النتيجة

نرى من الضروري، وقد انتهينا من البحث الذي قصدنا إليه، أن نَستخلص أخيرًا منه نتائجه الهامَّة، وأن نُبين مدى نجاح ابن رشد في محاولته التوفيق بين الدين والفلسفة، والعوامل التي حالت دون أن يصل عمله إلى النجاح الذي كان يرجوه.

  • (١)

    بيَّنَّا أنَّ روح الإسلام روح توفيقية بين الجهات التي بينها خلاف، وأنَّ هذه الروح مع عوامل أُخرى هي التي دفعت فلاسفة الإسلام إلى العمل على التوفيق بينه وبين فلسفة اليونان كما عرفوها، وإن عملهم لهذا التوفيق ليس فقط كما يقول الأستاذ «جوتييه»: «معقد الطرافة في هذه الفلسفة اليونانية الإسلامية»، بل إنَّ مُحاولة هذا التوفيق كانت إلى حدٍّ كبير السبب في أن صار للإسلام فلسفة إلهية وطبيعية.

    ولكنه، برغم الجهود التي بذلها في هذا السبيل الفارابي وابن سينا قبل ابن رشد، ظلت الفلسفة اليونانية على خلاف مع ما جاء به الإسلام فيما يتعلق بالله وصلته بالعالم، وآية هذا تلك الحرب التي شنها الغزالي عليهما وعلى الفلاسفة جميعًا.

    ثم جاء ابن رشد فكان همُّه الإلحاحَ أولًا على وجوب الفصل بين العامة والخاصة وتعاليم كل طائفة بينهما، وفي هذا سعادة الجميع؛ لأنَّ الحقيقة الواحدة يعبَّر عنها بطرق مختلفة باختلاف العقول والاستعدادات.

    وهذا ما جعل بعض الباحثين المُعاصرين يذهب إلى أنَّ توفيق ابن رشد بين الحكمة والشريعة لم يكن — على خلاف ما كان من الفارابي وابن سينا — توفيقًا «داخليًّا»، ولكنه فقط فصل ظاهري بين السلطات.١

    ولكن الحقيقة هي أنَّ ابن رشد اضطر كما عرفنا بسبب حملة الغزالي إلى أن يترك لنا مُحاولة عملية للتوفيق بين الحكمة والشريعة توفيقًا داخليًّا حقًّا؛ ولهذا نراه في أكثر من موضع من كتاباته يعتذر من كل قلبه عما اضطر إليه من الكلام في مسائل الشريعة والفلسفة على ذلك النحو الذي لم يكن يَوَدُّه.

    وهنا نُشير إلى أنَّ فيلسوف قرطبة رأى في كتابه «مناهج الأدلة»، الذي خَصَّصَه للاستدلال على العقائد الدينية بما يناسب العامة والخاصَّة من الناس، أن يجعل عماده في هذا الاستدلال هو النوع الذي رضيه القرآن، دون الاستدلال المنطقي الذي لا تُطيقه العامة ومن إليهم؛ ولهذا المنهج أثره القوي في التوفيق.

  • (٢)

    وفي تقدير مدى النجاح الذي أصابه فيلسوف الأندلس: نرى أولًا أنه مع ما بذل من مجهود لم ينجح عمليًّا النَّجاح الذي كان يرجوه ويرغب فيه رغبة صادقة؛ إذ بقيت الفلسفة بعده زمنًا طويلًا وهي مُضيئة، والفلاسفة وهم معتبرون خارجين عن الدين.

    ويكفي أن نُشير في هذا إلى فتوى ابن الصَّلاح المُتوفى عام ٦٤٣ﻫ، إذ يُقرر تحريم المنطق والفلسفة تعليمًا وتعلُّمًا؛ لما يؤديان إليه من الزندقة والضلال،٢ وإلى الذهبي في القرن الثامن الهجري؛ إذ يُقَرِّر أن الفلسفة الإلهية في شقٍّ وما جاءت به الرسل في شقٍّ.٣ ونُشير أيضًا إلى رأي ابن خلدون (توفي سنة ٨٠٨ﻫ) بأنَّ الفلسفة مُخالفة للشريعة،٤ وإلى المقريزي (توفي سنة ٨٤٥ﻫ) إذ يرى أنَّ الفلسفة جرَّت على الإسلام ما لا يُوصف من البلاء،٥ وأخيرًا إلى طاش كبرى زاده (توفي عام ٩٦٢ﻫ) الذي وصف حكماء الإسلام بأنهم أعداء الله ورسله.٦

    وبعد هذا نستطيعُ أن نُقَرِّر عن علم ومعرفة شخصية أنَّ هذه النظرة السيئة للفلسفة والفلاسفة بقي من آثارها حتى هذه الأيام التي نعيش فيها، أنَّ نَفَرًا من رجال الدين بالأزهر لا يزال يرى أنَّ بعض الفلاسفة المسلمين صاروا إلى الإلحاد بسبب ما ذهبوا إليه في الله تعالى وصلته بالعالم، كما نُقَرِّرُ أنَّه كان من نتائج ذلك ركود الدراسات الفلسفية في العالم الإسلامي، هذه الدراسات التي لم تأخذ في الانتعاش والازدهار من جديد إلا في هذه السنين الأخيرة.

    ذلك ما كان من النَّاحية العملية الواقعية، أمَّا من ناحية الحق في نفسه، فإننا نستطيعُ أن نقول بأنَّ ابن رشد نجح في التوفيق بين الدين والفلسفة، وهذا في كثير من المسائل التي تناولها، ولكنه لم ينجح بصفة خاصَّة في مسألة البعث والجزاء في الدار الأُخرى؛ وذلك؛ لأنه لم يستطيع بل ليس من المُستطاع لأحد، تأويل كل الآيات القرآنية بَلْهَ الأحاديثَ أيضًا، التي تَدُلُّ صراحة على أنَّه في الحياة الأُخرى ستكون لذائذ وآلام جسمية بجانب الأُخرى الرُّوحية.

    وإذن فإنَّ المؤمن الذي يعتقد أنه لا بدَّ من التصديق بصريح القرآن الذي لا يحتمل التأويل يرى أنه لا يستطيع بحالٍ أن يوفق في هذه الناحية بين القرآن ومذهب الفلاسفة؛ ولهذا نجد أنَّ الإمام الشيخ محمد عبده، مع شدة رغبته في التوفيق بين الدين والفلسفة وعدم تكفير الفلاسفة بشيء مما ذهبوا إليه، يرى أنَّ اعتقاد البعث الجسدي واجب شرعًا، ويُكفِّر مُنكره، وإن كان من الممكن تأويل ما سيكون من آلام ولذائذ جسمانية على نحو أعلى مما يتصور العوامُّ من غير أن نخشى الوقوع في الكفر.٧ ولكن لنا أن نقول: ما هو هذا النحو؟ إنه لا يمكن حسب كتاب الله وحديث رسوله الصحيح إلا أن يكون البعث والجزاء روحيين وجسميين معًا.

ومهما يكن من إصابة ابن رشد الحق أو خطئه في بعض ما ذهب إليه، فإنَّ الإسلام لا يُبيح ما كان من بعض رجاله من عداء للفلسفة واضطهاد لِرِجَالها في بعض الأزمان التي خلت، الإسلامُ الذي يأمرنا كتابه بألا نُجَادل «أهل الكتاب» إلا بالتي هي أحسن، والذي حَثَّ على استعمال العقل لفهم الكون وسائر ما خلق الله، لا يرضى بكل ما صنع رجاله برجال التفكير الحر ورميهم بالكفر والإلحاد؛ لأنهم أخطئوا في بعض ما ذهبوا إليه.

لقد كان من نتائج هذا العداء، أن وُجدت هوَّة بين الفلاسفة ورجال الدين ظلت دهرًا طويلًا فاصلًا بينهم، وأن رمي رجالُ الدين الفلاسفةَ بالإلحاد إن لم نقل بالكفر، وجازاهم هؤلاء شرًّا بشر فرموهم بالجهل وعدم فهم الدين! وكان من هذا وذاك أن حُرم الدين من جهود كثير من أبنائه المفكرين، فانكمش التفكير الحر الصحيح وخاصة بعد وفاة ابن رشد سنة ٥٩٠ﻫ، فقد فقدت به الفلسفة الإسلامية أكبر ممثل ونصير لها من المسلمين، وتضافرت عوامل مختلفة لسيادة روح التقليد.

بقيت كلمة واحدة، لقد رأينا تشابهًا إلى حدٍّ كثير أو قليل بين بعض آراء مفكري الإسلام ومفكري الغرب، ومن مثل ذلك الغزالي من ناحية ومالبرانش وهيوم وديكارت وكانط من ناحية أخرى، في مشكلة السببية، وبين ابن رشد نفسه من ناحية، وسبينوزا من ناحية أخرى، في ضرورة فصل الفلسفة عن الدين بالنظر إلى العامة، وبصفة عامة بين جمهرة مفكري الإسلام من ناحية، وجمهرة مُفكري اليهودية والمسيحية من ناحية أخرى، في ضرورة تأويل بعض ما جاء في الكتب المُقدسة تأويلًا مجازيًّا.

ونحن لا نزعم بسبب هذا التشابه الذي اكتفينا بالإشارة إلى بعض المثل له، أنَّه كان هناك انتقال لبعض الآراء من مفكر إلى آخر عن معرفة وعلم، ولكن نُريد بالإشارة إلى ذلك أن نذكر أنه من الخير عدم إقامة الحدود الفاصلة بصفة قاطعة بين العقل في الشرق والغرب، فإنَّ العقل لا يعرف فواصل الجنس والزمن، وكذلك نذكر أنه من الخير فيما نعتقد أن يُعاد النظر في الفلسفة الإسلامية على هذا الأساس، لنستطيع بالقدر الممكن لمؤرخ الفلسفة تقدير ما أسهم به الفكر الإسلامي في إقامة صرح التفكير الفلسفي العالمي كله، وبالله التوفيق.

روضة القاهرة في شعبان ١٣٧٨ﻫ/فبراير ١٩٥٩م.
١  الدكتور إبراهيم مدكور، ومكان الفارابي في الفلسفة الإسلامية، باريس سنة ١٩٣٤م، ص٢١٨.
٢  فتاوى ابن الصلاح، طبع مصر عام ١٣٤٨ﻫ، ص٣٤-٣٥.
٣  الإسلام والحضارة العربية للإسلام محمد كرد علي، ج٢، ٤٣.
٤  المقدمة طبع القاهرة سنة ١٣٢٢ﻫ، ص٤٣٢.
٥  الخطط طبع القاهرة سنة ١٣٢٦ﻫ، ج٤، ١٨٣-١٨٤.
٦  مفتاح السعادة، طبع حيدر آباد بالهند ج١، ٢٦.
٧  حاشية الشيخ محمد عبده على شرح العقائد العضدية، طبع القاهرة سنة ١٣٢٢ﻫ، ص١٩٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤