التوفيق عند سابقي ابن رشد
الإحساس بالحاجة للتوفيق بين الدين والفلسفة أمرٌ طبيعيٌّ يُحِسُّه المؤمن المفكر أو الفيلسوف، ومُحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حدٍّ كبير واجبًا لازم الأداء، وذلك ليُحقق الانسجام بين مُعتقده الديني العامر به قلبُه، والذي يعتبره فوق كل شك، وإن عسر عليه أحيانًا أن يُدرك بعض ما جاء به مما لا يتفق تمامًا والنظر العقلي الصحيح كما سيجيء.
لهذا نجد أمر بحث أو تقرير العلاقة بين الدين والفلسفة له أصله الإغريقي الذي لا يُنكَر، ونجد تقريبًا كل المدارس الفلسفية في العصر القديم تحتفظ بمكان صغير تارة وكبير تارة أخرى للمسائل الدينية، كما نجد مثل هذا لدى «فيلون» اليهودي وأمثاله بالإسكندرية، وعند بعض آباء الكنيسة في العصر الوسيط، بل إنَّ بحث العلاقة بين الدين والفلسفة أو الوحي والعقل، على أي أساس تقوم، كانت طابع التفكير في العصر الوسيط.
- (١)
الاعتداد بالأولى ورفض الثانية، وهذا موقف رجل الدين غير المتفلسف.
- (٢)
أن يكون الأمر بالعكس، وهذا يكون موقف المتفلسف الذي لا يبالي العقيدة.
- (٣)
لم يبقَ إلا هذا الوضع الأخير، وهو مُحاولة التوفيق بين هذين الطرفين على أي نحو من الأنحاء، وهذا هو الوضع الذي يجبُ أن يتخذه الفيلسوف المؤمن، أو الذي يجبُ أن يبالي العقيدة على ما سنرى.
وسنعرف في الفصل الآتي أن كلًّا من هذه الأوضاع الثلاثة كان له ممثلون بين الذين عُنُوا بهذه النَّاحية من التفكير من الفلاسفة أو رجال الدين فيما مضى من التاريخ حتى الآن.
وفضلًا عن هذا كله، فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتُوجب الإصلاح بين المُتخاصمين، والتوفيق بين الأطراف المُتنافرة، وإن الذي درس تاريخ الإسلام وخاصة الناحية العلمية منه، نقول: إنَّ الذي يفهم روح الإسلام ودرس تاريخ العلوم الإسلامية، يرى بصفة عامَّة أن روح التوفيق كانت طابعًا للمسلمين في كثير من نواحي التفكير.
حقًّا؛ إنه كان كلما وُجدت مدارس مختلفة أو متعارضة، وُجد بجانبها مدارس متوسطة تُحاول التوفيق بينها، وتصل ما تباعد منها، والتاريخ قديمه وحديثه شاهد صدق على ما نقول.
وفي التشريع نجدُ مذهب مالك يعتمد على الحديث بعد القرآن، والمذهب الحنفي يعتمد على الرَّأي ونظر العقل واجتهاده، فجاء الشافعي بمذهبه بين هذين الطرفين المتعارضين.
وفي الفلسفة نجد مُحاولة الفارابي الشهيرة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، كما نجد أنَّ من مُميزات المشَّائين العرب بصفة عامة نزعة التوفيق بين كثير من المذاهب الفلسفية.
فإذا كانت هذه النزعة من النزعات الغالبة على مُفكري المسلمين بصفة عامة في جميع فروع التفكير، فبالأولى يعمل الفلاسفة الإسلاميون على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، وبين الفلسفة القائمة على العقل وأدلته!
- (أ) بُعد شُقة الخلاف بين الإسلام وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل.٣
- (ب) مُهَاجمة كثير من رجال الدِّين لكل بحث عقلي لا يتقيد في نتائجه بالعقيدة المُقررة سابقًا، ويتبع هذا في أغلب الحالات اضطهاد الشعب والأمراء للمفكرين الأحرار — ولو نوعًا ما — مدفوعين بدوافع لا تتصل بسبب متين بالدين في الحقيقة في كثير من الأحيان.٤
- (جـ)
وأخيرًا، رغبة الفلاسفة أنفسهم في أن يكونوا بمنجاة من هذا كله؛ ليستطيعوا العمل في هدوء، ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الدين.
من أجل ذلك كله نجد كل فلاسفة الإسلام، كغيرهم من المُتكلمين والمُفكرين حاولوا هذا التوفيق، سواء من تقدم به الزَّمن على ابن رشد ومن تأخر، مع اختلاف في الطرق التي اصطنعوها والجهود التي خصصوها لبلوغ الهدف المطلوب، ومع تفاوت في مبلغ ما صادفوه من نجاح.
ويطول بنا الحديث، بل نخرج عن الحدود المرسومة لعملنا إذا تكلمنا عن كل الجهود التي بذلت في هذه النَّاحية من مفكري الإسلام وفلاسفته؛ لذلك نكتفي بأن نُشير إلى ما كان من هذه الجهود قبل ابن رشد في المشرق من الكندي والفارابي والسجستاني ومسكويه وابن سينا، وما كان منها في المغرب من البطليوسي وابن باجة وابن طفيل.
وبهذا نستطيع معرفة مقدار كفاية هذه الجهود أو عدم كفايتها في هذا السبيل، ونتبين مقدار الحاجة لرجل قوي الشكيمة ثاقب الفكر كابن رشد، فيخصص جانبًا كبيرًا من نشاطه الفلسفي للتوفيق بين الإسلام، الذي كان من أكبر رجاله وممثليه، والفلسفة التي كان من أعلامها، ولنبدأ في هذا العرض الموجز بالكندي أول الفلاسفة.
(١) في المشرق (الكندي، الفارابي، السجستاني، مسكويه، ابن سينا)
(١-١) الكندي
وقد كان مؤرخ الفكر والفلسفة الإسلامية إلى الأمس القريب يقنع بهذه الأحكام ونحوها من ابن النديم وابن أبي أصيبعة والبيهقي، ونحوهم ممن ترجموا لحُكماء الإسلام ومُفكريه، إذا لم يجد لهم من المُؤلفات ما يعينه على تعرف نزعاتهم واتجاهاتهم في تفكيرهم.
وكان الباحث عن طابع تفكير الكندي ونزعته واتجاهه، لا يلجأ فيما يلجأ إليه إلا إلى أسماء كتبه ومؤلفاته، فيُحاول أن يجد منها سندًا للرأي الذي ينتهي إليه.
إنَّ نشر هذه الرَّسائل ومعرفة موضوعاتها كما يتبين من عناوينها، يدعو بلا ريب إلى تعديل كثير في بعض آراء الباحثين في الكندي وفلسفته قبل أن يطلعوا عليها، بل قد يدعو إلى تعديل حكم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة المسلمين.
وفي رسالته إلى المُعتصم بالله في الفلسفة الأولى، يذهب الكندي إلى أنَّ الدين لا يختلف عن الفلسفة، «لأنَّ في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضارٍّ والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعًا هو الذي أتت به الرُّسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحدَه، وبلزوم الفضائل المرتضاة …»
وتفسيرُ هذا التناقض في رأي الكندي يرجِعُ عندنا إلى أنه كتب رسالته إلى المُعتصم في وقت كان يذهب فيه ذلك المذهب، وكتب رسالة «كمية كتب أرسطوطاليس» في وقت آخر، وعدل فيه عن رأيه الأول.
أمَّا رأيه الأول فهو: أنَّ الدين والفلسفة شيء واحد؛ لأنهما يبحثان معًا عن الحقيقة، والحقيقة واحدة، وطريقهما البرهان.
وأمَّا رأيه الثاني فهو: أنَّ الفلسفة غير الدين؛ لأنَّ طريق الفلسفة البحث والنظر بالعقل، وطريق الدين الإلهام والوحي عن طريق الشرع.
وكذلك سنعرف عما قليل أنَّ الكندي قال بحدوث العالم، وكأنه قد أحسَّ أنَّ القول بقِدمه لا يتفق وإثبات خالق له، كما هو العقيدة الإسلامية، وهذا معناه في نظرنا أنَّ الغزالي حين قرر أن الفلاسفة المسلمين جميعًا ذهبوا إلى القول بقِدم العالم، لم يكن اطلع على رأي الكندي في هذه المشكلة، وأنَّ عماده في تعرُّف رأي الفلاسفة هو على آراء الفارابي وابن سينا كما صرح بنفسه في كتابه «تهافت الفلاسفة».
•••
وبعد، ما هو رأي «فيلسوف العرب» في العالم وقِدمه أو حدوثه، وهي من المسائل الهامة التي كَفَّر الغزالي الفلاسفة من أجلها، وهي من المسائل التي يمكن بحثها مما نشر حتى اليوم من رسائله؟ نستطيع أن نُقَرِّر أنَّ الكندي يذهب إلى أنَّ العالم محدث لا قديم، وأنَّ الله هو الذي خلقه بعد عدم.
إنه حقًّا في رسالته «في حدود الأشياء ورسومها»، يعرِّف العلة الأولى بأنها «مبدعة، فاعلة، متممة الكل، وغير مُتحركة»، وحدُّ الإبداع هو الخلق عن عدم، أو هو كما يقول الجورجاني: «إيجاد الشيء من لا شيء»، «إيجاد شيء غير مسبوق بمادة ولا زمان»، وهو كما يذكر الكندي نفسه: «إظهار الشيء عن ليس»، أي عن عدم الوجود.
وإذن، ما دام الله هو الذي أبدع العالم، فيجبُ أن يكون العالم غير موجود، ولو بمادته قبل وجوده، والنتيجة تكون أنَّ العالم غير قديم.
وإن كان الباقي غير متناهٍ ثم أُضيف إليه ما فصل منه، كان المجموع أكبر طبعًا مما كان قبل، ولكنه قبلُ وبعد هو هو؛ لأنَّه غير مُتناهٍ، وإذن فاللامتناهي يُوصف بأنَّه أكبر وأصغر وهو تناقض.
وإذا ثبت هكذا أن جرم العالم متناهٍ، كان كل ما يرتبط به وما لا ينفصل عنه من مكان وحركة وزمان، مُتناهيًا ضرورة؛ لأنَّ الزمان هو مقياس الحركة الحاصلة عن الجرم، والجرم المتناهي حركته متناهية ضرورة، فيكون زمانها الناشئ عنها متناهيًا كذلك، ذلك بأنَّ الجرم والحركة والزَّمان لا يكون بعضها دون بعض ولا يسبق بعضها بعضًا.
وبعد ذلك؛ إذا ثبت هكذا أنَّ جرم العالم متناهٍ، كان غير قديم بلا شك، وإلا إذا كان لا أول لوجوده كان غير متناهٍ، وقد ثبت قبلُ أنه متناهٍ. «فيمتنع إذن أن يكون جرم لم يزل، فالجرم إذن محدث اضطرارًا، والمحدَث مُحدَث المحدِث، إذن المحدَث والمحْدِث من المضاف، فالكل محدث اضطرارًا عن ليس»، أي: عن عدم، وهذا الإحداث هو الإبداع، أي: الإيجاد عن عدم، كما سَبَق أن ذكر في رسالة الحدود.
•••
وهكذا نرى أنَّ الكندي يذهبُ في هذه المشكلة الهامَّة، مشكلة العالم وصلته بالله، مذهب رجال علم الكلام في زمنه بصفة عامة، مُخالفًا بهذا مذهب أرسطو حين ذهب إلى قدم العالم، وذلك ما ينبغي أن يُعتبر بلا ريب خطوة كبيرة في سبيل التوفيق بين العقيدة الإسلامية وفلسفة اليونان، كما عرفها المسلمون.
على أنَّنا فضلًا عما تقدم نأتي بدليل آخر لما نراه من أنَّ الفارابي مسبوق في هذا السبيل، وذلك أنَّ البيهقي ذكر في ترجمة أبي القاسم الحسين بن الفضل الرَّاغب أنَّه كان من حكماء الإسلام، وأنه هو الذي جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وأنَّ من كلامه: «بين العقل والشرع تظاهُر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.»
(١-٢) الفارابي
وإذا تركنا الكندي إلى من جاء بعده من فلاسفة المشرق، نجد أننا نسير بخطا أكثر ثباتًا واستقرارًا، وذلك أنَّ التاريخ حفظ لنا من مؤلفاتهم ما فيه كفاية لتعرُّف جهودهم في هذه السبيل، نعني سبيل التوفيق بين الدين والفلسفة، مندفعين إلى ذلك ببواعث ليس فيها — على ما نرى — الكثير من خشية تعصب العامَّة ورجال الدين، ومُحاولة اتقاء ما ينجم عادة من مثل هذا التعصب.
لقد عاش أبو نصر الفارابي حياة هادئة وادعة، أولًا ببغداد موطن تعلمه ودراسته، ثم انتقل منها إلى حلب، وأميرها سيف الدولة الحمداني المعروف بميله للعلم وتشجيعه للعلماء، والذي عاش فيلسوفنا في كنفه عيشة الزاهد المتصوف الذي لا تغيره رياسة ولا تهمه الدنيا ولا تفتنه أغراضها، وأخيرًا مات بدمشق، وقد رحل إليها صحبة أميره عام ٣٣٩ﻫ/٩٥٠م.
إذن كانت مُحاولته هذه التوفيق بين الوحي والعقل على ما نرى، لما رسخ في ذهنه من أنَّ الحقيقة واحدة وإن كان قد يعبَّر عنها بطرق مختلفة؛ ولذلك — صادرًا عن هذا المبدأ — حاول التوفيق بين «المُعلم الأول» وبين «أفلاطون» في كتابه المعروف: «الجمع بين رأيي الحكيمين». فلا عجب إذن حين نراه يُحاول التوفيق تطبيقًا لهذا المبدأ، بين الحقيقة التي جاءت عن التفلسف والحقيقة التي جاء بها الوحي النبوي.
- (١)
مذهبه في «الخلق» أريد به التوفيق بين الإله كما تصوره أرسطو وبين الإله كما جاء به الإسلام.
- (٢)
جَعْله لكلٍّ من الوحي والعقل مكانًا بجانب الآخر، وذلك بالتسليم بالنبوة والمعجزات والعقائد الدينية الكلامية السمعية، مع تفسير كل ذلك عقليًّا.
- (٣)
التفرقة بين الخاصة والعامة من الناس، وجعْل تعليم خاص لكلٍّ منهما، وبذلك يتوطد السلام بين التفكير الفلسفي والتفكير الديني.
فكرة الإله والخلق
الله في الإسلام هو الخالق لكل شيء، الذي لا يوجد شيء إلا بأمره، ولا يدوم إلا بحفظه، والذي يعلم كل شيء كبيرًا كان أو صغيرًا في أدق تفاصيله، والذي لا واسطة بينه وبين أحد من خلقه.
ومن أجل هذا كان هَمُّ الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة، وبين الإله كما جاء به القرآن، وإن كان لم يصحبه التوفيق في محاولته كما سنرى فيما بعد.
وليس من عملنا ولا من الممكن هنا أن نأتي بما ذهب إليه أبو نصر في هذه المشكلة؛ ولذلك نكتفي بأن نقول بإيجاز بأنه — مُستلهمًا أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة — قد انتهى إلى الذهاب إلى أنَّ الله هو الواحد والموجود الضروري من نفسه، والبريء من كل أنحاء النقص، والذي ليس بمادة، وهو مباين بجوهره لكل ما سواه، وليس مركبًا بوجه من الوجوه، فهو واحد من كل وجه.
وهكذا رأى الفارابي أنه وفَّق بين الإله كما جاء في الفلسفة وبين الإله كما جاء في القرآن! كما لم ينسَ أن ينسب لله كل صفات العظمة والجلال والكمال.
النبوة وما إليها
وإذن، على رأي الفارابي، النَّبي والفيلسوف يتصل كلٌّ منهما بالعقل الفعال، والفرق بينهما أنَّ الأول ينال هذه الرُّتبة بكمال قوته المُتخيلة بعد كمال القوة العاقلة طبعًا، على حين يصل إليها الفيلسوف بالنظر والتفكير، وليس هذا في رأينا بالفرق الكبير.
هكذا يرى «دي بور»، ونعتقد أنه نسي أنَّ المعلم الثاني يشترط في النبي فضلًا عن كمال القوة المُتخيلة، كمال القوة العاقلة، وذلك بأن يحصل له العقل بالفعل ثم العقل المستفاد الذي به — كما تقدم ذكره — يتصل بالعقل الفعال.
•••
يذكر الغزالي عن الفلاسفة المسلمين أنَّ النبي إنسان بلغت قوته المُتخيلة الغاية من القوة، ولم تستغرقها الحواس، فاستطاعت أن تطلع في اليقظة والنوم على اللوح المحفوظ، وانطبعت فيها صور الجزئيات الكائنة في المُستقبل، ويكون ذلك معجزة للنبي، كما بلغت قوته العاقلة النظرية الكمال أيضًا، فصار قويَّ الحَدْس، بمعنى سرعة الانتقال من معلوم إلى آخر من غير حاجة إلى تعلم، بل يكون كأنه متعلم من نفسه، ويعتبر هذا معجزة أيضًا ولكن من نوع آخر.
وكذلك أخيرًا بلغت قوته النفسية والعملية حدًّا تتأثر بها الأمور الطبيعية وتتسخر له، فكما أنَّ نفس الإنسان تؤثر في جسمه وتؤثر في نفوس غيره إذا كانت هذه القوة النفسية العملية قوية فيه، كذلك إذا بلغت هذه القوة درجة الكمال صار من الممكن أن تخضع لها أمور الطبيعة، ويكون ذلك من النَّبي معجزة له من ضرب ثالث.
ويجب أن يكون هذا الإنسان قد ملك العلم والحكمة بدرجة ينتقل منها من القوة إلى الفعل، وأن يكون له العقل الكامل، وأن يكون تفكيره ورغباته قد تخلصت من الأماني والأطماع التافهة الباطلة.
ويجبُ أن نعلم أيضًا أن فيض العقل الفعَّال هذا لو كان على قوة الإنسان العاقلة وحدها، لا على القوة المتخيلة أيضًا، كان هذا الإنسان من طبقة العلماء الذين يُعمِلون النظر والفكر، ولكن هذا الفيض إن تناول القوتين معًا، كان هذا الإنسان من طبقة الأنبياء.
وكذلك يجبُ أن نعلم أنَّ الأنبياء الحقيقيين لهم بلا ريب الإدراكات والمعرفة العقلية النَّظرية، التي لا يُمكن أن يصل إلى مثلها ولا إلى أسبابها المُفَكِّرون غير الأنبياء، أي: الذين يعتمدون على القوة النظرية وحدها، وحقًّا إنَّ الوحي الذي يفيض على القوة المُتخيلة للنبي متى وصلت إلى الكمال، يجعله قادرًا على التنبؤ بالمُستقبل ومعرفة الأمور الغيبية كما لو كان يدركها بحواسه.
أقول: هكذا يستمر ابن ميمون في عرضه لنظرية النبوة لدى فلاسفة الإسلام، إن هذا الوحي يكمِّل أيضًا القوة العقلية المفكرة، وذلك أنَّه بهذا الأثر يُدرك النبيُّ الوجود الحقيقي للأشياء، كأنه يصل إلى هذا بواسطة قضايا نظرية تقوم على العقل وتفكيره، فإنه حينئذ يكون العقل الفعَّال قد فاض على القوة العاقلة وجعلها تنتقل من القوة إلى الفعل، وبهذه القوة يصل الفيض أو الوحي من هذه القوة إلى القوة المُتخيلة.
ومن أجل ذلك ما ينبغي أن نلتفت مُطلقًا إلى هؤلاء الذين لم تبلغ القوة العاقلة النظرية عندهم حد الكمال، والذين لم يصلوا إلى أعلى درجة من التفكير النظري؛ فإنَّ الذي يصل إلى الكمال في هذه الناحية وتلك، هو وحده الذي يصل إلى المعارف والحقائق العليا، وذلك حينما يفيضُ العقل عليه وصار يوحى إليه، وهو وحده النبي حقًّا.
•••
الخاصة والعامة
وأخيرًا لم يخْفَ على المُعلم الثاني ما في تفسيره للنبوة وبعض العقائد السمعية من عسر في الفهم يجعل أكثر الناس عاجزين عن إدراكها؛ ولذلك لم يرَ بدًّا من تقسيم الناس — حسب مراتبهم في الفهم والتصديق — إلى طبقات ثلاث: عامَّة، ورجال دين، وفلاسفة.
ورأى تبعًا لهذا التقسيم أنه يجب عرض هذه الأمور وأمثالها على أفراد كلٍّ من هذه الطبقات، بطريقة تتناسب ومقدرتها على تصوُّرها وفهمها، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي إما بتقريبها للفهم بذكر محاكياتها وأمثالها، وإما بذكر الحقائق مجردة سافرة.
•••
وبعد، هل نجح الفارابي فيما أراده من التوفيق بين العقل والوحي، أو بين الفلسفة والدين؟ إننا نرى أنَّه مع ما بذله من جهد في هذه السبيل من السهل أن نقول: لا.
وذلك أنَّه على الرَّغم من محاولة الفارابي حل مسألة «الواحد» وصدور العالم عنه وكيفية هذا الصدور، قد بقي إله «أرسطو» غير مقبول في الإسلام، مع ما نال نظرية أرسطو من تعديل يرجع إلى أفلاطون ومدرسة الإسكندرية.
وفي الحق أن إلهًا يصدر العالم عنه بلا إرادة وخلق منه ولا نشاط له، وبينه وبين هذا العالم وسطاء عديدون، ولا يعلم إلا ذاته. إله كذلك لا يمكن أن يتفق والعقائد الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وإن عُني الفارابي — في نظرية الفيض، التي أراد بها على ما هو معروف التوفيقَ بين أرسطو والإسلام — بجعله سببًا فاعلًا.
وكذلك تسمية الفارابي للعقول التي ذهب إليها ليفسر صدور الكثير — وهو العالم — عن الواحد، ملائكة ليوافق القرآن في التسمية لا يجعلها حقًّا ملائكة كما جاء في الإسلام.
فإنَّ هذه العقول عنها صدر العالم في رأيه، فهي خالقة على هذا النَّحو، وملائكة القرآن لا شيء لها مُطلقًا من الخلق أو الأمر، بل هم لا يعصُون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكيف وتلك العقول!
(١-٣) السجستاني
وهذا مُفكر آخر حَرِيٌّ أن يأخذ مكانه بين مُفكري الإسلام بعد أن طال إهماله، وهو أبو سُليمان محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي السجستاني الذي عاش إلى أواخر القرن الرابع الهجري، وإنه لأهل لأن يتحدث عنه مؤرخ التفكير الإسلامي.
ونقولُ بعد هذه الأمور العَامَّة عن السجستاني ومركزه في زمنه، وعن الروح الحرة التي كانت تسود مجالسه: إنه — مثل شيخه الفارابي — كان له رأيه في تقسيم الناس إلى عامَّة وخاصة، وفي العالم ووجوده، وفي العلاقة التي يجبُ أن تقوم بين الدين والفلسفة، وسنتناول كلًّا من هذه المسائل بإيجاز.
العامة والخاصة
ونعتقد أنَّ هذا التعليل يدلنا على أنَّ السجستاني كان يرى ضرورة تأويل ما اشتملت عليه الشريعة من رموز وأمثال للخاصة القادرة على التأويل.
الله والعالم
الدين والفلسفة
وللسجستاني في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة رأي واضحٌ قاطعٌ، وهو وليد التفكير والإدراك العميق للغاية من كلٍّ منهما، كما هو وليد الاعتبار بجهود من حاولوا تحديد هذه العلاقة من معاصريه، وهذا الرَّأي هو وجوب الفصل التام بين الشريعة والفلسفة؛ وذلك لما بينهما من اختلاف في الطبيعة والغاية والوسيلة إلى هذه الغاية، وفي منطقة النفوذ إن صح هذا التعبير.
لقد عرض عليه تلميذه التوحيدي بعض رسائل إخوان الصفاء، الذين يزعمون أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، فقال بعد أن اختبرها: «ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يُستطاع، ظنوا أنه يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة، وأن يضموا الشريعة في الفلسفة، وهذا مَرام دونه حَدَد؛ أي دفع ومنع.
•••
وبعد، هكذا رأينا السجستاني يوجبُ الفَصل بين الشريعة والفلسفة، وأنه لم يكن يعنيه أو يرضيه أن يخلط بينهما أو أن يعمل على التوفيق بينهما بإتْباع إحداهما للأخرى، كما لم يحاول — كالفارابي مثلًا — تفسير العقائد الدينية تفسيرًا نفسيًّا وعقليًّا؛ ليكون ذلك وسيلة للتوفيق، بل إنه جعل لكلٍّ من هذين الطرفين المُختلفين طبيعة ووسيلة وغاية، طائفة خاصة من الناس بها تصل إلى السعادة.
(١-٤) مسكويه
ننتقل الآن إلى الحديث عن فيلسوف آخر جاء به الزَّمن بعد الفارابي، وإن كانت شهرته بالفلسفة العملية (الأخلاق) أكبر من شهرته بالفلسفة النظرية الإلهية، ومع هذا فإنَّ له من الجهد في مُحاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة ما يجعلنا نذكر كلمة عنه قبل أن نصل إلى تلميذ الفارابي الأشهر، نعني به ابن سينا أو الشيخ الرئيس.
ونجد مسألة التوفيق من تلك النقط التي وافق المعلمَ الثاني فيها، وذلك بتفسيره النبوةَ مثله تفسيرًا عقليًّا يضعف الفرق بين النبي والفيلسوف ويزيد الصلة بينهما، وبتأكيده الحاجة إلى النبوة؛ لأنَّ الفلسفة لا تغني عنها لجميع الناس، وبغير هذا وذاك مما وافق فيه على نحوٍ ما رجالَ الدين وعلم الكلام، مثل وجود العالم عن عدم، وخلود النفس، والجزاء الأخروي.
حقًّا النبي عند مسكويه هو إنسانٌ يَصل بتأثير العقل الفعال في قوته الحاسة وقوته المُتخيلة إلى الحقائق التي يصل إليها الفيلسوف، لا فرق بينهما إلَّا أنَّ هذا قد وصل إليها مرتقيًا من أسفل إلى أعلى: من قوة الحسِّ إلى قوة التخيل إلى قوة الفكر التي يُدرك بها ما في العقل الفعال من حقائق، على حين يتلقى النَّبي نفس الحقائق منحطة إليه من أعلى، أي: من العقل الفعَّال أيضًا.
(١-٥) ابن سينا
ولم يتأثر به فقط في العمل لهذا الغرض، بل كذلك في الطريق الذي رسمه، وفي الخطة التي اتبعها في محاولته، نعني تقريبَ كلٍّ من الفلسفة والدين للآخر، وتفسيرَ عقائد الدين وشعائره تفسيرًا يرضاه العقل ولا ينأى به عن الشريعة، وبتقسيم الناس إلى طبقات، لكلٍّ منها طريقها في الفهم والتصديق والاستدلال.
•••
هذا، ونرى من المفيد أن نُشير هنا بعد ما تقدم إلى أنَّ ابن سينا اندفع في محاولته التوفيق بين الشريعة والفلسفة بعوامل ليس منها على ما نرى خشيةُ اضطهاده بسبب الفلسفة.
لقد عاش أبو علي في بيئة تشجع العلم والعلماء، والتفكير والمفكرين، واتصل شطرًا من حياته بسُلطان بخارى نوح بن نصر الساماني المعروف بحبه للعلم، وأفاد كثيرًا من كتبه.
ونريد بذلك أن نُدلِّل على أنَّ ابن سينا انبعث إلى التوفيق بين الشريعة والفلسفة بالباعث الذي أشرنا إليه أكثر من مرة، وهو أنَّ هذا التوفيق يُعنى به الفيلسوف الذي له دين يحرص عليه، وذلك ليوائم بين ما يراه حقًّا وإن كان في صورتين مُختلفتين، أي: الوحي والعقل معًا.
(٢) في المغرب (البطليوسي وابن طفيل)
(٢-١) البطليوسي
تلك كانت عنايةَ فلاسفة المشرق الإسلامي ومفكريه بتحديد العلاقة بين الدين والفلسفة، فمنهم، كما عرفنا، من رأى وجوب الفصل بينهما، مثل السجستاني، ومنهم من رأى التوفيق بينهما، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، وكذلك شغلت هذه المسألة فلاسفة المغرب ومُفكريه أيضًا، ونبدأ منهم بالبطليوسي.
على أنه قد عالج مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، ويظهر أنَّ طريقته في ذلك جعلته مرضيًّا عنه، ها هو ذا معاصره الفتح بن خاقان يقول عنه في كتابه «قلائد العقيان»: «له تحقق في العلوم الحديثة والقديمة، وتصرُّفٌ في طرقها القويمة، ما خرج بمعرفتها عن مضمار شرع، ولا نكب عن أصل للسنة ولا فرع.»
- (١)
الله ووجود العالم عنه.
- (٢)
علم الله وشموله.
- (٣)
تحبيب الفلاسفة القدامى إلى المسلمين.
- (٤)
علوُّ ما يأتي به الوحي على ما يصل إليه العقل.
- (٥)
خلود الروح أو النفس والبعث.
وسنتناول كلًّا من هذه المسائل بإيجاز؛ لنعرف الخطة التي اصطنعها ليصل إلى ما أراد من التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ومرجعنا في هذا كله هو كتاب الحدائق السابق ذكره.
الله ووجود العالم عنه
في هذه المسألة نجد عند البطليوسي نظرية فيض الموجودات عن الله، باعتباره العلةَ الأولى أو السبب الأول لها، على أنه علة مُباشرة لأول موجود وغير مباشرة لما بعده، كما نجد عنده نظرية العقول العشرة، وهذا وذاك على النحو الذي نعرفه عن الفارابي وابن سينا.
والبطليوسي يمضي في هذا التمثيل، تمثيل وجود العالم عن الله بوجود الأعداد إلى ما لا نهاية عن الواحد، لينتهي من هذا إلى حل هذه المشكلات: قِدَم العالم أو حدوثه، وجوده عن مادة أولى قديمة أو من العدم كما يقول الدين، وكيف تصدر الكثرة عن الواحد بغير تكثُّر في ذاته.
ولذلك يقول: «وكما أنَّ الأعداد كلها اقتبست الوجود من الواحد من غير حركة ولا زمان ولا مكان، ولم يحتج الواحد في إيجادها إلى شيء آخر غير ذاته، فكذلك حدوث الموجودات عن الباري تعالى بغير حركة، وبغير زمان، وبغير مكان، ومن غير أن يُحتاج في إيجادها إلى شيء غيره.
وكما أن الواحد لا يوصف بأنه تقدم الأعداد بالزمان، ولا يُبطل ذلك أن تكون الأعداد مُحدثة عنه، فكذلك الباري لا يوصف بأنه تقدم العالم بالزمان، ولا يبطل أن يكون العالم محدثًا عنه.
وكذلك يمضي في هذا التمثيل؛ ليَصِلَ إلى أنَّ العالم محتاج في وجوده ودوامه لوجود الله؛ فلو ارتفع لارتفع، وأنَّ الأمر ليس بالعكس، فلو ارتفع العالم لم يرتفع الله، كما هو الحال بالنِّسبة للواحد والأعداد الموجودة به.
هكذا في هذه الناحية يرى البطليوسي أنَّه قد وفق بين الشريعة والفلسفة، وذلك بالقول بالله الخالق للعالم من لا شيء، وإن كان ذلك بطريق العِلِّية المُباشرة لأوَّل موجود وغير المباشرة للموجودات الأُخرى، وكذلك بذهابه إلى أنَّ القول بحدوث العالم عنه لا يقتضي تقدم الله عنه بالزمان، كما هو الأمر بالنسبة للواحد ما وجد عنه من الأعداد الأخرى، وذلك ما لا يستطيع أحد أن يقول بخلافه، ما دام أن الله هو العلة الأولى لوجود العالم، والعلة لا تتقدم على معلولها بالزمان.
علم الله وشموله
وهنا نرى البطليوسي ينقد من ذهب — كالفارابي — إلى أنَّ الله لا يعلم غيره، أو أنه يعلم غيره من الموجودات على نحو كلِّيٍّ لا جزئي، كما ذهب إليه ابن سينا مثلًا، وهؤلاء وأولئك يستندون إلى قول الفلاسفة القدامى: «إنَّ الله لا يعلم إلا نفسه.» وهذا الفهم لهذه القولة يصفه البطليوسي بأنه جهل وسوء تأويل لكلام القدامى، وأنهم براء مما توهَّم هؤلاء عليهم.
وبعد أن اجتهد في شرح هذه العبارة المأثورة على أربعة أوجه، وكل منها ينتهي إلى هذا المبدأ: إذا علم الله نفسه فقد علم كل وجود تابع لوجوده، أخذ في التدليل على أنَّ الفلاسفة قد أرادوا بذلك أنَّ الله عالم بكل شيء؛ لأنَّه عقل مجرد عن المادة التي تمنعنا من إدراك الأشياء، وينتهي من ذلك إلى إبطال ما ذهب إليه كلٌّ من الفارابي ومتَّبعيه وابن سينا ومتبعيه.
تحبيب الفلاسفة القدامى للمسلمين
نكتفي هنا بالإشارة إلى ما حاوله في المسألة السابعة، نعني علم الله الشامل لكل شيء، من أنَّ الفلاسفة اليونان القدامى يرون — كما جاء به الإسلام — أنَّ الله يعلم كل شيء، ومن أن ما قيل عنهم مما يخالف هذا ليس مأتاه إلا من الجهل وعدم فهم كلامهم.
ولسنا الآن في مقام تخطئته في نسبته القول بالتوحيد وعلم الله الشامل إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو معًا، فلعلَّ له عذره في أنَّه حكم بهذا بحسب ما وصل إليه عنهم، ولكنا نُشير مَرَّة أُخرى إلى أنه قد يكون قصد من ذلك أن يجعل هؤلاء الفلاسفة القدماء وآراءهم في هذه المشاكل الفلسفية الأساسية، محببة إلى رجال الدين؛ لأنها في رأيه لا تختلف عما جاء به الإسلام.
علوُّ الوحي على ما يصل إليه العقل
وفي هذا وذاك — أي إنَّ النبوة ليست اكتسابًا بالنظر والفكر، وأنَّ النبي أعلى درجة من الفيلسوف — ذهابٌ صريح من البطليوسي إلى ما يقوله الدين في هذه الناحية، وبذلك يصح ما قاله ابن خاقان فيه، وسبق أن نقلناه عنه من أنه مع بصره بالعلوم القديمة ما خرج بمعرفتها عن الشريعة والسنة.
خلود النفس والبعث
- (١)
أهمية القول بخلود الروح الذي يترتب عليه الجزاء الأخروي كما جاء في الدين.
- (٢)
ما هو معروف عن الفارابي من تردده في القول بالخلود أو فناء الروح بفناء الجسد، وهذا ما هو حريٌّ أن يُثير رجال الدين.
•••
وهكذا نرى في الأندلس البطليوسي يندب نفسه قبل ابن طفيل للتوفيق بين الحكمة والشريعة، وهكذا نراه مثل الغزالي بالمشرق يُخالف الفارابي وابن سينا فيما ذهب كلٌّ منهما إليه خاصًّا بعلم الله تعالى، ولكنه يُخالفهما ليوفق بين الدين والفلسفة، لا لمُجرد التشهير بهما ورميهما بالكفر، وهكذا نرى البطليوسي يعمل للتوفيق بين الشريعة والفلسفة بالطريقة والوسائل التي ذكرناها.
ولكن ليس لنا أن نزعُم أنَّه نجح كل النجاح، ولا أنه كان طريفًا فيما ذهب إليه من وجوه التوفيق، وغرضنا هنا كما كان بالنِّسبة إلى السجستاني من قبلُ بالمشرق، أن نُشير إلى أنَّه من الواجب على مؤرخ الفلسفة الإسلامية أن يُدخل في دائرة بحثه مُفكرين من هذا الطراز، وإن كانوا حتى اليوم غير معروفين في دائرة التفكير الفلسفي، وألا يقتصر — كما جرى الأمر حتى اليوم — على بحث الفلاسفة المشهورين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
إن ذلك يعيننا على تتبع تاريخ الفكر الإسلامي في هذه النَّاحية، ناحية التوفيق بين الدين والفلسفة، كما يعيننا في سائر النواحي الأخرى التي عالجها فلاسفة الإسلام.
(٢-٢) ابن طفيل
عاصر أبو بكر بن طُفيل فيلسوفنا ابن رشد رَدَحًا من عمره، وعاش عيشة هانئة في رِعَاية أُسرة الموحدين حتى توفي سنة ٥٨١ﻫ/١١٨٥م في عهد السلطان أبي يوسف يعقوب، وقد عُني عناية حقة بالتوفيق بين الدين والفلسفة، حتى إنه يُمكن أن يُقال بأنَّ الغرض من قصته الفلسفية «حيِّ بن يقظان» كان إظهار هذا الاتفاق والتدليل عليه.
وأخيرًا في هذه النَّاحية نذكُر أنَّ ابن طفيل انتهى إلى ما انتهى إليه أسلافه من أنَّ الناس طبقات، منهم من لا يطيق معرفة الحقائق بذاتها عارية، فالخير له الانتفاع بالشريعة وما ضربته لهذه الحقائق من رموز وأمثال، وإلا ساء أمره ووقع في الضَّلال إن حاول المعرفة الحقة السافرة، ومنهم الذين وُهبوا استعدادًا وعقلًا ارتفعوا به عن العامَّة وأمثالهم، وهؤلاء تُفيدهم المكاشفة بالحقائق ذاتها.
وقد تبع ذلك طبعًا أن قَرَّر كأسلافه أيضًا أنَّ هناك تعاليم ظاهرة وأُخرى خفية يجبُ التمييز بينها، وأن يُجعل كل نوع منها لطائفة خاصة لا يصلح أمرها إلا بها، وبهذا لا يصطدم الدين بالفلسفة بل يتقرر بينهما الوئام والسلام.
•••
وأخيرًا بعد عرض ما كان قبل ابن رشد من جهود سابقيه من فلاسفة الإسلام ومفكريه، في المشرق والمغرب، في مُحاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، نرى أنَّه لا بُدَّ من الإشارة إلى ظاهرة يلمِسها الباحث، ثم إلى تعليلها.
وذلك أنه لم نعرف أنَّ أحدًا من أولئك في المشرق قد عني بتخصيص رسالة من مؤلفاته لهذه الغاية، على حين نجد هذا في المغرب، مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، وبعض المؤلفات التي خصصها ابن رشد لهذه الغاية.
ولتعليل هذا ينبغي أن نُلاحظ أنَّه مهما يكن صادقًا القول بأنه قبل التفلسف يجبُ أن يعمل الفيلسوف على أن يكون له الحقُّ في أن يعيش آمنًا، فإن الفلاسفة في المشرق لم يحسوا إحساسًا قويًّا هذه الحاجة لتأمين حياتهم كما أحسها إخوانهم في المغرب.
كل هذه العوامل لا تجعل — على ما نرى — الفيلسوف في المشرق في حاجة ماسَّة للتوفيق قبل كل شيء بين الشريعة والحكمة، ولا لأنْ يُخصص لذلك مؤلفًا من مؤلفاته، بعكس ما كان عليه الحال في المغرب الإسلامي، تحت حكم المُرابطين أولًا والموحدين ثانيًا، في بيئة مليئة بالتعصب ضدَّ كلِّ من أجاز لنفسه شيئًا من حرية التفكير، وإن كان من رجال علم الكلام كالإمام الأشعري! وضد كل عالم له آراء تخالف ما أَلِفُوه وإن كان الغزالي الخصم اللدود للفلاسفة!
في بيئة يبلُغ فيها التعصب ضد التفكير الحر درجة تجعل بعض الأمراء يوقِعون — طلبًا لمرضاة رجال الدين والشعب — بمن كانوا يحمونهم ويُشاركونهم في دراسة الفلسفة أحيانًا، كما حصل لابن باجة وابن رشد.
لا عجب إذن إن رأينا الفلاسفة في المغرب يُعنون قبل كل شيء بالعمل على التوفيق بين الإسلام والفلسفة، ويُخصص الواحد منهم بعض مؤلفاته لهذا الغرض؛ وذلك ليأمنوا على أنفسهم وليحببوا الفلسفة للناس جميعًا ببيان أنَّها والدين من منبع واحد، ويعملان لغرض واحد، هو خير الإنسانية العام.
والآن ننتقل للقسم الثاني من البحث، ونبدأ بالحديث عن فيلسوف قرطبة لنعرف أولًا كيف تصور العلاقة بين الوحي والعقل، وعلى أي أساس تقوم، فذلك في رأينا حجر الزاوية في مُحاولته التوفيق بين هذين الطرفين المُتباعدين في بادئ الرأي، والقريبين جدًّا بعضهما من بعض حسب الواقع على ما يرى.
كما يراجع أيضًا طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة ومصابيح السيادة» ج١ ص٢٦ طبع حيدر آباد الدكن بالهند، خاصًّا بالتنفير من فلسفة الفارابي وابن سينا وأمثالهما، حين يقول: «وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه، والمحرفون للشريعة … وهم أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى.»
ومع أن هذين المؤلفين عاشا بعد ابن رشد، وقرءا بلا شك ما كتبه هو وغيره دفاعًا عن الفلسفة وتقريبًا لها من الدين، فإنهما يعبران بقوة عن نزعة التعصب ضد الفلاسفة، النزعة التي كانت غالبة بين العامة وأمثالهم في العصور التي عاش فيها ابن رشد ومن سبقه من فلاسفة الإسلام.