا بيوم … فعندئذٍ يصبح الإنسان محرومًا من العالم بحق. فالإنسان إذ ينفصل عن أصوله، ويُحْرَم من التاريخ الواعي ومن كل اتصال في وجوده الشخصي، لا يمكن أن يظل إنسانًا …
ومع ذلك فالتنظيم الذي يحيل الإنسان إلى وظيفة يُقْصَد منها بقاء المجموع، لا يمكنه أن يستوعب الإنسان كله من حيث هو فرد. ونحن لا نشكُّ في أن الإنسان يستطيع أن يعيش في هذا النظام الآلي، بفضل آلاف العلاقات التي يعتمد هو ذاته عليها، والتي يساهم في بنائها، ولكن يظل في هذه العلاقات حدًّا لا كيان له — إذ يمكن أن يُستبدل به غيره — فكأن وجوده وعدمه سواء …»٢

ويمضي ياسبرز في حملته على عصر الآلة الذي نعيش فيه، فيقول في موضعٍ آخر: «إن الجهاز الهائل المنظِّم للحياة إذا جعل من الإنسان مجرَّد وظيفة، قد فصله عن المضمونات الحيوية الأساسية التي كانت تحيط بالإنسان من قبلُ في صورة التقاليد. ومن هنا قيل إن الناس أصبحوا مبعثرين هنا وهناك كذرات الرمال … وليس في وسع الإنسان أن يتابع إلا أعمالًا قريبة المدى. وهو يجد لنفسه مهام متفرقة، ولكنه لا يهتدي إلى الاتصال في الوجود. وهو يؤدي عمله بكفاءة ثم ينفصل عنه فيما بعد، وقد يكرِّر مهمةً معينة بطريقة واحدة لمدة معينة من الزمن، ولكنه لا يستطيع أن يبعثها من أعماقه، ويجعل منها عمله الخاص؛ فلم يَعُد في وسع الإنسان أن يجد في العمل وسيلة العلو بوجوده الذاتي. والماضي لا قيمة له، وإنما الحاضر المباشر وحده هو الذي يهم؛ فالسمة الأساسية في هذه الحياة هي النسيان … وإذ يرتبط الإنسان بأقرب الأهداف المباشرة ارتباطًا ضروريًّا، فإنه لا يعود قادرًا على أن يمتدَّ بنظره إلى الحياة في مجموعها.

ومنذ اللحظة التي يُقاس فيها الإنسان بقدرته على الإنتاج، فإن الفرد من حيث هو فرد يفقد أصالته، ولا يعود هناك شخص لا يُسْتَغْنَى عنه … ويبدو العالم منتقلًا بالضرورة إلى أيدي أوساط الناس؛ أعني أولئك الذين يعيشون بلا مصير وبلا ميزات خاصة، والذين فقدوا إنسانيتهم الحقيقية.

وإن كل الأمور لتدل على أن الإنسان، إذ غدا موضوعيًّا، مقتلعًا من جذوره، قد فقد ما هو أساسي فيه. فهو لم يَعُد يستطيع أن ينفذ إلى شفافية وجوده الذاتي … وهو إذ يحيا يومًا بيوم، لا يعود لديه أي هدف يتجاوز عمله المباشر فيما عدا رغبته في أن يحتل خير مركز ممكن في الجهاز الآلي الضخم.»٣

•••

ويواصل مفكِّر آخر حاز جائزة نوبل للسلام، ولقي في أوساطٍ معيَّنة تقديرًا كبيرًا رفعه إلى مصاف القديسين، هو ألبرت شفيتزر Albert Schweizer، يواصل تشخيص العصر الصناعي الحديث، فيقول سائرًا في الاتجاه نفسه:

إن الخطر الأوسع انتشارًا من بين الأخطار التي جلبها التقدُّم المادي على المدنية، هو أن الناس قد أصبحوا — بفضل الانقلابات التي حدثت في ظروف حياتهم — فاقدين للحرية بعد أن كانوا أحرارًا. فذلك النمط من الإنسان — الذي كان من قبلُ يزرع قطعته الخاصة من الأرض — قد أصبح عاملًا يدير آلة في مصنع. والصناع اليدويون والتجار المستقلون قد أصبحوا موظفين، وبذلك يفقدون تلك الحرية الأولية التي يتمتع بها الإنسان الذي يعيش في بيته الخاص، ويجد نفسه على صلة مباشرة بأمه الأرض، وفضلًا عن ذلك، فإنهم يفقدون ذلك الشعور العميق المتصل بالمسئولية، وهو الشعور الذي يحس به أولئك الذين يعيشون من عملهم الخاص. فأحوال وجودهم إذن ليست أحوالًا طبيعية، وهم لا يعودون يواصلون كفاحهم في الحياة في ظل تلك العلاقات المعتادة التي يستطيع المرء فيها أن يحسِّن مركزه بإزاء الطبيعة أو بإزاء أقرانه المنافسين له، وإنما يرون أنفسهم مدفوعين إلى التجمُّع سويًّا، وإلى خلق قوَّة يمكنهم بها أن يضمنوا لأنفسهم أحوالًا أصلح في الحياة. وهكذا يكتسبون عقليةَ غيرِ الأحرار من الناس، وهي العقلية التي لا تعود تتأمل المُثُل العليا للمدنية بوضوح كافٍ، وإنما تشوِّه هذه المُثُل حتى تتمشَّى مع جو الصراع المحيط بها.

ونستطيع أن نقول إننا قد أصبحنا غير أحرار في ظل هذه الظروف الحديثة. ومن جيل إلى جيل، بل من عام إلى عام، نجد لزامًا علينا أن نمضي في صراع أشق من أجل الحياة … لقد كُتِبَ علينا الإرهاق في العمل المادي أو العقلي أو كليهما معًا، ولم يَعُد لدينا الوقت الكافي لاستجماع أفكارنا أو ترتيبها. ولقد أصبحنا — في كل النواحي — ضحايا لظروف الاعتماد على الغير، وهي الظروف التي لم تُعْرَف من قبلُ أبدًا بمثل هذه العمومية والقوة. وإن التنظيمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية — التي تزداد كمالًا على الدوام — لَتخنقنا بقبضتها بالتدريج. والدولة بتنظيمها الذي يتزايد صرامةً تسيطر علينا بصورة تزداد إصرارًا واشتمالًا. وإذن فوجودنا الفردي تنحط قيمته من جميع نواحيه، وأصبح من الصعب على الإنسان — أكثر من أي وقتٍ مضى — أن يصبح شخصية.٤

تلك نماذج متفرقة لمفكرين مشهورين، اتفقوا جميعًا على إدانة العصر الصناعي الحديث؛ لأنه يحط من قدْر الإنسان، أو يقضي على عنصر العمق في شخصيته، أو يُعلي مكانه أوساط الناس، ويغلِّب الدهماء على الممتازين.

هذا النمط الفكري يشوِّه طبيعة الحضارة الصناعية الحديثة تشويهًا تامًّا. وهو في الحق إما مخدوع أو خادع؛ فهو قد يكون مخدوعًا لأنه يتصور إمكان الرجوع إلى أحوالٍ للحياة تجاوزها الإنسان في عصره الحاضر، وتخطاها بمراحل لا يمكن تجاهلها. وهو قد يكون خادعًا لأنه يشكِّك الإنسان في حقيقة تقدُّمه، ويحمل على العصر بأكمله، دون أن يوضِّح الأسباب الحقيقية لشرور هذا العصر، فيساعد بالتالي على التستر عليها.

ولكن لندع الأحكام العامة إلى موضع تالٍ، ولنناقش بالتفصيل آراء هؤلاء المفكرين.

إنهم جميعًا يؤكدون أن شخصية الإنسان تتضاءل في مجتمعٍ يسوده تقسيمٌ وتنظيمٌ دقيق للعمل؛ ذلك لأن الإنسان في مثل هذا المجتمع لا يهتدي إلى ذاته الباطنة، وإنما يضيع وسط الآخرين، ولا يفهم من القيم إلا ما كان يحمل طابعًا جماعيًّا، أما القيم الفردية الباطنة فهي مجهولة لديه تمامًا. وأصحاب هذا الرأي يظنون أن شخصية الإنسان تزداد تأكيدًا لذاتها كلما كانت مستقلة عما حولها. ولكن الحق أن من السذاجة أن نجعل من الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن المجتمع معيارًا يُقاس به عمق شخصية الفرد. فلا شك في أن تجانُس العمل وبساطته في المجتمعات التي سبقت عصر الحضارة الحديثة، كان يصحبه دائمًا بساطة في مطالب الحياة تؤدي إلى ضيق نطاق الشخصية. أما المجتمع الحديث — حيث يزداد العمل تعقدًا وتوسُّعًا — فتنشأ فيه مطالب وحاجات جديدة للإنسان على الدوام، وبالتالي يتسع نطاق الشخصية بازدياد مطالبها وضروراتها في الحياة.

فمبدأ التعاون في ذاته ليس عاملًا من عوامل القضاء على عنصر العمق في الإنسان، بل هو عنصر من عناصر ارتقائه. ولنضف إلى ذلك أن الشكل الخاص من التعاون والتداخل الذي يتميز به العصر الصناعي بعيد كل البعد عن أن يكون اندماجًا من الأفراد في قطيع واحد يسيرون فيه دون وعي منهم.

والحق أن من الضروري أن نفرِّق بين نوعين من التعاون: فهناك تعاون قائم على أساس التشابه والتجانس التام، وفيه يضطر الأفراد جميعهم إلى السير في اتجاهٍ واحد لافتقارهم إلى التفرُّد والأصالة، ولأن سطحيتهم لا تمكِّنهم من السير في طرقٍ مستقلة. وهناك تعاون قائم على أساس الفردانية، وعلى مبدأ التكامل في نفس الآن، وذلك هو نوع التعاون الذي يسود المجتمع الصناعي الحديث. ففي ذلك المجتمع يؤدي كل فرد وظيفةً تخصَّص فيها وانفرد بها وأتقنها كل الإتقان، فيفيد بها أفراد المجتمع بأكملهم، ولكنه في الوقت ذاته يستفيد من كلٍّ منهم في ميدان تخصصه؛ أي إن الفرد يتميز بصفات خاصة لا تتوافر في غيره، وفي الوقت ذاته لا تُتصوَّر حياته إن لم تكن متداخلة مع حياة الآخرين؛ لأن عمله يتداخل مع أعمالهم، وبدون التضامن الاجتماعي الشامل لا يمكنه أن يحقِّق لنفسه أي مطلب من مطالبه.

والحق أننا لو سألنا أصحاب النزعات الأرستقراطية ذاتهم عن المقياس الذي يعترفون به لعمق شخصية الإنسان، لقالوا إن هذا المقياس هو عدم قابلية الفرد لأن يُستبدل به غيره. وهنا نلاحظ أن هذا المقياس يتحقَّق على خير وجه في مجتمع تقسيم العمل، فالعمل الذي تخصَّص فيه كل فرد في ذلك المجتمع، والذي كرَّس من أجله حياته، يستحيل أن يؤديه مَن يؤدي عملًا آخر. أما المجتمعات السابقة، مجتمعات الزراعة والإقطاع التي يتغنَّى بها أصحاب الآراء الأرستقراطية، ففيها يؤدي كل فرد وظيفة مشابهة لتلك التي يؤديها غيره، وبالتالي يمكن أن يُستبدل به أي فرد آخر. فمعيار عمق الشخصية لا ينطبق إذن إلا على الفرد من حيث هو عضو في ذلك الجسم المعقَّد الهائل الذي يكوِّنه المجتمع الصناعي الحديث، وكلما ازداد هذا المجتمع تعقدًا، وازداد التداخل بين أفراده، كان ذلك أدعى إلى أن نأمل في مزيدٍ من العمق لشخصية الإنسان.

إن التضامن والتداخل بين الأفراد في المجتمع الحديث ليس تضامنًا آليًّا كذلك الذي يسود المجتمعات المتجانسة، بل هو يقوم على أساسٍ من التغاير التام؛ فهو يفترض تنوع أعمال الأفراد وتباين قدراتهم ومواهبهم، وتعقُّد حاجاتهم ومطالبهم. هو إذن ليس تعاونًا بين قطيعٍ متجانس، وإنما هو تعاون بين «أشخاص» لكلٍّ منهم قوامه الخاص.

وهذا يؤدي بنا إلى الحديث عن صفة «الدهمائية» التي يُقال إنها تسيطر على الجماهير في العصر الصناعي. فإن كان المقصود هو أن هذا عصر الكتل الضخمة المتعاونة في سبيل تحقيق أهدافها المشتركة، فإنَّا نقر ذلك بلا شك، ولكن لا نرى في هذا النوع ما يدعو إلى الحملة على العصر مطلقًا؛ إذ إن التعاون سبيلٌ إلى تحقيق مزيد من المطالب والحاجات التي تعود على شخصية الإنسان في نهاية الأمر بالعمق، ولا مجال للمقارنة بين هذا العمق وبين سطحية العصر الإقطاعي الفردي، عصر النبلاء الوراثيين.

ويصل أصحاب هذا الرأي إلى قمَّة المغالطة حين ينتقدون التخصُّص في ذاته، ويدعون إلى عودة «النظرة التركيبية» إلى الأشياء، مع أن من الحقائق البسيطة — التي يعلمها كلُّ مَن كوَّن لنفسه فكرة عامة عن طبيعة المنهج العلمي وطريقة تقدُّم العلم — أن التخصُّص لا يقضي على العمق العلمي مطلقًا؛ إذ يطبِّق العالِم على ميدان تخصصه — مهما كان ضيق نطاقه — كلَّ ما توصَّل إليه العلم من مناهج دقيقة، فضلًا عن أن ذهن العالم يصبح — في حالة اتباع كل العلماء لمبدأ التخصُّص — مركزًا تتلاقى فيه أشعة نفاذة، ترد إليه من سائر العلماء الآخرين، كلٌّ في ميدان تخصصه، وبهذا يتيسَّر الوصول إلى حركة متبادلة بين التعميم والتخصيص، ويستطيع العالِم أن يكوِّن لنفسه نظرة تركيبية شاملة إلى عمله، في نفس الوقت الذي يكرِّس فيه جهوده لفرعٍ ضئيل منه.

والمسألة — كما يبدو لنا — لا تحتمل جدلًا كثيرًا؛ فالفرد إما أن يقوم هو ذاته بكل شيء، وعندئذٍ يُخيَّل إليه أن شخصيته أصبحت عميقة؛ إذ غَدَا مكتفيًا بنفسه عن الآخرين، مع أنه في الواقع يكتفي بالسطح الخارجي للحياة، ما دام نطاق قدْرته — التي تتوزَّع على كل الأعمال — محدودًا إلى أقصى حدٍّ، وإما أن يقوم هو ذاته بعملٍ محدود ولكنه متقن، ثم يتضافر مع الآخرين، فيقدِّم إليهم خبرته ويستفيد من خبرتهم في مجالاتهم، وهنا يكون العمق الحقيقي، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يعود للفلسفات الفردية المطلقة مجال، ولا يعود لكلمات الاكتفاء الذاتي والتحرُّر من سيطرة الآخرين والتفوُّق على «العامة» أي معنًى.

(٣) مشكلة المساواة

انتهينا في تحليلنا السابق إلى أن الحضارة الصناعية الحديثة لا تُتَصَوَّر في ظل مبدأ الفردية، وأن المجتمعات التي يسودها هذا المبدأ ليست أرفع من المجتمع الصناعي على الإطلاق، بل إن الفردية في هذه الحالة تصحبها سطحية ناشئة عن قصور الإنسان الضروري من حيث هو فرد. فالتضامن والحياة الجماعية إذن صفة أساسية للمجتمع الحديث.

ولكن بعد إيضاح هذه الحقيقة، علينا أن نجيب عن سؤالٍ آخر هام يعرض للأذهان في هذا المقام، وهو: ماذا عسى أن تكون العلاقات بين الأفراد بعضهم وبعض في هذا النظام الذي يحتِّم تعاونهم؟ إن بينهم اتصالًا وتداخلًا ضروريًّا … هذا صحيح، ولكن هل يتساوى كل طرف في هذه العلاقة المتعددة الأطراف، والتي تقوم بين أفراد المجتمع الحديث؟ أم ينبغي أن يُوضع هؤلاء الأفراد في سُلَّمٍ متدرج؛ أي أن نجعل بعضهم فوق بعض درجات؟

من المفكرين مَن يحملون على فكرة المساواة حتى في هذا المجتمع المتشابك، ويؤكدون أن المتفوق يجب أن يجني ثمار تفوُّقه؛ فالناس بطبيعتهم غير متساوين، وكل محاولة لإيجاد نوعٍ من المساواة بينهم تحتِّم الوقوف في وجه سلوكهم التلقائي، والحد من قدرتهم على إظهار مواهبهم الطبيعية؛ أي إنها تستلزم الحد من حريتهم. ومن هنا كان الاعتقاد بأن اللامساواة نظامٌ طبيعي مقدَّر، ليس للإنسان أن يمتثل له، وبأن التفاوت في الأرزاق — مهما كان كبيرًا — أمرٌ ينبغي التسليم به، إذن إنه يناظر تفاوتًا آخر في القدرات والمواهب، وهذا التفاوت الأخير ظاهرة طبيعية ترجع في أصولها إلى كيان الأفراد وتركيبهم الباطن ذاته.

وهذا يؤدي بنا إلى بحث المسألة من زاوية جديدة، فهل المتفوق في المجتمع الحالي هو الذي يفوق الناس في قدراته الطبيعية؟ أعني هل يتيح النظام الحالي لأصحاب المواهب الطبيعية دائمًا أن يحتلوا أرفع مكانة فيه؟ أم أن من الممكن أن تتدخل عواملُ أخرى — لا صلة لها على الإطلاق بالسمو الطبيعي، بل ربما كانت مضادة لهذا السمو — في رفع بعض الناس إلى أعلى الدرجات، دون أن يكونوا هم الأرفع في مواهبهم وقدراتهم؟ أو بعبارة أخرى: هل يتفق تدرُّج السُّلَّم الاجتماعي مع سُلَّم القيم الطبيعية الكامنة، في نظامٍ يسوده مبدأ التنافس الحر، ولا يتدخل فيه المجتمع لتصحيح الأوضاع بين أفراده إلا بأدنى مقدار ممكن؟

لكي نجيب عن هذه الأسئلة إجابة دقيقة، ينبغي علينا أن نوجِّه إلى أنفسنا سؤالًا آخر في الرَّد عليه ردٌّ على كل ما سبق السؤال عنه، وأعني به: مَنْ هو المتفوق في المجتمع الصناعي المبني على المنافسة الحرة؟ أي ما هو أنموذج الإنسان الناجح في مثل هذا المجتمع؟ لا شك أنه رجل الأعمال الكبير؛ فهو الذي يحتل قمة النجاح في مجتمعٍ كهذا، وهو الذي تتوافر لديه كل فرص العيش الرغد فيه، فما هي صفات رجل الأعمال الكبير أو أنموذج النجاح في هذا المجتمع؟

على الرغم من أن الأوصاف التي حدَّدها «فيرنر زومبارت» قد مضى عليها ما يربو على الأربعين عامًا، إلا أننا نستطيع أن نرجع إلى الكتاب الذي ألَّفه في هذا الموضوع؛٥ لنجد بين صفحاته عرضًا شاملًا لصفات رجل الأعمال في العصر الصناعي، فلنخِّص الأوصاف التي فصَّلها في هذا الكتاب.

إن رجل الأعمال الحديث قد يكون صاحب مصنع أو تاجرًا كبيرًا أو متعهدًا أو من الوسطاء، ولكن على الرغم من اختلاف مدلول الكلمة بين كل هؤلاء فإن بينهم جميعًا صفاتٍ مشتركة، أول هذه الصفات وأهمها هو أن الإنسان — من حيث هو كائن له مشاعره وحاجاته ومطالبه — لم يَعُد محور نشاطه، ولم يَعُد هو مقياس الأشياء في نظره، بل إن ما يهم رجل الأعمال الكبير شيء واحد، هو زيادة الإنتاج والرِّبح، بغضِّ النظر عن كل العناصر الإنسانية الأخرى.

وهو لهذا السبب لا يعرف الهدوء في عمله، ولا يشعر بالاكتفاء، بل يظل ينتقل من توسُّع إلى توسُّع، ولا يكاد يَحُلُّ مشكلة حتى تقابله عشرات المشكلات، وبهذا تتخذ حياته كلها طابعًا خارجيًّا متركزًا في إدارة العمل ذاته، ويهمل حياته الباطنة ومشاعره الداخلية إهمالًا تامًّا. ومن هنا كانت تلك القسوة والصرامة، وتجاهل الأحاسيس الإنسانية التي تتصف بها حياة كبار رجال الأعمال في المجتمعات الصناعية الكبرى.

وتبلغ المنافسة بين رجال الأعمال حدًّا يجعل كلًّا منهم يلجأ إلى كل الوسائل للقضاء على خصومه. ومن هنا كانت الأهمية الكبرى التي احتلها فن الإعلان في العصر الحديث، وهو الفن الذي أصبحت غايته — بكل بساطة — هي اجتذاب الزبائن من الآخرين، عن طريق لَفْتِ أنظارهم بكل الوسائل الممكنة، من ألوانٍ صارخة تجذب انتباههم رغمًا عنهم، وأصوات عالية تَصُمُّ آذانهم، وإيحاء يغيِّر من نظرتهم المعتادة إلى الأمور، وإقناع بالجودة يصل في كثير من الأحيان إلى حد الغش.

وهكذا أصبحت إدارة الأعمال الضخمة تنفصل انفصالًا تامًّا عن المبادئ الأخلاقية، بل عن المبادئ القانونية في بعض الأحيان. فالعنصر الإنساني — كما قلنا — معدوم تمامًا، والجهاز الإنتاجي الضخم يُطلب منه أن يسير، وأن يدرَّ مزيدًا من الأرباح، والوسائل التي تؤدي إلى تحقيق هذه الغاية كلها مشروعة، والعقبات التي تحول دونها كلها يجب أن تُسْحَقَ.

تلك هي صورة رجل الأعمال كما يصفها مفكِّر عميق وملاحظ دقيق مثل «زومبارت». فأين هي من «السمو الطبيعي» أو من التفوُّق في «المواهب والقدرات»؟ إننا حين ننعم النظر في هذه الصورة، ننتهي إلى نتيجةٍ لا مفر منها، هي أن النظام الاجتماعي القائم على المنافسة الحرة يؤدي إلى تفوُّق أناس هم في حقيقتهم أبعد ما يكونون عن التفوُّق الطبيعي وعن السمو الإنساني بمعناه الصحيح. وإذا تُرِكَت الأمور تمضي على هذا النحو، فسوف تتباعد الشُّقَّة بالتدريج بين سُلَّم القيم الكامنة ودرجات التفوُّق العملي في الحياة، حتى ينتهي الأمر بهما إلى الانفصال التام، وعندئذٍ تكون آخر آثار العدالة الاجتماعية قد اختفت.

وإذن فمبدأ المنافسة الحرة لا يصلح — في مجال المفاضلة بين الأفراد بدوره — ليكون أساسًا يُبْنَى عليه التمييز بين قدرات الأفراد بعضهم وبعض، ولا بُدَّ أن يَحُلَّ محله مبدأ آخر يمكِّن من إتمام هذا التمييز على أساس صحيح.

وهنا يظهر مبدأ تكافؤ الفرص. وأصحاب هذا المبدأ ينقدون الالتجاء إلى فكرة التفوُّق الطبيعي في المفاضلة بين الناس، على أساس أنها تنطوي على نوعٍ من السلبية في معالجة مشاكل المجتمع. وكثيرًا ما يخفى هذا القول بتفاوت الناس تفاوتًا طبيعيًّا، رغبةً في المحافظة على الأوضاع القائمة مهما كان فسادها، والتخلي عن محاولة الإصلاح بحجة أن التركيب الطبيعي للناس هو أساس التفضيل بينهم، والواجب أن نمضي في طريق الإصلاح إلى أقصى الحدود، وألا نُسلِّم مقدمًا بوجود عقبات ثابتة تمنع السير في هذا الطريق إلى نهايته.

ونحن لا ننكر أن المجتمع الحالي فيه مكان للتفوُّق الشخصي، وأن الشخص الذي توافرت له مواهبُ خاصة لا يزال في وسعه أن يعلو بمركزه الاجتماعي ويتفوق على غيره. على أن هذا ليس ميسورًا للجميع، بل إن نهوض المرء وتفوُّقه يتطلب حدًّا معينًا من القدرة على مواجهة أعباء الحياة. فلكي تُتاح للشخص فرصة استغلال مواهبه، ينبغي أن تتوافر له إمكانيات معينة، تمثل الحد الأدنى لما يتطلبه إظهار الفرد لمقدرته. على أن هذه الإمكانيات ليست متاحة إلا لفئة قليلة نسبيًّا من الناس، أما الباقون فقد سُدَّت في وجوههم السبل منذ بداية الأمر، وأصبح مجرد التفكير في إمكان نهوضهم أمرًا مستحيلًا. وفي مثل هذه الأحوال لا يكون لنا أن نتحدَّث عن اللامساواة الطبيعية أو التفاوت في التركيب الفطري للناس. فما دام التسلسل الاجتماعي الحالي قائمًا، وما دامت الوسيلة التي تمكِّن من إظهار المراتب الحقيقة للناس مفقودة منذ البداية، فسيظل من الممكن دائمًا أن يُقال إن ما يبدو بين الناس من تفاوت في المقدرة الطبيعية هو في الواقع نتيجة لاختلالٍ في نظام المجتمع.

وعلى ذلك، ففي وسعنا أن نقول إن المساواة ضرورية حتى من وجهة النظر الأرستقراطية ذاتها؛ ذلك لأن المساواة في نقطة البداية هي التي تتيح الفرصة لظهور الأرستقراطية الحقيقية، الراجعة إلى تفوُّق أصيل، لا إلى القدرة على «النجاح» في مجتمعٍ ينجح فيه الكثيرون ممن يفتقرون إلى الصفات الرفيعة. وفي هذه الحالة لا يمكن القول إن المساواة تؤدي إلى أن تجعل من الأفراد كلهم نسخًا متشابهة لأنموذج واحد، بل إنها هي التي تكشف القيمة الحقيقية لكلٍّ منهم، وتُظْهِر الفروق الصحيحة بينهم؛ أي إن تفاوت الأفراد عند خط الوصول سيكون راجعًا إلى القيمة الذاتية لكلٍّ منهم، وإلى مقدار ما بذله من جهد، لا إلى وضعه الاجتماعي أو قدرته على انتهاز الفرص فحسب.

•••

وهنا تعترضنا مشكلة أَعْقَد من هذه، فهل ينبغي أن تقتصر المساواة على نقطة البداية وحدها؟ أعني هل يجب أن تُتاح للجميع فرصٌ متساوية في أول الأمر، ثم يُعامَلون فيما بعد على أنهم متفاوتون تمامًا، وذلك تبعًا لمدى النجاح الذي أحرزه كلٌّ منهم في استخلاص الفرص التي أُتيحت له؟ الحق أن هذه المشكلة من أخطر ما يواجه الإنسان في حضارته الحديثة، حينما يكون بصدد التفكير في أسس التنظيم الاجتماعي كما ينبغي أن تكون؛ ذلك لأن التفاوت بين الناس أمر لا يمكن إنكاره. ومن المُشاهَد بالفعل أننا حين نتيح للجميع فرصًا متكافئة، فسوف تتفاوت قدرتهم على الانتفاع من هذه الفرص، وبهذا تؤدي المساواة في نقطة البداية إلى لا مساواة في نقطة النهاية، قائمة على أساسٍ من التفاوت الحقيقي في القدرات. والنتيجة المنطقية لمثل هذه المساواة هي أن يُعامل الناس بالفعل معاملةً متفاوتة، بحيث ينال كلٌّ منهم من المكانة ما يتناسب مع مقدرته، على أن هذه النتيجة، وإن تكن ضرورية من وجهة النظر المنطقية الخالصة، تصادف اعتراضًا آخر ينبع من الضمير الأخلاقي للإنسان. فنحن نعترف بتفاوت الناس الفعلي في قدراتهم، ولكن ما ذنبهم في هذا التفاوت؟ وما الذي جناه أصحاب القدرات الضئيلة حتى يُحْرَموا من نصيبهم في الحياة الهانئة؟ هذه الحجة قد تأثر بها بعض المفكرين إلى حد أنهم دعَوا إلى ضرورة تحقيق المساواة التامة في المكانة النهائية للأفراد في المجتمع، لا في إتاحة الفرص المتكافئة لهم في مبدأ حياتهم فحسب، ما دام التفاوت بينهم راجعًا إلى عواملَ لا دخل لهم فيها، ولم يعتمدها واحد منهم. وهكذا نجد أنفسنا بإزاء رأيين متناقضين يستند كلٌّ منهما إلى حجةٍ لا تقل في قوَّتها عن حجة الآخر، أحدهما يؤكد ضرورة التفاوت في معاملة الناس بناءً على تفاوت قدراتهم، والآخر يؤكد ضرورة معاملتهم بالتساوي، ما دام هذا التفاوت في المقدرة راجعًا إلى أسبابٍ خارجة عن إرادتهم، وما داموا غير مسئولين عنه أخلاقيًّا.

وفي رأينا أن من الممكن الجمع بين الرأيين، لا على أساس التوفيق السطحي بينهما، بل على أساس الفهْم العميق للحجج الصحيحة التي يُبْنَى عليها كلٌّ منهما، فعلينا أن نؤكد أن الناس يتفاوتون بالفعل في مواهبهم وقدراتهم، وأن هذا التفاوت يظل قائمًا حتى بعد أن تُتاح لهم فرصٌ متكافئة تمامًا في نقطة البداية، فمن الواجب إذن أن يُعامَلوا على نحوٍ يتناسب مع هذه القدرات. غير أن هناك مطالبَ وحاجاتٍ أساسية لهم لا ينبغي المساس بها مهما كانت الظروف، بل يجب أن تسود — بالنسبة إلى هذه المطالب الأساسية — مساواةٌ مطلقة بين الجميع، ما دامت هذه الحاجات ضرورية لهم لمجرد كونهم آدميين، ولاشتراكهم مع الباقين جميعًا في صفة الإنسانية.

١  The Revolt of the Masses, English Trans. New York 1932. pp. 11–15ff.
٢  Karl Jaspers: La situation spirituelle denotreèpoque. (Trad. Fran) Paris 1951. pp. 52-53.
٣  Id. pp. 60–63.
٤  Albert Schweitzer: Civilisation and Ethics. 3rd. ed. London 1946, 11–15ff.
٥  Werner Sombart. The quintessence of Capitalism. A Study of the History and Psychology of the Modern Business Man (1915).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤