الفصل الثالث

التوفيق عند سابقي ابن رشد

الإحساس بالحاجة للتوفيق بين الدين والفلسفة أمرٌ طبيعيٌّ يُحِسُّه المؤمن المفكر أو الفيلسوف، ومُحاولة هذا التوفيق تعتبر إلى حدٍّ كبير واجبًا لازم الأداء، وذلك ليُحقق الانسجام بين مُعتقده الديني العامر به قلبُه، والذي يعتبره فوق كل شك، وإن عسر عليه أحيانًا أن يُدرك بعض ما جاء به مما لا يتفق تمامًا والنظر العقلي الصحيح كما سيجيء.

لهذا نجد أمر بحث أو تقرير العلاقة بين الدين والفلسفة له أصله الإغريقي الذي لا يُنكَر، ونجد تقريبًا كل المدارس الفلسفية في العصر القديم تحتفظ بمكان صغير تارة وكبير تارة أخرى للمسائل الدينية، كما نجد مثل هذا لدى «فيلون» اليهودي وأمثاله بالإسكندرية، وعند بعض آباء الكنيسة في العصر الوسيط، بل إنَّ بحث العلاقة بين الدين والفلسفة أو الوحي والعقل، على أي أساس تقوم، كانت طابع التفكير في العصر الوسيط.

وهذا الاتجاه أو وجوب تقرير العلاقة بين الوحي والعقل، لا ينكره ابن رشد ولا غيره من الفلاسفة المسلمين بوجه عام؛ ولذلك نراه يُصَرِّح في أكثر من موضع من كتاباته بأنَّ الحُكماء من الفلاسفة لا يُجيزون الجدل في مبادئ الشرائع، ويَرون أنَّه لا ينبغي أن يتعرض بقول مثبِت أو مُبطِل في مبادئها العامة، وأنَّه يجبُ أن نُقلد الأنبياء والواضعين لتلك الشرائع فيما جاءوا به من مبادئ العمل وصنوف العبادات التي تؤدي للمصلحة الخلقية والاجتماعية.١
وقد يكون من المُفيد هنا أن نُشير إلى أنَّ الأوضاع الممكنة التي يصِحُّ أن تكون بين الشريعة والفلسفة لا تزيد على ثلاث:
  • (١)

    الاعتداد بالأولى ورفض الثانية، وهذا موقف رجل الدين غير المتفلسف.

  • (٢)

    أن يكون الأمر بالعكس، وهذا يكون موقف المتفلسف الذي لا يبالي العقيدة.

  • (٣)

    لم يبقَ إلا هذا الوضع الأخير، وهو مُحاولة التوفيق بين هذين الطرفين على أي نحو من الأنحاء، وهذا هو الوضع الذي يجبُ أن يتخذه الفيلسوف المؤمن، أو الذي يجبُ أن يبالي العقيدة على ما سنرى.

وسنعرف في الفصل الآتي أن كلًّا من هذه الأوضاع الثلاثة كان له ممثلون بين الذين عُنُوا بهذه النَّاحية من التفكير من الفلاسفة أو رجال الدين فيما مضى من التاريخ حتى الآن.

وفضلًا عن هذا كله، فإن الذي يفهم الإسلام وروحه وتعاليمه التي تدعو للأخذ بالوسط في كل الأمور، وتُوجب الإصلاح بين المُتخاصمين، والتوفيق بين الأطراف المُتنافرة، وإن الذي درس تاريخ الإسلام وخاصة الناحية العلمية منه، نقول: إنَّ الذي يفهم روح الإسلام ودرس تاريخ العلوم الإسلامية، يرى بصفة عامَّة أن روح التوفيق كانت طابعًا للمسلمين في كثير من نواحي التفكير.

حقًّا؛ إنه كان كلما وُجدت مدارس مختلفة أو متعارضة، وُجد بجانبها مدارس متوسطة تُحاول التوفيق بينها، وتصل ما تباعد منها، والتاريخ قديمه وحديثه شاهد صدق على ما نقول.

في علم الكلام نجد مذهب الأشعري،٢ الذي يسود العالم الإسلامي حتى هذه الأيام، ليس إلا مذهبًا وسطًا بين مذهب السلف القائم على التسليم بالنص من غير تعرض لتأويله عقليًّا، وبين مذهب المُعتزلة الذي قرر للعقل كل الحرية في فهم النصوص وتأويلها.

وفي التشريع نجدُ مذهب مالك يعتمد على الحديث بعد القرآن، والمذهب الحنفي يعتمد على الرَّأي ونظر العقل واجتهاده، فجاء الشافعي بمذهبه بين هذين الطرفين المتعارضين.

وفي الفلسفة نجد مُحاولة الفارابي الشهيرة التوفيق بين أفلاطون وأرسطو، كما نجد أنَّ من مُميزات المشَّائين العرب بصفة عامة نزعة التوفيق بين كثير من المذاهب الفلسفية.

فإذا كانت هذه النزعة من النزعات الغالبة على مُفكري المسلمين بصفة عامة في جميع فروع التفكير، فبالأولى يعمل الفلاسفة الإسلاميون على التوفيق بين الدين الذي يعتقدون صحته، وبين الفلسفة القائمة على العقل وأدلته!

على أنه كانت هناك عوامل أُخرى تُوجِبُ عليهم أن يُحاولوا ما استطاعوا أن يصلوا للتوفيق بين هذين الطرفين؛ هذه العوامل ترجع في رأينا لثلاث:
  • (أ)
    بُعد شُقة الخلاف بين الإسلام وفلسفة أرسطو في كثير من المسائل.٣
  • (ب)
    مُهَاجمة كثير من رجال الدِّين لكل بحث عقلي لا يتقيد في نتائجه بالعقيدة المُقررة سابقًا، ويتبع هذا في أغلب الحالات اضطهاد الشعب والأمراء للمفكرين الأحرار — ولو نوعًا ما — مدفوعين بدوافع لا تتصل بسبب متين بالدين في الحقيقة في كثير من الأحيان.٤
  • (جـ)

    وأخيرًا، رغبة الفلاسفة أنفسهم في أن يكونوا بمنجاة من هذا كله؛ ليستطيعوا العمل في هدوء، ولئلا يتحاماهم الناس حين يرون أو يظنون أنهم على غير وفاق مع الدين.

من أجل ذلك كله نجد كل فلاسفة الإسلام، كغيرهم من المُتكلمين والمُفكرين حاولوا هذا التوفيق، سواء من تقدم به الزَّمن على ابن رشد ومن تأخر، مع اختلاف في الطرق التي اصطنعوها والجهود التي خصصوها لبلوغ الهدف المطلوب، ومع تفاوت في مبلغ ما صادفوه من نجاح.

ويطول بنا الحديث، بل نخرج عن الحدود المرسومة لعملنا إذا تكلمنا عن كل الجهود التي بذلت في هذه النَّاحية من مفكري الإسلام وفلاسفته؛ لذلك نكتفي بأن نُشير إلى ما كان من هذه الجهود قبل ابن رشد في المشرق من الكندي والفارابي والسجستاني ومسكويه وابن سينا، وما كان منها في المغرب من البطليوسي وابن باجة وابن طفيل.

وبهذا نستطيع معرفة مقدار كفاية هذه الجهود أو عدم كفايتها في هذا السبيل، ونتبين مقدار الحاجة لرجل قوي الشكيمة ثاقب الفكر كابن رشد، فيخصص جانبًا كبيرًا من نشاطه الفلسفي للتوفيق بين الإسلام، الذي كان من أكبر رجاله وممثليه، والفلسفة التي كان من أعلامها، ولنبدأ في هذا العرض الموجز بالكندي أول الفلاسفة.

(١) في المشرق (الكندي، الفارابي، السجستاني، مسكويه، ابن سينا)

(١-١) الكندي

عاش أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي فترة من حياته في بيئة التفكير الحر والتسامح التي خلقها المأمون الخليفة العباسي المتوفى في سنة ٢١٨ﻫ،٥ وشجعها إلى درجة أن كان هو نفسه ذا ميول شيعية، ووزيره يحيى بن أكثم سُنِّيًّا، ووزيره الآخر أحمد بن أبي داود معتزليًّا، ومن ثم، كان الإنسان لا يرى حرجًا في أن يعتقد ما يرى من مذهب، وكان ربما اجتمع في البيت الواحد عدة إخوة لكلٍّ منهم رأيه ومذهبه.٦
ولكن الكندي عاش أيضًا بعد وفاة المأمون في العصر الذي بدأه الخليفة المتوكل على الله (توفي عام ٢٤٧ﻫ)، والذي عاد فيه سُلطان أهل السنة، لا جَرَمَ إذن أن رأيناه يحس — ككل مفكر حر — القلق والخوف من رجال الدين وسلطانهم، وكان ما رواه ابن أبي أُصيبعة من أنه أوذي بسبب اشتغاله بالفلسفة.٧ ولهذا كان لا بدَّ له من محاولة التوفيق بين الشرع والعقل، وذلك ما قد يجعله بمأمن من الأذى؛ ولذلك نجد ابن النديم يذكر له ضمن مؤلفاته رسالة في إثبات الرسل، وأخرى في نقض مسائل الملحدين، كما نجد ظهير الدين البيهقي يذكر أنه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات.»٨

وقد كان مؤرخ الفكر والفلسفة الإسلامية إلى الأمس القريب يقنع بهذه الأحكام ونحوها من ابن النديم وابن أبي أصيبعة والبيهقي، ونحوهم ممن ترجموا لحُكماء الإسلام ومُفكريه، إذا لم يجد لهم من المُؤلفات ما يعينه على تعرف نزعاتهم واتجاهاتهم في تفكيرهم.

وكان الباحث عن طابع تفكير الكندي ونزعته واتجاهه، لا يلجأ فيما يلجأ إليه إلا إلى أسماء كتبه ومؤلفاته، فيُحاول أن يجد منها سندًا للرأي الذي ينتهي إليه.

ولكنَّنَا لحُسن الحظ نجدُ اليوم بين أيدينا طائفة من رسائل الكندي، هذه الرَّسائل التي كشفها المُستشرق الألماني «ريتير H. Ritter» بمكتبة أيا صوفيا رقم ٤٨٣٢، ونشرها الدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة في مجلدين، كما نشر بعض المستشرقين أخيرًا رسائل أخرى له.

إنَّ نشر هذه الرَّسائل ومعرفة موضوعاتها كما يتبين من عناوينها، يدعو بلا ريب إلى تعديل كثير في بعض آراء الباحثين في الكندي وفلسفته قبل أن يطلعوا عليها، بل قد يدعو إلى تعديل حكم الغزالي على الفلسفة والفلاسفة المسلمين.

مثلًا، نجد الدكتور إبراهيم مدكور يرى أنَّ الكندي طبيب ورياضي فلكي أكثر منه فيلسوفًا، وأنَّ فضله بصفة خاصة هو في أنه أعدَّ للأعمال العظيمة التي ظهرت بعده في الفلسفة الإسلامية في القرن العاشر الميلادي.٩ مع أنه من الحق حسب هذه الرسائل، يجبُ أن يعتبر الكندي من الفلاسفة المسلمين بكل معنى الكلمة، لا ممهدًا فقط للفلسفة الإسلامية.
ومع أنَّ الشيخ مصطفى عبد الرازق كتب عن الكندي قبل اكتشاف رسائله، إلا أنَّه اعتمد على ما أورده المتأخرون عن الكندي، وانتهى في بحثه إلى أن الكندي هو الذي وجه الفلسفة الإسلامية وجهة الجمع بين أفلاطون وأرسطو، وهو الذي وجهها في سبيل التوفيق بين الفلسفة والدين.١٠
وبعد نشر رسائله اتضح موقفه من الدِّين والفلسفة وضوحًا يقوم على نصوص كلامه، وقام بعض الباحثين بدراستها.١١

وفي رسالته إلى المُعتصم بالله في الفلسفة الأولى، يذهب الكندي إلى أنَّ الدين لا يختلف عن الفلسفة، «لأنَّ في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية، وعلم الوحدانية، وعلم الفضيلة، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضارٍّ والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعًا هو الذي أتت به الرُّسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة إنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحدَه، وبلزوم الفضائل المرتضاة …»

غير أنه في رسالة «كمية كتب أرسطوطاليس» يذهب إلى خلاف هذا الرأي، ويُفَرِّق بين الفلسفة التي هي من العلوم الإنسانية التي يبلغها الفيلسوف «بطلب وتكلف البشر وحيلهم»، وبين العلم الإلهي، وهو أعلى رتبة؛ إذ يتم «بلا طلب، ولا تكلف، ولا بحيلة بشرية ولا زمان، كعلم الرُّسل صلوات الله عليهم الذي خصه الله — جل وتعالى علوًّا كبيرًا — أنه بلا طلب ولا تكلف ولا بحث، ولا بحيلة بالرياضيات والمنطق؛ فإن هذا العلم خاصة للرسل دون البشر، وأحد خواصهم العجيبة، أعني آياتهم الفاصلة لهم من غيرهم من البشر، إذ لا سبيل لغير الرُّسل من البشر إلى العلم الخفي، إلا بالطلب؛ فأمَّا الرُّسل فلا بشيء من ذلك، بل بإرادة مرسلها …»١٢
وأيضًا فإنَّ كلام الله في القرآن جوابًا عما سئل به الرسول هو غاية في الوجازة والبيان وقرب السبيل والإحاطة بالمطلوب، على حين أنَّ الفيلسوف إذا قصد الجواب عنها فيكون ذلك «بعد طول الدأب في البحث والتروض.»١٣

وتفسيرُ هذا التناقض في رأي الكندي يرجِعُ عندنا إلى أنه كتب رسالته إلى المُعتصم في وقت كان يذهب فيه ذلك المذهب، وكتب رسالة «كمية كتب أرسطوطاليس» في وقت آخر، وعدل فيه عن رأيه الأول.

أمَّا رأيه الأول فهو: أنَّ الدين والفلسفة شيء واحد؛ لأنهما يبحثان معًا عن الحقيقة، والحقيقة واحدة، وطريقهما البرهان.

وأمَّا رأيه الثاني فهو: أنَّ الفلسفة غير الدين؛ لأنَّ طريق الفلسفة البحث والنظر بالعقل، وطريق الدين الإلهام والوحي عن طريق الشرع.

وكذلك سنعرف عما قليل أنَّ الكندي قال بحدوث العالم، وكأنه قد أحسَّ أنَّ القول بقِدمه لا يتفق وإثبات خالق له، كما هو العقيدة الإسلامية، وهذا معناه في نظرنا أنَّ الغزالي حين قرر أن الفلاسفة المسلمين جميعًا ذهبوا إلى القول بقِدم العالم، لم يكن اطلع على رأي الكندي في هذه المشكلة، وأنَّ عماده في تعرُّف رأي الفلاسفة هو على آراء الفارابي وابن سينا كما صرح بنفسه في كتابه «تهافت الفلاسفة».

•••

وبعد، ما هو رأي «فيلسوف العرب» في العالم وقِدمه أو حدوثه، وهي من المسائل الهامة التي كَفَّر الغزالي الفلاسفة من أجلها، وهي من المسائل التي يمكن بحثها مما نشر حتى اليوم من رسائله؟ نستطيع أن نُقَرِّر أنَّ الكندي يذهب إلى أنَّ العالم محدث لا قديم، وأنَّ الله هو الذي خلقه بعد عدم.

إنه حقًّا في رسالته «في حدود الأشياء ورسومها»، يعرِّف العلة الأولى بأنها «مبدعة، فاعلة، متممة الكل، وغير مُتحركة»، وحدُّ الإبداع هو الخلق عن عدم، أو هو كما يقول الجورجاني: «إيجاد الشيء من لا شيء»، «إيجاد شيء غير مسبوق بمادة ولا زمان»، وهو كما يذكر الكندي نفسه: «إظهار الشيء عن ليس»، أي عن عدم الوجود.

وإذن، ما دام الله هو الذي أبدع العالم، فيجبُ أن يكون العالم غير موجود، ولو بمادته قبل وجوده، والنتيجة تكون أنَّ العالم غير قديم.

وليس هذا فقط، فإنَّ أول فلاسفة الإسلام قد أوضح في رسالته «في وحدانية الله وتناهي جرم العالم»١٤ أنَّ جرم العالم محدود، وذلك من مقدمات واضحة معقولة ترتكز على الأصول الرياضية، إنَّه يرى أنَّ جرم العالم متناهٍ، وإلا لو فرضنا الضد وفصلنا منه جزءًا محدودًا كان الباقي إمَّا محدودًا كذلك، فيكون الجميع — أي: بإضافة ما فصلناه — مُتناهيًا؛ لأنَّ الجرمين المُتناهيين يكون مجموعهما متناهيًا حتمًا، وإذن يكون العالم غير مُتناهٍ ومتناهيًا، وهذا خُلْف لا يمكن.

وإن كان الباقي غير متناهٍ ثم أُضيف إليه ما فصل منه، كان المجموع أكبر طبعًا مما كان قبل، ولكنه قبلُ وبعد هو هو؛ لأنَّه غير مُتناهٍ، وإذن فاللامتناهي يُوصف بأنَّه أكبر وأصغر وهو تناقض.

وإذا ثبت هكذا أن جرم العالم متناهٍ، كان كل ما يرتبط به وما لا ينفصل عنه من مكان وحركة وزمان، مُتناهيًا ضرورة؛ لأنَّ الزمان هو مقياس الحركة الحاصلة عن الجرم، والجرم المتناهي حركته متناهية ضرورة، فيكون زمانها الناشئ عنها متناهيًا كذلك، ذلك بأنَّ الجرم والحركة والزَّمان لا يكون بعضها دون بعض ولا يسبق بعضها بعضًا.

وبعد ذلك؛ إذا ثبت هكذا أنَّ جرم العالم متناهٍ، كان غير قديم بلا شك، وإلا إذا كان لا أول لوجوده كان غير متناهٍ، وقد ثبت قبلُ أنه متناهٍ. «فيمتنع إذن أن يكون جرم لم يزل، فالجرم إذن محدث اضطرارًا، والمحدَث مُحدَث المحدِث، إذن المحدَث والمحْدِث من المضاف، فالكل محدث اضطرارًا عن ليس»، أي: عن عدم، وهذا الإحداث هو الإبداع، أي: الإيجاد عن عدم، كما سَبَق أن ذكر في رسالة الحدود.

•••

وهكذا نرى أنَّ الكندي يذهبُ في هذه المشكلة الهامَّة، مشكلة العالم وصلته بالله، مذهب رجال علم الكلام في زمنه بصفة عامة، مُخالفًا بهذا مذهب أرسطو حين ذهب إلى قدم العالم، وذلك ما ينبغي أن يُعتبر بلا ريب خطوة كبيرة في سبيل التوفيق بين العقيدة الإسلامية وفلسفة اليونان، كما عرفها المسلمون.

وبهذا يمكن إلى حدٍّ كبير تعليل ما ذكرناه عنه سابقًا عن مترجميه من أنَّه «قد جمع في بعض تصانيفه بين أصول الشرع وأصول المعقولات»، وهذا ما جعل «دي بور» يرى أنَّه مع دفاعه عن النبوة كان يُحاول التوفيق بينها وبين العقل.١٥

على أنَّنا فضلًا عما تقدم نأتي بدليل آخر لما نراه من أنَّ الفارابي مسبوق في هذا السبيل، وذلك أنَّ البيهقي ذكر في ترجمة أبي القاسم الحسين بن الفضل الرَّاغب أنَّه كان من حكماء الإسلام، وأنه هو الذي جمع بين الشريعة والحكمة في تصانيفه، وأنَّ من كلامه: «بين العقل والشرع تظاهُر، ويفتقر أحدهما إلى الآخر.»

(١-٢) الفارابي

وإذا تركنا الكندي إلى من جاء بعده من فلاسفة المشرق، نجد أننا نسير بخطا أكثر ثباتًا واستقرارًا، وذلك أنَّ التاريخ حفظ لنا من مؤلفاتهم ما فيه كفاية لتعرُّف جهودهم في هذه السبيل، نعني سبيل التوفيق بين الدين والفلسفة، مندفعين إلى ذلك ببواعث ليس فيها — على ما نرى — الكثير من خشية تعصب العامَّة ورجال الدين، ومُحاولة اتقاء ما ينجم عادة من مثل هذا التعصب.

لقد عاش أبو نصر الفارابي حياة هادئة وادعة، أولًا ببغداد موطن تعلمه ودراسته، ثم انتقل منها إلى حلب، وأميرها سيف الدولة الحمداني المعروف بميله للعلم وتشجيعه للعلماء، والذي عاش فيلسوفنا في كنفه عيشة الزاهد المتصوف الذي لا تغيره رياسة ولا تهمه الدنيا ولا تفتنه أغراضها، وأخيرًا مات بدمشق، وقد رحل إليها صحبة أميره عام ٣٣٩ﻫ/٩٥٠م.

وإن الذي يرجع إلى ترجمته كما ذكرها ابن خلكان،١٦ وابن أبي أصيبعة،١٧ وصاعد الأندلسي،١٨ والقفطي،١٩ يجد صدق هذا، وأنَّ الفارابي لم يضطهد بسبب الفلسفة.

إذن كانت مُحاولته هذه التوفيق بين الوحي والعقل على ما نرى، لما رسخ في ذهنه من أنَّ الحقيقة واحدة وإن كان قد يعبَّر عنها بطرق مختلفة؛ ولذلك — صادرًا عن هذا المبدأ — حاول التوفيق بين «المُعلم الأول» وبين «أفلاطون» في كتابه المعروف: «الجمع بين رأيي الحكيمين». فلا عجب إذن حين نراه يُحاول التوفيق تطبيقًا لهذا المبدأ، بين الحقيقة التي جاءت عن التفلسف والحقيقة التي جاء بها الوحي النبوي.

ومهما يكن من أمر العوامل التي جعلت المُعلم الثاني يحاول هذا التوفيق، فإننا نرى أنَّ الخطة التي اختطها لبلوغ غرضه من الجمع بين الدين والفلسفة تتلخص في ثلاثة أمور، تأثَّرَه فيها غير واحد ممن أتوا بعده:
  • (١)

    مذهبه في «الخلق» أريد به التوفيق بين الإله كما تصوره أرسطو وبين الإله كما جاء به الإسلام.

  • (٢)

    جَعْله لكلٍّ من الوحي والعقل مكانًا بجانب الآخر، وذلك بالتسليم بالنبوة والمعجزات والعقائد الدينية الكلامية السمعية، مع تفسير كل ذلك عقليًّا.

  • (٣)

    التفرقة بين الخاصة والعامة من الناس، وجعْل تعليم خاص لكلٍّ منهما، وبذلك يتوطد السلام بين التفكير الفلسفي والتفكير الديني.

فكرة الإله والخلق

الله في الإسلام هو الخالق لكل شيء، الذي لا يوجد شيء إلا بأمره، ولا يدوم إلا بحفظه، والذي يعلم كل شيء كبيرًا كان أو صغيرًا في أدق تفاصيله، والذي لا واسطة بينه وبين أحد من خلقه.

هذا الإله كما يؤخذ من القرآن٢٠ لا يُمكن أن يتفق مع إله أرسطو، وهو «المحرك الأول» الذي لا يتحرك، ولا مع فكرة «الواحد» كما نعرف من الأفلاطونية الحديثة.

ومن أجل هذا كان هَمُّ الفارابي وغيره من فلاسفة الإسلام محاولة التوفيق بين الإله كما جاءت به الفلسفة، وبين الإله كما جاء به القرآن، وإن كان لم يصحبه التوفيق في محاولته كما سنرى فيما بعد.

وليس من عملنا ولا من الممكن هنا أن نأتي بما ذهب إليه أبو نصر في هذه المشكلة؛ ولذلك نكتفي بأن نقول بإيجاز بأنه — مُستلهمًا أرسطو وأفلاطون والأفلاطونية الحديثة — قد انتهى إلى الذهاب إلى أنَّ الله هو الواحد والموجود الضروري من نفسه، والبريء من كل أنحاء النقص، والذي ليس بمادة، وهو مباين بجوهره لكل ما سواه، وليس مركبًا بوجه من الوجوه، فهو واحد من كل وجه.

وهو، لأنه ليس بمادة، عقلٌ بالفعل، يعقل ذاته، فالعقل والعاقل والمعقول شيء واحد هو الذات، وكذلك فيما يتصل بالعلم، ذاته علم وعالم ومعلوم، والله هذا؛ لأنه سبب وجود كل موجود، يلزم متى كان له هذا الوجود أن يصدر عنه ضرورة سائر الموجودات بطريق غير مباشر، وذلك على ما هو معروف في نظرية «العقول العشرة».٢١

وهكذا رأى الفارابي أنه وفَّق بين الإله كما جاء في الفلسفة وبين الإله كما جاء في القرآن! كما لم ينسَ أن ينسب لله كل صفات العظمة والجلال والكمال.

النبوة وما إليها

والنبوة في رأي الفارابي ليست أمرًا فوق الطبيعة، ولا شيئًا خارقًا للعادة، إنَّ النبي ليس إلا إنسانًا بلغت قوته المتخيلة غاية الكمال، وذلك بأنْ يحصل له أولًا العقل المنفعل، ثم بعده العقل المستفاد الذي يكون به الاتصال بالعقل الفعال، وحينئذ يأخذ عنه بطريق الفيض الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، أو مُحاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بذلك نبوة بالأشياء الإلهية.٢٢
وفيما يختص بالمعجزات التي يتقدم بها النبي دليلًا على صحة رسالته، نرى أيضًا أنَّ لها عند الفارابي تفسيرها العقلي، وذلك متى عرفنا — كما يقول — أن النبوة مختصة بقوى قدسية يذعن لها عالم الخلق الأكبر، كما يذعن لروح الواحد منا عالم الخلق الأصغر، فتأتي بمعجزات خارجة عن الجِبِلَّة والعادات، ولا يمنعها شيء من معرفة ما في اللوح المحفوظ.٢٣

وإذن، على رأي الفارابي، النَّبي والفيلسوف يتصل كلٌّ منهما بالعقل الفعال، والفرق بينهما أنَّ الأول ينال هذه الرُّتبة بكمال قوته المُتخيلة بعد كمال القوة العاقلة طبعًا، على حين يصل إليها الفيلسوف بالنظر والتفكير، وليس هذا في رأينا بالفرق الكبير.

وينبغي هنا أن نُلاحظَ أنَّ الفارابي في تصويره للنبوة على هذا النحو، وتفسيرها تفسيرًا نفسيًّا وعقليًّا كما رأينا آنفًا، يجعلها أعلى من الفلسفة، كما يجعل النَّبي هو الإنسان الذي بلغ أكمل مراتب الإنسانية والسعادة.٢٤ وهذا في رأي «دي بور» لا يتفق مع ما يؤخذ من فلسفة الفارابي النظرية، هذه الفلسفة التي ترى أن كل أمور النبوة — من الرؤى والكشوف والوحي ونحو ذلك — هو مما يختص بالقوة المُتخيلة، فتكون المعرفة الحاصلة عن ذلك أدنى مرتبة من المعرفة الفلسفية.٢٥

هكذا يرى «دي بور»، ونعتقد أنه نسي أنَّ المعلم الثاني يشترط في النبي فضلًا عن كمال القوة المُتخيلة، كمال القوة العاقلة، وذلك بأن يحصل له العقل بالفعل ثم العقل المستفاد الذي به — كما تقدم ذكره — يتصل بالعقل الفعال.

•••

هذا، والفارابي عُرف بتركيز الفكرة والإيجاز في التعبير عنها، فلعل مما يُعين على فهم نظرية النبوة أنْ نقتبس القليل من عرض الغزالي لهذه النظرية في كتابه المشهور «تهافت الفلاسفة»، ثم من عرض ابن ميمون، وهو جدُّ ثقة في الفلسفة الإسلامية وفيما كان لرجالها من آراء،٢٦ لها في كتابه «دلالة الحائرين»، فذلك كله تعبير صادق عن نظرية النبوة لدى الفارابي وابن سينا وابن رشد أيضًا، ومن ذلك نعرف تمامًا الفرق عند فلاسفة الإسلام بين النبي والفيلسوف؛ ولهذا خطره في مسألة التوفيق بين الوحي والعقل.

يذكر الغزالي عن الفلاسفة المسلمين أنَّ النبي إنسان بلغت قوته المُتخيلة الغاية من القوة، ولم تستغرقها الحواس، فاستطاعت أن تطلع في اليقظة والنوم على اللوح المحفوظ، وانطبعت فيها صور الجزئيات الكائنة في المُستقبل، ويكون ذلك معجزة للنبي، كما بلغت قوته العاقلة النظرية الكمال أيضًا، فصار قويَّ الحَدْس، بمعنى سرعة الانتقال من معلوم إلى آخر من غير حاجة إلى تعلم، بل يكون كأنه متعلم من نفسه، ويعتبر هذا معجزة أيضًا ولكن من نوع آخر.

وكذلك أخيرًا بلغت قوته النفسية والعملية حدًّا تتأثر بها الأمور الطبيعية وتتسخر له، فكما أنَّ نفس الإنسان تؤثر في جسمه وتؤثر في نفوس غيره إذا كانت هذه القوة النفسية العملية قوية فيه، كذلك إذا بلغت هذه القوة درجة الكمال صار من الممكن أن تخضع لها أمور الطبيعة، ويكون ذلك من النَّبي معجزة له من ضرب ثالث.

حتى إنه إذا تطلعت نفسه إلى هبوب ريح أو حدوث زلزلة أو نزول مطر، وذلك موقوف حصوله عادة على حدوث برودة أو سخونة أو حركة في الهواء، يحدث ذلك من نفسه وتتولد منه تلك الأمور من غير سبب طبيعي ظاهر، على أنَّه يشترط أن يكون هذا الذي يحدث ممكنًا في نفسه، لا مُستحيلًا كقلب العصا ثعبانًا أو انشقاق القمر الذي لا يقبل الانخراق والانشقاق.٢٧
هكذا يذكر الغزالي ويذكر ابن ميمون من بعده٢٨ أنَّ النبوة هي في الحقيقة فيض من الله بواسطة العقل الفعال على القوة العاقلة أولًا، ثم على القوة المتخيلة ثانيًا، وهي أعلى درجة وأكمل رتبة من الكمال يستطيع أن يصل إليها إنسان.

ويجب أن يكون هذا الإنسان قد ملك العلم والحكمة بدرجة ينتقل منها من القوة إلى الفعل، وأن يكون له العقل الكامل، وأن يكون تفكيره ورغباته قد تخلصت من الأماني والأطماع التافهة الباطلة.

ويجبُ أن نعلم أيضًا أن فيض العقل الفعَّال هذا لو كان على قوة الإنسان العاقلة وحدها، لا على القوة المتخيلة أيضًا، كان هذا الإنسان من طبقة العلماء الذين يُعمِلون النظر والفكر، ولكن هذا الفيض إن تناول القوتين معًا، كان هذا الإنسان من طبقة الأنبياء.

وكذلك يجبُ أن نعلم أنَّ الأنبياء الحقيقيين لهم بلا ريب الإدراكات والمعرفة العقلية النَّظرية، التي لا يُمكن أن يصل إلى مثلها ولا إلى أسبابها المُفَكِّرون غير الأنبياء، أي: الذين يعتمدون على القوة النظرية وحدها، وحقًّا إنَّ الوحي الذي يفيض على القوة المُتخيلة للنبي متى وصلت إلى الكمال، يجعله قادرًا على التنبؤ بالمُستقبل ومعرفة الأمور الغيبية كما لو كان يدركها بحواسه.

أقول: هكذا يستمر ابن ميمون في عرضه لنظرية النبوة لدى فلاسفة الإسلام، إن هذا الوحي يكمِّل أيضًا القوة العقلية المفكرة، وذلك أنَّه بهذا الأثر يُدرك النبيُّ الوجود الحقيقي للأشياء، كأنه يصل إلى هذا بواسطة قضايا نظرية تقوم على العقل وتفكيره، فإنه حينئذ يكون العقل الفعَّال قد فاض على القوة العاقلة وجعلها تنتقل من القوة إلى الفعل، وبهذه القوة يصل الفيض أو الوحي من هذه القوة إلى القوة المُتخيلة.

ومن أجل ذلك ما ينبغي أن نلتفت مُطلقًا إلى هؤلاء الذين لم تبلغ القوة العاقلة النظرية عندهم حد الكمال، والذين لم يصلوا إلى أعلى درجة من التفكير النظري؛ فإنَّ الذي يصل إلى الكمال في هذه الناحية وتلك، هو وحده الذي يصل إلى المعارف والحقائق العليا، وذلك حينما يفيضُ العقل عليه وصار يوحى إليه، وهو وحده النبي حقًّا.

وهكذا ينتهي ابن ميمون، وكذلك الغزالي من قبل من بيان نظرية النبوة بصفة عامة لدى فلاسفة الإسلام، وإلى أن هؤلاء وبالأخص الفارابي وابن سينا،٢٩ فسروا النبوة تفسيرًا نفسيًّا عقليًّا رغبة منهم في التوفيق بين الوحي والعقل، وحرصوا لهذا على جعل النبي أعلى منزلة من الفيلسوف، ما دام هو نبيًّا وفيلسوفًا معًا بكمال قوته المتخيلة وقوته النظرية، وهذا الحرص في هذه الناحية منهم، له ما يبرره من وجهة نظر المسلمين وإجماعهم على أنَّ أعلى ما يمكن أن يصل إليه بشر هو درجة النبوة.

•••

هذا، والقرآن ذكر الملائكة في آيات كثيرة منه، فلم يسع الفارابي إنكارُ وجودهم، لكنه لم يقل كما يقول المتكلمون عنها إنها أجسام قادرة على التشكل بأشكال مُختلفة، بل ذهب إلى أنها كائنات معقولة لا رابطة لها بالمادة، وبعبارة أخرى نراه يُفسرها بأنها صور مجردة عن المادة، وهي صلة ما بين مصدر الوحي والموحى إليه.٣٠
وكذلك القلم واللوح، وقد جاء ذكرهما في القرآن، ليسا كما يقول المتكلمون أيضًا شيئين ماديين، بل «القلم ملك روحاني، واللوح ملك روحاني، والكتابة تصوير الحقائق.»٣١
واليوم الآخر وما فيه من جزاء: ثواب وعقاب، لا ينكر الفارابي شيئًا منه، فإنَّ للنفس بعد الموت سعادات وشقاوات كما يقول،٣٢ لكن هذا الجزاء لن يكون إلا روحيًّا محضًا، فليس هناك لذائذ ولا عقوبات جسمية كما يرى المتكلمون، بل السعادة ليست عنده إلا أن تتحرر النفس من قيود المادة فتصير عقلًا كاملًا.٣٣ ولذلك كان يدعو الله بأن يجعل الحكمة سببًا لاتحاد نفسه بالعوالم الإلهية والأرواح السماوية، فتكون بعد فناء البدن من جملة هذه الجواهر الشريفة الغالية.٣٤

الخاصة والعامة

وأخيرًا لم يخْفَ على المُعلم الثاني ما في تفسيره للنبوة وبعض العقائد السمعية من عسر في الفهم يجعل أكثر الناس عاجزين عن إدراكها؛ ولذلك لم يرَ بدًّا من تقسيم الناس — حسب مراتبهم في الفهم والتصديق — إلى طبقات ثلاث: عامَّة، ورجال دين، وفلاسفة.

ورأى تبعًا لهذا التقسيم أنه يجب عرض هذه الأمور وأمثالها على أفراد كلٍّ من هذه الطبقات، بطريقة تتناسب ومقدرتها على تصوُّرها وفهمها، والله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، أي إما بتقريبها للفهم بذكر محاكياتها وأمثالها، وإما بذكر الحقائق مجردة سافرة.

وفيما يختص بإثباتها على كل حال، ينبغي أن نلجأ بالنِّسبة للعامة وأمثالهم إلى البراهين الإقناعية التي تنفعهم، وأن نلجأ إلى البراهين الحقيقية بالنسبة للقادرين عليها، أي: لأهل الاستدلال.٣٥

•••

وبعد، هل نجح الفارابي فيما أراده من التوفيق بين العقل والوحي، أو بين الفلسفة والدين؟ إننا نرى أنَّه مع ما بذله من جهد في هذه السبيل من السهل أن نقول: لا.

وذلك أنَّه على الرَّغم من محاولة الفارابي حل مسألة «الواحد» وصدور العالم عنه وكيفية هذا الصدور، قد بقي إله «أرسطو» غير مقبول في الإسلام، مع ما نال نظرية أرسطو من تعديل يرجع إلى أفلاطون ومدرسة الإسكندرية.

وفي الحق أن إلهًا يصدر العالم عنه بلا إرادة وخلق منه ولا نشاط له، وبينه وبين هذا العالم وسطاء عديدون، ولا يعلم إلا ذاته. إله كذلك لا يمكن أن يتفق والعقائد الصحيحة التي جاء بها الإسلام، وإن عُني الفارابي — في نظرية الفيض، التي أراد بها على ما هو معروف التوفيقَ بين أرسطو والإسلام — بجعله سببًا فاعلًا.

وكذلك تسمية الفارابي للعقول التي ذهب إليها ليفسر صدور الكثير — وهو العالم — عن الواحد، ملائكة ليوافق القرآن في التسمية لا يجعلها حقًّا ملائكة كما جاء في الإسلام.

فإنَّ هذه العقول عنها صدر العالم في رأيه، فهي خالقة على هذا النَّحو، وملائكة القرآن لا شيء لها مُطلقًا من الخلق أو الأمر، بل هم لا يعصُون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، فكيف وتلك العقول!

(١-٣) السجستاني

وهذا مُفكر آخر حَرِيٌّ أن يأخذ مكانه بين مُفكري الإسلام بعد أن طال إهماله، وهو أبو سُليمان محمد بن طاهر بن بهرام المنطقي السجستاني الذي عاش إلى أواخر القرن الرابع الهجري، وإنه لأهل لأن يتحدث عنه مؤرخ التفكير الإسلامي.

وهو تلميذ يحيى بن عدي تلميذ الفارابي، ولكنَّه كان أنبه ذكرًا من شيخه، كما كان شيخًا في الفلسفة لأبي حيان التوحيدي، الذي ترك لنا في كتابيه: «المقابسات»، و«الإمتاع والمؤانسة» الكثير مما كان يجري في مجالس أبي سليمان، هذه المجالس التي كانت تحفل بالعلماء والحكماء يبحثون في نواحٍ مختلفة من العِلم والفلسفة، وكان المُتجادلون يلجئون غالبًا إليه؛ فيكون رأيه هو الرأيَ الفصل فيما كانوا يتحدثون فيه، ولا عَجَب، فقد كان السجستاني، كما يذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمته، «فاضلًا في العلوم الحكمية، مُتقنًا لها مُطلعًا على دقائقها.»٣٦
وبالرجوع إلى أبي حيان في كتابيه المذكورين آنفًا، نجده يصف شيخه السجستاني بأن كان من بين المعنيين بالفلسفة في عصره، كان «أدقهم نظرًا، وأصفاهم فكرًا، وأظفرهم بالدرر.»٣٧ وكذلك نجد أنَّ أحد تلاميذه وهو الطبيب المعروف بفيروز يقول له: «أيها السيد، والله ما نجد شفاء لداء الجهل إلا عندك، ولا نظفر بقوت النفس إلا على لسانك، ولا نعلم يقينًا إلا بحُسن تعريفك.»٣٨ وأنه أخيرًا كان يعيشُ إلى سنة ٣٩١ﻫ.٣٩
كما نَعرِف من المقابسة رقم ٦٤ أنَّ الروح التي كانت تسود أبا سليمان ومن يلتفون حوله من علماء العصر ومفكريه، لا يُسأل أحد عن بلده ولا عن ملته، كانت مُستمدة من حكمة يرجعها أبو سُليمان نفسه إلى أفلاطون، وهذه الحكمة تتلخص في أنَّ الحق لم يصبه واحد وحده، بل في كل رأي نصيب منه قلَّ أو كثر؛ ولهذا لا معنى للتعصب لمذهب على مذهب، ومن ثم أيضًا ليس من المعقول أن يقوم خلاف بين الدين والفلسفة.٤٠
على أن الخوف من رجال الدين ومن يتأثرون بهم من العامة وأمثالهم، كان له أثره في أبي سليمان وأصحابه، وذلك أنه بينما كانوا أحرارًا في تفكيرهم وجَدَلُهم في مجالسهم الخاصة بهم، كانوا حذرين من أن يُعرف ما لا يتفق والروحَ الدينية السائدة في العصر.٤١

ونقولُ بعد هذه الأمور العَامَّة عن السجستاني ومركزه في زمنه، وعن الروح الحرة التي كانت تسود مجالسه: إنه — مثل شيخه الفارابي — كان له رأيه في تقسيم الناس إلى عامَّة وخاصة، وفي العالم ووجوده، وفي العلاقة التي يجبُ أن تقوم بين الدين والفلسفة، وسنتناول كلًّا من هذه المسائل بإيجاز.

العامة والخاصة

ينقسم الناسُ في رأيه حسب عقولهم واستعدادهم للنظر والفكر، إلى عامَّة وخاصة، الأولى: ليس لها أن تتصل بالحكمة أو تتطاول إلى غرائب الفلسفة، وذلك لرداءة عقولها وضآلة معارفها وخبث نفوسها، والأخرى: لها أن تبحث من ذلك ما تريد؛ لأنها تعيش بها ولها، ولها من فضائل النفس ما يعصمها عن الضلال.٤٢
ولهذا يُفسر السجستاني عَدم صفاء التوحيد في الشريعة من شوائب الظنون واستعمال الأمثال، كما صفا ذلك في الفلسفة، بأن الكلام (يُريد الشريعة) الذي يُراد به صلاح الناس جميعًا لا بدَّ أن يكون مرَّة مبسوطًا وأخرى موجزًا، ومَرَّة صريحًا ومرة فيه رمز وتعريض؛ ولذلك «كان جميع ما جاء به الشَّرع من هذا الضرب ليجد الخاصِّيُّ فيه إشارة تشفيه، والعامِّيُّ عبارة تكفيه.»٤٣

ونعتقد أنَّ هذا التعليل يدلنا على أنَّ السجستاني كان يرى ضرورة تأويل ما اشتملت عليه الشريعة من رموز وأمثال للخاصة القادرة على التأويل.

وكان الطبيعي مع هذا أن يُفرق أبو سليمان بين طريقة المتكلمين وبين طريقة الفلاسفة في بحث المسائل الإلهية أو العقيدية، وذلك ما بَيَّنه لنا تلميذه التوحيدي،٤٤ ومن ثم نراه ينقد بشدة هؤلاء المُتكلمين الذين لم يفرقوا في تعاليمهم بين العامة والخاصة.

الله والعالم

ونستطيع أن نستشِفَّ مما رواه لنا أبو حيان عن شيخه في هذه المُشكلة، وهو قليل جدًّا، أنَّ السجستاني يرى أنَّه يصح أن يُقال إن العالم قديم ومحدث، قديم إذا نظرنا إلى الأجرام العلوية التي لا تتكون ولا تفسد، ومحدث إذا نظرنا إلى العالم الأرضي، فنجد الكون والفساد يتعاقبان على الأشياء، أو هو قديم من ناحية المادة، ومحدث من ناحية الصور التي تتعاقب عليها، وهذا ما يُفْهَم من قوله عن العالم في بعض المقابسات: «قديم بالسُّوس (أي: الأصل أو المادة)، حديث بالتخطيط.»٤٥
وفي مسألة الخلق نستطيعُ أن نُقَرِّر أنه يرى أن العالم فعل الله، بمعنى أنَّه معلول عنه كما يقول الفلاسفة، ولكنه مع هذا لا يرى أن يُقال إن الله فاعل بالاضطرار؛ لأن ذلك صفة العاجز، ولا بالاختيار لأنَّ في الاختيار معنى قويًّا من الانفعال، وإنما الله يفعل ويصدر عنه العالم بنحو أشرف من هذا وذاك يضيق عنه الاسم، بل إن قولنا بالنسبة إلى الله: يفعل وفاعل، هو كلام يُطلق على حدِّ المجاز والمعتاد من الكلام.٤٦
وإذا كان العالم قد صدر عن الله باعتباره علَّة له، فإنه يتحرك نحوه بالشوق باعتبار الله الغاية الأولى والغاية القصوى، وباعتباره المُحرك للأشياء التي إليه تتحرك جميعًا.٤٧

الدين والفلسفة

وللسجستاني في العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة رأي واضحٌ قاطعٌ، وهو وليد التفكير والإدراك العميق للغاية من كلٍّ منهما، كما هو وليد الاعتبار بجهود من حاولوا تحديد هذه العلاقة من معاصريه، وهذا الرَّأي هو وجوب الفصل التام بين الشريعة والفلسفة؛ وذلك لما بينهما من اختلاف في الطبيعة والغاية والوسيلة إلى هذه الغاية، وفي منطقة النفوذ إن صح هذا التعبير.

لقد عرض عليه تلميذه التوحيدي بعض رسائل إخوان الصفاء، الذين يزعمون أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، فقال بعد أن اختبرها: «ظنوا ما لا يكون ولا يمكن ولا يُستطاع، ظنوا أنه يمكنهم أن يدسوا الفلسفة في الشريعة، وأن يضموا الشريعة في الفلسفة، وهذا مَرام دونه حَدَد؛ أي دفع ومنع.

قيل له: ولم؟ قال: إنَّ الشريعة مأخوذة عن الله عز وجل بواسطة السفير بينه وبين الخلق من طريق الوحي، وفي أثنائها ما لا سبيل إلى البحث عنه والغوص فيه، ولا بد من التسليم للداعي إليه والمنبه عليه، وهنا يسقط «لمَ» ويبطل «كيف» ويزول «هلَّا»، ويذهب «لو وليت» في الريح.»٤٨
ثم يذكر بعد ذلك أنه لو كان الجمع بين هذين الطرفين جائزًا ومُمكنًا، لكان الله قد نبه عليه، وكان صاحب الشريعة يكمل شريعته بالفلسفة، لكنه لم يفعل ذلك ولا وكله إلى غيره من خلفائه والقائمين بدينه، بل إنه على العكس نهى عن الخوض في هذه الأشياء.٤٩
ولهذا يرى أبو سُليمان أنه «لمصلحة عامة نُهي عن المراء والجدل في الدين على عادة المتكلمين الذين يزعمون أنهم ينصرون الدين، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس عن الطمأنينة واليقين.»٥٠
على أنَّه لا ينبغي أن يُفهم مما تقدم آنفًا أنَّ الشريعة في رأيه ناقصة، وأنها في حاجة لأن تكمل بالفلسفة، إنه إن أخذنا كلامه حرفيًّا لا خبئ له، يُريد أن يقول إنَّ كلًّا من الشريعة والفلسفة تخالف الأخرى في طبيعتها وغايتها، في طبيعتها كما وضح مما سبق، وفي غايتها لأنَّ غاية الديانة إكمال النفس بالفضيلة، وغاية الحكمة أو الفلسفة تكوين العقل بالحقائق والمعرفة، أو أنَّ الفلسفةَ، كما يقول، صورةُ النفس، والديانةَ سيرةُ النفس، فكلٌّ منها يكمل الأُخرى، وإذن فلا تناقض بينهما.٥١ فكل ما يجب إذن هو عدم خلطهما، وحينئذ تتم السعادة لأصحاب هذه وأصحاب تلك.
والسجستاني يذكرنا برأيه هذا رأيَ «سبينوزا» الذي سنتناوله بشيء من البسط عند الكلام عن العلاقة بين الوحي والعقل عند ابن رشد، وذلك حين يذهب صاحب «الأخلاق» إلى أنَّ الغاية من الفلسفة هي الحقيقة، والغاية من العقيدة هي الطاعة والتقوى؛ ولهذا ينبغي فصل كلٍّ منهما عن الأخرى.٥٢
ولكن السجستاني يرى على الضد من «سبينوزا» أنَّ الدين حق مثل الفلسفة؛ ولهذا نَجِده يقول في موضع آخر: «إنَّ الفلسفة حق، ولكنها ليست من الشريعة في شيء، والشريعة حق، ولكنها ليست من الفلسفة في شيء.» وذلك بأنَّ الفلسفة مصدرها العقل، والدين مصدره الوحي، وليس فيه «لِمَ» ولا «كيف» إلا بمقدار ما يشدُّ أزره؛ ولهذا الاختلاف في المعين والطبيعة، يجبُ عدم خلط أحدهما بالآخر، وكلُّ من حاول رفع هذا فقد حاول نفي الطباع وقلْب الأصل وعكْس الأمر، وهذا غير مُستطاع.٥٣

•••

وبعد، هكذا رأينا السجستاني يوجبُ الفَصل بين الشريعة والفلسفة، وأنه لم يكن يعنيه أو يرضيه أن يخلط بينهما أو أن يعمل على التوفيق بينهما بإتْباع إحداهما للأخرى، كما لم يحاول — كالفارابي مثلًا — تفسير العقائد الدينية تفسيرًا نفسيًّا وعقليًّا؛ ليكون ذلك وسيلة للتوفيق، بل إنه جعل لكلٍّ من هذين الطرفين المُختلفين طبيعة ووسيلة وغاية، طائفة خاصة من الناس بها تصل إلى السعادة.

(١-٤) مسكويه

ننتقل الآن إلى الحديث عن فيلسوف آخر جاء به الزَّمن بعد الفارابي، وإن كانت شهرته بالفلسفة العملية (الأخلاق) أكبر من شهرته بالفلسفة النظرية الإلهية، ومع هذا فإنَّ له من الجهد في مُحاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة ما يجعلنا نذكر كلمة عنه قبل أن نصل إلى تلميذ الفارابي الأشهر، نعني به ابن سينا أو الشيخ الرئيس.

وهذا الفيلسوف هو «مسكويه» أبو علي أحمد بن يعقوب، الذي جمع بين علوم اللغة والتاريخ والطب، والذي كان ذا حظوة لدى السلطان عضد الدولة بن بُوَيْهِ حتى جعله صاحب خزائنه، وقد توفي عام ٤٢١ﻫ كما يقول حاجي خليفة وياقوت، أو عام ٤٢٠ﻫ كما يذكر القفطي.٥٤
وقد وافق مسكويه الفارابي في بعض النقط الجوهرية في تفكيره؛ لأنه نهل معه من معين واحد وهو الفلسفة اليونانية، وإن كان ميله إلى الكندي أكثر كما يقول دي بور.٥٥

ونجد مسألة التوفيق من تلك النقط التي وافق المعلمَ الثاني فيها، وذلك بتفسيره النبوةَ مثله تفسيرًا عقليًّا يضعف الفرق بين النبي والفيلسوف ويزيد الصلة بينهما، وبتأكيده الحاجة إلى النبوة؛ لأنَّ الفلسفة لا تغني عنها لجميع الناس، وبغير هذا وذاك مما وافق فيه على نحوٍ ما رجالَ الدين وعلم الكلام، مثل وجود العالم عن عدم، وخلود النفس، والجزاء الأخروي.

حقًّا النبي عند مسكويه هو إنسانٌ يَصل بتأثير العقل الفعال في قوته الحاسة وقوته المُتخيلة إلى الحقائق التي يصل إليها الفيلسوف، لا فرق بينهما إلَّا أنَّ هذا قد وصل إليها مرتقيًا من أسفل إلى أعلى: من قوة الحسِّ إلى قوة التخيل إلى قوة الفكر التي يُدرك بها ما في العقل الفعال من حقائق، على حين يتلقى النَّبي نفس الحقائق منحطة إليه من أعلى، أي: من العقل الفعَّال أيضًا.

ولأنَّ الحقائق التي يُدركها كلٌّ من النبي والفيلسوف واحدة، كان الفيلسوف أسرع من غيره لتصديق ما يأتي به النبي وقبوله؛ وذلك لأنَّه جاء بما لا ينكره عقله.٥٦ والناس في حاجة إلى الأنبياء لمعرفة الأعمال النافعة التي بها تكون سعادة الإنسان، وإن كان معرفة صحة ما دعوا إليه بالنظر الصحيح تكون من جهة الحكماء.٥٧
ولم يختلف أحدٌ، كما يقول، ممن يستحق أن يُسمى فيلسوفًا في إثبات الصانع عزَّ وجل، ولا حُكي عن واحد منهم أنه جحده،٥٨ وهو قد أبدع الأشياء كلها لا من شيء؛ لأنه لا يصح الإبداع إلا إذا كان لا من موجود، أعني من العدم.٥٩
والنفس جوهر باقٍ لا يقبل الموت ولا الفناء،٦٠ وستُجزى على ما عملت في الدار الأخرى، إلَّا أنَّ سعادتها وشقاءها اللذين سيحصلان لها بعد مُفارقة البدن أمور روحية تُناسب معدِنها وجوهرها؛ لأنَّ اللذات الجسمانية ليست من اللذات الحقيقية في شيء.٦١

(١-٥) ابن سينا

وأخيرًا فيما يختص بفلاسفة المشرق ومفكريه، نجد الشيخ الرئيس يُعنى بمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة في كثير من رسائله وكتاباته، وبخاصة في كتابيه «النجاة» و«الإشارات»،٦٢ فقد خصص بضع صفحات من كلٍّ من هذين الكتابين للغرض الذي عمل شيخُه الفارابي.

ولم يتأثر به فقط في العمل لهذا الغرض، بل كذلك في الطريق الذي رسمه، وفي الخطة التي اتبعها في محاولته، نعني تقريبَ كلٍّ من الفلسفة والدين للآخر، وتفسيرَ عقائد الدين وشعائره تفسيرًا يرضاه العقل ولا ينأى به عن الشريعة، وبتقسيم الناس إلى طبقات، لكلٍّ منها طريقها في الفهم والتصديق والاستدلال.

ولا نرى هنا ضرورة لتفصيل القول في ذلك عن ابن سينا في هذه النواحي، حتى لا يكون إعادة وتكريرًا لما ذكرناه عن الفارابي، ومع هذا نقول بأنه يكفي الرجوع لما جاء في كتاباته لنتبين أنه يرى أنَّ النبوة هي الفيض والإلهام عن العقل الفعال، وأنَّ النبي هو من يقبل هذا الفيض بلا واسطة.٦٣
وكذلك يرى أنَّه لصلاح الناس والعالم لابد من وجود نبي، وأن يكون إنسانًا يتميز بالمعجزات ليصدقه الناس ويتبعوه، والمعاد في الدار الأخرى مقبول من الشرع والعقل معًا، وسعادة النفس بعد فناء البدن تكون بشيء عقلي روحي يناسبها، وكذلك شقاؤها.٦٤
والناسُ طبقات: عامَّة وخاصَّة، ولكل طبقة حظها من العقل والاستعداد والإدراك، وطريقها في الفهم والتصديق؛ ولهذا كان الأنبياء وأجلَّة فلاسفة اليونان يستعملون في كلامهم المراميز والإشارات؛ ولذلك أيضًا ما كان لمحمد أن يقف على العلم أعرابيًّا جافًّا أو مثله ممن أرسل إليهم من البشر كافة.٦٥
ونُشير بعد هذا إلى تأويل الشيخ الرئيس لما جاء في الشريعة عن الملائكة والعرش، والصراط والجنة والنار، والعقاب والثواب،٦٦ ولهذا كان من الحق ما لاحظه الدكتور مدكور من تأثره بشيخه الفارابي في هذه الناحية إلى حدٍّ كبير.٦٧
ولكن من الحق مع ذلك أن نُشير إلى أنَّ ابن سينا حاول أن يخفف من غلوِّ أرسطو بإبعاد إلهه أو مُحركه الأول عن العالم، فخالف الفارابي فيما ذهب إليه من أنَّ الله لا يعلم إلا ذاته، وجعله يعلم ما يجري في العالم علمًا كليًّا عامًّا لا جزئيًّا خاصًّا، أي: يعلم العالم وما يكون فيه باعتباره سلسلة من أسباب ومسببات عنها، أو باعتباره السبب الأول الذي صدر عنه.٦٨

•••

هذا، ونرى من المفيد أن نُشير هنا بعد ما تقدم إلى أنَّ ابن سينا اندفع في محاولته التوفيق بين الشريعة والفلسفة بعوامل ليس منها على ما نرى خشيةُ اضطهاده بسبب الفلسفة.

لقد عاش أبو علي في بيئة تشجع العلم والعلماء، والتفكير والمفكرين، واتصل شطرًا من حياته بسُلطان بخارى نوح بن نصر الساماني المعروف بحبه للعلم، وأفاد كثيرًا من كتبه.

وأمَّا ما أصابه بعد وفاة أبيه من الاضطراب الكبير في حياته، فإنَّ سببه اشتغاله بالسياسة واتصاله بالأمراء في ذلك العصر الذي كان مليئًا بالفوضى والدسائس، حتى إنه كما يروي صاحبه أبو عبيد الجورْجاني ولي الوزارة لشمس الدولة أمير همدان، ثم اضطرب عليه الجند وأغاروا على داره ونهبوا جميع ما كان يملكه، وسألوا الأمير قتله فامتنع واكتفى بنفيه، ثم عاد ثانيًا للوزارة، وهكذا ظل يحيا حياة مُضطربة حتى مات عام ٤٢٨ﻫ بهمذان.٦٩

ونريد بذلك أن نُدلِّل على أنَّ ابن سينا انبعث إلى التوفيق بين الشريعة والفلسفة بالباعث الذي أشرنا إليه أكثر من مرة، وهو أنَّ هذا التوفيق يُعنى به الفيلسوف الذي له دين يحرص عليه، وذلك ليوائم بين ما يراه حقًّا وإن كان في صورتين مُختلفتين، أي: الوحي والعقل معًا.

(٢) في المغرب (البطليوسي وابن طفيل)

(٢-١) البطليوسي

تلك كانت عنايةَ فلاسفة المشرق الإسلامي ومفكريه بتحديد العلاقة بين الدين والفلسفة، فمنهم، كما عرفنا، من رأى وجوب الفصل بينهما، مثل السجستاني، ومنهم من رأى التوفيق بينهما، مثل الكندي والفارابي وابن سينا، وكذلك شغلت هذه المسألة فلاسفة المغرب ومُفكريه أيضًا، ونبدأ منهم بالبطليوسي.

وهو عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي، الذي وُلِدَ في بطليوس سنة ٤٤٤ﻫ وتوفي في بَلنْسية سنة ٥٢١ﻫ، وكلتاهما من بلاد الأندلس كما هو معروف.٧٠ ويظهر أنَّ شهرته باللغة والأدب وغيرهما من العلوم الإسلامية قد غطت على شهرته بالتفكير الفلسفي؛ ولذلك لا نعلمُ أحدًا درَسه قبلنا من هذه الناحية.

على أنه قد عالج مشكلة التوفيق بين الدين والفلسفة، ويظهر أنَّ طريقته في ذلك جعلته مرضيًّا عنه، ها هو ذا معاصره الفتح بن خاقان يقول عنه في كتابه «قلائد العقيان»: «له تحقق في العلوم الحديثة والقديمة، وتصرُّفٌ في طرقها القويمة، ما خرج بمعرفتها عن مضمار شرع، ولا نكب عن أصل للسنة ولا فرع.»

والآن كيف عالج هذه المُشكلة؟ نستطيع أن نُقَرِّرَ بعد معرفة ما ترك البطليوسي من مؤلفات بأنَّه خصص واحدًا منها لهذه المسألة، وهو «كتاب الحدائق في المطالب العالية الفلسفية العويصة.»٧١ وأنَّه عالجها أثناء بحث هذه المسائل:
  • (١)

    الله ووجود العالم عنه.

  • (٢)

    علم الله وشموله.

  • (٣)

    تحبيب الفلاسفة القدامى إلى المسلمين.

  • (٤)

    علوُّ ما يأتي به الوحي على ما يصل إليه العقل.

  • (٥)

    خلود الروح أو النفس والبعث.

وسنتناول كلًّا من هذه المسائل بإيجاز؛ لنعرف الخطة التي اصطنعها ليصل إلى ما أراد من التوفيق بين الشريعة والفلسفة، ومرجعنا في هذا كله هو كتاب الحدائق السابق ذكره.

الله ووجود العالم عنه

في هذه المسألة نجد عند البطليوسي نظرية فيض الموجودات عن الله، باعتباره العلةَ الأولى أو السبب الأول لها، على أنه علة مُباشرة لأول موجود وغير مباشرة لما بعده، كما نجد عنده نظرية العقول العشرة، وهذا وذاك على النحو الذي نعرفه عن الفارابي وابن سينا.

ويُمثَّل ذلك لنا بوجود الأعداد جميعها عن الواحد، فكل عدد معلولٌ لسابقه لا يوجد إلا بتوسطه، وإن كان الواحد علة لها جميعًا؛ إذ كان لا يصح وجود الأبعد إلا بوجود الأقرب، وهذا معنى ما يُقال «إنَّ الواحد علة العلل وسبب الأسباب.»٧٢

والبطليوسي يمضي في هذا التمثيل، تمثيل وجود العالم عن الله بوجود الأعداد إلى ما لا نهاية عن الواحد، لينتهي من هذا إلى حل هذه المشكلات: قِدَم العالم أو حدوثه، وجوده عن مادة أولى قديمة أو من العدم كما يقول الدين، وكيف تصدر الكثرة عن الواحد بغير تكثُّر في ذاته.

ولذلك يقول: «وكما أنَّ الأعداد كلها اقتبست الوجود من الواحد من غير حركة ولا زمان ولا مكان، ولم يحتج الواحد في إيجادها إلى شيء آخر غير ذاته، فكذلك حدوث الموجودات عن الباري تعالى بغير حركة، وبغير زمان، وبغير مكان، ومن غير أن يُحتاج في إيجادها إلى شيء غيره.

وكما أن الواحد لا يوصف بأنه تقدم الأعداد بالزمان، ولا يُبطل ذلك أن تكون الأعداد مُحدثة عنه، فكذلك الباري لا يوصف بأنه تقدم العالم بالزمان، ولا يبطل أن يكون العالم محدثًا عنه.

وكما أنَّ الواحد لا يتغير عن الوحدانية بكثرة ما حدث من الأعداد عنه، ولم يوجب ذلك تكثُّرًا في ذاته ولا استحالة في جوهره، فكذلك حدوث العالم وكثرته لا يُوجِبُ تغير الباري في وحدانيته، ولا تكثرًا في ذاته.» إلى آخر ما قال.٧٣

وكذلك يمضي في هذا التمثيل؛ ليَصِلَ إلى أنَّ العالم محتاج في وجوده ودوامه لوجود الله؛ فلو ارتفع لارتفع، وأنَّ الأمر ليس بالعكس، فلو ارتفع العالم لم يرتفع الله، كما هو الحال بالنِّسبة للواحد والأعداد الموجودة به.

ومعنى هذا «أنَّ وجود الله وجود مُطلقٌ؛ لأنَّه لا يحتاج في وجوده إلى غيره، ووجود الموجودات كلها وجود مضاف؛ لأنَّ وجودها مقتبس من وجوده وفائض عنه.»٧٤ أو بعبارة أخرى، إنَّ سريان الوحدة من الباري تعالى — التي بها قوامه وتميزه عن سواه — للأشياء هو الذي كوَّنها، وأفاض الوجود على مَرَاتبها وصيَّر بعضها عللًا لبعض، وهو تعالى علة وجود الجميع؛ ولذلك سمَّوه علة العلل، والفاعل المطلق والفاعل بالحقيقة؛ لأنَّ فعل غيره إنما هو فعل بالمجاز.٧٥

هكذا في هذه الناحية يرى البطليوسي أنَّه قد وفق بين الشريعة والفلسفة، وذلك بالقول بالله الخالق للعالم من لا شيء، وإن كان ذلك بطريق العِلِّية المُباشرة لأوَّل موجود وغير المباشرة للموجودات الأُخرى، وكذلك بذهابه إلى أنَّ القول بحدوث العالم عنه لا يقتضي تقدم الله عنه بالزمان، كما هو الأمر بالنسبة للواحد ما وجد عنه من الأعداد الأخرى، وذلك ما لا يستطيع أحد أن يقول بخلافه، ما دام أن الله هو العلة الأولى لوجود العالم، والعلة لا تتقدم على معلولها بالزمان.

علم الله وشموله

وهنا نرى البطليوسي ينقد من ذهب — كالفارابي — إلى أنَّ الله لا يعلم غيره، أو أنه يعلم غيره من الموجودات على نحو كلِّيٍّ لا جزئي، كما ذهب إليه ابن سينا مثلًا، وهؤلاء وأولئك يستندون إلى قول الفلاسفة القدامى: «إنَّ الله لا يعلم إلا نفسه.» وهذا الفهم لهذه القولة يصفه البطليوسي بأنه جهل وسوء تأويل لكلام القدامى، وأنهم براء مما توهَّم هؤلاء عليهم.

وبعد أن اجتهد في شرح هذه العبارة المأثورة على أربعة أوجه، وكل منها ينتهي إلى هذا المبدأ: إذا علم الله نفسه فقد علم كل وجود تابع لوجوده، أخذ في التدليل على أنَّ الفلاسفة قد أرادوا بذلك أنَّ الله عالم بكل شيء؛ لأنَّه عقل مجرد عن المادة التي تمنعنا من إدراك الأشياء، وينتهي من ذلك إلى إبطال ما ذهب إليه كلٌّ من الفارابي ومتَّبعيه وابن سينا ومتبعيه.

وأخيرًا يستند في مناقشته لهذه المذاهب إلى ما جاء في القرآن من آيات تثبت علم الله الشامل لكل شيء، كبيرًا كان أو صغيرًا، وكليًّا كان أو جزئيًّا، مؤكدًا أنَّ ما جاء في هذه المسألة من الأقوال المأثورة عن الفلاسفة القُدامى يُطابق ما ورد في الشريعة.٧٦

تحبيب الفلاسفة القدامى للمسلمين

نكتفي هنا بالإشارة إلى ما حاوله في المسألة السابعة، نعني علم الله الشامل لكل شيء، من أنَّ الفلاسفة اليونان القدامى يرون — كما جاء به الإسلام — أنَّ الله يعلم كل شيء، ومن أن ما قيل عنهم مما يخالف هذا ليس مأتاه إلا من الجهل وعدم فهم كلامهم.

ثم نُشير إلى ما ذكره في أثناء عرض رأيه، أو بالأحرَى الرأي الذي ارتضاه عن الفارابي وابن سينا في مسألة وجود العالم عن الله، من قوله: «فهذا مذهب أرسطوطاليس وأفلاطون وسقراط، وغيرهم من مشاهير الفلاسفة وزعمائهم القائلين بالتوحيد.»٧٧ كما يَذكُر عند الكلام على عدم فناء النَّفس وخلودها، أنَّ هذا هو مذهب سقراط وأرسطوطاليس وأفلاطون وسائر زعماء الفلاسفة.٧٨

ولسنا الآن في مقام تخطئته في نسبته القول بالتوحيد وعلم الله الشامل إلى سقراط وأفلاطون وأرسطو معًا، فلعلَّ له عذره في أنَّه حكم بهذا بحسب ما وصل إليه عنهم، ولكنا نُشير مَرَّة أُخرى إلى أنه قد يكون قصد من ذلك أن يجعل هؤلاء الفلاسفة القدماء وآراءهم في هذه المشاكل الفلسفية الأساسية، محببة إلى رجال الدين؛ لأنها في رأيه لا تختلف عما جاء به الإسلام.

علوُّ الوحي على ما يصل إليه العقل

بتحديد البطليوسي لخواص النفس ومهمتها، ومن تحديده لخواص النفس النبوية والدور الذي لها،٧٩ نستطيعُ أن نفهم أنَّ لكلٍّ منهما حدودًا خاصة، وأنَّ العقل محدود القدرة؛ إذ يقف عاجزًا أَمَام بعض الأمور التي تُعلم بطريق الوحي وحده.
دَور العقل أو النَّفس الفلسفية كما يقول، هو معرفة الحقيقة التي تنشدها الفلسفة، ومعرفة أسباب الأشياء وعللها، ومهمة الوحي أو النفس النبوية هي الاتصال بالعقل الفعَّال وتلقِّي الوحي، وإكمالُ الفِطَر الناقصة بوضع السنن والتشريعات، وتعليمُنا ما يعجز العقل عن علمه ومعرفته، وهنا يسوق قولًا لأفلاطون عن عجز العقل عن فهم ما جاءت به الشرائع، وآخر لأرسطو عن وجوب التسليم لما جاءت به.٨٠
ومن ثم نفهم أنَّه يذهب إلى علوِّ مرتبة النبي عن مرتبة الفيلسوف، بل إنَّه ليُؤكد بصراحة أنَّ النفس النبوية أشرف النفوس، وأنَّه لا يتفق أن توجد إلا في ذوي الفِطر الكاملة، كما يؤكد بعد هذا أنَّ النبوة إلهام لا اكتساب.٨١

وفي هذا وذاك — أي إنَّ النبوة ليست اكتسابًا بالنظر والفكر، وأنَّ النبي أعلى درجة من الفيلسوف — ذهابٌ صريح من البطليوسي إلى ما يقوله الدين في هذه الناحية، وبذلك يصح ما قاله ابن خاقان فيه، وسبق أن نقلناه عنه من أنه مع بصره بالعلوم القديمة ما خرج بمعرفتها عن الشريعة والسنة.

خلود النفس والبعث

وأخيرًا نجدُ البطليوسي يُعنى بذكر جملة من البراهين الفلسفية على بقاء النفس بعد مُفارقة الجسد بالموت، وهذا ما لا يُنازع فيه أحد من رجال الدين، وهو كما يزعم مذهب سقراط وأفلاطون وأرسطو وسائر زعماء الفلاسفة الإغريق.٨٢
ولا نرى من الضروري هنا إيراد كل هذه البراهين التي دلَّل بها على خلود النفس بعد فناء الجسم، ولكنَّا مع هذا نُشير إلى ما يراه في البرهان الثاني من أنَّ الجسم ليس حيًّا إلا بالقوة، ولا يصير حيًّا بالفعل إلا بجوهر آخر غيره هو حي بالفعل، وذلك الجوهر هو النفس، إذن النفس حية بالفعل، وما هو كذلك لا يعدم الحياة.٨٣
وكذلك نشير إلى البرهان الخامس الذي يتلخص في أنَّ الإنسان مركب من جوهرين: جوهر حيٍّ بالطبع وهو النفس؛ لأنَّ في طبعها قبول العلوم والمعارف، وجوهر مَواتٍ بالطبع وهو الجسم؛ إذ ليس في طبعه قبول شيء من ذلك؛ فإذا افترقا بالموت، خلص للجسم الموت المحض الذي هو طبعه، وفارقته الحياة العَرَضية التي كان استفادها من النفس، وخلصت للنفس الحياة المحضة التي هي طبعها، وفارقها الموت العرضي الذي كان عرض لها من قِبَل استغراقها في الجسم.٨٤
هذا، ونرى من المهم هنا أن نُشير إلى أنَّ البطليوسي قد اهتم في رسالته هذه بإثبات خلود الروح بعد فناء الجسد بأدلة فلسفية؛ لأنَّ البراهين الشرعية لا تليق بهذا الموضع كما يقول، وذلك فيما نرى لأمرين:
  • (١)

    أهمية القول بخلود الروح الذي يترتب عليه الجزاء الأخروي كما جاء في الدين.

  • (٢)

    ما هو معروف عن الفارابي من تردده في القول بالخلود أو فناء الروح بفناء الجسد، وهذا ما هو حريٌّ أن يُثير رجال الدين.

حقيقة؛ إنَّ الفارابي ظل طول حياته مترددًا بين القول بخلود الروح أو بفنائها بفناء الجسم، لأنها صورة له، فإنه ليرى أن من الخطأ القول بأنَّ أفلاطون يرى خلود الروح استنادًا إلى ما جاء في «فيدون»؛ لأنَّه — في رأي الفارابي — حكى هذا عن سقراط لمناقشته، ومثل هذا الصنيع لا يَصلُح دليلًا قاطعًا على أنَّ أفلاطون يذهب إلى خلود الروح.٨٥
ولكنَّنا نقول بأن أفلاطون، وإن شك في خلود الروح في بعض محاوراته الأولى، قد عاد فأكده.٨٦ بل إنه في محاورة «فيدون» نفسها يجعل الخلود شرطًا لا بد منه للمعرفة، كما يجعله في «الجمهورية» أساسًا للحياة السياسية والأخلاقية.٨٧
أمَّا المُعلِّم الثاني؛ فقد ظل حياته حقًّا مترددًا في المسألة، فكان ذلك سببًا لنقد شديد من بعض فلاسفة المتكلمين، هذا «ابن طفيل» يذكر أنَّه قد تناقض في المسألة؛ إذ تردد بين القول بخلود الأرواح الفاضلة وحدها، أو القول بفنائها بعد فناء البدن فاضلة كانت أو شريرة، وهذه زلة لا تُقال كما يذكر ابن طفيل،٨٨ وكذلك تناوله بالنقد اللاذع ابن سبعين.٨٩
هذا، ولكن ابن سينا لم يقع فيما وقع فيه شيخه من تردُّد بل تناقض، فإنه بعد أن ذَهَب إلى جوهرية الرُّوح وروحانيتها، لم يجد أي عناء في التدليل على خلودها بعد فناء الجسم الذي هو آلة لها؛ إذ لا يلزم من فناء الآلة فناء الروح التي تستخدمه.٩٠
ومن ناحية أُخرى إنَّ النفس لا تقبل الفَساد بطبيعتها؛ لأنَّ كل ما هو كائنٌ قابلٌ للفساد نجد فيه مبدأين: الحياة بالفعل، والفساد بالقوة، ومن ثم يعتريه الفساد بعد الكون، أمَّا الروح وهي بطبيعتها جوهر بسيط، فلا يُمكن أن تقبل الفساد؛ إذ ليس فيها بالقوة أي عنصر من عناصر الفناء.٩١

•••

وهكذا نرى في الأندلس البطليوسي يندب نفسه قبل ابن طفيل للتوفيق بين الحكمة والشريعة، وهكذا نراه مثل الغزالي بالمشرق يُخالف الفارابي وابن سينا فيما ذهب كلٌّ منهما إليه خاصًّا بعلم الله تعالى، ولكنه يُخالفهما ليوفق بين الدين والفلسفة، لا لمُجرد التشهير بهما ورميهما بالكفر، وهكذا نرى البطليوسي يعمل للتوفيق بين الشريعة والفلسفة بالطريقة والوسائل التي ذكرناها.

ولكن ليس لنا أن نزعُم أنَّه نجح كل النجاح، ولا أنه كان طريفًا فيما ذهب إليه من وجوه التوفيق، وغرضنا هنا كما كان بالنِّسبة إلى السجستاني من قبلُ بالمشرق، أن نُشير إلى أنَّه من الواجب على مؤرخ الفلسفة الإسلامية أن يُدخل في دائرة بحثه مُفكرين من هذا الطراز، وإن كانوا حتى اليوم غير معروفين في دائرة التفكير الفلسفي، وألا يقتصر — كما جرى الأمر حتى اليوم — على بحث الفلاسفة المشهورين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.

إن ذلك يعيننا على تتبع تاريخ الفكر الإسلامي في هذه النَّاحية، ناحية التوفيق بين الدين والفلسفة، كما يعيننا في سائر النواحي الأخرى التي عالجها فلاسفة الإسلام.

(٢-٢) ابن طفيل

عاصر أبو بكر بن طُفيل فيلسوفنا ابن رشد رَدَحًا من عمره، وعاش عيشة هانئة في رِعَاية أُسرة الموحدين حتى توفي سنة ٥٨١ﻫ/١١٨٥م في عهد السلطان أبي يوسف يعقوب، وقد عُني عناية حقة بالتوفيق بين الدين والفلسفة، حتى إنه يُمكن أن يُقال بأنَّ الغرض من قصته الفلسفية «حيِّ بن يقظان» كان إظهار هذا الاتفاق والتدليل عليه.

ولذلك لما التقى بطله «حي» وقد وصل إلى الحقيقة بالنظر العقلي، ﺑ «آسال» وقد عرفها من الدين، وقصَّ كلٌّ منهما على الآخر أمره، ثبت لهما أنَّ الحقائق التي وصل إليها العقل وعرفت بالوحي مُتطابقة تطابقًا تامًّا.٩٢
وهذا ما يقوله لنا ابن طفيل نفسه حين يقصُّ علينا تفصيل ما كان بين بطله «حي» وصاحبه «آسال» الذي «وصف له جميع ما ورد في الشريعة؛ من وصف العالم الإلهي، والجنَّة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصِّراط، ففهم «حي بن يقظان» ذلك كله ولم يرَ فيه شيئًا على خلاف ما شاهده في مقامه الكريم.»٩٣ ولهذا نرى المراكشي والمقرِّي يصِفان ابن طفيل بالاجتهاد في التوفيق بين الحكمة والشريعة.٩٤

وأخيرًا في هذه النَّاحية نذكُر أنَّ ابن طفيل انتهى إلى ما انتهى إليه أسلافه من أنَّ الناس طبقات، منهم من لا يطيق معرفة الحقائق بذاتها عارية، فالخير له الانتفاع بالشريعة وما ضربته لهذه الحقائق من رموز وأمثال، وإلا ساء أمره ووقع في الضَّلال إن حاول المعرفة الحقة السافرة، ومنهم الذين وُهبوا استعدادًا وعقلًا ارتفعوا به عن العامَّة وأمثالهم، وهؤلاء تُفيدهم المكاشفة بالحقائق ذاتها.

وقد تبع ذلك طبعًا أن قَرَّر كأسلافه أيضًا أنَّ هناك تعاليم ظاهرة وأُخرى خفية يجبُ التمييز بينها، وأن يُجعل كل نوع منها لطائفة خاصة لا يصلح أمرها إلا بها، وبهذا لا يصطدم الدين بالفلسفة بل يتقرر بينهما الوئام والسلام.

•••

وأخيرًا بعد عرض ما كان قبل ابن رشد من جهود سابقيه من فلاسفة الإسلام ومفكريه، في المشرق والمغرب، في مُحاولة التوفيق بين الحكمة والشريعة، نرى أنَّه لا بُدَّ من الإشارة إلى ظاهرة يلمِسها الباحث، ثم إلى تعليلها.

وذلك أنه لم نعرف أنَّ أحدًا من أولئك في المشرق قد عني بتخصيص رسالة من مؤلفاته لهذه الغاية، على حين نجد هذا في المغرب، مثل «حي بن يقظان» لابن طفيل، وبعض المؤلفات التي خصصها ابن رشد لهذه الغاية.

ولتعليل هذا ينبغي أن نُلاحظ أنَّه مهما يكن صادقًا القول بأنه قبل التفلسف يجبُ أن يعمل الفيلسوف على أن يكون له الحقُّ في أن يعيش آمنًا، فإن الفلاسفة في المشرق لم يحسوا إحساسًا قويًّا هذه الحاجة لتأمين حياتهم كما أحسها إخوانهم في المغرب.

إنَّ أولئك الفلاسفة المشارقة كالكندي مَثلًا، كانوا يعيشون في عهد الخلفاء العباسيين الذين عُرفوا بحرية الفكر وحماية المُفكرين، ولما جاء المتوكل العباسي عام ٢٣٢ﻫ/٨٤٧م، وأخذ في اضطهاد أصحاب الفكر الحر، صادف أن وافق هذا الانقلاب في السياسة العلمية — إن صح هذا التعبير — ضعف سلطان العباسيين وظهور دويلات في قلب الدولة الإسلامية، وتبع ذلك تفرق العلم وطلابه والفكر ورجاله في مراكز مُتعددة تابعة لأمراء يجد الباحثون لديهم كثيرًا من التشجيع.٩٥ ومن هذه الدويلات الدولة السامانية ببخارى ومؤسسها نصر بن أحمد الساماني، والحمدانية بحلب ومؤسسها سيف الدولة الحمداني.
وهكذا كان تجزئة الدَّولة الإسلامية من صالح المُفَكِّرين والفلاسفة الذين كانوا يجدون رِعَاية من أُمراء تلك الدويلات، ومن مُثُل ذلك الفارابي وسيف الدولة الحمداني٩٦ كما كان الواحد منهم إن خشي على نفسه أميرًا من الأُمراء انتقل عنه إلى غيره، ومن مثل هذا ابن سينا.٩٧ ويُضاف إلى هذا وذاك أنَّ الدولة العباسية كانت مُختلفة العناصر: دينًا وجنسًا وثقافة، وذلك ما يجعلُ الفلاسفة فيها أكثر جرأة وأمنًا؛ إذ تجد آراؤهم بيئة مناسبة هنا أو هناك.٩٨

كل هذه العوامل لا تجعل — على ما نرى — الفيلسوف في المشرق في حاجة ماسَّة للتوفيق قبل كل شيء بين الشريعة والحكمة، ولا لأنْ يُخصص لذلك مؤلفًا من مؤلفاته، بعكس ما كان عليه الحال في المغرب الإسلامي، تحت حكم المُرابطين أولًا والموحدين ثانيًا، في بيئة مليئة بالتعصب ضدَّ كلِّ من أجاز لنفسه شيئًا من حرية التفكير، وإن كان من رجال علم الكلام كالإمام الأشعري! وضد كل عالم له آراء تخالف ما أَلِفُوه وإن كان الغزالي الخصم اللدود للفلاسفة!

في بيئة يبلُغ فيها التعصب ضد التفكير الحر درجة تجعل بعض الأمراء يوقِعون — طلبًا لمرضاة رجال الدين والشعب — بمن كانوا يحمونهم ويُشاركونهم في دراسة الفلسفة أحيانًا، كما حصل لابن باجة وابن رشد.

لا عجب إذن إن رأينا الفلاسفة في المغرب يُعنون قبل كل شيء بالعمل على التوفيق بين الإسلام والفلسفة، ويُخصص الواحد منهم بعض مؤلفاته لهذا الغرض؛ وذلك ليأمنوا على أنفسهم وليحببوا الفلسفة للناس جميعًا ببيان أنَّها والدين من منبع واحد، ويعملان لغرض واحد، هو خير الإنسانية العام.

والآن ننتقل للقسم الثاني من البحث، ونبدأ بالحديث عن فيلسوف قرطبة لنعرف أولًا كيف تصور العلاقة بين الوحي والعقل، وعلى أي أساس تقوم، فذلك في رأينا حجر الزاوية في مُحاولته التوفيق بين هذين الطرفين المُتباعدين في بادئ الرأي، والقريبين جدًّا بعضهما من بعض حسب الواقع على ما يرى.

١  تهافت التهافت، ص٥٢٧، ٥٨١، ٥٨٤، نشر الأب بويج ببيروت.
٢  الأشعري هو الإمام أبو الحسن مؤسس المدرسة الأشعرية — بعد أن كان معتزليًّا — التي صار إليها التعبير عن مذهب أهل السنة، وقد وقف حياته على مناضلة المعتزلة، وتوفي سنة ٣٢٤ﻫ.
٣  مثلًا مسألة الألوهية: تحديد صفات الله وخصائصه، خلق العالم وقِدمه وحدوثه والصلة بينه وبين الله، النفس وخلودها وجزاؤها الجسماني والروحاني.
٤  فضلًا عما تقدم في هذه الناحية في الفصل السابق، يراجع المقريزي ج٤ ص١٨٣-١٨٤ طبع مصر سنة ١٣٢٦ﻫ بخصوص الضرر الذي حل بالإسلام، فيما يرى، من انتشار مذاهب الفلاسفة التي زادت من اشتغل بها من أهل البدع كفرًا إلى كفرهم، وكذلك ص١٨٨ إذ يقول: «فهذا ملخص أصول عقيدة الأشعري التي جرى عليها جماهير أهل الإسلام، والتي من جهر بخلافها يراق دمه.»
كما يراجع أيضًا طاش كبرى زاده في كتابه «مفتاح السعادة ومصابيح السيادة» ج١ ص٢٦ طبع حيدر آباد الدكن بالهند، خاصًّا بالتنفير من فلسفة الفارابي وابن سينا وأمثالهما، حين يقول: «وهم أعداء الله وأعداء أنبيائه، والمحرفون للشريعة … وهم أضر على عوام المسلمين من اليهود والنصارى.»
ومع أن هذين المؤلفين عاشا بعد ابن رشد، وقرءا بلا شك ما كتبه هو وغيره دفاعًا عن الفلسفة وتقريبًا لها من الدين، فإنهما يعبران بقوة عن نزعة التعصب ضد الفلاسفة، النزعة التي كانت غالبة بين العامة وأمثالهم في العصور التي عاش فيها ابن رشد ومن سبقه من فلاسفة الإسلام.
٥  ومع هذا، فإنَّ المأمون أراد حمل الناس بقوة السلطان على رأيه في خلق القرآن، وهو في هذا كان معتزليًّا، وفيما عداها كان عهده حقًّا عهد حرية في التفكير وأمن للمفكرين.
٦  جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية (مطبعة الهلال بالقاهرة سنة ١٩١٢م)، ج٢، ١٩.
٧  طبقات الأطباء، ج١، ٢٠٧.
٨  الفهرست، طبع القاهرة، ص٣٦٢، وصوان الحكمة، طبع لاهور بالهند سنة ١٩٣٥م، ص٢٥.
٩  رسائل الكندي الفلسفية نشر الدكتور عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي سنة ١٩٥٠–١٩٥٥.
١٠  مصطفى عبد الرازق: فيلسوف العرب والمعلم الثاني، القاهرة ١٩٤٥ — ص٤٧.
١١  انظر مقدمة الدكتور عبد الهادي أبو ريدة لرسائل الكندي ص٥٢–٥٨، وكذلك كتاب الدكتور أحمد فؤاد الأهواني بالإنجليزية Islamic Philosophy.
١٢  الرسائل، نشر أبو ريدة ص٣٧٢-٣٧٣.
١٣  نفسه، ص٣٧٤.
١٤  تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص١١٨ من الترجمة العربية.
١٥  تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص١١٨ من الترجمة العربية.
١٦  وفيات الأعيان، ج٢، ١١٢–١١٤.
١٧  طبقات الأطباء، ج٢، ١٣٤.
١٨  طبقات الأمم، ص٦١–٦٣.
١٩  أخبار الحكماء، ص١٨٢–١٨٤.
٢٠  هذه العقائد في الله وصِلته بخلقه تؤخذ من القرآن نفسه، ومع هذا راجع «مقالات الإسلاميين» للأشعري، طبع استامبول سنة ١٩٢٨م، ونهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني، طبع لندن سنة ١٩٣١م.
٢١  هذا الرأي الذي ذهب إليه الفارابي في الله وصفاته وصلته بالموجودات، واضح بالتفصيل في مواضع كثيرة من كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة، وكذلك في كثير من كتاباته الأخرى.
٢٢  آراء أهل المدينة الفاضلة، نشر Dieterici وطبع ليدن سنة ١٨٩٥ ص٥٢ ت ص٧٥ طبع القاهرة سنة ١٣٢٣ﻫ في الطبعة الأولى بمطبعة النيل، السياسات المدنية، طبعة حيدر آباد بالهند سنة ١٣٤٦ﻫ، ص٤٩.
٢٣  فصوص الحكم، ضمن مجموع فلسفة الفارابي، ص٧٢ طبعة ليدن، ص١٤٥ من طبعة القاهرة.
٢٤  آراء، ص٥٩ ليدن، دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص١٥٤ من الترجمة العربية.
٢٥  دي بور، المرجع السابق ذكره، ص١٢٥ من الترجمة العربية.
٢٦  المدخل لدراسة الفلسفة الإسلامية، للمستشرق الفرنسي جوتييه، ص١٣١ من الأصل بالفرنسية.
٢٧  تهافت الفلاسفة، طبع بيروت، ص٢٧٢–٢٧٥، ويراجع جوتييه ص١٣٨–١٤٠، حيث نقل هذا بأمانة عن الغزالي.
٢٨  ص٢٨١ وما بعدها، من ترجمة «س. مونك S. Munk» للأصل العبري وتعليقه عليه.
٢٩  وكذلك ابن رشد على ما سيجيء قريبًا بيانه.
٣٠  المجموع للفارابي، طبع ليدن، ص٧٢ و٧٧.
٣١  المجموع، ص٧٧-٧٨.
٣٢  عيون المسائل، ضمن المجموع، ص٦٤ من طبعة ليدن.
٣٣  السياسات المدنية، ص٥١-٥٢.
٣٤  طبقات الأطباء، لابن أبي أصيبعة، ج٢، ١٣٧.
٣٥  الجمع بين رأيي الحكيمين، طبع ليدن ص٢٦-٢٧، السياسات المدنية، ص٥٥-٥٦.
٣٦  راجع ترجمته في «طبقات الأطباء»، ج١، ٣٢١، تاريخ حكماء الإسلام لظهير البيهقي، ص٨٢، نشر محمد كردي علي بدمشق عام ١٩٤٦.
٣٧  الإمتاع والمؤانسة، طبع القاهرة سنة ١٩٣٩م، ج١، ٣٣.
٣٨  المقابسات، نشر حسن السندوبي بالقاهرة عام ١٩٢٩م، ص٤٣٨.
٣٩  المقابسات، ص٢٨٦.
٤٠  وراجع أيضًا تاريخ الفلسفة في الإسلام، تأليف دي بور، ص١٥٦-١٥٧.
٤١  انظر المقابسة ٢٣ ص١٧٤، والمقابسة ٥٠ ص٢٣٠، والمقابسة ٦٣ ص٢٥٩.
٤٢  المقابسة ٢، ص١٣٨ الخاصة بعلم النجوم وهل يجوز النظر فيه أم لا يجوز.
٤٣  المقابسة رقم ٦٣، ص٢٥٨.
٤٤  المقابسة رقم ٤٨، ص٢٢٣.
٤٥  المقابسات، ص٣٢٠.
٤٦  نفسه، ص١٤٩-١٥٠.
٤٧  نفسه، ص٢٧٧و ص٣٥٤.
٤٨  الإمتاع والمؤانسة ١ ج٢، ٦-٧، وهذا رأي أبي سليمان في طبيعة الدين بعامة لا في الإسلام خاصة. انظر نفس المرجع، ج٣، ١٨٧.
٤٩  الإمتاع والمؤانسة، ج٢، ٨.
٥٠  نفسه، ج٣، ١٨٨-١٨٩، وفي رأينا أنه أخطأ جدًّا في حكمه هذا على المتكلمين!
٥١  المقابسات، ص٢٠٠.
٥٢  رسالة في اللاهوت والسياسة Traitè théologico-politique ترجمها عن اللاتينية للفرنسية شارل أبرهن Ch. appuhn، نشر جارئييه إخوان Garier fréres بباريس سنة ١٩٢٨م، ص٢٧٨.
٥٣  الإمتاع ج٣، ١٨٧. وراجع أيضًا ج٢، ١٨.
٥٤  كشف الظنون، طبع القاهرة سنة ١٢٧٤ﻫ، ج٢، ٩٨، معجم الأدباء، نشر مرجليوث، ج٢، ٨٨، إخبار الحكماء، طبع القاهرة، ص٢١٧.
٥٥  تاريخ الفلسفة في الإسلام، ص١٥٨.
٥٦  الفوز الأصغر، طبع بيروت سنة ١٣١٩ﻫ، ص١٠٢–١٠٤.
٥٧  نفسه، ص٦٦.
٥٨  نفسه، ص١٣.
٥٩  نفسه، ص٣٢.
٦٠  نفسه، ص٤٩.
٦١  نفسه، ص٨٠–٨٣.
٦٢  وهذا كله فضلًا عن كتابه «الشفاء»، فهو دائرة معارف ابن سينا الفلسفية الجامعة لآرائه في كل أقسام الفلسفة وفروعها.
٦٣  النجاة، مطبعة السعادة بالقاهرة سنة ١٣٣١ﻫ، ص٢٧٣-٢٧٤، وص٤٩١، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات، نشر أمين هندية بالقاهرة سنة ١٩٠٨م، ص١٢٣-١٢٤.
٦٤  النجاة، ص٤٧٧ وما بعدها، وص٤٩٩-٥٠٠.
٦٥  تسع رسائل، ص١٢٤، ١٢٥.
٦٦  تسع رسائل، ص١٢٤، ص١٢٨، وما بعدها.
٦٧  مكان الفارابي، يُراجع بخاصة ص١٩٨، ٢١٥، ٢١٧.
٦٨  النَّجاة، ص٤٠٣ وما بعدها، الإشارات والتنبيهات طبعة ليدن، ص٥٣ وما بعدها.
٦٩  إخبار الحكماء، ص٢٧٣ وما بعدها، طبقات الأطباء، ج٢، ٥ وما بعدها، تاريخ الفلسفة في الإسلام، لدي بور، ص١٦٥-١٦٦، دائرة المعارف الإسلامية، مادة ابن سينا.
٧٠  راجع في ترجمته: الصلة لابن بشكوال ج١ رقم ٦٧٩، بغية الملتمس للضبي ج٣ رقم ٨٩٢، وفيات الأعيان لابن خلكان ج١ ص٣٣٢، معجم المطبوعات العربية لسركيس ص٥٦٩-٥٧٠. وراجع عن «بطليموس» معجم البلدان لياقوت ج٢، ٦٦٤، تاريخ المسلمين في إسبانيا للمستشرقين دوزي ج٢، ١٨٣، ٢٠٧، ٢٣٨، ٢٦٠. وراجع عن بلنسية: صفة الأندلس للإدريسي، طبع أوروبا ص١٥١، معجم البلدان، طبعة فستنفلد ج١، ٧٣٠–٧٣٢، تقويم البلدان لأبي الفدا طبعة دي سالان ص١٧٨.
٧١  كتاب الحدائق، ص٣٥.
٧٢  كتاب الحدائق، ص٣٥.
٧٣  كتاب الحدائق، ص٣٦-٣٧.
٧٤  الحدائق، ص٣٦–٣٨.
٧٥  الحدائق، ص٣٦–٣٨.
٧٦  كتاب الحدائق ص٥١–٦٠.
٧٧  الحدائق، ص١٤.
٧٨  نفسه، ص٦١.
٧٩  الحدائق، ص١٦–٢٠.
٨٠  الحدائق، ص١٩.
٨١  نفسه، ص١٩-٢٠.
٨٢  كتاب الحدائق، ص٦١.
٨٣  نفسه، ص٦٢-٦٣.
٨٤  الحدائق، ص٦٤-٦٥.
٨٥  رسائل الفارابي، نشر ديتيرصي بليدن سنة ١٨٩٢م، ص٢٠.
٨٦  دفاع سقراط، ص٢٩ أ-ب بالفرنسية مجموعة Budé باريس ١٩٢٥م.
٨٧  الجمهورية، بالفرنسية، مجموعة Budé باريس ١٩٣٤م، ص٦١٧د–٦٢١ب.
٨٨  حي بن يقظان، نشر جوتييه مع ترجمة فرنسية بالجزائر سنة ١٩٠٠م، ص١١-١٢.
٨٩  مجموعة نصوص لم يسبق نشرها، باريس ١٩٢٩م، ص١٢٩ Massignon, Recueil de texts inédits, 1929, P. 129.
٩٠  النجاة، نشر المكاوي والكردي بالقاهرة، سنة ١٣٣١ﻫ، ص٣٠٢–٣٠٦.
٩١  نفس المرجع، ص٣٠٦–٣٠٩ الإشارات، طبع ليدن سنة ١٨٩٢م، ص١٧٨.
٩٢  حي بن يقظان، ص١٠٩، نظرية ابن رشد للمستشرق «جوتييه» أيضًا بالفرنسية، ص١٧٠-١٧١.
٩٣  حي بن يقظان، ص١٠٩-١١٠.
٩٤  المعجب ص١٣٤، نفح الطيب ج٢، ٥٥٧.
٩٥  راجع جورجي زيدان، تاريخ آداب اللغة العربية مطبعة الهلال بالقاهرة عام ١٩١٢، ج٢، ٢٢٠-٢٢١، سيد أمير علي، مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي، الترجمة العربية طبع لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام ١٩٣٨م، ص٢٤٧–٢٤٩.
٩٦  مونك، ص٣٤٢، كارادفو، ابن سينا، ص٩١ بالفرنسية.
٩٧  مونك، ص٣٥٤، كارادفو، ص١٣٩-١٤٠، ابن أبي أصيبعة، ج٢، ٥-٦.
٩٨  جوتييه، المدخل، ١٦٣ بالفرنسية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤