في الطريق إلى ينبُع
رأيت نفسي أتساءل — وأنا أصافح ربان السفينة وأستفسر منه عن الجو وما ينتظر أن يكون، والبحر وهل يُرجى أن يكون لينًا: «ماذا يُرجى لهذه الأمة العربية التي سنشهد بعد أيام احتفالها بمبايعة ملكها؟ هل تكر على العالم بنهضة جديدة؟ أو دَعِ الكَرَّ فقد تكون مسافة ما بينها وبين العالم أطول من أن تعين عليه أو تجعل له محلًّا، وسل: هل في وسعها أن تشق طريقها إلى منزلة من منازل الحياة العزيزة؟»
ومن عجائب النفس الإنسانية أنها تتَّسع لهذا الازدواج: هذا الربان أمامي أجاذبه أطراف الحديث وأنتقل معه من جِدٍّ إلى هزل، وأعرفه بهذا وذاك من إخواني. وتتَّسع حلقة الكلام وترحُب دائرته وتكثُر شعابه، ويذهب هو يصف لي ميناءَيْ ينبع وجُدَّة، وكيف تكثر في مدخليهما الصخور، وأنا منصت مرهِف الآذان لكل حرف، ولساني يجري بالكلام مجاوبًا أو ملاحظًا أو مسائلًا، وإذا بخاطر آخر يشغل من النفس الحَيِّزَ الأكبر ويدور فيها ويأبى إلا أن أُعنَى به وألتفت إليه.
ولعل للقلب في أثناء ذلك التفاتة أخرى إلى الأهل والإخوان، وإلى ما خلَّف المرء وراءه من معاهد حياته، وأغرب من هذا أن تكون الالتفاتة عمومها كالخصوص فهي لفتة شاملة محيطة، ولكل شخص ولكل حادثة حظ نسبي من البروز، ولكل ذكرى محلها ولكل عهد مكانه، بلا بخس ولا وكس.
على أن هذا ليس موضع الإفاضة في قدرة النفس على الاشتغال بأكثر من أمر واحد والانصراف إلى كل شأن كأنها متخلية له، فلنرجع إلى ما كنا فيه.
لم أُجِبْ على سؤالي وإن كان التفكير فيه قد شغلني طول الطريق؛ لأن كل ما أعرفه عن العرب في حاضرهم مستفاد ممَّا قرأت أو سمعت، ولم أَرَ موجبًا للتعجيل بالجزم وليس بيني وبين المعاينة إلا أيام.
غير أن هذا لم يُعفِنِي من إلحاح هذا الخاطر الذي ظلت النفس تواجهني به وترفعه قبل عيني على صور شتي؛ فمرة يكون السؤال كما أوردته، وتارة يكون: «هل في الأمة العربية مادة صالحة لما تتطلبه الحياة في العصر الحاضر من الكفاح المر؟»
وطورًا يهتف الأمل: «إن هذه الأمة تغالب طبيعة بلادها الماحقة، وتصارع أهوال الصحراء، فلِمَ لا تستطيع أن تكافح المصاعب التي تحفها بها الأحوال العارضة؟»
وربما جنحت النفس إلى اليأس كلما تصورت بُعْدَ ما بين العرب وغيرهم من شعوب الأرض المتحضرة، وتعذر اللحاق بهذه الشعوب التي أغذت السير قرونًا وهم يحدون الأبل ويقتتلون كما كانوا يفعلون في الجاهلية. بل كان اليأس يخامرني كلما تخيلت الصحراء الساحقة التي يصارعونها، وكنت أقول لنفسي: «هل يتاح لأمة واحدة أن تنهض مرتين وأن يكون لها في التاريخ مدنيتان عالميتان؟ ألَا تستنفذ النهضة الأولى قواها وتعتصر حيويتها ولا تبقي منها إلا ما يَبقى من ألياف «القصب» الجافة بعد مصه أو اعتصاره؟»
وهكذا إلى غير نهاية! فما لقينا من البحر ما يصرفني عن التفكير أو يعدل بخواطر النفس إلى مجرًى آخر. ولقد كنا في السفينة وكأننا في بيوتنا لا على الماء، وكانت السفينة تفرق البحر وكأنها لا تمسه، فلا موج ولا اهتزاز ولا دوار، حتى لقد اشتقت أن يطغى بنا قليلًا ليردنا إلى التهيُّب، غير أن البحر خيَّبَ أملي فيه.
وقد فرحت في أول الأمر بالفرصة التي أتاحت لي هذه الرحلة، وقلت لنفسي إن المصريين يخرجون أفواجًا إلى الأقطار الأخرى، وصار ذلك سنة مَرعِيَّة عندهم، حتى ليُخيَّل للمرء في مقدمة المصيف أن هذه الأمة المصرية قد أزمعت أن تهاجر إلى وادٍ غير واديها. وكنت في صيف كل عام أخشى أن لا يبقى في البلاد غيري، وأن لا يعمرها سواي، فلما عرضت هذه المناسبة للسفر إلى الحجاز في الشتاء قلت: حسن! دَقة بدَقة والبادي أظلم، لقد عمرت الوادي من قبل فلتعمره الأمة الآن، ولتقم عني بواجب الحراسة التي أراني كأنما كنتُ موكلًا بها، فما أحسب أحد أطاق أن يقيم كما أطقت، لكأنما كنت كلبًا حارسًا لا إنسانًا له ديباجة تَخلُق، وتستحق أن تتجدد.
وسرني على الخصوص أن السفر إلى الحجاز لا إلى الغرب؛ ذلك أن الغرب يزور مصر، ولو شئت لقلت إنه يغزوها، فلسنا نحتاج أن نزوره، أما الحجاز فأمره مختلف جدًّا، ولَنحن خلقاء أن نجعل علمنا بالشرق العربي أعمق، وصلتنا به أوثق، وارتباطنا به أمتن.
وما أحسبني أبالغ حين أقول إن مستقبل الشرق واحد وإن تفاوتت خُطى أبنائه. ومن الجهل أن نشيح بوجوهنا عنه، ومن الخرق أن تتجاهله، ومن البلادة أن ننسى أننا مرتبطون به وإن خفيت الخيوط، ومن الغفلة أن نتوهم أن الرحيل لا يكون نافعًا إلا إلى الغرب، وأنه لا فائدة تُكتَسب من زيارة الشرق والاطلاع على أحواله.
واستعرت من زميل لي مبراة، وملت إلى الحاجز على ظهر السفينة وأرهفت أقلامي، ثم لم أجد لي عملًا بعد ذلك فأقمت حد المبراة على حديد الحاجز ورحت كأني أقطع، فسمعت قائلًا يقول لي: «رفقًا بالسفينة يا صديقي، أو بمبراتك إذا كان أمر السفينة لا يعنيك!» فالتفتُّ فإذا إنجليزي في مثل ثياب الربان.
فقلت له: «المبراة عارية، وقد آن أن أردها.»
فابتسم وقال: «بعد أن شحذتها؟»
فسألته وأنا أشير إلى رجل في مقدمة الباخرة: «من هذا الرجل ذو الوجه الأمرد والنظرة الوحشية؟»
فقال: «هذا الكبتن … لقد كان ضابطًا في البحرية البريطانية وأبلى في الحرب الكبرى بلاء حسنًا، وقد سُرِّحَ، وهو الآن يعمل في هذه الباخرة.»
فتركته، وسرت خطوات فرأيت أمامي سلمًا صعدت عليه فألفيت أمامي قوارب النجاة فدنوتُ من أولها، وخطر لي أن أمتع نفسي بالجلوس فيه، فشرعت أرفع رجلي لأخطو إلى جوفه، وإذا بيد على كتفي تجذبني وصاحبها — أعني صاحب اليد — يقول: «إني مضطر أن أحملك على ترك هذا. وإذا كنت تريد أن تعرف شيئًا فأرجو أن تسألني …»
ولم يتم كلامه بل تركني وقفل راجعًا إلى حيث لا أعلم كأنما ناداه أحد، وإن كنت لم أسمع صوتًا، فدنوت من خادم وسألته عنه من يكون؟ فقال: «هذا الكبتن … مساعد الربان.»
فقلت: «هذا أكثر مما أطيق. اسمع، إنك مصري مثلي فاصدقني. إذا أغمضت عيني وسرت في هذه الباخرة ووضعت يدي على أول رجل أصطدم به، فهل يمكن أن يتضح أنه ليس بكبتن؟»
فضحك الخادم وهو من السويس وقال: «لا أدري، ولكني أرجح أن تصطدم بالكبتن الملاحِظ؛ فإنه وراءك الآن وعلى مسافة مترين فقط.»
فانحدرت إلى غرفتي وأنا أقول لنفسي: «إن السفينة التي لها رئيسان تغرق، فكيف بواحدة عددت من «كباتنها» أربعة إلى الآن؟! اللهم لطفك!»
وفَتَرَتْ رغبتي في الطعام، وكان نبيه بك العظمة يحرضني عليه ويُلِحُّ على أن أصيب منه قليلًا، فاعتذرت بالألم الذي سبَّبَتْه لي حقنتا الكوليرا والتيفوئيد، وكتمت عنه وعن زملائي أن للسفينة مائة رئيس حتى لا أزعجهم.
ومضى اليوم الأول وأصبحنا دون أن تتصادم «إرادات» هؤلاء القباطنة أو الكباتن، فذهب عني بعض الروع وعاودني شيء من الاطمئنان. واتفق أن سألني بعض رفاقي: «بسرعة كم ميل تسير هذه السفينة؟»
فقلت: «لا أدري، ولكني أُقَدِّرُ أن سرعتها لا تتجاوز اثني عشر ميلًا في الساعة.»
فصاح بي واحد: «مهلًا! إن سرعتها خمسة أميال فقط!»
قلت: «خمسة أميال! يا للعار! لو سرنا على أقدامنا لسبقناها.»
فعاد يؤكد الأمر ويقول إنه استقى هذه الحقيقة من الكبتن، فأيقنت أنه لولا كثرة القباطنة لكانت الباخرة أسرع. وقلت لنفسي: إذا كان البطء كل ما تؤدي إليه كثرتهم فلا بأس.
واستيقظت بعد ظهر يوم على صياح عجيب، لا هو صياح ولا هو استغاثة، لأن فيه انتظامًا ولأن في الصوت تنغيمًا، فاستويت قاعدًا وأرهفت أذنيَّ فخيل إليَّ أن الألفاظ عربية ولكن اللهجة غريبة، ثم تبينت لفظين هما: «الله أكبر!» ولكن اللسان الذي يعلو بهما كان أعوج ملتويًا، فعجبت ثم تذكرت أنها إحدى سفن «البوستة الخديوية» وهي شركة إنجليزية تسير بواخرها بين السويس والسودان جيئة وذهوبًا، وتنقل الحجاج — فيما تنقل — إلى ينبع وجدة. وقد رأينا بعضهم في الباخرة على غطاء مخزن البضاعة حيث يفرشون السجاجيد ويكدسون أمتعتهم ويحشرون أنفسهم بينها تحت سماء الله، وهذا هو مكان الدرجة الثالثة.
وقد قلت لنفسي لما سمعت هذا الصوت: إن الإنجليز قوم يتوخون أن يتكيفوا على مقتضى الظروف ووفق ما تتطلبه الأحوال، وهذا الذي سمعته أذان أي دعوة إلى الصلاة، وليس مما يتنافى مع الشذوذ الإنجليزي أن تكون الشركة قد عينت للأذان في الباخرة واحدًا من هؤلاء «الكباتن» الذين لا أدري ماذا يصنعون جميعًا في سفينة صغيرة كهذه.
وسرني وأضحكني أن المؤذن «كبتن» إنجليزي، وقلت: أشرك إخواني فيما يفيده العلم بذلك من المتعة. فعدوت إلى سطح الباخرة حيث كنَّا نجتمع فالتقيت بواحد أقبلت عليه أفضي إليه بخبر هذه البدعة السكسونية. فضحك، ولكن مني، ثم أشفق أن يعرف زملائي زلتي فيركبني الثقلاء منهم بالسخرية، وأومأ فإذا تحت أنفي جماعة من العرب يصلون، وإذا صوت الإمام كصوت المؤذن فيه ذلك الالتواء الذي خدعني.
وكانت سلوتنا الحديث والنظر إلى البحر و«الطاولة»، وكان بطلها — أعني الطاولة — أحمد زكي باشا، غلبنا جميعًا وأقر لكل منا بأنه خير لاعب، وفي زكي باشا نشاط وجَلَد وقدرة على الاحتمال وحلم وظرف وعطف ودعابة، راعتني منه، وكان لنا كالوالد يحنو علينا ويسأل عنا ويتعهدنا ولا يُؤثِر نفسه دوننا بملهاة، ولا يستبد برأي أو يصر على اقتراح جدًّا كان أو هزلًا، بل الرأي عنده ما رأت الجماعة، يتقبَّله مرتاحًا، وينزل على حكمه راضيًا، ولو كان مقتنعًا بصواب ما يذهب إليه.
وكان أعذب الجميع حديثًا وأمتعهم مجلسًا نبيه بك العظمة والأستاذ خير الدين الزركلي، فتعلقت بهما وأثقلت عليهما بمَحضري، ولم أدَع لهما راحة، ولم يبخلا عليَّ بشيء مما استخبرتهما عنه، فكانا يهضبان لي بما رأيا وجرَّبَا وكابدَا في رقع شتي من الأرض في الحرب والسلم، ولم يكن لهما مني مناص أو مهرب سوى البحر، وهما لا يزالان أوسَعَ آمالًا في الحياة وأطلب لرغائبهما منها، وأقوى رجاء في الله وفي بلوغ الغاية القومية من مساعيهما من أن يفكرا في الانتحار فرارًا مني؛ لذلك توثقت بيننا العرى كارهين أو راضين، فلما بلغنا ينبع صرنا وكأن صداقتنا أقدم عهدًا من الجبال.
ولو أن القارئ رآنا في تلك الساعة ونحن مُكِبُّون على الورق ذاهلون عن كل ما في الدنيا؛ لكان أول ما يخطر له أننا قد آلينا أن نصدر في الباخرة الصحف التي نمثِّلها، أو أن هناك امتحانًا معقودًا لنا.
وعرض علينا أحد رجال السفينة بطاقات عليها رسمها فتخطَّفناها حتى نفدت كما نفد ورق الخطابات! وتصورْ سبعةً أو ثمانيةً يستنفدون كل ما في الباخرة من ورق وخطابات، أليس هذا دليلًا على الهمة والنشاط والخصب؟ وأحسبني مسئولًا عن العدد الأكبر من هذه الأوراق التي استهلكت، فقد نازعتني نفسي أن أكون متفرجًا لا كاتبًا، وأن أمتع عينيَّ بمناظر الوجوه المُكِبَّة على الورق وما يظهر عليها من دلائل الإجهاد — إجهاد القرائح الخصيبة — فلجأت إلى الحيلة، وقلت أكتب رسائلي بالجملة، فجئت بورق الكربون ووضعته بين الخطابات، وكتبت رسالة واحدة وجيزة ثم جلست أتفرج!
وكان أحدنا يكتب يوميات عن هذه الرحلة، وكان يختصني بهذا السر، ولا أدري متي كان يكتب يومياته، فما رأيته قط خَلَا بنفسه أو بكَّر إلى مخدعه، وقال لي مرة: «لقد صارت مذكراتي ضخمة. كتبت اليوم سِتَّ صفحات وكتبت البارحة سبعًا، وأول من أمس تسعًا، فما قولك؟»
فقلت مستغربًا: «كل هذا؟ وأي شيء وجدته يستحق التسجيل؟»
قال: «كل شيء، خطوط الطول والعرض، ووجوه القمر، وأدوار الطاولة التي لعبتها وفي أيها كنت الغالب أو المغلوب، والأسماك التي رأيناها في البحر، بعضها يطير على سطح الماء، وبعضها يهاجم السفينة طلبًا للقوت، والبواخر التي مرت بنا في الليل وحيَّيناها والأمم التي هي تابعة لها. وعلى ذكر ذلك أسألك: هل تعرف لماذا لا نرى باخرة في النهار؟ ألا تعرف؟ وكم كذبة كذبها «فلان» اليوم؟ وحالة البحر والرياح وإن كانت لا تتغير ولا تكاد تختلف يومًا عن يوم، وهذا ممل، أليس كذلك؟ وكم صورة أخذها رياض؟ وكم صورة أخذتها المدموازيل عايدة؟ كل شيء، كل شيء، حتى لقد أفردت «لأكلة الصيادية» عدة صفحات، إنها تستحق ذلك؛ فقد كانت أكلة غير منتَظرة وكانت لذيذة، والفول المدمس. أوه! له وحده صفحتان. ألا تراه جديرًا بذلك؟ مدهش. مدهش أن نأكل فولًا مدمسًا على الباخرة تالودي الإنجليزية!»
فسألته بعد أن انقطع نفَسه: «وماذا تنوي أن تصنع بهذه المذكرات بعد أوبتك؟»
قال: «سأطبعها وأنشرها. كم تظن أنها تساوي؟ أعني كم تتوقع أن أربح منها؟»
قلت: «تساوي … تساوي إذا اعتبرنا عدد الصفحات ووزنها قياسًا على ما كَتَبْتَ إلى الآن مائة جنيه أو مائتين.»
فصافحني مسرورًا وهو يقول: «لقد قدرت لربحي مثل هذا … تمامًا.»
فقلت مستدركًا: «إنما أعني ثمن الورق الذي تملؤه … أما الربح فلا أدري. ربما كان أكثر وقد يكون أقل.»
فلم يضعُف أمله وقال: «تمام. تمام. تقديرك على كل حال مضبوط.» ومضى عني.
ولما كنا عائدين من مكة سألته: «إلى أين وصلت في مذكراتك؟»
فطال وجهه وقال: «يا أخي، الحق أقول لك إن كتابة المذكرات عمل مضنٍ. ثم إني لا أجد الوقت. نحن في حركة دائمة فمتى أكتب؟ على أني سجلت كل شيء في رأسي؛ فإن ذاكرتي قوية وأنا أذكر حتى الأحاديث بألفاظها ولو كان عمرها أعوامًا. فلا خوف، انتظر حتى نرجع ونطمئن.»
•••
وفي الساعة السادسة من صباح السبت (٤ يناير) أيقظني أحد الزملاء وأبلغني أن الشاطئ قد ظهر، فقلت له وأنا أتميز غيظًا إني لا أحفل بالشواطئ — ولو كانت شواطئ الجنة — في الساعة السادسة صباحًا، فذهب عني وأغمضت عيني، ولكن غيره جاء ثم غيره، فأيقنت أن الحماسة التي أوقدها ظهور الشاطئ لن تدع لي جفنًا يغفى، فقمت متثائبًا متثاقلًا ووقفت متكئًا على الحاجز فلم أرَ شيئًا فالتفتُّ إلى أول من أيقظني وقلت بلهجة المعاتب: «أين هذا الشاطئ الذي بدا لك يا سيدي؟»
فقال: «هذا. ألا تراه؟ غريب! إني أستطيع أن أشير إلى المكان الذي سترسو أمامه الباخرة. لا بد أن يكون هذا.»
ومرت الساعات ونحن نروح ونجيء وهو في مكانه لا يتحول عنه ولا تتعب رجلاه، وبدت ينبع ملفوفة في الضباب، حتى جبال رضوى التي تظهر من ورائها خلناها ضبابًا من اختلاط السحب برءوسها، فاختلفنا وتراهَنَّا، وشرعت السفينة تدور لتدخل المرفأ، فقربنا جدًّا من الساحل وشاء الحظ الساخر أن يكون المكان الذي أشار إليه صاحبنا وأصر على أن الباخرة سترسو عنده، هو المقبرة.
ورست الباخرة، في المرفأ لا أمام المقبرة، وأقبل الصبيان يسبحون إليها كالسمك وينادوننا أن نلقي إليهم بالقروش ليلتقطوها، فرُحْنا نرمي إليهم بالقرش بعد القرش وهم يتزاحمون عليه ويغوصون وراءه ويتلقَّونه بأكُفِّهم وهو يهبط في جوف الماء قبل أن يبلغ القاع، فمن فاز به دَسَّه في شدقه، حتى انتفخت أشداقهم وصارت وجوهم مشوَّهة بَشِعَة المنظر.
وركبنا زورقًا إلى المدينة، وهي صغيرة فقيرة، وبها مساجد كثيرة أشهرها مساجد ابن عطاء والخضر والسنوسي، وأهلها وكلاء للتُّجَّار أو عمال لهم، وليس فيها زرع ولا ضرع، وبها آلة لتصفية ماء البحر للشرب يسمونها «الكندنسة» وهي لفظة محرَّفة عن الكوندنسر، فاستقبلنا قائم المقام الشيخ مصطفى الخطيب، وهو من أهلها وكان عاملًا عليها في عهد الحسين لم تنحه الحكومة السعودية ترفعًا منها عن حماقات العزل والتأمير، وزرنا دار الحكومة وهي أبسط ما تكون: بضعة مكاتب في الدور الأرضي، وفي الدور الذي فوقه غرفتان إحداهما للقائمقام وفيها مكتب وسجادة ولشبابيكها ستائر، وفي الأخرى مكتبان صغيران.
وبعد أن شربنا القهوة النجدية ثم «الشاهي» كما يسمون «الشاي» استأذنَّا وانحدرنا إلى المدينة نطوف فيها إلى أن يخرج الأمير والناس من صلاة الظهر، فمررنا بالسوق وهي حارة ضيقة مسقَّفة على جانبيها الدكاكين فيها صنوف شتَّى من العطارة والبقول والمنسوجات والخبز والأسماك والجراد، وقد أكل منه زكي باشا، ولم يكن في الدكاكين أحد لأنه كان وقت الصلاة، وكان الطريق غاصًّا بالأطفال يمشون وراءنا ويحفُّون بنا في خرق ممزقة ومراقع لا تكاد تستر شيئًا. فتساءلت: ماذا يحمي هذه المتاجر أن يسرق منها هؤلاء الغلمان الفقراء؟ فقيل لي إنه لا خوف منهم لأنه ما من أحد يجرؤ أن يسرق شيئًا.
وبلغنا آخر السوق حيث المسجد وكان الناس قد فرغوا من الصلاة فوقف رجل أمام كوم من الكلأ وقطع من الحصير وأعواد من الخشب يبيعها بالمزاد، وكل ما أمامه لا يساوي ريالًا.
ولم أرَ امرأة ولا بنتًا، إلا واحدة في نحو السابعة من عمرها ملفوفة في ملاءة قذرة وفي إحدى أذنيها قرط من العقيق، وقيل لي إن النساء لا يخرجن من البيوت، والأهالي خليط من كل جنس وملة، وسِحَنهم معرض للأمم الشرقية، فمن زنجي إلى جاوي، ومن عربي إلى مصري، ومن هندي إلى فارسي، ومن سوري إلى صومالي … وهكذا.
وزرنا الأمير — أي الحاكم — عبد العزيز بن معمر، وهو شاب نجدي جميل الطلعة وسيم المُحَيَّا مقدود قد السيف، والدار على الطراز الشرقي القديم الذي كان مألوفًا في مصر منذ أكثر من خمسين عامًا ولا تزال بعض آثاره باقية في الأحياء الوطنية التي لم تمتد إليها يد العمران الحديث مثل الكحكيين وسوق السلاح، وغرفة الاستقبال في داره مفروشة ببساط أحمر، والكراسي (الخيزران) صفَّان على الجانبين، وفي الصدر مصطبة مفروشة بالسجاد العجمي وعليها الوسائد لجلوسه، وكان الأمير يلبس جلبابًا من السكروتة فوقه معطف من الكشمير عليه عباءة حمراء، وعلى رأسه العقال الأسود والمسدس مشدود إلى وسطه، والسيف المُذَهَّب المقبض يتدلى من حمائله.
ومن عاداتهم أن يجلس حرسه الخاص على جانبي الباب من الداخل في نفس الغرفة، ويجلس الباقون من الحراس خارجها وهم جميعًا مسلَّحون، والسيوف والبنادق والمسدسات وأحزمة الخراطيش معلقة على الجدران؛ فكأن الغرفة مخزن سلاح لا حجرة استقبال.
وفي ينبع بلدية، ومكتب تلغراف لاسلكي، ومدرسة أولية ابتدائية يديرها مصري طبقًا لمناهج التعليم المصرية، وفيها نحو مائة وتسعين تلميذًا متفاوتي الأسنان والأطوال، متبايني الثياب مختلفي الوجوه. ومصلحة للصحة … إلخ.
وقد شعرنا من أول لحظة أننا في بلاد مستقلة؛ فلا أجنبي هناك ولا نفوذ ولا سلطان إلا الأبناء وكل موظف حجازي، حتى اللاسلكي عماله ومديره حجازيون، وقد أبى زكي باشا إلا أن يرى هؤلاء العمال وهم يبعثون بتحيتنا إلى سمو الأمير فيصل في مكة، كأنما لم يكن يصدق أن لابسي العباءة والعقال يستطيعون أن يُحسِنوا ما يحسنه الأوروبي من الأعمال الآلية على الأقل.
وودعنا الأمير بعد أن أُخِذَتْ صورتنا معه وعدنا إلى الباخرة، وهناك جاءنا وفد من ينبع ليرد لنا الزيارة ويشكرنا، وبعث إلينا الأمير بعدد من الخراف هدية منه عوضًا عن الغداء الذي لم نستطع أن نجيب دعوته إليه؛ إذ كنا قد تغدينا في الباخرة.
فحِرْنا ماذا نصنع بهذه الخراف! وعَقَدْنَا مؤتمرًا للتشاور. فقال واحد: نردها شاكرين. ولكن هذا كان مستحيلًا، واقترح ثانٍ أن نردها ولكن لتذبح وتوزع على فقراء المدينة، ولكن هذا كان ردًّا على كل حال، وفيه — فضلًا عن ذلك — خشونة التعريض بالمدينة وأهلها وحكومتها، وقال ثالث إن في الباخرة حجاجًا فقراء فلنذبح الخراف لهم ولنوزع لحمها عليهم. ففعلنا.
وهكذا كان كل اقتراح مولَّدًا من الذي سبقه، وأنتج الخطأ في آخر الأمر الصواب. ولا عجب؛ فما من خاطر أو إحساس إلا وهو وليد خواطر أخرى وإحساسات شتى، وليس في الدنيا إلا آدم واحد بلا أبٍ أو أمٍّ.
•••
وفي ينبع وجدت «صندوق الدنيا»، وكنت أحسبني حَطَطْتُهُ عن عاتقي في مصر، وكان ظني أنه يسعني بعد أن سافرت أن أمشي خفيفًا لا يثقل كاهلي هذا الحمل ولا يحني ظهري ثقله، فإذا بي قد صرت كالأحدب لا يدخل في مقدوره أن يستوي قائمًا كغيره من بني آدم الذين كُتِبَتْ لهم السلامة من اعوجاج الخلق وحدب الظهر، وقال لي واحد: «لقد قرأت صندوقك.»
فغاظني ذلك وإن كان قد سرني، وقلت: «سأضعك فيه إن شاء الله بعد عودتي.» فأقبل عليَّ يرجو مني ألَّا أفعل، فقلت: «على شرط.»
قال: «ما هو؟»
قلت: «أن تعفيني أنت وإخوانك من ذكره وإلا حشرتكم فيه جميعًا.»
قال وهو يضحك: «ولكنه واللهِ ممتع.»
قلت: «وسيكون الجزء الثاني أمتع بوجودكم.» فامتُقِع وجهه، وأحسبه خاف أن أرسم له صورة تمسخه وتجعله أضحوكة، فطمأنته وأكدت له أني أمزح. فسألني وقد سكنت نفسه: «ولكن لماذا تكره أن يُذكَر لك؟»
فقلت له: «إن الذي يضحكك منه هو الذي أبكاني، وأحسبني معذورًا إذا كنت أزهد في كل ما يذكرني بسخر ما جرت به المقادير. فإذا كنت تفهم هذا فبها ولله الحمد؛ وإلا فأمسك ودعنا نستمع إلى الباشا وهو يتحدث عن العروبة ويذكر الجواد الذي أهداه إليه جلالة الملك عبد العزيز فلم يدرِ كيف يركبه أو يطعمه أو يلجمه أو يسرجه. سَلْهُ ألم يخطر له أن يطعمه كنافة في رمضان؟ سَلْهُ أكان يأكل — أعني الجواد — من المذود أم كان الباشا يبسط له السماط ويمد له الخوان؟»
•••
وفي ينبع عشرة آلاف نسمة وأقل من مائة جندي، والحكومة كأبسط ما يكون، ولا حاجز هناك بين الأمير وأحقر الأهالي، وسلطان الحكومة ليس مستمدًّا من الخوف الذي تبعثه القوة، بل من الاحترام والحب والتعاون، وآية ذلك أن الناس صريحون مع حكامهم، وأن الحكام لا يبدو عليهم تكلُّف، ولا تكون الصراحة مع الخوف والتقية، ولا الخوف مع البِشْرِ الذي ينضح به الوجه ولا يخفى فيه صدق السريرة، ولا هذه البساطة المبتسمة مع القسوة والاستبداد.
ولم أسمع في المرتين اللتين زرت فيهما ينبع أمرًا يُلقى، أو كلمة مَلَقٍ ودِهَانٍ تُقال، ولقد كان أمير ينبع يُسِرُّ إلى الرجل من حرسه أن يطلب القهوة أو «الشاهي» أو يدعو فلانًا أو علانًا أو يفسح الطريق، وكنت أراه وهو يميل عليه كأنه يهمس في أذنه نكتة أو كلمة سارة.
ولم تأخذ عيني منظرَ قسوة واحدًا، وكثيرًا ما كانوا يفسحون لنا الطريق أو يصدون الناس ليوسعوا أمامنا — في ينبع وفي جدة وفي الكندرة وفي مكة وفي وادي فاطمة — وكان الذين يتولون ذلك الجند، ولكن بإشارة يَدٍ من غير أن يدفعوا في صدور الناس أو يرفعوا في وجوههم عصا أو يتجهموا لهم وهم يصنعون ذلك، وقد عدت من ينبع إلى الباخرة وأنا أحس أني بدأت أفهم، وقد زدت فهمًا لمَّا زرت جدة ومكة، ذلك أن الرعية راضية وأن الحاكم والمحكوم متعاونان.
وقد اقتنعت — وأنا لا أزال في الباخرة قبل أن أصل إلى جدة أو أضع رجلي على رصيف مينائها — بأن المرأة النجدية تعرف السفور ولا تعرف الحجاب، وكان اقتناعي بالمشاهدة والمعاينة وليس بالسماع، ورأيت من الحزم أن أكتم عن زملائي ورفقائي في هذه الرحلة هذا السر الذي اهتديت إليه لأنفرد بالعلم به وأستأثر بفضل اكتشافه والوصول إليه، وقلت لنفسي: إن الصحافة سَبْقٌ، ولن تكون لي مَزِيَّةٌ على إخواني إذا عرفوا كُلَّ ما أعرف، وما لي أنا بهم؟ أليست لهم عيون مثل ما لي؟
ونزلنا في ينبع وجُبْنَا طرقاتِها ومَرَرْنَا بحوانيتها ورأينا ناسها، وكنت أسمع زملائي يتحدثون عن المرأة والحجاب المضروب عليها، ويردِّدون ما سمعوا من أنها لا تخرج ولا تظهر ولا يراها غير زوجها وذوي قرابتها الأدنين، فابتسم ساخرًا وأهز رأسي هازئًا متهكمًا وأرد نفسي بجهد عن أن أصيح بهم: «يا عميان! إن نصف من ترون في الطرقات نساء تحسبوهن رجالًا!»
وقد رأي زملائي المساكين جدة ومكة وما بينهما وعادوا وهم على ذلك يعتقدون أن النساء النجديات محجبات. مساكين! لكم وَدِدْتُ أن أشق لهم بالمبراة جفونهم المطبَقة ليبصروا! وكم نازعتني النفس أن أخطبهم على ظهر السفينة ونحن راجعون، وأن ألقي عليهم محاضرة في النظر وكيف ينتفع صاحبه به! ولكن الأثرة غلبتني، وحب الذات كان أقوى فتركتهم يرجعون كما ذهبوا بعيون مفتوحة كمغمضة، وكان احتمالي هذا الكتمان وقدرتي على الإمساك على سر ما علمت، جهدًا شاقًّا لم أكن لأقوى عليه لولا الإرادة المصممة.
والآن وقد امتحنت إرادتي وأيقنت أني نجحت، أراني أستحق أن أرفِّه عن نفسي بالإفضاء وأن أرخي أعصابي المشدودة بالبوح بما أحسنت كتمانه.
لما صرنا أمام رابغ أحرمت الباخرة؛ أعني ركابها الذين ينوون أن يقصدوا إلى مكة مباشرة، فظهر بيننا فجأة رجل نجدي قيل لي إنه أمير في قومه وحوله حاشية كبيرة من أتباعه وعبيده، وكلهم مُحْرِمٌ، والإحرام لا يمنع أن يلبس المرء سلاحه، فكانوا يحملون فوق ما أحرموا به المسدسات والخناجر وأحزمة الخراطيش، واتصلت بيننا وبين هذا الأمير الأسباب، فاختلطنا وصار عبيده وخَدَمه يسقوننا من قهوتهم النجدية الحادة، وهم يقدمونها في فنجانة كبيرة مفرطحة يصبون فيها نقطة أو رشفة، تحتاج لكي تشربها أو تلحسها أو تنقلها إلى فمك أن ترفع وجهك إلى السماء وتقلب الفنجانة على فمك لينحدر ما فيها إلى لسانك، حتى إذا فرغت دون أن تقع على الأرض رددت الفنجانة فصب لك فيها رشفة أخرى إذا راقتك الحركة التي يكلفك إياها شربها؛ وإلا هززت الفنجانة علامة الاكتفاء، وقد سمعت — وصدَّقتُ — أن القهوة النجدية تقوي عظام العنق، وقد سمعت أيضًا — ولكني لم أَرَ هذا — أنهم يعقدون مباريات لشرب القهوة وهم وقوف.
وكان معنا «رياض أفندي شحاته» المصور المشهور، فدعاهم إلى الوقوف معنا ليصورنا ففعلوا، وكنت غائبًا فنادَوْني فأسرعت إليهم ووقفت حيثُ وجدتُ لي مكانًا، وإذا برياض أفندي يدعوني أن أتزحزح عن مكاني ويشير إلى جاري، فالتفتُّ إلى يميني فلم يسعني إلا أن أتراجع بسرعة وإلا أن أقول: «بردون مدام! أعني معذرة يا سيدتي! لقد زاحمتك وأنا غافل عن وجودك فلا تؤاخذيني! تفضلي.»
وتنحيت بعد هذه الخطبة التي لم تَرُقْ مَن سمعها من إخواني فصاح بي واحد: «ماذا تقول؟! قف يا أخي هنا. نعم هنا واسكت.»
فهززت رأسي آسفًا مستغربًا قلة ذوق هذا الزميل الذي ينقم مني تأدُّبي مع سيدة. فسمعت رياض أفندي يصيح بي: «ما تهزش رأسك يا أستاذ مازني.»
فحار الأستاذ المازني وبين رياض أفندي وهذا الزميل الموبخ وقال — أي الأستاذ المازني — لجاره إلى يساره: «أنا كنت أعتذر فوبخني زميلي لا أدري لماذا؟ هل كان يليق أن أكتم الاعتذار لها بعد أن فطنت إلى غلطتي؟»
ففتح جاري عينيه جدًّا وقال بلهجة المستغرب: «ماذا تقول؟ من تعني؟»
وهنا صاح رياض أفندي: «يا أستاذ مازني اعمل معروف اقف ساكت خلينا نخلص.»
فقلت: «أما إن هذا لغريب! وهل أنا الذي أعطلك؟ الحق أقول إني صرت لا أفهم.» وأيقنت أن رياض أفندي غائر مني.
وقال واحد كان ورائي: «لا بأس. أجِّل الفهم إلى ما بعد التصوير.»
فنظرت إلى الأمير فرأيته يبتسم، وثنيت عيني إلى جارتي الرشيقة وشعرها الوحف المضفَّر الذي يفترق فوق جبينها الوضَّاء ويلمع في ضوء الشمس كأنه مدهون «بالبرينتين» وإلى حوَر عينيها الواسعتين اللتين يزينهما الكحل، وإلى ديباجة وجهها الضافية وماء الشباب الذي يترقرق في وجنتيها، والابتسامة الخفيفة المغرية التي تفترُّ عنها شفتاها الرقيقتان.
وأحسب عيني لم تتحول عنها، وأظنني ظهرت في الصورة ناظرًا إليها لا إلى رياض أفندي، فما كدت ألتفت إليه حتى كان قد فرغ مما يريد فقلت: لا بأس. وأقبلت على صاحبتي أكرر لها الاعتذار وهي لا تزيد عن الابتسام ولا تفتح فمها قط، حتى كدت أجن شوقًا إلى رؤية أسنانها التي لم أشك في أنها من مفاتنها الكبرى.
وأشرت إلى فمي وقلت أستفزها إلى الكلام: «أليس لك لسان؟ أأنت خرساء؟ مسكينة! يا لسخر الأقدار!»
فهزت رأسها وقالت شيئًا لم أفهمه. فأعدت ما قلت ببطء شديد ووضوح تام، فضحكت وهزت رأسها ثانية، وتكلمت، ولكني لم أفهم، فخطر لي أنها غير عربية، وأنها لعلها فارسية أو أفغانية وحرت بأي لسان أخاطبها، ولحق بي في هذه اللحظة زميل فجذبني وهو يقول: «ما هذا يا أخي؟ تعطلنا نصف ساعة حتى تحضر ونحن واقفون تحت الشمس المحرقة، وبعد أن تحضر يحلو لك الكلام والإيماء. هذا شيء بارد والله!»
فقلت: «ليس هذا ذنبي فقد كنت أؤدي واجب الاعتذار …»
فقاطعني قائلا: «اعتذار إيه يا أخي؟ لا لا … هذا لا يليق! لقد شوتنا الشمس. ولن ننتظرك مرة أخرى.»
فتركته وملت إلى غيره وهمست في أذنه: «ألا ترى هذه السيدة؟ ألم يَرُعْكَ جمالها؟»
فقال: «سيدة؟ أي سيدة؟»
قلت: «أي سيدة؟ هذه يا أعمي!» وأشرت إليها.
فانفجر يقهقه وأنا أنظر إليه كالأبله، ولما رأيت أن ليس لهذا الضحك آخر مضيت عنه إلى غرفتي فلحق بي فيها وهو يقول: «سيدة إيه يا مولانا! هذا رجل.»
فانتفضت واقفًا وصحت به مغضَبًا: «رجل؟ تقول إنها رجل؟ أأنا أم أنت الأعمى؟»
فعاد إلى القهقهة، وقعدت قلت له: «لقد كلمتُها ووجهت إليها الخطاب بضمير المؤنث فلم تعترض فكيف تزعمها رجلًا؟»
قال: «المسألة بسيطة. لم يفهم كلامك لأنه بدوي قح، وأراهن أنك لم تفهم منه كلمة.»
قلت: «صحيح. لقد حسبتها أفغانية.»
فابتسم وهو يقول: «ليتك ترى هذا الذي حسبتَه امرأة حين يمتطي صهوة الجواد ويُركِضه إلى القتال ويرسل شعره المرجَّل وينفشه! إذن لرأيت أمامك وحشًا مرعبًا يميت عدوه بنظرة قبل أن يدفن في صدره حربته.»
قلت: «والكحل؟»
قال: «هذا سُنَّة.»
فلوحت بيدي ومضيت عنه.
ظاهرة عجيبة جدًّا هذه، النجدي المشهور بوعورة الخُلُق في القتال، يكون في السلم كما رأيتُه في الحجاز، على حظ عظيم من رقة الحاشية والدماثة واللين والطراوة حتى لَيستحيل عليك أن تصدق أن هذا الرجل الذي يكاد يسيل من اللين، يُحْسِنُ أن يركب جوادًا أو يضرب بسيف أو يقوى على حمل رمح؟ وقد رأيناه يفعل ذلك كله فكأنما ركب الجواد ألف عفريت، ولا أكتم أنَّا خفناه!