الفصل الثاني

ابن رشد

حياته – نكبته – مؤلفاته

(١) حياته

هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد، من أكبر فلاسفة الإسلام، الشهير بالشارح (أي: شارح أرسطو) وبالحفيد، ولد بقرطبة سنة (٥٢٠ﻫ/١١٢٦م) من أُسرة لها منذ زمن طويل المركز العالي المرموق في العلم والقضاء، فجدُّه — ويُعرف مثله بابن رشد — كان قاضيَ القُضاة بالأندلس كلها، وأمير الصَّلاة بالمسجد الجامع بقرطبة، ولم يصلْ بالصدفة لهذا المركز الخطير؛ فقد كان — كما يقول ابن بشكوال — فقيهًا عالمًا حافظًا للفقه، مُقدَّمًا فيه على جميع أهل عصره، وكان الناس يلجئون إليه ويعوِّلون في مهماتهم عليه،١ إذ كان مع رياسته في العلم من أشهر أصحاب النفوذ والجاه في عهد المرابطين.

وبعد أن تقلد القضاء مُدَّة غير قصيرة استعفى منه، فأجيب إلى طلبه، فتوفر على نشر كتبه وتواليفه ومسائله وتصانيفه، ومن أهم كتبه مجموع فتاويه المحفوظ بالمكتبة الأهلية بباريس.

هذا جده؛ أمَّا والده فكان له على ما يُقال ما يُشبه هذا المركز في العلم والقضاء، وقد ولد على ما يرويه ابن بشكوال سنة ٤٨٧ﻫ وتوفي سنة ٥٦٣ﻫ، ومن الأقوال المأثورة في شَرَفِهِ ومَنْزلته أَنَّه يكفيه أن يكون ابن ابن رشدٍ الجد وأبا ابن رشد الحفيد!

•••

وقد ولد فيلسوفنا سنة ٥٢٠ﻫ/١١٢٦م بمدينة قرطبة، وهي سوق العلم ومركز العلماء في ذلك الحين، فقد روى المقرِّي أنَّه «جرت مُنَاظرة في مجلس ملك المغرب المنصور يعقوب، بين الفقيه أبي الوليد ابن رشد وبين الرئيس أبي بكر ابن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول! غير أنَّه إذا مات عالم بإشبيلية؛ فأريد بيع كتبه حُملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مُطرب بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية.» ثم يختم راوي هذه المناظرة الطريفة الكلام بقوله: «وقرطبة أكثر بلاد الله كتبًا.»٢
نشأ ابن رشد في هذا الوسط العلمي، فدرس ما يدرس أمثاله من الفقه والتوحيد ونحوهما من العلوم الإسلامية، واستظهر على أبيه أبي القاسم «الموطأ» وهو الكتاب الأول والأساسي لمذهب الإمام مالك، فصَار في ذلك كله وحيد عصره، ونَالَ مع ذلك حظًّا وافرًا من اللغة والأدب، فكان كما يقول ابن الأبار يحفظ أشعار حبيب والمتنبي، ويكثر غالبًا التمثل بها في دروسه ومجالسه.٣
ثم درس الطب أيضًا وكان يُرجع إلى رأيه فيه كما يُرجع إلى رأيه في الفقه، وله فيه كتابه المشهور «الكليات»، ألفه لما كان بينه وبين أبي مروان بن زُهْر من مودة وألفة وثيقة، والذي ألف في الطب كتابًا في الجزئيات، وذلك لتكون جملة كتابيهما عملًا كاملًا في صناعة الطب.٤
ثم سمت هِمَّةُ ابن رشد إلى تعلم الفلسفة وعلوم الأوائل، ووصل منها إلى ما لم يدركه سواه، «فكانت له فيها الإمامة دون أهل عصره.»٥

وقصارى القول: صار — كما يقول ابن الأبار — عديم النظير في الأندلس كمالًا وعلمًا وفضلًا، كما عُرف بالعناية الشديدة بالعلم من صغره إلى كبره، حتى حُكي عنه أنه لم يترك الدراسة منذ عقل إلا ليلة وفاة أبيه، وليلة زواجه.

ويقول عنه «مونك» بحق: «إنه كان واحدًا من أشهر العلماء في العالم الإسلامي، ومن أكثر شُرَّاح مؤلفات أرسطو عمقًا، كما كان أحد مشاهير الكتاب وأكثرهم خصبًا وإنتاجًا، ولا عَجَبَ، فقد عاش كما يقول «رينان» في بيئة علمية عالية جمعت مشاهير عصره.» وكان يعينه في ذلك استعداد طيب كبير وطبْع مُواتٍ أصيل.

ولا نود أن نَقِفَ طويلًا فيما يختص بسير ابن رُشد في دراساته وتدرجه فيها عند العلماء والشيوخ الذين أخذ عنهم بالتفصيل؛ وذلك لأننا نعتقد أنَّ الأمر جرى على سُنَّة أمثاله، أي إنه أخذ العلم عن والده وشيوخ عصره المتميزين، فقد درس الفقه على والده، كما قلنا آنفًا، وعن أبي القاسم بن بشكوال، وأبي مروان بن مسرة، وأبي بكر بن سحنون، وغيرهم من شيوخ الفقهاء.٦ كما درس التعاليم (الرياضيات) والطب على أبي جعفر بن هارون الترجالي الذي لازمه مدة، وأخذ عنه كثيرًا من العلوم الحكمية.٧
على أننا نوافق على ما ذهب إليه كلٌّ من «رينان» و«مونك» من نفيهما أن يكون ابن باجة من أساتذة ابن رشد في الفلسفة، وأنَّ ابن أبي أُصيبعة قد أخطأ حين ذكر ذلك في حياة ابن باجة،٨ فإن هذا قد توفي حين كان ابن رشد طفلًا لما يجاوز الثانية عشرة من عمره.

ومن المؤسف ألا يكون ابن أبي أُصيبعة قد أمدنا بتاريخ مفصل عن حياة فيلسوف الأندلس ودراساته، وقد كان هذا في مقدوره إذ كتب تاريخه «طبقات الأطباء» بعد وفاته بنحو أربعين عامًا! ولعل السبب هو ما نعتقده من أنه قد جرى على سُنَّة كثير من مؤرخي العرب من عدم العناية بالمرحلة الأولى من حياة المترجَم؛ إذ لم يكن قد تبين بعدُ نبوغه.

ومهما يكن من شيء، فإنه من المعروف أنَّ ابن رشد ولي قضاء قرطبة زمنًا طويلًا، ويَدلُّ لذلك وصفه نفسه في ابتداء بعض مؤلفاته أو نهايتها بأنَّه قاضٍ، وكذلك يُؤخذ من هذه المُؤلفات أنَّ مهام منصبه واتصاله بالخلفاء الموحدين أوجَبَ أن ينتقل كثيرًا ما بين مراكش وإشبيلية وقرطبة.

أمَّا كيف اتصل بخليفة الموحدين الأمير يوسف بن عبد المؤمن، الذي ولي سنة ٥٥٨ﻫ، بفضل ابن طفيل الذي كان جليس هذا الأمير ومعنيًّا باجتذاب العلماء والفلاسفة إليه على ما تقدم ذكره، فهذا ما يقصُّه لنا فيلسوفنا نفسه كما يرويه عبد الواحد المراكشي؛ إذ يذكر أنَّ تلميذ ابن رشد الفقيه الأستاذ أبا بكر بُندُود بن يحيى القُرطبي أَخبره أنَّه سَمِعَ الحكيم أبا الوليد يقول غير مرة: «لما دخلتُ على أمير المؤمنين أَبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما، فأخذ أبو بكر يُثني عليَّ ويذكر بيتي وسلفي ويضم إلى ذلك أشياء لا يبلغها قدري، فكان أول ما فاتحني به أمير المؤمنين بعد أن سألني عن اسمي واسم أبي ونسبي أن قال: ما رأيهم في السماء — يعني: الفلاسفة — أقديمة هي أم حادثة؟ فأدركني الحياء والخوف، فأخذت أتعلل وأُنكر اشتغالي بعلم الفلسفة، ولم أكن أدري ما قرر معه ابن طفيل، ففهم أمير المؤمنين مني الروع والحياء، فالتفت إلى ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها، ويذكر ما قاله أرسطوطاليس وأفلاطون وجميع الفلاسفة، ويُورد مع ذلك احتجاج أهل الإسلام عليهم، فرأيتُ منه غزارة حفظ لم أظنها في أحد المُشتغلين بهذا الشأن المتفرغين له، ولم يزل يبسطني حتى تكلمتُ فعرف ما عندي من ذلك، فلمَّا انصرفت أمر لي بمال وخلعة سنية ومركب.»٩
ثم كان ابن طفيل نفسه هو الذي طلب من ابن رشد أن يتوفر على تلخيص أرسطو وشرحه، وذلك في حديث جرى بينهما ذكره المؤرخ نفسه، وكذلك صادفت رغبةُ الخليفة شرْحَ أرسطو ميلًا شديدًا لدى فيلسوفنا إلى هذا العمل الكبير، فشرع بكل عقله وقلبه في القيام بتحقيق هذه الرَّغبة بتوضيح أغراض أرسطو الغامضة، وتلخيص ما كتب، وشرحه ليقرب مأخذه ويسهل تناوله، وساعده على هذا العمل الشاق كما جاء في حديث ابن طفيل عنه، جودة في الذِّهن، وصفاء في القريحة، وميل شديد للفلسفة.١٠

كان فيلسوفنا يشعر إذن بعِظَم المهمة التي ألقاها القدر على عاتقه، وبأنَّ أعماله باعتباره رجلًا من رجال الدَّولة تكادُ لا تدع له الوقت الكافي للقيام بما شرع فيه؛ ولذلك نراه في آخر الجزء الأول من تلخيصه «للمجسطي» يقول إنه وجب عليه أن يقتصر في شرحه على إيراد النظريات التي لا يُمكن الاستغناء عنها، ويشبِّه نفسه برجل رأى فجأة النار تلتهم منزله، وليس لديه من الوقت إلا ما يلزم لاستنقاذ أثمن ما عنده من متاع وما لا غنى عنه للحياة.

كما نراه يُخصص كل وقته ليؤدي كما ينبغي رسالته التي أخذها على نفسه، فيعتزل منصبه عند تقدم السن به، وذلك ليتوفر على أعماله الفلسفية خشية أن يحين أجله قبل أن ينتهي منها.

ولما تُوفي الخليفة يوسف بن عبد المؤمن، وولي الحكم بعده ابنه يعقوب المُلقب بالمنصور سنة ٥٨٠ﻫ، نال ابن رشد لديه الحظوة والمنزلة التي كانت له لدى أبيه، إلَّا أنَّ القدر كان له بالمرصاد، فابتدأ سوء الظن به وبعقيدته، وكان هذا مقدمة لنكبته والحكم بنفيه.

•••

وقبل البحث في هذا، نرى أنَّ في حياة ابن رشد حتى الآن ما يستدعي أن نقف وقفات قصيرة:
  • أولًا: لقد كان إمام عصره في الفقه وعلوم الفلسفة على اختلاف موضوعاتها، وكان إلى ذلك من أشد الناس تواضعًا، فهل هذا كان علة لذاك؟ يعتقد أنَّ ذلك هو الحق، وأنَّه الذي يتفق مع طبائع الأمور.

    إنَّ الجاهل إذا عرف مسألة من مسائل العلم، ولو كان أمرها هينًا، تاه بها وظنَّ أنه قد أوتي من العلم ما لم يؤتَ غيره، وليس كذلك العالم الذي يتنقل من ضرب من ضروب المعرفة إلى ضرب آخر، وكُلَّما فرغ من حل مشكلة علمية تبدت له أُخرى، فهو دائمًا في كَدٍّ عقلي وتعب فكريٍّ.

    وخاتمة المطاف هي شعوره بقلة علمه، وإحساسه بعجز عقله عن أن يُحيط بالكون كله: أراضيه وسَمَاواته وما فيها من الملأ الأعلى، وما فوق ذلك من مقام الألوهية الذي جلَّ عن أن يحيط به عقل أو إدراك، والنتيجة الطبيعية والنفسية كذلك أن يغدو كلما عمق علمه لان جانبه واشتد تواضعه.

  • وثانيًا: إن الذين ترجموا له وصفوه بأنَّ الدراية كانت أغلب عليه من الرواية، أي إنَّ النظر العقلي والقياسي في الأحكام الفقهية كان أغلب عليه من الاعتماد على كل ما يقع له من الأحاديث، وأقوال الفُقهاء السابقين، وهذا ما يُتيح لنا أنْ نُقَرِّر أن نزعته إلى النظر العقلي والتفلسف بدت أول ما بدت في الفقه.

    ذلك بأنَّ الذي لا يكتفي بالرِّواية والاعتماد على ما يرويه، بل يُعمل عقله ويجتهد في البحث عن علل الأحكام الشرعية، لا يكون بعيدًا عن الفلسفة، بل يكون قد دخل فيها من أحد أبوابها، وإذن فمن المُمْكن أن نرى في ابن رُشد الفقيه في هذه المرحلة، ابن رشد الفيلسوف فيما يأتي من الزمان.

  • وثالثًا: إن الدين في رأيه يرمي بشعائره وأوامره إلى غايات خلقية واجتماعية بها صلاح المجتمع وسعادته، وهذه النظرة نراها واضحة تمام الوضوح في خاتمة كتابه القيم «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». فقد بيَّن في هذا الموضع أنَّ مِنْ أوامر الدِّين وأَحكامه ما يرجع إلى تربية الفضائل النفسية، ومنها ما الغرض منه تثبيت العدالة الخاصَّة والعدالة العامَّة في الأقوال وغير الأقوال، ومنها ما هو سنن واردة في الاجتماع الذي هو شرط في حياة الإنسان وحفظ فضائله العملية والعلمية، إلى آخر ما قال.

    وهكذا نلمح هذه النظرية الفلسفية الاجتماعية في كثير من آرائه الفقهية، وذلك في كثير من المواضع من هذا الكتاب.

  • ورابعًا وأخيرًا: إنَّ فيلسوفنا كان ذا حظوة وجاه عظيمين عند الأُمراء والخُلفاء، فلم يفد من ذلك كثيرًا لنفسه، بل قصر هذا على خير أهل بلده خاصة والأندلس عامة، والأمر في ذلك جد طبيعي.

    إنه قد وهب نفسه للعلم، وجعل غايته معرفة الحقيقة، ولذته في أن يدرك من هذه الحقيقة طرفًا بعد طرف، وقد صارت هذه اللذات هي التي تستهويه حتى لا يُوازن بينها وبين لذات جمع المال ورفاهة العيش وطيب الحياة.

    ومن ثم، هو لا يُبالي هذه اللذات المادية وأمثالها، ما دام قد جعل همَّه المعرفة الحقة وما يكونُ في إدراكها من لذة عقلية رُوحية هي أسمَى ضروب اللذات، ومن أجل هذا كانت نزعته الإنسانية الاجتماعية، فهو يجد لذة أخرى في أن ينفق من جاهه وماله على المحرومين من اللذات العقلية التي ينالها بعقله وتفكيره.

والآن بعد أن عرفنا حياة ابن رشد والبيئة التي كان يعيش فيها وحظَّه الوافر من العقل والتفكير، وبعد ما عرفنا أيضًا ما كان من حظ الدِّراسات الفلسفية من رعاية وتقدير، أو زراية وإنكار، ومع ما كان يلمسه هو نفسه من سوء الظن بالفلسفة ورجالها وطلابها، الآن بعد ذلك كله ماذا كان يحسه رجل مثله: عقلًا وتفكيرًا، ومنصبًا وجاهًا، وحبًّا للفلسفة وتقديرًا لها وحرصًا على تأمين سبيلها ببيان أنها أخت الدين؟

إنه كان يُحِسُّ بلا ريب أنَّ عليه أن يَتَّجه للانتصاف لها بعد أن نال منها الغزالي نيلًا كبيرًا، وأنْ يعمل كل ما يستطيع للتوفيق بينها وبين الدين حتى يعيش الفلاسفة بسلام، إلَّا أنَّ أحداث الزمن لم تجعله يصل من ذلك إلى ما كان يرجوه.

(٢) نكبتُه ونفيه

بلغ ابن رشد من الحظوة لدى الخليفة يعقوب المنصور أن ارتفعت الكلفة بينهما أو كادت، فلم يكن يُلزم نفسه رعاية ما يراعيه حاشية الملوك من الملق والأدب الزائد المصطنع، فكان كما يرويه لنا القاضي أبو مروان الباجي «متى حضر مجلس المنصور وتكلم معه أو بحث عنده في شيء من العلم، يُخاطب المنصور بأن يقول: تسمع يا أخي!»١١
ورُبَّما قرَّبه هذا الخليفة في مجلسه على كل أصحابه، ففي سنة ٥٩١ﻫ حينما جاء المنصور إلى قرطبة في طريقه لغزو «ألفونس» ملك قشتالة وليون، استدعى ابن رشد وأجلسه إلى جانبه، وقرَّبه أكثر من المُعتاد وجاوز به أقرب الناس إليه، وغمره بعطفه الكبير حتى قال لمهنئيه من أصحابه وتلامذته بعد أن خرج من عنده: «والله إنَّ هذا ليس مما يستوجب الهناء به، فإن أمير المؤمنين قد قرَّبني دفعة إلى أكثر مما كنت أؤمله أو يصل رجائي إليه.»١٢
على أن الأيام السيئة في حياة ابن رشد قد جاءت، فإنَّ المراكشي يذكر أنَّ المنصور أخذ عليه في شرحه لكتاب الحيوان لأرسطو أنه قال عند ذكره للزرافة: «وقد رأيتها عند ملك البربر.»١٣ يُريد بهذا بلاط مراكش، وقد رأى المنصور في ذلك إهانة له ولأسرته المالكة، ولكنه أسرَّها في نفسه، ولم يشفع لابن رشد ما اعتذر به — كما يذكر ابن أبي أصيبعة١٤ — من أنه كتب «ملك البَرَّيْن»، يُريد إفريقية والأندلس، ولكن القارئ غلط لتقاربهما في الكتابة.

وكذلك يروي المراكشي أيضًا أن جماعة من أهل قرطبة الذين كانوا يُنازعون ابن رشد المجد والشرف، أخذوا يتلمسون الوسائل لإيغار صدر الخليفة عليه، كما يحدث كثيرًا بين النظراء في كل بلد، وأسعدهم الحظ بأن رأوه كتب بخطه في بعض تلاخيصه حاكيًا عن بعض قدماء الفلاسفة: «فقد ظهر أنَّ الزُّهَرة أحد الآلهة.» فطاروا بهذه الجملة للمنصور وأوهموه أنَّها من كلام ابن رشد نفسه، وليست حكاية منه لقول غيره من قدماء الفلاسفة.

وكان أن استدعاه الخليفة في محفل ضم رجال الدين والرؤساء والأعيان، وبعد مُحاكمة صورية لا ظل فيها للعدل أمر بطرده ونفيه ونفي من كان معروفًا على مذهبه، وبإحراق كتب الفلسفة كلها ما عدا الطب والحساب وما يتوصل به من علم النجوم إلى معرفة مواقيت الصلاة واتجاه القبلة.١٥
ثم أمر الخليفة بكتابة منشور للبلاد كلها فيه فضيحة هؤلاء وتقرير مروقهم من الدين، ووجوب الاعتبار بهم وبمصيرهم، وقد روى الأنصاري هذا المنشور بعد أن تكلم عن حياة ابن رشد، وعن السعايات التي كانت ضده من أعدائه الذين كانوا لا يسأمون من الانتظار، ويترقبون أوقات الفرار، فقال:١٦ «… فلما كان التلوُّم من المنصور بمدينة قرطبة، وامتد بها أمد الإقامة، وانبسط الناس لمجالس المذاكرة، تجددت للطالبين آمالهم وقويَ تألبهم واسترسالهم؛ فأدْلوا بتلك الألقيات، وأوضحوا ما ارتقبوا فيه من شنيع السوءات الماحية لأبي الوليد كثيرًا من الحسنات، فقرئت بالمجلس، وتُدُووِلت أغراضها ومعانيها وقواعدها ومبانيها، فخُرِّجت بما دلَّت عليه أسوأ مخرج، ورُبَّما ذَيَّلها مكر الطالبين.»

فلم يمكن عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريعة الإسلام، ثم آثر الخليفة فضيلة الإبقاء، وأغمد السيف التماس جميل الجزاء، وأمر طلبة مجلسه وفقهاء دولته بالحضور بجامع المسلمين، وتعريف الملأ بأنه مرَق من الدين، وأنه استوجب لعنة الضالين، وأضيف إليه القاضي أبو عبد الله بن إبراهيم الأصولي في هذا الازدحام، ولُفَّ معه في حريق هذا الملام، لأشياء أيضًا نُقمت عليه في مجالس المذاكرة وفي أثناء كلامه مع توالي الأيام.

فأُحضرا بالمجلس الجامع الأعظم بقرطبة، وتكلم القاضي أبو عبد الله بن مروان فأحسن، وذكر ما معناه أنَّ الأشياء لا بُدَّ في كثير منها أن تكون لها جهة نَافِعَة وجهة ضَارَّة كالنار وغيرها، فمتى غلب النافع على الضار عُمل بحسبه، ومتى كان الأمر بالضد فبالضد.

فابتدر الكلامَ الخطيب أبو علي بن حجاج، وعرَّف الناس بما أمر به من أنهم مرقوا من الدين وخالفوا عقائد الموحدين، فنالهم ما شاء الله من الجفاء، وتفرقوا على حُكم من يعلم السر وأخفى.

ثم أمر أبو الوليد بسكنى «أليسانه»، لقول من قال: إنه ينسب في بني إسرائيل وإنه لا يعرف له نسبة في قبائل الأندلس. وعلى ما جرى عليهم من الخطب، فما للملوك أن يأخذوا إلا بما ظهر، فإليهما تنتهي البراعة في جميع المعارف، وكثير من انتفع بتدريسهم وتعليمهم، وليس في زمانهما من هو بكمالهما ولا من نسج على منوالهما، وتفرق تلاميذ أبي الوليد أيدي سَبَا، ويُذكر أنَّ من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة.

وأخبر عنه أبو الحسن بن قُطرال أنه قال: أعظم ما طرأ عليَّ في النكبة أني دخلت أنا وولدي عبد الله مسجدًا بقرطبة، وقد حانت صلاة العصر، فثار لنا بعض سِفْلة العامة فأخرجونا منه.

وكتب عن المنصور في هذه القضية كاتبه أبو عبد الله بن عياش كتابًا إلى مراكش وغيرها يقولُ فيه فيما يخص حالهما (هذا هو المنشور): وقد كان في سالف الدهر قوم خاضوا في بحور الأوهام، وأقرَّ لهم عوامهم بشغوف عليهم في الأفهام، حيث لا داعي يدعو إلى الحي القيوم ولا حاكم يفصل بين المشكوك فيه والمعلوم، فخلَّدوا في العالم صحفًا ما لها من خلاق، مسودَّة المعاني والأوراق، بعدها عن الشريعة بُعد المشرقين وتبايُنُها تباين الثقلين، يوهمون أن العقل ميزانها والحق برهانها، وهم يَتَشَعَّبون في القضية الواحدة فرقًا، ويسيرون فيها شواكل وطرقًا، ذلكم بأنَّ الله خلقهم للنَّار وبعمل أهل النار يعملون، ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يُضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون.

ونشأ منهم في هذه السمحة البيضاء شياطين إنس يُخَادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ، يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ، فكانوا عليها أضرَّ من أهل الكتاب وأبعَدَ عن الرَّجعة إلى الله والمآب؛ لأنَّ الكتابي يجتهدُ في ضَلال ويجدُّ في كلال، وهؤلاء جهدهم التعطيل وقُصاراهم التمويه والتخييل.

دبَّت عقاربهم في الآفاق بُرهة من الزَّمان، إلى أن أطلعنا الله سبحانه منهم على رجال كان الدهر قد أملى لهم على شدة حروبهم، وعفا عنهم سنين كثيرة على كثرة ذنوبهم، وما أملى لهم إلا ليزدادوا إثمًا، وما أُمْهِلوا إلا ليأخذهم الله الذي لا إله إلا هو وَسِعَ كل شيء علمًا.

وما زلنا وصل الله كرامتكم نذكِّرهم على مقدار ظننا فيهم، وندعوهم على بصيرة إلى ما يقودهم إلى الله سبحانه ويدنيهم، فلمَّا أراد اللهُ فضيحة عَمايتهم وكشف غوايتهم، وُقِف لبعضهم على كتب مسطورة في الضلال، موجبة أخذَ صاحبها بالشمال، ظاهرها موشح بكتاب الله، وباطنها مصرح بالإعراض عن الله، لُبِس منها الإيمان بالظلم، وجيء منها بالحرب الزَّبون في صورة السلم، مزَلة للأقدام، وهم يدب في باطن الإسلام، أسياف أهل الصليب دونها مفلولة، وأيديهم عما يناله هؤلاء مغلولة، فإنهم يوافقون الأمة في ظاهرهم وزِيِّهم ولسانهم، ويُخالفونهم بباطنهم وغَيِّهم وبهتانهم.

فَلمَّا وقفنا منهم على ما هو قذى في جفن الدين، ونكتة سوداء في صفحة النور المبين، نبذناهم في الله نبذ النواة، وأقصيناهم حيث يقضي السفهاء من الغواة، وأبغضناهم في الله كما أننا نحب المؤمنين في الله، وقلنا: اللهم إنَّ دينك هو الحق المبين، وعبادك هم الموصوفون بالمتقين، وهؤلاء قد صدفوا عن آياتك وعميت أبصارهم وبصايرهم عن بيِّناتك، فباعد أسفارهم وألحق بهم أشياعهم حيث كانوا وأنصارهم.

ولم يكن بينهم إلا قليل وبين الإلجام بالسيف في مجال ألسنتهم، والإيقاظ بحده من غفلتهم وسِنَتهم، ولكنهم وقفوا بموقف الخزي والهوان، ثم طُرِدُوا من رحمة الله، وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.

فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمة على الإيمان، حذَرَكم من السموم السارية في الأبدان، ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يُعذَّب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه ومآبه، ومتى عُثر منهم على مُجِدٍّ في غلوائه، عَمٍ عن سبيل استقامته واهتدائه، فَلْيُعاجَل فيه بالتثقيف والتعريف، وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ، وأُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.

والله تعالى يُطهر من دنس الملحدين أصقاعكم، ويكتب في صحائف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم، إنه منعم كريم.

وبعد أن روى الأنصاري اتهام ابن رشد بالمروق من الدين والحكمَ بنفيه، والمنشورَ الذي صَدَر على أثر هذا على ذلك النحو، نقل عن أحد رجال القضاء الذين اتصلوا بابن رشد بقرطبة أنَّه رغم رعاية فيلسوفنا لشعائر الدين كما ينبغي قد زلَّ زلة هي أعظم الزلات.

وذلك أنَّه شَاعَ أنَّ ريحًا عاتية تهبُّ في يوم كذا تهلك الناس، واستفاض ذلك حتى اشتد جزع الناس واتخذوا الغِيران والأنفاق تحت الأرض توقِّيًا منها، فاستدعى والي قرطبة طلبتها وقاضيها — وهو ابن رشد — وفاوضهم فيها، وكان معهم ابن بُندود.

فلمَّا انفض الجمع تكلم هذان في شأن هذه الرِّيح، فقال أبو محمد عبد الكبير، وكان حاضرًا في أثناء المُفاوضة: إن صحَّ أمر هذه الريح فهي ثانية الريح التي أهلك الله تعالى بها قوم عاد؛ إذ لم تُعلم ريح بعدها يعم إهلاكها، فانبرى له ابن رشد ولم يتمالك أن قال: والله وجود قوم عاد ما كان حقًّا، فكيف سبب هلاكهم! فسُقِط في أيدي الحاضرين، وأكبروا هذه الزلة التي لا تصدر إلا عن صريح الكفر والتكذيب لما جاءت به آيات القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

•••

تلك هي الأسباب التي ذكرها المؤرخون المُسلمون لنكبة ابن رشد، فهل كانت وحدها الأسباب الحقيقة؟ أو هناك سبب آخر أهم منها جميعًا؟ ذلك ما بحثه المستشرقون الذين عُنوا بتأريخ التفكير الإسلامي ورجاله في المشرق والمغرب.

ها هو ذا «مونك» يرى مع ذلك أنَّ تعصب الموحدين يكفي وحده لتفسير تصرف المنصور ضد ابن رُشد، ويستشهد لهذا أنَّ ابن أبي أُصيبعة ذكر في حياة ابن زُهر أنَّ المنصور أمره بعقاب الذين يدرسون الفلسفة الإغريقية، وبمُصادرة كتب الفلسفة والمنطق وإحراقها، سواء ما يُوجد منها في المكتبات العامَّة أو الخاصة المملوكة للأفراد.١٧
وكذلك يذهب «رينان» إلى هذا الرأي؛ إذ يرى أنَّ التعصب ضد الفلسفة ورجالها وطلابها كان السبب الحقيقي للمحنة التي عاناها ابن رشد، وذلك إذ يقول: «ومهما يكن ما يقُصُّه علينا هؤلاء المؤرخون، فإنَّه مما لا يشك فيه أنَّ الفلسفة كانت السبب الحقيقي لنكبة ابن رشد، فقد خلقت له أعداء أقوياء أمكنهم أن يجعلوه مشتَبَهًا في دينه لدى المنصور، وكذلك كان الأمر بالنسبة لأمثاله الذين يُثير ما لهم من جاه ونفوذٍ أعداءهم وخصومهم، فيكونون غرضًا للاتهام.»١٨

ثم يُؤكد بعد بضع صفحات من كتابه، فيذكُر أنَّ كل الفلاسفة الإسبانيين في عصر ابن رشد كانوا مثله غرضًا للاضطهاد، ويُعلل هذا الرَّأي الذي انتهى إليه بأنَّ الموحدين يرجعون مباشرة إلى مدرسة الغزالي، فإنَّ مؤسس هذه الأسرة في إفريقية كان أحد تلامذة هذا العدو الشديد للفلسفة، ويسوق قبل هذا وبعده مُثُلًا مُتعددة لاضطهاد الفلاسفة أيضًا في غير الأندلس من نواحي العالم الإسلامي.

على أنه ينبغي للباحث أن يتساءل بعد هذا وذاك عَمَّا إذا كان تعصب الموحدين ضد الفلسفة، كما يرى مونك ورينان، هو السبب الحقيقي الذي يكفي لتعليل نكبة ابن رشد وأصحابه.

لقد ساق «مونك» وهو بسبيل التدليل لرأيه ما سَبَقَ أن ذكرناه من تكليف المنصور لأبي بكر بن زُهر إعدامَ كتب الفلسفة والمنطق، وأخذَ المُشتغلين بها بالعقاب، ولكن فاته أن المؤرخ الذي أورد هذا الخبر — وهو ابن أبي أصيبعة — ذكر أنَّ المنصور خص ابن زُهر بذلك لكي «إن كان عنده شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يُقال إنَّه يشتغل بها ولا يناله مكروه بسببها.»١٩ ولهذا لما اتهمه بعض أعدائه بأنَّه مَعْنِيٌّ بالحكمة وعنده الكثير من كتبها، وشهد معه كثيرون بذلك، كان جزاؤه السجن وردَّ قولِه لما يعرفه المنصور كما قال في ابن زُهر «من متانة دينه وعقله.»٢٠

وكذلك ساق نفس المؤرخ على أثر ما تقدم أن ابن زُهر هذا كان له تلميذان يدرسان عليه الطب، فأتياه يومًا ومعهما كتاب في المنطق، فلمَّا عرفه رمى به وقام ليضربهم فجروا أمامه وهو يعدو وراءهم حتى فاتوه.

وبعد بضعة أيام حضرا مُعتذرين بأنَّهم لم يكونا يعرفان ما في هذا الكتاب الذي أخذاه من غلام وهما في طريقهما إليه، فتظاهر بقبول ما اعتذرا به، ثم أمرهم بحفظ القرآن، والاشتغال بالتفسير والحديث والفقه، والمواظبة على رعاية الأمور الدينية؛ فلمَّا امتثلا لأمره وصارت تلك الأمور عادة لهما، أخرج لهما كتاب المنطق وقال: «الآن صلحتم لأن تقرءوا هذا الكتاب وأمثاله عليَّ، وأشغلهم فيه.»٢١

•••

من هذا يظهر لنا أن بعض المشتغلين بالفلسفة كانوا غير أهل لها؛ إذ كانوا لا يقدرون على فهم ما تُثير من مسائل ومشاكل، ورُبَّما كان الواحد منهم يخرج بسببها عن بعض ما جاء به القرآن، ويكونون بذلك سببًا لإثارة رجال الدين ومن يليهم، واضطهاد الفلسفة ورجالها، وهذا فرضٌ قريبٌ من الحقيقة على ما يلوح لنا إذا لاحظنا أنَّ القُرآن حضَّ في كثير من آياته على النظر العقلي فيما خلق الله من السماوات والأرض وما بينهما من عوالم مختلفة.

ولسنا نقصد بهذا إنكار أن الفلسفة كانت علمًا ممقوتًا في الأندلس في بعض الأزمان، فلا يكادُ يسلم المشتغل بها من اضطهاد، ولا أن نُنكر أنَّ بعض الذين عُنوا بها قُتلوا في سبيلها، وبعضهم كانت حياتهم عرضة للخطر بسببها، هذا وذاك حق لا سبيل لإنكاره، وقد زخرت كتب التاريخ بكثير من الأدلة عليه.٢٢

ولكننا نَرى مع ذلك أنَّ اضطهاد الفلاسفة بعامَّة وابن رشد بخاصة، كان من أسبابه الهامَّة التي ليس من الحق إغفالها ما كان يُرَى من خروج بعضهم فيما ذهب إليه من آراء عن بعض ما جاء به الدين بلا ريب، إمَّا في الواقع وإما لأنَّ الجهل يُخيل ذلك للعامَّة ورجال الدين، فيندفعون للتعصب ضدهم ويُجاريهم الوُلَاةُ والأمراء والخُلفاء أحيانًا كسبًا لقلوبهم، واستدامة لسلطانهم، أو لأنهم يرون أنهم على حق.

وهل من الدَّلائل على صحة ما نَراه أنَّ الخليفة المنصور نفسه لم يرَ بأسًا في اشتغال أبي بكر بن زُهر بالفلسفة التي حرَّم الاشتغال بها؛ وذلك لما يعلمه فيه من متانة دينه وعقله، وأن ابن زُهر هذا أبى على اثنين من تلاميذه أن يشتغلا بشيء منها قبل إتقان علوم الدين واعتياد القيام بالشعائر الدينية، ثم أباح لهما ذلك عندما وصلا إلى ما أراد منهما.

وكذلك من الأدلة على صحة ما نذهب إليه: ما رواه الأنصاريُّ من حادث الريح وتكذيب ابن رشد بقوم عاد والريح التي أهلكتهم، فإذا صح هذا كانت نكبة ابن رشد بسبب تكذيبه بما جاء به القرآن، لا بسبب أنه كان مُشتغلًا بالفلسفة فحسب.

ولنا أن نستدل أيضًا بأنَّ هذا الخليفة الذي نكب ابن رشد وأصحابه، قد ساءه كثرة الآراء في الفقه؛ حتى لتكون في المسألة الواحدة خمسة أقوال، فعمل على محو مذهب الإمام مالك الذي كان معمولًا به أيامه، وأمر بإحراق كتبه وحمل الناس على العمل بالقرآن والحديث فقط، وتوعد من يُخالف ذلك بالعقاب الشديد، وهذا المقصد كما يقول المراكشي، كان مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره هو في عهده.٢٣
وإذن، فما كان من نكبة ابن رشد واضهاده مع غيره من الفلاسفة يرجعُ، فيما يرجع إليه من أسباب، إلى الرَّغبة في وضع حد للتفكير يحول بينه وبين التطرف، سواءٌ أكان ذلك في الفلسفة أم في الأحكام الشرعية، وذلك حتى لا يشتد خلاف الفقهاء وتتعدد الآراء وتتشعب في الدِّين، وحتى لا يُؤدي التفلسف إلى معارضة شيء مما جاء به القرآن أو الدين بصفة عامة.٢٤
وبخاصة وقد كان هذا الخليفة المنصور رجلًا مجيدًا لحفظ القرآن ومتون الأحاديث، مُتمسكًا بالدين مُعليًا لسُلطانه، مُشددًا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما كان محبوبًا من الشعب حبًّا شديدًا، حتى بلغ الحال أنه لما مات سنة ٥٩٥ﻫ كذَّب العامة خبر موته، فكان منهم من يرى أنه ترك الملك وساح في الأرض، وهو مستخفٍ لا يُعرف مكانه.٢٥

•••

ومهما كانت الأسباب التي أدَّت إلى نكبة ابن رشد وصحبه، فقد نُفي هو إلى «أليسانة» كما قلنا من قبل، ونُفي أربعة آخرون أمروا أن يكونوا في أماكن أُخرى، وبهذا طرد الحزب الديني الحزب الفلسفي كما يقول رينان.٢٦
وانتهز أعداء ابن رشد وخصومه هذه الفرصة، فأخذوا في هجوه بأشعارهم وامتداح الخليفة المنصور على ما صنع به وبأصحابه، ونكتفي من ذلك ببعض ما قال الحاج أبو الحسين بن جبير:٢٧
الآن قد أيقن ابن رشد
أن تواليفه تَوَالف
يا ظالمًا نفسه تأمَّل
هل تجد اليوم من تُوَالف!

•••

لم تلزم الرشد يابن رشد
لما علا في الزمان جَدُّك
وكنت في الدين ذا رياء
ما هكذا كان فيه جَدُّك

•••

الحمد لله على نصره
لفِرقة الحق وأشياعه
كان ابن رشد في مدى غيه
قد وضع الدين بأوضاعه
حتى إذا أوضع في طُرْقه
توَّى لفيه عند إيضاعه
فالحمد لله على أخْذه
وأخْذ من كان من اتْباعه

•••

نفذ القضاء بأخذ كل مموِّه
متفلسف في دينه متزندق
بالمنطق اشتغلوا فقيل حقيقة
إنَّ البلاء مُوكَّل بالمنطق
خليفة الله أنت حقًّا
فارْقَ من السعد خير مرْقًى
حميتم الدين من عِداه
وكلِّ مَن رام فيه فتقًا
أطلعك الله بسرِّ قوم
شقُّوا العصا بالنفاق شقًّا
تفلسفوا وادَّعوا علومًا
صاحبها في المعاد يشقى
واحتقروا الشرع وازْدَرَوْه
سفاهةً منهمُ وحمقًا
أوسَعْتهم لعنة وخزيًا
وقلت: بعدًا لهم وسحقًا
فابقَ لدين الإله كهفًا
فإنك ما بقيت يبقى

•••

خليفة الله دُمْ للدين تحرسه
من العدى وتقيه شرَّ كلِّ فِئَهْ
فالله يجعل عدلًا من خلائقه
مطهِّرًا دينه في رأس كل مِائَهْ

ولكن شاءت عدالة الله ألا تطول مدة محنة ابن رشد، فإن المنصور تغير حاله بعد أن عاد إلى مراكش، ومال من جديد للفلسفة وأهلها، وألغى مرسومه بتحريمها، وشهد لديه جماعة بحسن دين ابن رشد وعقيدته، وأنَّه على غير ما نُسب إليه، فعفا عنه وعن أصحابه سنة ٥٩٥ﻫ واستدعاه إلى مراكش ليكون بحضرته.

إلا أنه لم يلبث طويلًا، فقد توفي بمراكش في العام نفسه قبل وفاة الخليفة بيسير، وحُملت رُفاته إلى قرطبة بعد ثلاثة أشهر حيثُ دُفنت بمقبرة أسرته، وبموته فقدت الفلسفة أكبر نصرائها بالأندلس والعالم الإسلامي عامة.

(٣) مؤلفاته

ألف ابن رشد كتبًا ورسائل كثيرة في الفقه، والطب، والفلك، والإلهيات، والفلسفة بصِفَةٍ عَامَّة، وغير ذلك كله من العلوم التي كانت معروفة في عصره، وليس من الضروري في هذا البحث سَرْد هذه المؤلفات والشروح وترتيب كتابتها زمنيًّا، وبخاصة أننا لن نأتي في هذا بجديد كثير.

ويكفي لمعرفتها الرجوع إلى ابن أبي أُصيبعة، وابن الأبار، والذهبي، وإن كان هذا الأخير لم يعمل أكثر من نسخ ما ذكره الأوَّلان.٢٨ وكذلك يجبُ الرجوع إلى القائمة الهامَّة التي تحوي مُؤلفاته في المخطوطة رقم ٨٨ بمكتبة الإسكوريال بإسبانيا، وإلى ما كتبه «رينان» في كتابه «ابن رشد ومذهبه» بالفرنسية.٢٩ فهو أكثر ضبطًا وتفصيلًا، فقد عرض أولًا للرسائل الفلسفية، ثم إلى مؤلفاته في علم الكلام، وعلم الفقه، والفلك والنجوم، والنحو، والطب، وأخيرًا إلى نشرة الأب بويج عن مخطوطات ابن رشد الموجودة في أنحاء العالم.

وينبغي أن نُلاحظ أَنَّ ما نُشر بالعربية من مؤلفات فيلسوف الأندلس وشروحه لأرسطو، أقل جدًّا مما لم يُنشر حتى اليوم بهذه اللغة، وأنَّ كثيرًا مما كتبه يوجد حتى اليوم باللغة العبرية أو اللاتينية؛ ولذلك نرى واجبًا أن تهتم مصر وغيرها من البلاد العربية بنشر كل تراث هذا الفيلسوف العظيم، ومن الخير أن تهتم بذلك الإدارة الثقافية بجامعة الدول العربية، فتؤلف لهذا لجنة من العلماء المُختصين الكُفاة كما صنعت فيما يختص بابن سينا ومؤلفاته.

١  كتاب الصلة في تاريخ أئمة الأندلس وعلمائهم، ومحدثيهم وفقهائهم وأدبائهم، طبع مدريد سنة ١٨٨٢م، نبذة ١٥٤ ص٥١٩. وراجع بغية الملتمس في تاريخ رجال الأندلس للضبي، طبع مدريد سنة ١٨٨٤م، نبذة ٢٤ ص٤٠.
٢  نفح الطيب، ج١، ٩٨.
٣  التكملة لكتاب الصلة، وهو مؤلف هام في دراسات ابن رشد ومنزلته، طبع مدريد سنة ١٨٨٦م، نبذة ٨٥٣ ج١، ٢٦٩-٢٧٠.
٤  طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ج٢، ٧٥، طبع القاهرة سنة ١٨٨٣م.
٥  التكملة لابن الأبار، ج١، ٢٢٩، وكذلك يجعله ابن سعيد إمام الفلسفة في عصره، نفح الطيب ج٢، ١٢٥.
٦  ابن الأبار، ج١، ٢٦٩، الملحق الأول لكتاب رينان ص٤٣٥.
٧  ابن أبي أصيبعة، ج٢، ٧٦ في ترجمة ابن رشد، ص٧٥ في ترجمة الترجالي، وهنا يذكر أن ابن جعفر هذا كان «محققًا للعلوم الحكمية متقنًا لها، معتنيًا بكتب أرسطو وغيره من الحكماء المتقدمين.»
٨  مونك ص٤١٩-٤٢٠، ورينان ص١٤، عن طبقات الأطباء ج٢، ٦٣.
٩  المعجب في تلخيص أخبار المغرب، نشر دوزي وطبع ليدن سنة ١٨٨١م، ص١٧٤-١٧٥.
١٠  نفسه، ص١٧٥.
١١  طبقات الأطباء، ج٢، ٧٧.
١٢  نفسه، ص٧٦.
١٣  المعجب، ص٢٢٤.
١٤  طبقات الأطباء، ج٢، ٧٧.
١٥  المعجب، ص٢٢٤-٢٢٥.
١٦  رأينا أن نأتي بأقوال الأنصاري بنصها على طولها؛ وذلك لأنها وثيقة لها خطرها في تقرير تبعة ابن رشد وتبعة خصومه، نقلًا عن مخطوط بالمكتبة الأهلية بباريس، ونشر هذا النص بالملحق العربي لكتاب «ابن رشد ومذهبه»، ص٤٣٧ وما بعدها.
١٧  مزيج من الفلسفة اليهودية والعربية، ص٤٢٦-٤٢٧.
١٨  ابن رشد ومذهبه، ص٢٢-٢٣.
١٩  طبقات الأطباء، ج٢، ٦٩.
٢٠  طبقات الأطباء، ج٢، ٦٩.
٢١  هذا الحادث رواه «رينان» ص٣٤-٣٥، دون أن يلتفت إلى دلالته على عدم الحجر على الاشتغال بالفلسفة للقادر عليه، بعد أن يحصل العلوم الشرعية ويأمن على دينه وعقله.
٢٢  راجع مثلًا النفح الطيب ج١، ١٣٦، تاريخ الحكماء للقفطي ص١٥٤ من طبعة القاهرة سنة ١٣٢٦ﻫ، طبقات الأطباء ج٢، ٦٢ و١٦٧، طبقات الأمم لصاعد الأندلسي ص٧٥ و٧٦، المعجب للمراكشي ص١٠٢-١٠٣.
٢٣  يذكر المراكشي ص٢٠٣ نقلًا عن بعض العلماء، أنه دخل على أبي يعقوب المنصور فوجد بين يديه كتابًا في الفقه، وابتدأ يبدي تأمله من كثرة الآراء المتشعبة في الدين، وختم كلامه بقوله: ليس إلا هذا — وأشار إلى المصحف — أو هذا — وأشار إلى كتاب سنن أبي داود وكان عن يمينه — أو السيف!
٢٤  المعجب، ص٢٠٣.
٢٥  ذكر ابن خلكان، ج٢، ٤٨٦، هذه الإشاعة، وكذلك المقري، ج٢، ٧٢ و٦٩٦، وعقب عليها بأنها لا أصل لها اخترعها العامة؛ إذ عز عليهم أن يصدقوا موت هذا الملك العظيم الذي أحبوه حبًّا جمًّا.
٢٦  ابن رشد ومذهبه، ص٢٤.
٢٧  ملحق كتاب رينان، ص٤٤٥-٤٤٦.
٢٨  طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، ص٧٧-٧٨، ولكنه ذكر كتابين ليسا له، بل هما لجدِّه وهما: كتاب التحصيل، والمقدمات في الفقه، ويُرجع في التكملة لابن الأبار إلى ص٢٧٠، ولم يذكر إلا أربعة كتب: في الفقه، وأصول الفقه، وفي الطب، وفي اللغة العربية.
٢٩  راجع ص٦٤ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤