العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد
إن العناية بإنشاء علاقة طيبة بين الوحي والعقل، وتثبيت هذه العلاقة على أسس متينة، مما يجبُ أن يعمل له الفيلسوف المتدين كما قلنا من قبل، على أنه فضلًا عن هذا، قد جدَّ سبب آخر بالنسبة لابن رشد يجعله بعد فلاسفة المشرق والآخرين الذين سبقوه يبذل غاية الجهد في هذه السبيل.
ونعني بهذا شعوره القوي بشدة حملة الغزالي العنيفة وقوة أثرها وشدة خطورتها، وبخاصة أنَّه صاحب أكبر مركز إسلامي في عصره وبلده، وله بتمكُّنه من الدين وأسراره ومن فهمه الصحيح لفلسفة أرسطو التي يراها الحقيقة، وصل إليها المعلم الأول من غير طريق الوحي، ومن حظوته في الدولة بالمركز المرموق في الفقه والقضاء، له من كل هذا ما يُيسر له أن يتقدم بشجاعة برأيه في هذه العلاقة، وبمجهوده في التقريب بين هذين الطريقين اللذين جعل الغزالي منهما طرفين لا يلتقيان.
حقًّا إذا رجعنا للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة، وإذا تمثلنا الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة»، رأينا فيلسوفنا مُضَّطرًّا لبذل غاية جهده؛ لإماتة هذا الأثر أو إضعافه على الأقل، وذلك بعمل له أسسه ودعائمه، يُبين به العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة، حتى لا يقوم بينهما عداء أو نزاع، كان لا يسعه باعتباره فيلسوفًا ومن كبار رجال الدين والشريعة إلَّا أن يُفكر في الأمر طويلًا، وإلا أن يعمل بكل قوة ليصل إلى ما يُريد من مؤاخاة الشريعة للفلسفة.
ونستطيع أن نقول من الآن بأنَّ فيلسوف الأندلس لم يعتدَّ بالدين وحده دون العقل، ولا بهذا وحده دون ذاك، بل حاول — مَثَله في هذا مثل كثير من سابقيه وممن أتوا بعده في العصر الوسيط والعصر الحديث — أن يسلك طريقًا وسطًا، وذلك ببيان أن كلًّا من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأُخرى، وأنَّ لكلٍّ منهما ناسها وأهلها، إلى آخر ما سنراه له من ضروب التوفيق بينهما، وهذا معناه أنه اختار في هذه العلاقة الوضعَ الذي يختاره كل مؤمن بالدين وقيمة العقل والفكر معًا.
- (١)
الشريعة، أو الدين، توجب التفلسف.
- (٢)
الشريعة لها معانٍ ظاهرة للعامة، وأُخرى باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب التأويل أحيانًا ولبعض الطبقات من الناس.
- (٣)
وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص.
- (٤)
تحديد مدى قُدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي.
وقد انتهى ابنُ رُشد من ذلك كله إلى أنَّ الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، أُختان ارتضعتا لِبانًا واحدًا، وأنهما يتعاونان في إسعاد البشر، ونحن نتناول كلًّا من تلك المبادئ بالبحث كما رآه فيلسوف قرطبة.
ومن الخير أن نَذْكُر هنا أننا سنعرض آراء ابن رشد في هذه النقط واحدة بعد واحدة، أمَّا الصلة بين ما ذهب إليه فيها وبين ما ذهب إليه الذين تناولوها بالبحث قبله أو بعده، فستكون موضع دراسة خاصة في فصل خاص يجيء في الترتيب بعد هذا الفصل، على أننا قد نُشير في هذا الفصل إلى بعض هذه المُقارنات في أثناء البحث.
(١) الشريعة توجب التفلسف
وهذا المعنى الذي ذكره ابن رشد لكلمة «اعتبروا»، وإن كان أحد معنيَيْها، إلا أننا نرى أنَّه غير مراد في الموضع الذي جاءت الآية فيه إذا راعينا السياق، والمَعنى الآخر الذي هو المُراد في رأينا، هو «اتعظوا» أي: اتعظوا أيها العقلاء ذوو البصيرة مما حصل لليهود الذين ناصبوا الرسول والمسلمين العداء، وظنوا أنَّ حصونهم مانعتُهم مما يريد الله بهم، ولكنَّ الله أوقع الرعب في قلوبهم، وجعل بينهم الفشل حتى استسلموا للنبي وانتهى أمرهم بإجلائهم إلى الشام.
وينبغي في رأينا أَلَّا نَجِدَ غريبًا عن الدين وروحه ما يذهب إليه ابن رشد من وجوب تأويل النصوص التي لا تتفق ونظر العقل السليم.
(٢) الشريعة لها ظاهر وباطن
- (أ)
الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.
- (ب)
أهل الجدل: ومنهم رجال علم الكلام، وهم الذين ارتفعوا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني.
- (جـ) وأخيرًا، البرهانيون: بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا أنفسهم بها.١٤
وهذا التفاوت في الفِطَر والعقول الذي جعل الناس طوائف ثلاثًا، يجرُّ حتمًا إلى اختلاف التعاليم التي يجبُ أن يُؤخذ بها كل فريق: فللجمهور وأشباههم، من الجدليين الذين لا يُطيقون الوصول إلى التآويل الصحيحة، الإيمانُ بظواهر النصوص الشرعية، وما ضُرِبَ لهم من رموز وأمثال.
وللعلماء أهل البرهان؛ الإيمانُ بالمعاني الخفية التي ضربت الأمثال والرموز لتقريبها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.
•••
وأما الفيلسوف المسلم الغربي، فإنه يرى كما سبق أن عرفنا أنَّ لبعض نصوص الشريعة معنى ظاهرًا للعامة، وآخر باطنًا فلسفيًّا للخاصَّة، وأنَّ هذا المعنى الثاني يظهر بالتأويل لمن هو أهله، وهذا معناه أنَّ القرآن والحديث قد حَويا جانبًا من الأفكار الفلسفية، وأنَّه يجبُ استخراج هذه الأفكار للقادر والذي هو أهل لها.
•••
هذا، وقبل أن نَتْرُك هذه المَسألة لما بعدها، يحسن أن نشير إلى أنَّ وجود نصوص في الشريعة يجبُ تأويلها يُعتبر إشارة أو دعوة من الدين إلى التفلسف، فإنَّه لا يُمكن إدراك المعاني الخفية من هذه النصوص إلا بالنظر الفلسفي، وإلا كانت النتيجة الحتمية ترك جانب من النصوص بلا فهم صحيح، وترك كثير من معانيها المُهِمَّة بلا إدراك، وهذا ما لا يرضاه مُحِبٌّ للشريعة ومُقَدِّر لها.
وهذا القول بوجوب التأويل لبعض نصوص القرآن والحديث نجده أيضًا، على ما سيجيء بيانه بعد، لدى اليهود فيما يختص بالتوراة؛ نجده لدى فيلون الإسكندري وسعاديا الفيومي وابن جبريول الذي عاش في القرن الحادي عشر، ثم لدى ابن ميمون بعد هؤلاء.
كما سنجده لدى مُفكري رجال الكنيسة المسيحية قبل ابن رُشد وبعده أيضًا، مثل أوريجين وكلْيمان الإسكندري وأبيلارْد، وأخيرًا سنجد الوضع نفسه لدى كثيرين آخرين من مُفكري الإسلام وفلاسفته، ولدى المتصوفة بصِفَة خاصَّة، هؤلاء الذين يرون أنَّهم أهل الحقيقة، في مقابل أهل الشريعة.
(٣) قانون التأويل وقواعده
إذا كان لا بد من التأويل للأسباب التي ذكرها ابن رشد كما رأينا؛ فإنَّه رأى ألا يترك الأمر فوضى، فيؤوِّل من يشاء ما يريد من النصوص، ويُذيع من التآويل ما يُريد ولمن يُريد، بل جعل لذلك قانونًا وقواعد يسترشد بها الباحث، وتحفظ الإخاء بين الحكمة والشريعة.
وهذا أَمرٌ طبيعي في رأينا لمن يرى اصطناع هذه الطريقة، طريقة تأويل بعض النصوص لتتفق مع العقل والنظر الفلسفي الصحيح؛ ولذلك نرى شيئًا من هذه القواعد وضعها فيلون اليهودي الإسكندري، كما نرى الغزالي يترك لنا رسالة صغيرة في هذا الشأن تُسَمَّى «قانون التأويل».
نقول: بأنَّ ذلك ضروري لمن يرى وجوب التأويل لبعض نصوص الشريعة؛ لأنَّ الذين لا يرون هذا، حتى عندما يحسون التعارض بين العقل وبين النَّص إن أُخِذ حسب ظاهره، لا يجدون حاجَةً لوضع قواعد للتأويل، بل إنَّ هناك من يستنكرون البحث في هذه النَّاحية، ومنهم «ابن تيمية» المتوفى سنة ٧٢٨ﻫ كما سنرى بعدُ في فصل آخر.
- (١)
أنْ يَكُون المعنى الظَّاهر من النَّص هو المراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مُطلقًا، بل يجب أخذه حسب ظاهره للناس جميعًا.
- (٢)
أن يكون المعنى الظَّاهر للنص ليس مرادًا، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنَّه لا يُعلم أنَّه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا ورمزًا لذاك المعنى الخفي، إلا بقياسات بعيدة مُرَكَّبة لا يوصَل إليها إلا بتعلُّم طويل وعلوم جَمَّة، لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصِّنف لا يجوزُ أن يؤوِّله إلا الرَّاسخون في العلم، وليس لأحدهم التصريح به لسواهم.
- (٣)
أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا أيضًا لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يُفهم أنَّه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لا بد من تأويله، والتصريح بهذا التأويل للجميع.
- (٤)
أن يكون المعنى الظاهر مثالًا: ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم لماذا هو بنفسه مثال، وذلك مثل قوله ﷺ: «الحجر الأسود يمين الله في الأرض.» وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء، ويؤوِّلونه لأنفسهم خاصة، ويُقال للآخرين الذين شعروا أنه مثال، ولكن ليسوا من أهل العلم الذين يعرفون لماذا هو مثال: بأنَّه من المُتشابه الذي يجبُ عدم البحث عنه، إلا للعلماء الرَّاسخين، أو ينقل لهم التمثيل لما هو أقرب إلى معارفهم ومداركهم، كما يرى الغزالي في كتابه «التفرقة بين الإسلام والزندقة».
- (٥)
وأخيرًا، أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا لآخر خفي، ولكن لا يتبين أنَّه مثال إلا بعلم بعيد، ومتى عُرِفَ أنه مثال يتبين بعلم قريب لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا، وهذا القسم من المُمكن أنْ نَقُول بأنَّ الأحفظ للشرع ألا يُتعرَّض لتأويله، بل الأولى بالنِّسبة لغير العلماء أن نبطل الأمور التي من أجلها ظنوا أنَّ المعنى الظاهر من النص هو مثال لآخر خفيٌّ هو المراد منه، ولنا كذلك أن نقولَ بجواز التأويل لهؤلاء أيضًا، وذلك لقوة الشبه بين المعنى الخفي المراد وبين ما ضُرب رمزًا ومثالًا له.
ورُبَّما دلَّ لصدق هذا الذي يراه ابن رُشد، أنَّ تمثيل نعيم الجنة للجمهور بأنه نعيم محسوس مادي: من أنهار مملوءة لبنًا وعسلًا، وفاكهة مختلفة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحور وولدان … أدفع لهم إلى طريق الفضيلة من تشكيكهم في هذا النعيم على هذه الكيفية الحسية، ومُحاولة تفهيمهم أنَّ ما جاء في النصوص دالٌّ على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأنَّ المعاد الأخروي لن يكون إلا معنويًّا، فإنَّ النفوس لا يمكن أن تنعم باللذات المادية.
من السهل بعد هذا أن تفهم إذن أنَّ فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية من القرآن والحديث نصوصًا مُتشابهات، لا بالنسبة للعلماء الرَّاسخين الذين عليهم تأويل هذه النصوص التي يُظَن أنها مُتشابهة، ولا بالنسبة للعامة وأمثالهم الذين فَرْضُهُم الإيمان بظواهرها دون البحث أو التفكير في تأويلها.
وقد بلغ من اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير ما يذهب إليه، من جَعْل تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل، أنه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن هناك نصوصًا يجبُ على أهل البرهان تأويلها، وحمْلُهم لها على ظواهرها كفر، كما يجبُ على العامَّة وأمثالها حملها على ظواهرها، وتأويلهم لها كفر.
كَمَا أنه لذلك أيضًا يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من قواعد تتعلق بالتأويل، وجواز أو عدم جواز إذاعته، ولمن تجوز إذاعته؛ ولهذا يلوم اللوم كله الغزاليَّ والمتكلمين: أشاعرة ومُعتزلة؛ لأنهم أثبتوا التآويل في مؤلفاتهم فذاعت بين العامة.
(٤) تحديد مدى قدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي
نجيء بعد ما تقدم لأهم مسألة فيما نرى يتعرض لها من يُحاول التوفيق بين الدين والفلسفة، نعني مسألة الوحي وتحديد سُلطانه وميدانه بالنِّسبة للعقل؛ لا بدَّ إذن من أن يقول ابن رشد هنا كلمته، فيُبين صراحة رأيه في الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفيما يكون أو لا يكون من الحاجة للشريعة بجانب العقل.
الأمر خطير واللحظة حاسمة بالنسبة لفيلسوف قرطبة، وهو الحريص على الإيمان بالدين، والذي رأينا مبلغ اعتداده بالعقل ونظره، وذلك إلى درجة تجعله يُجيز أنْ يُخالف العقلُ بما يصل إليه من نتائج صحيحة الإجماعَ في الأمور النظرية، ويُوجب تأويل ما يخالف النظر العقلي من ظواهر النصوص كما رأينا فيما سبق.
•••
وهذه المشكلة قد تعرَّض لها كلُّ من وقف موقف ابن رشد بين الدين والفلسفة، سواء تقدم به الزَّمن عنه أو تأخر، ونذكر في هذا من باب التمثيل: سعاديا الفيومي المتوفى سنة ٩٤٢م، وابن ميمون، من اليهود، كما تعرض لها من رجال الكنيسة المسيحية كثيرون نكتفي منهم بذكر القديس «أنْسلم» المتوفى سنة ١١٠٩، و«أبيلارد» المتوفى سنة ١١٤٢م، ومن بعدهما «ألبير الكبير»، وتلميذه «توماس الأكويني» المُتوفى سنة ١٢٧٤م، وهو أكبر لاهوتي في العصر الوسيط.
حقًّا، لقد اضْطُرَّ هؤلاء جميعًا لمُعالجة هذه المشكلة بوجهيها: ما منزلة الوحي من العقل؟ وما صِلَة الفلسفة بالدين؟ فكلٌّ قد قال في ذلك كلمته.
يرى سعاديا الفيومي أنَّ العقيدة في حاجة إلى العقل لفهمها وشرحها والدفاع عنها، أي إنَّ للعقل بجانب الوحي هذا الدورَ الثانوي جدًّا كما يقول «مونك»، فليس للوحي أن يَخْشَاه، بل بالعكس يجد منه سندًا وظهيرًا.
ثم نصل إلى «ألبير الكبير» وتلميذه الأشهر القديس توماس الأكويني، فنجد عندهما كذلك التأكيدَ بأنَّ كلًّا من العقل والدين له اختصاصه، وأنَّ الفلسفة — كما يرى الأكويني — ليس لها إلا أن تظل خادمة اللاهوت، وأنَّ الدين يعصم العقل من الضلال لو تُرك العقل لنفسه.
•••
وبعد هذه اللمحات التي نكتفي بها في بيان أنَّ مُشكلة الصلة بين الوحي والعقل، في ناحيتيها اللتين أشرنا إليهما، قد عرضت للفلاسفة والمفكرين من رجال الدِّين في مُختلف العصور من غير المسلمين ومن المسلمين، ورأى كلُّ فريق منهم حَلَّها وتحديدها على ما عرفنا بعد ذلك، نعودُ إلى هدفنا الأصلى هنا وهو بيان موقف ابن رُشد من هذه المشكلة، وذلك لنضعه حيث يجبُ بين هؤلاء المُفكرين.
•••
ومِنَ الواضِح شَبَهُ هذا الرأي بما نقلناه آنفًا عن المفكرين من رجال اليهودية والمسيحية في هذه المشكلة، من أنَّ على العقل أن يفهم ما جاء به الشرع، ومن بطئه عن الوحي في المعرفة، ومن عجزه أحيانًا عن الوصول لما جاء به، والنَّتيجة الحتمية لذلك هي ضرورة اللجوء أحيانًا للوحي الذي هو أعلى من العقل ونظره وتفكيره.
ومهما يكن من شيء؛ فالأمور التي لا يكتفي العقل بنفسه في معرفتها تتلخص كما يرى فيلسوف الأندلس في معرفة الله، والسعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الأُخرى أيضًا، ووسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.
إنه من الممكن لنا بعد هذه الفروض والآراء في فهم موقف ابن رشد الحقيقي في العلاقة بين الدين والفلسفة، أن نُقَرِّر أنه يجب لمعرفة حقيقة موقفه أن نحاول أولًا إزالة ما يُوجد من تعارض ظاهري بين النصوص التي ذكرناها، نعني نصوص «فصل المقال» من جهة، ونصوص «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» من جهة أُخرى، فإذا تمَّ لنا هذا فسنرى نزعة واحدة تسود جميع كتاباته وتكون هي المعبِّر عن موقفه الحق.
ولكن أي النصوص هي التي يجبُ تأويلها لتتمشى مع الطائفة الأُخرى من النصوص؟ هنا المُشكلة التي قد يتيسر لنا حلها إذا تبيَّنَّا العوامل التي دفعته لكتابة ما كتب من هذه النصوص وتلك في كتبه المُختلفة.
وفي هذين الكتابين الأخيرين لم يتعرض بأصالة لمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة وبيان العلاقة بينهما، هذا الغرض الذي هو الغرض الوحيد من رسالة «فصل المقال».
وإذن، كما يقول الأستاذ «جوتييه» بحق ينبغي إذا أردنا التوفيق بين تلك النصوص جميعها، أن نؤوِّل نصوص المناهج والتهافت لتتفق مع ما تدل عليه رسالة «فصل المقال» التي فصَّل فيها الغرض والمنهج الذي سيسير عليه.
وإذا كان الأمرُ ينبغي أن يكون هكذا، كان من الحق أن نُقَرِّر أن ابن رشد بقي أمينًا دائمًا وصادقًا في نزعته العقلية، ومن الدلائل على هذا أنَّ رأيه في النبوة والمعجزات يتفق — كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق — مع رأي ابن سينا الذي عرضناه من قبل.
كما نرى كذلك أنَّ ابن رشد ظلَّ أمينًا على ما سبق أن ذكرناه عنه بخصوص وجوب تقسيم الناس إلى طبقات حسب استعداداتهم وعقولهم، فإنَّ منهم العامة والخاصة، ويجبُ أن يكون لكل طائفة منهم تعليم خاص، وبهذا يبقى الوئام بين العقل والوحي أو بين الفلسفة والدين اللذين لكلٍّ منهما غرض خاص، ولا يصطدم أحدهما بالآخر.
•••
والآن بعد أن انتهينا من بحث العلاقة بين العقل والوحي في رأي ابن رشد، وهو أمر اضطره لاصطناع طريقة تأويل الكثير من النصوص الدينية، ننتقل للفصل الثاني لنعرف أنَّ هذا التأويل أو التفسير المجازي للنصوص الدينية كان ضروريًّا في رأي الفلاسفة والمفكرين من قبل فيلسوفنا وبعده: في اليهودية والمسيحية والإسلام، وبخاصة عند فيلون الإسكندري، لنرى صلة مذهب ابن رشد في هذه المسألة بما ذهب إليه أمثاله فيها.