ابن رشد
(١) حياته
وبعد أن تقلد القضاء مُدَّة غير قصيرة استعفى منه، فأجيب إلى طلبه، فتوفر على نشر كتبه وتواليفه ومسائله وتصانيفه، ومن أهم كتبه مجموع فتاويه المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس.
هذا جده؛ أمَّا والده فكان له على ما يُقال ما يُشبه هذا المركز في العلم والقضاء، وقد ولد على ما يرويه ابن بشكوال سنة ٤٨٧ﻫ وتوفي سنة ٥٦٣ﻫ، ومن الأقوال المأثورة في شَرَفِهِ ومَنْزلته أَنَّه يكفيه أن يكون ابن ابن رشدٍ الجد وأبا ابن رشد الحفيد!
•••
وقصارى القول: صار — كما يقول ابن الأبار — عديم النظير في الأندلس كمالًا وعلمًا وفضلًا، كما عُرف بالعناية الشديدة بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حُكي عنه أنه لم يترك الدراسة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة زواجه.
ويقول عنه «مونك» بحق: «إنه كان واحدًا من أشهر العلماء في العالم الإسلامي، ومن أكثر شُرَّاح مؤلفات أرسطو عمقًا، كما كان أحد مشاهير الكتاب وأكثرهم خصبًا وإنتاجًا، ولا عَجَبَ، فقد عاش كما يقول «رينان» في بيئة علمية عالية جمعت مشاهير عصره.» وكان يعينه في ذلك استعداد طيب كبير وطبْع مُواتٍ أصيل.
ومن المؤسف ألا يكون ابن أبي أُصيبعة قد أمدنا بتاريخ مفصل عن حياة فيلسوف الأندلس ودراساته، وقد كان هذا في مقدوره إذ كتب تاريخه «طبقات الأطباء» بعد وفاته بنحو أربعين عامًا! ولعل السبب هو ما نعتقده من أنه قد جرى على سُنَّة كثير من مؤرخي العرب من عدم العناية بالمرحلة الأولى من حياة المترجَم؛ إذ لم يكن قد تبين بعدُ نبوغه.
ومهما يكن من شيء، فإنه من المعروف أنَّ ابن رشد ولي قضاء قرطبة زمنًا طويلًا، ويَدلُّ لذلك وصفه نفسه في ابتداء بعض مؤلفاته أو نهايتها بأنَّه قاضٍ، وكذلك يُؤخذ من هذه المُؤلفات أنَّ مهام منصبه واتصاله بالخلفاء الموحدين أوجَبَ أن ينتقل كثيرًا ما بين مراكش وإشبيلية وقرطبة.
كان فيلسوفنا يشعر إذن بعِظَم المهمة التي ألقاها القدر على عاتقه، وبأنَّ أعماله باعتباره رجلًا من رجال الدَّولة تكادُ لا تدع له الوقت الكافي للقيام بما شرع فيه؛ ولذلك نراه في آخر الجزء الأول من تلخيصه «للمجسطي» يقول إنه وجب عليه أن يقتصر في شرحه على إيراد النظريات التي لا يُمكن الاستغناء عنها، ويشبِّه نفسه برجل رأى فجأة النار تلتهم منزله، وليس لديه من الوقت إلا ما يلزم لاستنقاذ أثمن ما عنده من متاع وما لا غنى عنه للحياة.
كما نراه يُخصص كل وقته ليؤدي كما ينبغي رسالته التي أخذها على نفسه، فيعتزل منصبه عند تقدم السن به، وذلك ليتوفر على أعماله الفلسفية خشية أن يحين أجله قبل أن ينتهي منها.
ولما تُوفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وولي الحكم بعده ابنه يعقوب المُلقب بالمنصور سنة ٥٨٠ﻫ، نال ابن رشد لديه الحظوة والمنزلة التي كانت له لدى أبيه، إلَّا أنَّ القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه.
•••
- أولًا: لقد كان إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة على اختلاف
موضوعاتها، وكان إلى ذلك من أشد الناس تواضعًا، فهل هذا
كان علة لذاك؟ يعتقد أنَّ ذلك هو الحق، وأنَّه الذي يتفق
مع طبائع الأمور.
إنَّ الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم، ولو كان أمرها هينًا، تاه بها وظنَّ أنه قد أوتي من العلم ما لم يؤتَ غيره، وليس كذلك العالم الذي يتنقل من ضرب من ضروب المعرفة إلى ضرب آخر، وكُلَّما فرغ من حل مشكلة علمية تبدت له أُخرى، فهو دائمًا في كَدٍّ عقلي وتعب فكريٍّ.
وخاتمة المطاف هي شعوره بقلة علمه، وإحساسه بعجز عقله عن أن يُحيط بالكون كله: أراضيه وسَمَاواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك من مقام الألوهية الذي جلَّ عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية كذلك أن يغدو كلما عمق علمه لان جانبه واشتد تواضعه.
- وثانيًا: إن الذين ترجموا له وصفوه بأنَّ الدراية كانت أغلب عليه
من الرواية، أي إنَّ النظر العقلي والقياسي في الأحكام
الفقهية كان أغلب عليه من الاعتماد على كل ما يقع له من
الأحاديث، وأقوال الفُقهاء السابقين، وهذا ما يُتيح لنا
أنْ نُقَرِّر أن نزعته إلى النظر العقلي والتفلسف بدت أول
ما بدت في الفقه.
ذلك بأنَّ الذي لا يكتفي بالرِّواية والاعتماد على ما يرويه، بل يُعمل عقله ويجتهد في البحث عن علل الأحكام الشرعية، لا يكون بعيدًا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من أحد أبوابها، وإذن فمن المُمْكن أن نرى في ابن رُشد الفقيه في هذه المرحلة، ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.
- وثالثًا: إن الدين في رأيه يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية
واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته، وهذه النظرة نراها
واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد
ونهاية المقتصد». فقد بيَّن في هذا الموضع أنَّ مِنْ
أوامر الدِّين وأَحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل
النفسية، ومنها ما الغرض منه تثبيت العدالة الخاصَّة
والعدالة العامَّة في الأقوال وغير الأقوال، ومنها ما هو
سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ
فضائله العملية والعلمية، إلى آخر ما قال.
وهكذا نلمح هذه النظرية الفلسفية الاجتماعية في كثير من آرائه الفقهية، وذلك في كثير من المواضع من هذا الكتاب.
- ورابعًا وأخيرًا: إنَّ فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الأُمراء
والخُلفاء، فلم يفد من ذلك كثيرًا لنفسه، بل قصر هذا على
خير أهل بلده خاصة والأندلس عامة، والأمر في ذلك جد
طبيعي.
إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته معرفة الحقيقة، ولذته في أن يدرك من هذه الحقيقة طرفًا بعد طرف، وقد صارت هذه اللذات هي التي تستهويه حتى لا يُوازن بينها وبين لذات جمع المال ورفاهة العيش وطيب الحياة.
ومن ثم، هو لا يُبالي هذه اللذات المادية وأمثالها، ما دام قد جعل همَّه المعرفة الحقة وما يكونُ في إدراكها من لذة عقلية رُوحية هي أسمَى ضروب اللذات، ومن أجل هذا كانت نزعته الإنسانية الاجتماعية، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله على المحرومين من اللذات العقلية التي ينالها بعقله وتفكيره.
والآن بعد أن عرفنا حياة ابن رشد والبيئة التي كان يعيش فيها وحظَّه الوافر من العقل والتفكير، وبعد ما عرفنا أيضًا ما كان من حظ الدِّراسات الفلسفية من رعاية وتقدير، أو زراية وإنكار، ومع ما كان يلمسه هو نفسه من سوء الظن بالفلسفة ورجالها وطلابها، الآن بعد ذلك كله ماذا كان يحسه رجل مثله: عقلًا وتفكيرًا، ومنصبًا وجاهًا، وحبًّا للفلسفة وتقديرًا لها وحرصًا على تأمين سبيلها ببيان أنها أخت الدين؟
إنه كان يُحِسُّ بلا ريب أنَّ عليه أن يَتَّجه للانتصاف لها بعد أن نال منها الغزالي نيلًا كبيرًا، وأنْ يعمل كل ما يستطيع للتوفيق بينها وبين الدين حتى يعيش الفلاسفة بسلام، إلَّا أنَّ أحداث الزمن لم تجعله يصل من ذلك إلى ما كان يرجوه.
(٢) نكبتُه ونفيه
وكذلك يروي المراكشي أيضًا أن جماعة من أهل قرطبة الذين كانوا يُنازعون ابن رشد المجد والشرف، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه، كما يحدث كثيرًا بين النظراء في كل بلد، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيًا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أنَّ الزُّهَرة أحد الآلهة.» فطاروا بهذه الجملة للمنصور وأوهموه أنَّها من كلام ابن رشد نفسه، وليست حكاية منه لقول غيره من قدماء الفلاسفة.
فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف التماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرَق من الدين، وأنه استوجب لعنة الضالين، وأضيف إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام، ولُفَّ معه في حريق هذا الملام، لأشياء أيضًا نُقمت عليه في مجالس المذاكرة وفي أثناء كلامه مع توالي الأيام.
فأُحضرا بالمجلس الجامع الأعظم بقرطبة، وتكلم القاضي أبو عبد الله بن مروان فأحسن، وذكر ما معناه أنَّ الأشياء لا بُدَّ في كثير منها أن تكون لها جهة نَافِعَة وجهة ضَارَّة كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عُمل بحسبه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد.
فابتدر الكلامَ الخطيب أبو علي بن حجاج، وعرَّف الناس بما أمر به من أنهم مرقوا من الدين وخالفوا عقائد الموحدين، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرقوا على حُكم من يعلم السر وأخفى.
ثم أمر أبو الوليد بسكنى «أليسانه»، لقول من قال: إنه ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس. وعلى ما جرى عليهم من الخطب، فما للملوك أن يأخذوا إلا بما ظهر، فإليهما تنتهي البراعة في جميع المعارف، وكثير من انتفع بتدريسهم وتعليمهم، وليس في زمانهما من هو بكمالهما ولا من نسج على منوالهما، وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سَبَا، ويُذكر أنَّ من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة.
وأخبر عنه أبو الحسن بن قُطرال أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سِفْلة العامة فأخرجونا منه.
وكتب عن المنصور في هذه القضية كاتبه أبو عبد الله بن عياش كتابًا إلى مراكش وغيرها يقولُ فيه فيما يخص حالهما (هذا هو المنشور): وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقرَّ لهم عوامهم بشغوف عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلَّدوا في العالم صحفًا ما لها من خلاق، مسودَّة المعاني والأوراق، بعدها عن الشريعة بُعد المشرقين وتبايُنُها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يَتَشَعَّبون في القضية الواحدة فرقًا، ويسيرون فيها شواكل وطرقًا، ذلكم بأنَّ الله خلقهم للنَّار وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون.
ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين إنس يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، فكانوا عليها أضرَّ من أهل الكتاب وأبعَدَ عن الرَّجعة إلى الله والمآب؛ لأنَّ الكتابي يجتهدُ في ضَلال ويجدُّ في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل وقُصاراهم التمويه والتخييل.
دبَّت عقاربهم في الآفاق بُرهة من الزَّمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد أملى لهم على شدة حروبهم، وعفا عنهم سنين كثيرة على كثرة ذنوبهم، وما أملى لهم إلا ليزدادوا إثمًا، وما أُمْهِلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وَسِعَ كل شيء علمًا.
وما زلنا وصل الله كرامتكم نذكِّرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقودهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلمَّا أراد اللهُ فضيحة عَمايتهم وكشف غوايتهم، وُقِف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذَ صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لُبِس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزَّبون في صورة السلم، مزَلة للأقدام، وهم يدب في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزِيِّهم ولسانهم، ويُخالفونهم بباطنهم وغَيِّهم وبهتانهم.
فَلمَّا وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقضي السفهاء من الغواة، وأبغضناهم في الله كما أننا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إنَّ دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك وعميت أبصارهم وبصايرهم عن بيِّناتك، فباعد أسفارهم وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم.
ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم، والإيقاظ بحده من غفلتهم وسِنَتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهوان، ثم طُرِدُوا من رحمة الله، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذَرَكم من السموم السارية في الأبدان، ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يُعذَّب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجِدٍّ في غلوائه، عَمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فَلْيُعاجَل فيه بالتثقيف والتعريف، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، وأُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.
والله تعالى يُطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم.
وبعد أن روى الأنصاري اتهام ابن رشد بالمروق من الدين والحكمَ بنفيه، والمنشورَ الذي صَدَر على أثر هذا على ذلك النحو، نقل عن أحد رجال القضاء الذين اتصلوا بابن رشد بقرطبة أنَّه رغم رعاية فيلسوفنا لشعائر الدين كما ينبغي قد زلَّ زلة هي أعظم الزلات.
وذلك أنَّه شَاعَ أنَّ ريحًا عاتية تهبُّ في يوم كذا تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس واتخذوا الغِيران والأنفاق تحت الأرض توقِّيًا منها، فاستدعى والي قرطبة طلبتها وقاضيها — وهو ابن رشد — وفاوضهم فيها، وكان معهم ابن بُندود.
فلمَّا انفض الجمع تكلم هذان في شأن هذه الرِّيح، فقال أبو محمد عبد الكبير، وكان حاضرًا في أثناء المُفاوضة: إن صحَّ أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تُعلم ريح بعدها يعم إهلاكها، فانبرى له ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا، فكيف سبب هلاكهم! فسُقِط في أيدي الحاضرين، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
•••
تلك هي الأسباب التي ذكرها المؤرخون المُسلمون لنكبة ابن رشد، فهل كانت وحدها الأسباب الحقيقة؟ أو هناك سبب آخر أهم منها جميعًا؟ ذلك ما بحثه المستشرقون الذين عُنوا بتأريخ التفكير الإسلامي ورجاله في المشرق والمغرب.
ثم يُؤكد بعد بضع صفحات من كتابه، فيذكُر أنَّ كل الفلاسفة الإسبانيين في عصر ابن رشد كانوا مثله غرضًا للاضطهاد، ويُعلل هذا الرَّأي الذي انتهى إليه بأنَّ الموحدين يرجعون مباشرة إلى مدرسة الغزالي، فإنَّ مؤسس هذه الأسرة في إفريقية كان أحد تلامذة هذا العدو الشديد للفلسفة، ويسوق قبل هذا وبعده مُثُلًا مُتعددة لاضطهاد الفلاسفة أيضًا في غير الأندلس من نواحي العالم الإسلامي.
على أنه ينبغي للباحث أن يتساءل بعد هذا وذاك عَمَّا إذا كان تعصب الموحدين ضد الفلسفة، كما يرى مونك ورينان، هو السبب الحقيقي الذي يكفي لتعليل نكبة ابن رشد وأصحابه.
وكذلك ساق نفس المؤرخ على أثر ما تقدم أن ابن زُهر هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب، فأتياه يومًا ومعهما كتاب في المنطق، فلمَّا عرفه رمى به وقام ليضربهم فجروا أمامه وهو يعدو وراءهم حتى فاتوه.
•••
من هذا يظهر لنا أن بعض المشتغلين بالفلسفة كانوا غير أهل لها؛ إذ كانوا لا يقدرون على فهم ما تُثير من مسائل ومشاكل، ورُبَّما كان الواحد منهم يخرج بسببها عن بعض ما جاء به القرآن، ويكونون بذلك سببًا لإثارة رجال الدين ومن يليهم، واضطهاد الفلسفة ورجالها، وهذا فرضٌ قريبٌ من الحقيقة على ما يلوح لنا إذا لاحظنا أنَّ القُرآن حضَّ في كثير من آياته على النظر العقلي فيما خلق الله من السماوات والأرض وما بينهما من عوالم مختلفة.
ولكننا نَرى مع ذلك أنَّ اضطهاد الفلاسفة بعامَّة وابن رشد بخاصة، كان من أسبابه الهامَّة التي ليس من الحق إغفالها ما كان يُرَى من خروج بعضهم فيما ذهب إليه من آراء عن بعض ما جاء به الدين بلا ريب، إمَّا في الواقع وإما لأنَّ الجهل يُخيل ذلك للعامَّة ورجال الدين، فيندفعون للتعصب ضدهم ويُجاريهم الوُلَاةُ والأمراء والخُلفاء أحيانًا كسبًا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم، أو لأنهم يرون أنهم على حق.
وهل من الدَّلائل على صحة ما نَراه أنَّ الخليفة المنصور نفسه لم يرَ بأسًا في اشتغال أبي بكر بن زُهر بالفلسفة التي حرَّم الاشتغال بها؛ وذلك لما يعلمه فيه من متانة دينه وعقله، وأن ابن زُهر هذا أبى على اثنين من تلاميذه أن يشتغلا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين واعتياد القيام بالشعائر الدينية، ثم أباح لهما ذلك عندما وصلا إلى ما أراد منهما.
وكذلك من الأدلة على صحة ما نذهب إليه: ما رواه الأنصاريُّ من حادث الريح وتكذيب ابن رشد بقوم عاد والريح التي أهلكتهم، فإذا صح هذا كانت نكبة ابن رشد بسبب تكذيبه بما جاء به القرآن، لا بسبب أنه كان مُشتغلًا بالفلسفة فحسب.
•••
•••
•••
•••
•••
ولكن شاءت عدالة الله ألا تطول مدة محنة ابن رشد، فإن المنصور تغير حاله بعد أن عاد إلى مراكش، ومال من جديد للفلسفة وأهلها، وألغى مرسومه بتحريمها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنَّه على غير ما نُسب إليه، فعفا عنه وعن أصحابه سنة ٥٩٥ﻫ واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.
إلا أنه لم يلبث طويلًا، فقد توفي بمراكش في العام نفسه قبل وفاة الخليفة بيسير، وحُملت رُفاته إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر حيثُ دُفنت بمقبرة أسرته، وبموته فقدت الفلسفة أكبر نصرائها بالأندلس والعالم الإسلامي عامة.
(٣) مؤلفاته
ألف ابن رشد كتبًا ورسائل كثيرة في الفقه، والطب، والفلك، والإلهيات، والفلسفة بصِفَةٍ عَامَّة، وغير ذلك كله من العلوم التي كانت معروفة في عصره، وليس من الضروري في هذا البحث سَرْد هذه المؤلفات والشروح وترتيب كتابتها زمنيًّا، وبخاصة أننا لن نأتي في هذا بجديد كثير.
وينبغي أن نُلاحظ أَنَّ ما نُشر بالعربية من مؤلفات فيلسوف الأندلس وشروحه لأرسطو، أقل جدًّا مما لم يُنشر حتى اليوم بهذه اللغة، وأنَّ كثيرًا مما كتبه يوجد حتى اليوم باللغة العبرية أو اللاتينية؛ ولذلك نرى واجبًا أن تهتم مصر وغيرها من البلاد العربية بنشر كل تراث هذا الفيلسوف العظيم، ومن الخير أن تهتم بذلك الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، فتؤلف لهذا لجنة من العلماء المُختصين الكُفاة كما صنعت فيما يختص بابن سينا ومؤلفاته.