الفصل السابع

زمار مطلع الفجر

كان طائر النقشارة مختفيًا وراء شفير ضفة النهر المظلم يغرِّد لحنه القصير. ومع أن الوقت قد تخطَّى العاشرة مساءً، كانت السماء ما تزال تتشبَّث وتَحتفِظ ببعض ما تبقَّى من ذيول ضوء النهار المتواري، وانقشعت حرارة ما بعد الظهيرة المُلهبة وتبدَّدت عندما حلَّت نسمات ليالي منتصف الصيف القصيرة الباردة. استلقى الخُلد مسترخيًا على ضفة النهر منتظرًا رجوع صديقه، وما يزال صدره متأججًا من إجهاد ذلك اليوم القائظ الذي لم تشهد سماؤه سحابة ولا غيمة من مطلع الفجر إلى غسق الدجى. كان يتنزَّه مع بعض رفاقه في النهر تاركًا فأر الماء ليَستمتِع بصحبة صديقه ثعلب الماء في جلسة طويلة، ثم عاد ليجد البيت مظلمًا وخاليًا ولا أثر فيه للفأر الذي كان بلا شك ما يزال في جلسة سمر متأخِّرة مع رفيقه القديم. كان الجو حارًّا وخانقًا كفاية بحيث لا يمكن معه البقاء في داخل البيت؛ لذلك قرَّر أن يخرج ويَستلقي على العشب البارد ويسترجع أحداث يومه ونشاطاته، وكيف كانت جميعها مُرضية جدًّا.

كانت خطوات الفأر خفيفة ولكنها مسموعة وهو يقترب ويدب على العشب الجاف. قال وهو يجلس: «يا ألله! يا لهذا الهواء البارد المنعش!» ثم صمت ونظر متأملًا في النهر وبالُه مشغول.

بادره الخُلد بسؤال وقال: «بقيتَ حتى موعد طعام العشاء؟ أليس كذلك؟»

رد الفأر وقال: «ببساطة اضطررتُ إلى ذلك! فلم يكن ليسمحوا برحيلي قبل أن أتناول العشاء معهم. أنت تعرف مدى طيبتهم؛ فقد بذلوا ما بوسعهم حرصًا منهم على راحتي وسعادتي منذ حللت عندهم حتى اللحظة التي غادرت فيها، لكني كنت أشعر أني بليد الإحساس طيلة الوقت؛ فقد كان باديًا أن بهم حزنًا شديدًا، مع أنهم كانوا يُحاولون إخفاءه. أخشى ما أخشاه أن تكون حلَّت بهم مصيبة يا خُلد؛ فصغيرهم كروش اختفى مجددًا، وأنت تعرف مقدار حب أبيه له حتى وإن كان لا يُصرِّح أبدًا بمشاعره هذه.»

قال الخُلد بهدوء: «ماذا؟ ذلك الصغير؟ حسنًا، لنفترض أنه اختفى، فما الداعي إذن للقلق؟ فمن عادته أن يَشرد ويضلَّ طريقه، ثم يعود بعد ذلك؛ فهو حيوان مغامر وجريء، ولم يُصبْه أيُّ أذًى قبل ذلك. إن جميع الحيوانات في هذه المنطقة تعرفه وتُحبه كما يُحبون أباه؛ ثعلب الماء العجوز. ومن المؤكد أن حيوانًا ما سيَجدُه في طريقه ويُعيده إلى البيت سالمًا غانمًا. وقد حدث أن وجدناه بأنفسِنا على بعد أميال من البيت وقد كان سعيدًا وهادئًا!»

رد الفأر بنبرة جادة: «أنت على حق، ولكن هذه المرة الوضع في غاية الخطورة. لقد اختفى منذ عدة أيام، وثعالب الماء بحثَت عنه في كل مكان؛ على التلال وفي الوديان، ولا أثر له. سألوا جميع الحيوانات التي قابلوها على بُعد أميال حول المكان، ولكن لم يره أحد ولم يسمع عنه حيوان. وكان من البين أن ثعلب الماء كان مهمومًا أكثر مما يَعترف. عرفتُ منه أثناء حديثنا أن الصغير كروش لم يُتقِن السباحة بعد، وأرى أنه يفكر في البحث عنه عند السد المائي؛ ففي هذا الوقت من العام، يزداد تيار الماء المنهمر من أعلى السد مما يجذب الأطفال بجماله وروعته. وهناك، كما تعلم، تزداد الفخاخ والمصائد. إن ثعلب الماء ليس ممَّن ينتابهم التوتُّر والقلق دون داعٍ بشأن أبنائهم، ولكنه الآن قلِقٌ ومُضطرِب. وعندما هممتُ بالرحيل، خرج معي مدَّعيًا أنه يريد استنشاق بعض الهواء المُنعِش وتحدَّث عن رغبته في التريُّض قليلًا ليُمدِّد قدميه، ولكني كنت أرى في عينيه أنه خرج لسبب غير ذلك، فضغطت عليه واستدرجته حتى باح لي بكل ما في صدره. كان يُفكر بالذهاب للجلوس والمراقبة طوال الليل عند مَخاضة النهر. أتعرف ذلك المكان الذي كانت المَخاضة القديمة موجودةً فيه قبل أن يُبنى الجسر؟»

قال الخُلد: «أعرفه جيدًا! ولكن لماذا اختار ثعلب الماء أن يراقب هذا المكان بالتحديد؟»

أكمل الفأر كلامه وقال: «حسنًا، أظن لأنه المكان الذي تلقَّى فيه كروش أول دروس السباحة؛ هناك حيث الأرض الضحلة الحصباء بالقرب من ضفة النهر. وهناك علمه أبوه أيضًا الصيد، وحيث اصطاد كروش أول سمكة في حياته والتي كان فخورًا بها أشد الفخر. كان الصغير يحبُّ تلك البقعة، وثعلب الماء يظن أن ولده إذا رجع عائدًا من حيثما كان — إن كان حقًّا هذا الصغير المسكين مفقودًا في أي مكان في ذلك الوقت — فلربما يرغب في أن يمر على المخاضة ذات المياه الضحلة التي لطالَما أحبها؛ أو إذا مر عليها بالصدفة في طريقه، فربما يتذكَّرها جيدًا ويتوقف ليلهو ويلعب بها قليلًا؛ لذلك يذهب ثعلب الماء كل ليلة إلى هناك ويجلس منتظرًا، على أمل أن يذهب صغيره إلى هناك.»

سادت لحظات من الصمت كانا يُفكِّران خلالها في الشيء ذاته؛ ذلك الحيوان الذي يجلس وحيدًا طوال الليل بجانب المخاضة، وقلبه يكاد يَنفطِر حزنًا على ولده، وهو يُراقب وينتظر آملًا أن يعود إليه ولده.

قطع الفأر لحظات الصمت وقال: «حسنًا، أظن أن علينا أن نذهب إلى البيت.» ولكنه لم يُحرك ساكنًا وظل كما هو.

رد عليه الخُلد وقال: «لا أستطيع أن أذهب إلى البيت وأرقد في فراشي لأنام دون أن أفعل شيئًا حيال هذا الأمر يا فأر، مع أنه يبدو أن لا شيء بأيدينا لنفعله. دعنا نُخرج القارب ونجدِّف أعلى النهر، فالقمر سينير السماء في غضون ساعة أو أقل، وحينها سنُفتِّش عنه قدر استطاعتنا؛ فهذا أفضل من أن نذهب للنوم دون أن نفعل شيئًا.»

قال الفأر: «هذا ما كنت أفكر فيه! فلمِثل هذه الليالي لم تُصنع الأسِرَّة، والفجر ليس ببعيد جدًّا، وربما تصل إلينا أخباره ممن استيقظوا مبكرًا ونحن ماضون في طريقنا.»

أخرجا القارب إلى النهر وأمسك الفأر بالمجدافَين مسيِّرًا القارب بحرص وأناة. وفي منتصف النهر، كان هناك مسار ضيق صافٍ تنعكس على صفحته صورة باهتة للسماء، ولكن حيثما ارتمت الظلال على سطح النهر؛ سواء أكانت للضفة أم الأشجار أم الشجيرات، فقد كانت تبدو كأنها امتداد لضفتي النهر، واضطر الخُلد أن يقود القارب مبتعدًا عن تلك الظلال القاتمة. كان الليل كعادته، مظلمًا ومقفرًا، تملؤه ضوضاء خافتة وألحان وهمهمات وخشخشة، تحكي جميعها معًا قصة هؤلاء القلة من الحيوانات المستيقظة الذين يُنجِزون أعمالهم وحوائجهم بهمة ونشاط طوال الليل حتى تتسلَّل أشعة الشمس من بين أجنحة الليل مذكِّرة إياهم بأن قد حان أخيرًا موعد الخلود إلى النوم الذي استحقوه عن جدارة. كانت أصوات مياه النهر هي الأخرى أشدَّ جلاءً ووضوحًا من ساعات النهار؛ فقد كان صوت بقبقة المياه مسموعًا أكثر على غير المتوقَّع، وكان يسترعي انتباههما على نحو أكبر، وعلى حين غرة سَمِعا ما بدا لهما أنه صوت نداء واضح من حيوانٍ ما.

كان خط الأفق واضحًا يفرق ما بين السماء والأرض، وفي أحد أركانه، كان لون السماء الأسود يُقابل وميضًا فضيًّا وهاجًا يَرتفِع شيئًا فشيئًا. وأخيرًا، بدا القمر وأخذ يرتقي في بطء ومهابة فوق حافة الأرض المتعطشة لضيائه حتى ظهر جليًّا فوق الأفق وبدأ رحلة الصعود منطلقًا كسفينة رفعت مِرْساتها من الماء. حينها انكشف كل شيء برفقٍ وهدوء خاليًا من الغموض وكل ما يبث الذعر في النفس؛ فتمكَّنا من رؤية المروج المبسوطة، والبساتين الوديعة، كما رأيا عرض النهر من الضفة إلى الضفة. كان كل شيء وهاجًا كما كان وقت النهار ولكن شتان بين هذا الوهج وذاك. حيَّتْهما بقاعُهما المحبَّبة مرة أخرى ولكن في حلة جديدة؛ كأنها انسلَّت من ثيابها القديمة وخلعتها عنها ثم ارتدت هذه الحلة الصافية اللون وعادت بهدوء تَبتسِم في خجل وتنتظر أن يتعرَّفا عليها في كسوتها الجديدة هذه.

ربط الصديقان القارب وشدا وثاقه في شجرة صفصاف، وهبَطا إلى أرض تلك المملكة الفضية الصامتة، واستكشَفا بأناةٍ ما حولهما من سياجات شجيرات وأشجار مجوفة، وتفحَّصا جداول الماء ومجاريَها الصغيرة، وفتَّشا الأخاديد وقنوات المياه الجافة. ثم ركبا القارب مجددًا وذهَبا للضفة المقابلة وشرَعا في البحث هناك. هكذا كان الحال طوال طريقهما حتى أعلى النهر، بينما بذل القمر، الذي كان مُنيرًا ووحيدًا في سماء لم يعكر صفوها غمام، ما بوسعه لمساعدتهما في رحلة بحثهما، رغم أنه كان بعيدًا جدًّا، حتى حان وقت رحيله وغاص مُكرهًا وراء الأفق تاركًا إياهما، وعندها حل الظلام بغموضه على النهر وما حوله من حقول مرة أخرى.

ثم طرأ تغيُّر بطيء وأعلن عن نفسه. بدا الأفق أوضح، وظهرت الحقول والأشجار على مرأى البصر مرة أخرى ولكن هذه المرة بحلة أخرى، وبدأ الظلام وما صاحبه من غموض ينقشع ويفر هاربًا. غرَّد عصفورٌ على نحو مفاجئ ثم سكت، ومرت نسمة عليلة هزت البوص وعشب البرك حتى سُمع صوت حفيفهما. كان الفأر في مؤخِّرة القارب بينما الخُلد يجدف، وفجأة اعتدل الفأر في جلسته وأنصتَ في تركيز شديد. نظر إليه الخُلد، الذي كان يحرِّك القارب بضربات رقيقة بالمجدافَين ويفحص الضفاف على جانبَيه فحصًا دقيقًا، في دهشة وذهول.

قال الفأر في حسرة وهو يغوص مرةً أخرى في مقعده: «لقد اختفى! إنه صوت عذب وشجي وغريب جدًّا! لقد اختفى سريعًا قبل أن أشبع من حلاوته، حتى إني أكاد أتمنى لو لم أسمعه قط. إنه قد أضرم في صدري نار الشوق، وهان كل شيء في نظري فلم أَعُد أصبو إلا إلى أن أُطرب أذني به مرة أخرى، ثم أستزيد المرة بعد المرة إلى أبَد الآبدين.» ثم صاح مُنتبهًا مرة ثانية وقال: «كلا، أنا لا أصدِّق! لقد عاد مجددًا!» ثم سكن في صمت طويل مُنتشيًا كأنه مسحور.

ثم قال بعد فترة: «ها هو يختفي من جديدٍ لأفقد أثره! آه يا خُلد، لو تدري كم هو عذب ذلك الصوت! بهجة لحنِه تجعلك تفيض فرحًا، ونداءٌ صافٍ يَكمن في أنغامه البهيجة القادمة من بعيد! لم أسمع مثل هذا اللحن ولو في أحلامي، والنداء في طياته أقوى وأشد من عذوبة أنغامه! جدِّف بهمة يا خُلد! جدِّف، فهذا النداء وذلك اللحن يَطلباننا!»

أطاعه الخُلد في عجب شديد وقال: «أنا لا أسمع شيئًا إلا صوت الرياح تتخلَّل بين العشب وتلاعب عيدان البوص وعيدان الصفصاف.»

لم يردَّ عليه الفأر مطلقًا، هذا إن كان قد سمعه أصلًا. لقد كان يَهيم في عالمٍ آخر متأثرًا ومُندهشًا. كان هذا الشيء الإلهي المقدس مستحوذًا على جميع حواسِّه بعد أن أمسك بروحِه البائسةِ الضعيفةِ وهدهدَها وجعلها تتمايل. لقد كان كرضيعٍ مغلوبٍ على أمرِه محمول بين قبضتَين محكمتَين، لكنه كان في غاية السرور.

أكمل الخُلد التجديف في صمت وثبات، وسرعان ما وصَلا إلى نقطة ينقسم عندها النهر ويتفرَّع منه نهير طويل ذو مياه راكدة. أشار الفأر، بإيماءة خفيفة برأسه، للمُجدِّف أن يسلك المياه الراكدة، بعد أن كان قد أرخى حبال الدَّفَّة منذ وقت طويل. كان ضوء الصباح الزاحف يسطع رويدًا رويدًا، حتى أصبَحا يُشاهِدان ألوان الزهور المنعكسة على حافة النهر كأنها لؤلؤ منثور.

صاح الفأر في بهجة وقال: «ها هو يَزداد صفاءً ووضوحًا كلَّما اقتربنا منه! أنت تَسمعه الآن بلا شك! أوه … أخيرًا … أرى أثره عليك!»

كان الخُلد قد توقَّف عن التجديف بعد أن أسرَتْ لبَّه واستحوذت عليه تمامًا تلك الأنغام المسكرة التي خرجت من مزمار شجي، فتركته حبيس الأنفاس مبهورًا، لا يُحرك ساكنًا. شاهد الدموع تنهمر على وجنتَي رفيقه، فأومأ برأسه ليُبديَ تفهُّمه لما كان يشعر به. ظلَّا على تلك الحالة برهةً من الزمان وأزهار الفرندل الأرجوانية على حافة الضفة تُداعبهما. ثم أحس الخُلد بوقع النداء المُلحِّ الواضح الذي يُصاحب هذا اللحن الطروب كظله، وانحنى من فوره كأنه آلةٌ وأمسك بالمجدافَين مرة أخرى. كان الضياء يزداد شيئًا فشيئًا في ثباتٍ وقوة، ولكن لا أثر لتغريد الطيور كما اعتادَت عند مطلع الفجر، ولم يكن يسمع صوتًا إلا صوت هذا اللحن السماوي البديع.

في ذلك الصباح كان كل شيء مختلفًا على جانبي القارب وهما ينزلقان إلى الأمام عبر مياه النهر؛ فالعُشب في المروج كان نضرًا زاهيَ اللون في بهاء لم يشهَدا له مثيلًا قط. ولم يُلاحِظا قبلُ الورود وهي مُزهِرة وتَنبِض بقوة بالحياة هكذا؛ ولا نباتات السنفية وهي صاخبة على هذا النحو؛ ولا إكليلية المروج ورائحتها زكية وعِطرُها فواح بشدة هكذا. ثم اقترب صوت هدير مياه السد وبدأ يعلو ويُغطي شيئًا فشيئًا على ما سواه من الأصوات، وحينها شعرَا أن رحلتهما أوشكت على النهاية، أيًّا ما كانت.

احتجز السدُّ العظيم المياه الراكدة من الضفة إلى الضفة، مخلفًا نصف دائرة عريضة من الزَّبَد تتخلَّلها أضواء متلألئة، وعلى جانبيه تراكمت مياه خضراء لها وميض. وقد كان يُثير صفحة المياه الهادئة بالدوامات الدوارة وبقع الزبد الطافية، ويُغطي على جميع الأصوات الأخرى بهدير مياهِهِ المهيب الذي يبعث في النفس الراحة والسكينة. وفي وسط جدول الماء، كانت هناك جزيرةٌ صغيرةٌ يحتضنها السدُّ بين ذراعيه الوضاحتين، وعلى شاطئها نمت أشجار الصفصاف والقُضبان الفضِّي ونباتات جار الماء بكثافة. كانت تُخفي ما في باطنها وراء حجاب في تحفُّظ وحياء له مغزًى عظيم. كانت تُخفيه، أيًّا كانت ماهيته، حتى يحين الوقت المناسب ويَحضر من نُودي ووقَع عليه الاختيار.

ببطء لكن دون أدنى ريب أو تردُّد، خاض الاثنان في ذلك الماء المندفِع العجاج وفي نفسَيهما شيء من ترقُّب وهيبة. ربطا القارب وأوثقاه في الجزء المزهر من تلك الجزيرة، ثم تدلَّيا في هدوء تامٍّ وشقَّا طريقهما عبر الأعشاب والحشائش المتبرعمة ذات الرائحة الزكية التي قادتهما إلى الأرض المستوية حتى وصَلا إلى مرج صغير ذي عشب أخضر بديع ومحاط بأشجار الفاكهة الطبيعية التي لم تَغرِس بذورَها يدٌ قط؛ أشجار تفاح وتوت وبرقوق بري.

همس الفأر وقال مفتونًا بما يرى: «هذا المكان هو مصدر أنغام اللحن البديع؛ هذا المكان هو حيث عُزفت الموسيقى التي تناديني! هنا، في هذا المكان المقدَّس دونًا عن سائر الأماكن، أنا على يقين أننا سنجده!»

فجأة، أصاب الخُلد رَوع ورهبة جعَلا عضلات جسده تخضع؛ ورأسه ينحني لأسفل وقدميه تتسمَّران في مكانَيهما. لم يكن شعورًا مرعبًا، بل على العكس أحسَّ بطمأنينة وسعادة بالغتَين، ولكنها كانت رهبة نزلت عليه، فسلبتْه لبَّه وسيطرت عليه. ودون أن يرى شيئًا، علم يقينًا أن هذا لا يعني سوى أنهما في حضرة شيء مَهيب ذي جلال على بُعد رمية حجرٍ منهما. أدار رأسه بصعوبة ليرى حال صديقه على جانبه، فوجده مذهولًا خاضعًا وجسده يَرتعش على نحو عنيف. وكان الصمت الكامل ما يزال سائدًا وسط الأغصان المُزدحِمة بساكنيها من الطيور، وضوء الفجر يسطع أكثر فأكثر.

ربما ما كان ليَجرُؤ أبدًا على رفع ناظرَيه مستطلعًا، لولا ذلك النداء والاستدعاء الذي كان صداه ما يزال يتردَّد في إلحاح، مع أن أنغام المزمار كانت قد سكتَت فلم تَعُد تُسمع. ربما لم يكن ليخشى أن يكون ملك الموت بانتظاره ليقبض روحه ما إن يرفع بصره لينظر بعينَيه الفانيتين إلى أشياء ظلَّت مخفية ولم يقدر له أن تظهر. لكنه امتثلَ مُرتجفًا ورفع رأسه الخاشع ليرى الطبيعة من حوله بوضوح، على ضوء الفجر المنبلج، وقد تشبَّعت بألوانٍ نَضِرة لا تخطر على بال أحد، وبدَت كما لو كانت تحبس أنفاسها من هول المشهد. تلاقت عيناه مع عينَي الصديق والنصير. رأى قرنَيه معقوفين إلى الخلف ولهما بريق في ضوء النهار المُتنامي، ورأى أنفه المعقوف والقاسي بين عينيه العطوفتين اللتين كانتا تنظران إليهما نظرة طيبة، بينما ارتسمَت على وجهه ذي اللحية نصف ابتسامة. ورأى أيضًا العضلات المفتولة في ذراعه المنثنية فوق صدره العريض ويده الطويلة الرشيقة التي لا تزال تُمسك بمزمارٍ أبعده لتوِّه من بين شفتَيه، وشاهد المنحنيات الكبيرة لرجلَيه ذواتَي الشعر الكثيف الراقدتَين في يُسرٍ مَهيب على المرج العشبي، ورأى أخيرًا هيئة صغيرة متكوِّرة بين حوافر قدميه تغط في نوم هانئ ووديع؛ هيئة طفولية قصيرة وبدينة كهيئة ثعلب ماء صغير. بصر كل ذلك نابضًا بالحياة تحت سماء الصبح، في لحظة واحدة؛ لحظة حبيسة الأنفاس ومتوقِّدة المشاعر؛ لحظة نظر فيها فتلألأ نابضًا بالحياة؛ وكلما سرَتِ الحياة، ازداد تعجُّبًا ودهشة.

وجد في صدره مقدار ما يسمح له أن يهمس فقال وهو يرتعد: «يا فأر! أأنتَ خائف؟»

همهم الفأر وعيناه تلمعان في إعجاب يعجز عنه الوصف وقال: «خائف؟ أنا خائف منه؟ لا، مُطلقًا، مُطلقًا! ومع ذلك … ومع ذلك … أوه يا خُلد، أنا خائف!»

ثم خرَّ الحيوانان إلى الأرض وحنَيا رأسيهما في خضوع وإجلال.

سرعان ما بزغ قرص الشمس الذهبي الرحيب في بهاء فوق الأفق قبالتهما ونفَذت أشعتها الأولى مخترقة المروج المائية المستوية وأصابت أعينهما وتركتهما في انبهار من شدة الضوء. وعندما تمكَّنا من الرؤية مرة أخرى، كان المشهد قد انمحى، وملأت الطيور السماء تغريدًا وصُداحًا تحية لبزوغ شمس الصباح.

بينما ظلَّا يَنظران في شَدهٍ فاغرَي العينَين ولسانهما لا ينطق بكلمة من فرط الشقاء الذي حلَّ عليهما وتعمَّق وهما يُلاحظان ببطء أن كل ما شاهداه وكل ما شعرا به قد رحل واختفى، هبَّ نسيم لطيف متقلب وأخذ يتمايل على صفحة المياه ويتراقَص، وداعب أوراق شجر الحور وهز الورود الندية، ثم لسع وجهيهما لسعًا خفيفًا لطيفًا. ومع لمساته الرقيقة ضربتهما حالة من النسيان ومُحيت ذاكرتهما على الفور. لقد كانت تلك هي العطية الأخيرة التي منحهما إياها هذا الكائن القدسي العطوف كما يفعل مع كل مَن يكشف له عن نفسه ممن يُساعدهم؛ إنها نعمة النسيان. فقد كان يخشى أن تبقى تلك الذكريات المروِّعة وتتغلغل، فتُفسد على صاحبها متعة الحياة ومرحها، أو أن تطارد تلك الذكريات الحيوانات الصغيرة الذين كانوا في مِحنة وأتتْهم المساعدة وتخرب حياتهم القادمة، ولكي يعودوا سعداء تملؤهم البهجة كما كانوا قبلًا.

فرَك الخُلد عينيه وحدق في الفأر الذي كان ينظر إليه هو الآخر مشدوهًا في ارتباك، ثم سأله: «أستميحُكَ عذرًا يا فأر! ماذا كنت تقول؟»

قال الفأر ببطء: «أظن أني كنت أقول إن هذا هو المكان الوحيد، دونًا عن غيره من الأماكن، الذي كنا لنجدَه فيه. انظر هناك! ها هو ذا، لقد وجدنا ضالَّتَنا؛ ها هو صديقنا الصغير!» ثم هُرع من فوره باتجاه كروش النائم مُصدِرًا صيحةً تنمُّ عن فرحه.

لكن الخُلد ظلَّ ثابتًا في مكانه للحظات مستغرقًا في التفكير؛ كنائم استيقظ فجأة من حلم جميل فأخذ يَعتصِر ذهنه ليسترجع أحداثه، لكن دون أن يحصل على شيءٍ إلا شعورًا خافتًا بجمال ذلك الحلم! الجمال فقط! حتى ذلك الشعور أيضًا يبهَت تدريجيًّا كلما مرَّ الوقت، وعلى الحالم أن يتجرَّع طعم الاستيقاظ المرير والقاسي ويتقبَّل جميع عواقبه؛ لذا بعد أن قضى الخُلد برهة من الزمان يُحاول جاهدًا أن يتذكر حلمه، هز رأسه في حزن لينفضَ عنه ما به، ثم لحق بالفأر.

استيقظ كروش مزقزقًا في سعادة وأخذ يتلوَّى ويمط جسده في سرور لرؤيته صديقَي أبيه اللذَين كانا يَلعبان معه كثيرًا في الماضي. مرت لحظة، وما لبث أن صار وجهه أجوفَ خاليًا من أي تعبير، وأخذ يبحث حوله في دوائر ويتلفَّت يمنة ويسرة في أنينٍ وتوسُّل. كان كطفل نامَ سعيدًا هانئًا بين ذراعَي مربيته ثم صَحا ليجد نفسه وحيدًا في مكان غريب، فأخذ يبحث كل زاوية من زاويا المكان وكل خزانة، ثم يُهرع من غرفة لأخرى واليأس ينخر قلبه في صمت. هكذا كان كروش وهو يُفتش الجزيرة شِبرًا شبرًا في مثابرة دون كلل أو ملل حتى اسودَّت الدنيا في عينَيه ولم يجد بدًّا من الاستسلام، فقعد على الأرض يَبكي بكاءً مريرًا.

هُرع الخُلد ليُهدِّئ من رَوع الحيوان الصغير، بينما ظل الفأر واقفًا في مكانه ينظر طويلًا في شكٍّ وارتياب إلى آثار حوافر غائرة على المرج العشبي.

ثم همهَمَ في تلكُّؤ متفكرًا: «حيوان … عظيم … كان … هنا»، ثم استغرق في تفكير عميق وقد انتابه إحساس غامض وغريب.

نادى عليه الخُلد وقال: «لنمضِ في طريقنا يا فأر! تخيَّل حال ثعلب الماء المسكين وهو يقف منتظرًا عند مخاضة النهر.»

هدَأ كروش بعد قليل على وعد بالحصول على رحلة نهرية في قارب الفأر الحقيقي كمكافأة، واصطحبه الحيوانان إلى ضفة النهر، ثم أجلساه في مكان آمن بينهما في بطن القارب وانطلَقا مُغادِرين المياه الراكدة. كانت الشمس في كبد السماء في ذلك الوقت، وارتفعت حرارتها والطيور تغرد بأعلى صوت ودون قيود، والأزهار تبتسم وتتمايل على ضفتَي النهر؛ ولكنها، هكذا ظن الحيوانان، كانت على نحوٍ ما أقل نضرة وتوهجًا مما يَتذكران أنهما رأوها في مكان ما قبل قليل، والذي أخَذا يتساءلان في نفسَيهما عن موقعه بالتحديد.

وصلوا إلى مجرى النهر الرئيسي مرةً أخرى، وعدل الحيوانان من اتجاه القارب نحو أعلى النهر باتجاه البقعة التي يعرفان أن صديقهما يقف فيها ساهرًا منتظرًا. وعندما وصَلا إلى مخاضة النهر المألوفة، اقترب الخُلد بالقارب من الضفة، ثم أخرجا كروش الصغير من القارب وأوقفاه على قدميه على الطريق الجانبي، ثم أعطياه إرشادات السير وودَّعاه توديعًا ودودًا وربَّتا على ظهره، ثم دفَعا القارب إلى منتصَف النهر مرة أخرى. راقبا الحيوان الصغير وهو يَتهادى على طول الطريق في سعادة ورباطة جأش؛ راقباه حتى رأيا خَطْمه قد ارتفع فجأة وتسارعت خطواته، فصار يُهرول هرولةً خرقاء وهو يصيح عاليًا وتقاسيم وجهه تدلُّ على أنه قد ميَّز شخصًا ما. نظَرا إلى أعلى النهر فوجَدا ثعلب الماء وقد نطَّ، في انقباض دون أن يُبدي أي مشاعر، بعيدًا عن الأرض الضحلة التي كان جاثمًا بها في صبر وصمْت. كانا بإمكانهما سماع صوته المُندهِش والسعيد وهو يَقفز بين أشجار الصفصاف على الطريق. حينها، ضرب الخُلد الماء بمجداف واحد ضربة قوية، ولف القارب وترك التيار يحملهما مرة أخرى إلى أسفل النهر حيثما يَنبغي لهما أن يكونا؛ فقد انتهت الآن رحلة بحثهما نهاية سعيدة.

قال الخُلد وهو يَتكئ متثاقلًا ومتعَبًا على المجدافَين بينما القارب يَنساب في النهر: «أشعر بإرهاق غريب يا فأر. قد تُفسِّر الأمر لي وتقول إنه بسبب السهر طوال الليل، وهذا جائز؛ ولكن نحن لم نفعل الكثير. ففي هذا الوقت من العام، تكون نصف ليالينا كل أسبوع بهذا الانشغال. لا! أنا أشعر أني قد كنت في خضمِّ شيء ما شديد الإثارة ورهيب إلى حدٍّ ما، وأشعر أنه قد انتهى للتو؛ ولكن كما ترى، حتى الآن لم يَحدث أي شيء محدَّد مطلقًا.»

همهم الفأر وهو يتَّكئ إلى الخلف ويُغمض عينيه: «بل قل شيء في غاية الدهشة؛ شيء بديع وخلاب. أشعر مثلك تمامًا يا خُلد؛ أنا في غاية الإنهاك والتعب، ومع ذلك لا أشعر بأن جسدي مُتعَب. من حسن حظنا أن تيار النهر ينساب في طريقنا ليأخذنا إلى البيت. كم هو جميل أن تشعر بحرارة الشمس مرةً أخرى وعظام المرء تتشبَّع وتنهل منها! وأن تُنصت بانتباه إلى صوت الرياح وهي تُلاعب عيدان البوص!»

رد الخُلد وهو يومئ موافقًا في كسل: «كأنه لحن … لحن يَنبعِث من مكانٍ قَصيٍّ!»

همهم الفأر وهو حالم فاتر الهمَّة: «كنتُ أفكر في الأمر ذاته. أراه لحنًا للرقص — لحنًا ذا إيقاع مَرِح لا يقف مطلقًا ولا نهاية له — ولكن مع كلمات في أوسطه؛ كلمات تعلو وتعلو ثم تخبت مجددًا. كلمات أسمعها على فترات متباعِدة، ثم يحلُّ محلها لحنُ الرقص مرة أخرى، ثم يسكت كل شيء، فلا أسمع إلا عيدان البوص تَهمِس في صوت رقيق وعذب.»

قال الخُلد بحزن: «سمعك أفضل مني! أنا لا أستطيع تمييز الكلمات.»

قال الفأر بهدوء وعيناه لا تزالان مغمضتَين: «دعني أحاول نقلها لك! ها هي الكلمات تعلو مجددًا؛ خافتة لكنها واضحة.

لئلا يَستحيل المرح همًّا،
وتسكن رهبتي قلبك،
ستُبصِر مقلتاك قُوايَ حقًّا
إذا ما جئت أشفي فيك جرحك،
ولكن سوف يُمحى عنك طَيفي
وتنسى ما رمى بالذُّهل عقلك!

والآن تردد عيدان البوص في حسرة: «وتنسى ما رمى بالذُّهل عقلك! وتنسى ما رمى بالذُّهل عقلَك!» ثم يخفت الصوت شيئًا فشيئًا حتى يَندثِر بين خشخشةٍ وهمسة. ثم تُعاد الكرة ويرجع الصوت مرة أخرى …

وخشية أن يُمزق منك طرف،
ويُخضب دمُه السيالُ كفَّك؛
أزلتُ مصائدًا نُصبت بليل،
وأشراكًا تُريد الضرَّ حولك!
ستَلمحُني وكفِّي تَنتقيها،
وتُنقِذ من خَفيِّ الغدر سيرك،
ولكن سوف تنسى ذاك حتمًا؛
لأني قد أتيتُ أريد عونك!

جدِّف واقتربْ من عيدان البوص يا خُلد، اقترب أكثر! فلا أستطيع سماع الكلمات وهي تضعُف شيئًا فشيئًا!

يُنادي — مبهجًا — صوتي، ويعلو:
أتيتُ أريد بُرأك ثم نصرَك!
فأُبصرُ من تقاذَفُه خُطاه
إلى الغابات حتى كاد يَهلك،
وأهدي خطوَهُ بعد الشفاء،
ويَغشى عقله النسيان مثلك!

اقتربْ أكثر يا خلد، أكثر! لا، ليس كافيًا، الكلمات تختفي وتموت بين خشخشة عيدان البوص!»

سأله الخُلد متعجبًا: «ولكن ما الذي تعنيه تلك الكلمات؟»

قال الفأر بوضوح: «لا أعرف! أنا أنقلها لك كما سمعتُها. آهٍ! ها هي تعود مجددًا، ولكن هذه المرة بصوت أقوى وأوضح! وأخيرًا، هذه المرة هي بلا شك الكلمات التي أبحث عنها … الكلمات البسيطة … الكلمات المفعمة بالمشاعر … الكلمات التي بلغَت حد الكمال …»

قال الخُلد بعد أن نفد صبره بعد انتظارٍ لعدة دقائق، والنعاس على وشك أن يغلبه تحت أشعة الشمس الدافئة: «هيا إذن! انقلْ لنا تلك الكلمات هيا!»

ولكنه لم يجد جوابًا لطلبه. نظر إلى الفأر، ففهم سبب الصمت. كان الفأر المنهك قد غطَّ في نوم عميق. كان كأنه ما يَزال مُنصتًا يَستمِع إلى ذلك اللحن، وعلى فمه رسمت ابتسامة فيها سعادة ورضا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤