الفصل الأول

العلاقة بين الوحي والعقل في رأي ابن رشد

إن العناية بإنشاء علاقة طيبة بين الوحي والعقل، وتثبيت هذه العلاقة على أسس متينة، مما يجبُ أن يعمل له الفيلسوف المتدين كما قلنا من قبل، على أنه فضلًا عن هذا، قد جدَّ سبب آخر بالنسبة لابن رشد يجعله بعد فلاسفة المشرق والآخرين الذين سبقوه يبذل غاية الجهد في هذه السبيل.

ونعني بهذا شعوره القوي بشدة حملة الغزالي العنيفة وقوة أثرها وشدة خطورتها، وبخاصة أنَّه صاحب أكبر مركز إسلامي في عصره وبلده، وله بتمكُّنه من الدين وأسراره ومن فهمه الصحيح لفلسفة أرسطو التي يراها الحقيقة، وصل إليها المعلم الأول من غير طريق الوحي، ومن حظوته في الدولة بالمركز المرموق في الفقه والقضاء، له من كل هذا ما يُيسر له أن يتقدم بشجاعة برأيه في هذه العلاقة، وبمجهوده في التقريب بين هذين الطريقين اللذين جعل الغزالي منهما طرفين لا يلتقيان.

حقًّا إذا رجعنا للعصر الذي عاش فيه فيلسوف قرطبة، وإذا تمثلنا الأثر الذي أحدثه الغزالي بكتابه «تهافت الفلاسفة»، رأينا فيلسوفنا مُضَّطرًّا لبذل غاية جهده؛ لإماتة هذا الأثر أو إضعافه على الأقل، وذلك بعمل له أسسه ودعائمه، يُبين به العلاقة التي ينبغي أن تكون بين الدين والفلسفة، حتى لا يقوم بينهما عداء أو نزاع، كان لا يسعه باعتباره فيلسوفًا ومن كبار رجال الدين والشريعة إلَّا أن يُفكر في الأمر طويلًا، وإلا أن يعمل بكل قوة ليصل إلى ما يُريد من مؤاخاة الشريعة للفلسفة.

وقد أقبل ابن رشد على العمل الذي أحسَّ ضرورته، وخصص للغاية التي أراد الوصول إليها كتابيه: «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» و«الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة».١ ذلك فضلًا عما خصصه لها أيضًا من كتابه: «تهافت التهافت»٢ في مُناسبات مُختلفة ومواضع عدة، وإذن علينا أن نرجع إلى هذه المؤلفات لنعرف ما هي العلاقة التي يراها بين الوحي والعقل، وعلى أي أسس ينبغي أن تقوم.

ونستطيع أن نقول من الآن بأنَّ فيلسوف الأندلس لم يعتدَّ بالدين وحده دون العقل، ولا بهذا وحده دون ذاك، بل حاول — مَثَله في هذا مثل كثير من سابقيه وممن أتوا بعده في العصر الوسيط والعصر الحديث — أن يسلك طريقًا وسطًا، وذلك ببيان أن كلًّا من الحكمة والشريعة في حاجة إلى الأُخرى، وأنَّ لكلٍّ منهما ناسها وأهلها، إلى آخر ما سنراه له من ضروب التوفيق بينهما، وهذا معناه أنه اختار في هذه العلاقة الوضعَ الذي يختاره كل مؤمن بالدين وقيمة العقل والفكر معًا.

والآن بعد هذا العموم ندخل في التفصيل، وذلك بذكر أن فيلسوف الأندلس قد صَدَر في بيان تلك العلاقة عن هذه المبادئ:
  • (١)

    الشريعة، أو الدين، توجب التفلسف.

  • (٢)

    الشريعة لها معانٍ ظاهرة للعامة، وأُخرى باطنة للخاصة، ومعنى هذا وذاك وجوب التأويل أحيانًا ولبعض الطبقات من الناس.

  • (٣)

    وضع قواعد خاصة بتأويل النصوص.

  • (٤)

    تحديد مدى قُدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي.

وقد انتهى ابنُ رُشد من ذلك كله إلى أنَّ الحكمة والشريعة أو الفلسفة والدين، أُختان ارتضعتا لِبانًا واحدًا، وأنهما يتعاونان في إسعاد البشر، ونحن نتناول كلًّا من تلك المبادئ بالبحث كما رآه فيلسوف قرطبة.

ومن الخير أن نَذْكُر هنا أننا سنعرض آراء ابن رشد في هذه النقط واحدة بعد واحدة، أمَّا الصلة بين ما ذهب إليه فيها وبين ما ذهب إليه الذين تناولوها بالبحث قبله أو بعده، فستكون موضع دراسة خاصة في فصل خاص يجيء في الترتيب بعد هذا الفصل، على أننا قد نُشير في هذا الفصل إلى بعض هذه المُقارنات في أثناء البحث.

(١) الشريعة توجب التفلسف

بدأ فيلسوفنا بالتدليل على أنَّ الشريعة (القرآن والحديث) تُوجب النظر الفلسفي، كما تُوجب استعمال البُرهان المنطقي، لمعرفة الله تعالى وموجوداته، وساق لهذا وذاك دليلًا من القرآن، وهو قوله تعالى (سورة الحشر ٥٩ / ٢):٣  فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ، مُبينًا أنَّ «الاعتبار» هنا ليس إلا استنباط المجهول من المعلوم، وهو القياس الفلسفي أو المنطق المعروف.٤

وهذا المعنى الذي ذكره ابن رشد لكلمة «اعتبروا»، وإن كان أحد معنيَيْها، إلا أننا نرى أنَّه غير مراد في الموضع الذي جاءت الآية فيه إذا راعينا السياق، والمَعنى الآخر الذي هو المُراد في رأينا، هو «اتعظوا» أي: اتعظوا أيها العقلاء ذوو البصيرة مما حصل لليهود الذين ناصبوا الرسول والمسلمين العداء، وظنوا أنَّ حصونهم مانعتُهم مما يريد الله بهم، ولكنَّ الله أوقع الرعب في قلوبهم، وجعل بينهم الفشل حتى استسلموا للنبي وانتهى أمرهم بإجلائهم إلى الشام.

على أنَّ هذه الآية وإن لم تصلح دليلًا في رأينا على ما أراد ابن رشد من أنَّ القرآن يُوجب القياس البرهاني والنظر العقلي الفلسفي، فهناك في القرآن نفسه — كما قال — آيات أُخرى كثيرة تحثُّ على استعمال العقل والنظر في الموجودات، ومن ذلك قوله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ،٥ وقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ،٦ وقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا.٧ وهذا فضلًا عن قول الرسول : «لَا حَسَدَ إِلَّا في اثنتين؛ رجلٌ آتاه اللهُ مَالًا فسلَّطَهُ عَلَى هَلَكَته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلِّمها.»٨
وإذا كان الشرع يُوجب النَّظر الفلسفي، فمن الواجب أن نلتمس تأويل ما لا يتفق معه من النصوص، على أنْ يتفق هذا التأويل وقواعد اللغة العربية؛ وذلك لأنَّ من المقطوع به — كما يقول فيلسوفنا — أنَّ كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع، أنَّ هذا الظاهر يقبل التأويل حتى لا يصطدم الشرع والعقل،٩ كما أنه من الجائز أن يؤدي البرهان إلى نتائج تتفق وظواهر النصوص التي أجمع المسلمون على تأويلها، أو تتفق والمعاني الخفية الباطنة التي أجمعوا على أخذها حسب ظواهرها، وبعبارة أُخرى يجوز أن يؤدي البرهان إلى مخالفة الإجماع في الأمور النظرية، ما دام الإجماع لا يُمكن أن يتحقق بيقين من العلماء جميعًا في عصر من العصور.١٠

وينبغي في رأينا أَلَّا نَجِدَ غريبًا عن الدين وروحه ما يذهب إليه ابن رشد من وجوب تأويل النصوص التي لا تتفق ونظر العقل السليم.

ها هو ذا الغزالي حجة الإسلام وعدوُّ الفلاسفة، يستنكر في رسالته الخاصة بالتأويل وقانونه أن يكذِّب العقل بالشرع مع أنَّ هذا ما ثبت إلا بذاك.١١ كما يوصي من يُحاول الجمع بين الدين والفلسفة، أو بين المنقول والمعقول حسب تعبيره، ألا يكذب برهان العقل أصلًا، وذلك كما يقول لأنَّ العقل لا يكذب، ولو ذهبنا إلى تكذيبه فلعله كذب في إثبات الشرع الذي ما عرفناه وما ثبت إلا به.١٢

(٢) الشريعة لها ظاهر وباطن

والسبب كما يذكر ابن رشد في وجود نصوص من القرآن والحديث تتطلب التأويل لمعرفة المعاني الخفية المُرادة منها، ووجود نصوص أخرى يُراد منها ما تدلٌّ عليه من المعاني الظَّاهرة، أو بعبارة أُخرى، السبب في انقسام الشريعة إلى ظَاهر له أهله وهم العامَّة وأشباههم، وباطن له أهله وهم ذوو البرهان، هو أنَّ الناس مُختلفون في الفِطَر والعقول؛ ولهذا تختلف استعداداتهم وقُدَرُهم ووسائلهم إلى فهم وإدراك ما جاءت به الشريعة من المُعْتقدات.١٣ وهم بسبب هذا الاختلاف والتفاوت ثلاث طوائف:
  • (أ)

    الخطابيون: وهم الجمهور الغالب الذي يصدق بالأدلة الخطابية.

  • (ب)

    أهل الجدل: ومنهم رجال علم الكلام، وهم الذين ارتفعوا عن العامة، ولكنهم لم يصلوا لأهل البرهان اليقيني.

  • (جـ)
    وأخيرًا، البرهانيون: بطبعهم وبالحكمة التي أخذوا أنفسهم بها.١٤

وهذا التفاوت في الفِطَر والعقول الذي جعل الناس طوائف ثلاثًا، يجرُّ حتمًا إلى اختلاف التعاليم التي يجبُ أن يُؤخذ بها كل فريق: فللجمهور وأشباههم، من الجدليين الذين لا يُطيقون الوصول إلى التآويل الصحيحة، الإيمانُ بظواهر النصوص الشرعية، وما ضُرِبَ لهم من رموز وأمثال.

وللعلماء أهل البرهان؛ الإيمانُ بالمعاني الخفية التي ضربت الأمثال والرموز لتقريبها للعقول، وذلك بتأويل هذه النصوص.

ويجب مع هذا كله أن نُحَافِظَ على أن يكون كل نوع من هذين التعليمين لطائفته الخاصة، وعلى ألا يختلط أحدُهما بالآخر؛ لأنَّ جعل الناس شرعًا واحدًا في التعليم خلاف المحسوس والمعقول.١٥ ولهذا نرى فيلسوفنا في كلامه على إثبات العلم للمبدأ الأول، يحرِّم أن يتكلم مع الجمهور في علم الله على النحو الفلسفي، وإلا كان ذلك بمنزلة إعطائهم ما هو سم لهم، وإن كان غذاءً للآخرين.١٦

•••

ووجوب رعاية انقسام الناس حسب استعداداتهم وعقولهم إلى طوائف، خاصَّة وعامَّة، لكلٍّ منها تعليم خاص سبق أن عرفناه عند غير ابن رُشد من الفلاسفة مثل الفارابي وابن سينا، وسنعرفه أيضًا بعده لدى ابن ميمون الذي يَرى أنَّ مَسَائل الطبيعة يجبُ ألا تُعلَّم علنًا ولكل الناس، بل ولا أن تثبت في كتاب يقرؤه الناس جميعًا؛ وذلك لأنها مُتَّصِلة اتصالًا وثيقًا بمسائل ما بعد الطبيعة وأسرارها؛ ولهذا فإن فلاسفة ما بعد الطبيعة وكذلك علماء الكلام، وأصدقاء الحقيقة لم يتكلموا في شيء من ذلك إلا رمزًا بطريق المجاز ونحوه.١٧
والسبب في هذا اختلاف الناس وانقسامهم إلى طوائف حسب ما منحوا من الاستعداد والعقل وضوء المعرفة، هذا الضوء الذي يضيء دائمًا للعدد الأكبر من الأنبياء، ويُضيء لآخرين فترات مُتقاربة أو مُتباعدة، ويَنْعَدِمُ بالنِّسبة للذين يعيشون في الظلام، والحقيقة محجوبة تمامًا عنهم، وهم العامة من الناس.١٨
وإذن من الخطر في رأي ابن ميمون، كما هو في رأي ابن رشد، إظهار حقائق الطبيعة وما بعد الطبيعة لغير أهلها، سواءٌ كان هذا بتأويل النصوص التي اشتملت عليها، أو بأي نوع آخر من أنواع التعاليم، وفي ذلك يستعمل ابن ميمون مُقارنة من جنس التي التجأ إليها ابن رشد، ليبين ضرر التكلم مع الجمهور على النحو الفلسفي، وهذا إذ يقول:١٩ «إني لا أُقارن هذا إلا بمن يجعلُ طِفلًا رَضِيعًا يأخذ من خبز الحنطة ويشرب مِنَ الخمر، فإنَّه يكونُ سببًا في ضرره بلا ريب، وليس هذا لأنَّ ما تناوله هو مِنَ الأَطعمة والأشربة الضَّارة الرديئة والمُضادة لطبيعة الإنسان، ولكن لأنَّ الذي تناول منها هو أضعف من أن يهضمها ويفيد منها.»
وبعد ابن ميمون الأندلسي نجد لابن رشد شبيهًا آخر في هذا إلى حدٍّ ما من الفلاسفة الغربيين المحدثين، وهو سبينوزا، فإنه كتب رسالته اللاهوتية السياسية؛ ليبحَثَ فيها العلاقة بين العقيدة أو علم اللاهوت وبين العقل أو الفلسفة، وانتهى من بَحْثِهِ إلى وجوب فصل كلٍّ منهما عن الآخر، حتى إنه ليؤكد أنَّ هذا الفصل والتدليل عليه هو الغرض الأساسي الذي تهدف إليه الرِّسالة.٢٠
ويرى تبريرًا لهذا الذي يذهب إليه، أنه ليس من علاقة أو صلة قرابة بين العقيدة أو الدين وبين الفلسفة،٢١ ولكنه مع هذا يرى أنَّ كلًّا منهما طريق إلى السعادة لأهل كل منهما.
على أن «سبينوزا» وإن شدَّد هكذا في وجوب عدم خلط الدين بالفلسفة، وضرورة أن يكون لكلٍّ منهما أناس وطبقة خاصَّةٌ، وأن تكون السيادة لكلٍّ منهما في مملكته لا يُعارضه الآخر في شيء،٢٢ فإنَّه لا يصدر في ذلك تمامًا عن الأسباب التي صَدَرَ عنها ابن رشد حين قَسَّمَ الناس إلى طبقات، وجعل لكل طبقة تعليمًا خاصًّا يَجِبُ ألا تتعداه، فللفلسفة أهلها، وللأخذ بظاهر الوحي أهله.
إن الفيلسوف اليهودي الغربي يرى أنه ليس في الكتاب المقدس فلسفة، بل ليس فيه إلا حقائق بسيطة جدًّا،٢٣ وإنَّ الغرض والأساس لكلٍّ من الفلسفة واللاهوت يختلف تمامًا في كلٍّ منها،٢٤ ولهذا يرفض بقوة صنيع ابن ميمون في تأويل التوراة؛ ليستنبط منها ما زعمه من الأفكار الفلسفية، ويصفه بأنه ضار وعبث وحمق.٢٥

وأما الفيلسوف المسلم الغربي، فإنه يرى كما سبق أن عرفنا أنَّ لبعض نصوص الشريعة معنى ظاهرًا للعامة، وآخر باطنًا فلسفيًّا للخاصَّة، وأنَّ هذا المعنى الثاني يظهر بالتأويل لمن هو أهله، وهذا معناه أنَّ القرآن والحديث قد حَويا جانبًا من الأفكار الفلسفية، وأنَّه يجبُ استخراج هذه الأفكار للقادر والذي هو أهل لها.

•••

هذا، وقبل أن نَتْرُك هذه المَسألة لما بعدها، يحسن أن نشير إلى أنَّ وجود نصوص في الشريعة يجبُ تأويلها يُعتبر إشارة أو دعوة من الدين إلى التفلسف، فإنَّه لا يُمكن إدراك المعاني الخفية من هذه النصوص إلا بالنظر الفلسفي، وإلا كانت النتيجة الحتمية ترك جانب من النصوص بلا فهم صحيح، وترك كثير من معانيها المُهِمَّة بلا إدراك، وهذا ما لا يرضاه مُحِبٌّ للشريعة ومُقَدِّر لها.

وهذا القول بوجوب التأويل لبعض نصوص القرآن والحديث نجده أيضًا، على ما سيجيء بيانه بعد، لدى اليهود فيما يختص بالتوراة؛ نجده لدى فيلون الإسكندري وسعاديا الفيومي وابن جبريول الذي عاش في القرن الحادي عشر، ثم لدى ابن ميمون بعد هؤلاء.

كما سنجده لدى مُفكري رجال الكنيسة المسيحية قبل ابن رُشد وبعده أيضًا، مثل أوريجين وكلْيمان الإسكندري وأبيلارْد، وأخيرًا سنجد الوضع نفسه لدى كثيرين آخرين من مُفكري الإسلام وفلاسفته، ولدى المتصوفة بصِفَة خاصَّة، هؤلاء الذين يرون أنَّهم أهل الحقيقة، في مقابل أهل الشريعة.

(٣) قانون التأويل وقواعده

إذا كان لا بد من التأويل للأسباب التي ذكرها ابن رشد كما رأينا؛ فإنَّه رأى ألا يترك الأمر فوضى، فيؤوِّل من يشاء ما يريد من النصوص، ويُذيع من التآويل ما يُريد ولمن يُريد، بل جعل لذلك قانونًا وقواعد يسترشد بها الباحث، وتحفظ الإخاء بين الحكمة والشريعة.

وهذا أَمرٌ طبيعي في رأينا لمن يرى اصطناع هذه الطريقة، طريقة تأويل بعض النصوص لتتفق مع العقل والنظر الفلسفي الصحيح؛ ولذلك نرى شيئًا من هذه القواعد وضعها فيلون اليهودي الإسكندري، كما نرى الغزالي يترك لنا رسالة صغيرة في هذا الشأن تُسَمَّى «قانون التأويل».

نقول: بأنَّ ذلك ضروري لمن يرى وجوب التأويل لبعض نصوص الشريعة؛ لأنَّ الذين لا يرون هذا، حتى عندما يحسون التعارض بين العقل وبين النَّص إن أُخِذ حسب ظاهره، لا يجدون حاجَةً لوضع قواعد للتأويل، بل إنَّ هناك من يستنكرون البحث في هذه النَّاحية، ومنهم «ابن تيمية» المتوفى سنة ٧٢٨ﻫ كما سنرى بعدُ في فصل آخر.

إذن، نرى ابن رشد وهو يجدُ التأويل ضروريًّا لخير الشريعة والحكمة معًا، في ختام كتابه «الكشف عن مناهج الأدلة» يُعنى بوضع قانون يبين به حسب تعبيره «ما يجوز من التأويل في الشريعة وما لا يجوز، وما جاز منه فلمن يجوز.» وهذا البيان أو القانون يتلخص في أنَّ المعاني الموجودة في الشرع خمسة أصناف:٢٦
  • (١)

    أنْ يَكُون المعنى الظَّاهر من النَّص هو المراد حقيقة في نفس الأمر، وهذا الصنف لا يجوز تأويله مُطلقًا، بل يجب أخذه حسب ظاهره للناس جميعًا.

  • (٢)

    أن يكون المعنى الظَّاهر للنص ليس مرادًا، بل هو مثال ورمز للمعنى المقصود حقيقة، ولكنَّه لا يُعلم أنَّه مثال، ولا لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا ورمزًا لذاك المعنى الخفي، إلا بقياسات بعيدة مُرَكَّبة لا يوصَل إليها إلا بتعلُّم طويل وعلوم جَمَّة، لا يقدر عليها إلا الخاصة من الناس، وهذا الصِّنف لا يجوزُ أن يؤوِّله إلا الرَّاسخون في العلم، وليس لأحدهم التصريح به لسواهم.

  • (٣)

    أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا أيضًا لمعنى آخر خفي، ولكن من اليسير أن يُفهم أنَّه مثال ولماذا هو بذاته مثال، وهذا الصنف ليس لأحد الأخذ بظاهره، بل لا بد من تأويله، والتصريح بهذا التأويل للجميع.

  • (٤)

    أن يكون المعنى الظاهر مثالًا: ولكن يعرف بنفسه أو بعلم قريب أنه مثال، وبعلم بعيد لا تقدر عليه العامة ومن في حكمهم لماذا هو بنفسه مثال، وذلك مثل قوله : «الحجر الأسود يمين الله في الأرض.» وهذا الصنف تأويله خاص بالعلماء، ويؤوِّلونه لأنفسهم خاصة، ويُقال للآخرين الذين شعروا أنه مثال، ولكن ليسوا من أهل العلم الذين يعرفون لماذا هو مثال: بأنَّه من المُتشابه الذي يجبُ عدم البحث عنه، إلا للعلماء الرَّاسخين، أو ينقل لهم التمثيل لما هو أقرب إلى معارفهم ومداركهم، كما يرى الغزالي في كتابه «التفرقة بين الإسلام والزندقة».

  • (٥)

    وأخيرًا، أن يكون المعنى الظاهر مثالًا ورمزًا لآخر خفي، ولكن لا يتبين أنَّه مثال إلا بعلم بعيد، ومتى عُرِفَ أنه مثال يتبين بعلم قريب لماذا اختير بذاته ليكون مثالًا، وهذا القسم من المُمكن أنْ نَقُول بأنَّ الأحفظ للشرع ألا يُتعرَّض لتأويله، بل الأولى بالنِّسبة لغير العلماء أن نبطل الأمور التي من أجلها ظنوا أنَّ المعنى الظاهر من النص هو مثال لآخر خفيٌّ هو المراد منه، ولنا كذلك أن نقولَ بجواز التأويل لهؤلاء أيضًا، وذلك لقوة الشبه بين المعنى الخفي المراد وبين ما ضُرب رمزًا ومثالًا له.

وبعد هذا التفصيل؛ يذكر فيلسوف قرطبة «أنَّ هذين الصنفين (الرابع والخامس) متى أُبيح التأويل فيهما تولدت منه اعتقادات غريبة وبعيدة عن ظاهر الشريعة، ورُبَّما فشت فأنكرها الجمهور.»٢٧ يُريد أن يقول بأنَّ الخير في هذا هو البعد عن التأويل؛ ولهذا لما أخذ في تأويل نصوص الشريعة من لم تتميز له هذه المواضع كالمتصوفة، «ولا تميز له الصنف من الناس الذين يجوز التأويل في حقهم.» اضطرب الأمر في الدين، ووُجد بين المسلمين فِرَق يُكِّفر بعضها بعضًا، وهذا كله جهل بما قصد الشارع، وتعدٍّ على الشريعة نفسها.٢٨
هذا، ولكي نتقي أمثال هذه النتائج السيئة، وزرْعَ العداوة بين الشريعة والفلسفة يجب بصفة عامة كما يقول ابن رشد ألا يصرح بالتآويل وبخاصة البرهانية لغير أهلها، وهُم أهل البرهان، كما يجبُ ألا تثبت هذه التآويل في الكتب الخطابية والجدلية الموضوعة للعامة وأمثالهم من أهل الجدل، وإلا أدى ذلك إلى إبطال ظواهر النصوص التي يفهمها الواحد من هاتين الفئتين، مع العجز عن إدراك التأويل البرهاني، فيضل ويقع في الكفر إن كان ذلك في أصول الشريعة.٢٩
وفي أخذ العامة وتكليفهم بالإيمان بظواهر النصوص وحدها، دون ما فيها من معانٍ خفية، سعادتهم، وذلك بأنَّ المقصود الأول بالعلم في حق الجمهور هو العمل، فما كان أجدى في الدفع إليه كان أفضل من غيره، أمَّا الخَاصَّة فإن مقصودهم الأول هو الأمران معًا: العلم والعمل؛ ولهذا كانت سعادتهم في تأويل ما يجب تأويله لمعرفة المعاني الخفية المرادة من النصوص.٣٠

ورُبَّما دلَّ لصدق هذا الذي يراه ابن رُشد، أنَّ تمثيل نعيم الجنة للجمهور بأنه نعيم محسوس مادي: من أنهار مملوءة لبنًا وعسلًا، وفاكهة مختلفة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وحور وولدان … أدفع لهم إلى طريق الفضيلة من تشكيكهم في هذا النعيم على هذه الكيفية الحسية، ومُحاولة تفهيمهم أنَّ ما جاء في النصوص دالٌّ على مادية الثواب إنما هو رموز وأمثال، وأنَّ المعاد الأخروي لن يكون إلا معنويًّا، فإنَّ النفوس لا يمكن أن تنعم باللذات المادية.

من السهل بعد هذا أن تفهم إذن أنَّ فيلسوفنا لا يرى أن في النصوص الدينية من القرآن والحديث نصوصًا مُتشابهات، لا بالنسبة للعلماء الرَّاسخين الذين عليهم تأويل هذه النصوص التي يُظَن أنها مُتشابهة، ولا بالنسبة للعامة وأمثالهم الذين فَرْضُهُم الإيمان بظواهرها دون البحث أو التفكير في تأويلها.

لكنَّ أهل الجدل والمُتكلمين هم الذين يوجد في حقهم التشابه في بعض النصوص؛ لأنَّهم وقد ارتفعوا عن العامَّة ولم يصلوا إلى مرتبة الخاصة، عرضت لهم شكوك وشبهات لم يقدروا على حلها، فحاولوا التأويل فَضَلُّوا وأضلوا؛ ولهذا ذَمَّهُم الله الحكيم بأنَّ في قلوبهم زيغًا ومرضًا، فيتَّبعون ما تشابه من القرآن ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم.٣١

وقد بلغ من اعتقاد فيلسوف قرطبة بقوة تأثير ما يذهب إليه، من جَعْل تعليم للعامة وآخر للخاصة، في التوفيق بين الوحي والعقل، أنه يتشدد في ذلك إلى درجة أن يرى أن هناك نصوصًا يجبُ على أهل البرهان تأويلها، وحمْلُهم لها على ظواهرها كفر، كما يجبُ على العامَّة وأمثالها حملها على ظواهرها، وتأويلهم لها كفر.

ومن هذه النصوص، قوله تعالى (سورة طه ٢٠ / ٤): الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، ونحو هذا من الآيات والأحاديث التي توهم الجسمية والنقلة لله تعالى، بل إنه كما سبقت الإشارة إليه، يصوغ من هذا مبدأ عامًّا فيقول بعد ما تقدم: «إنَّ من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر، فالتأويل في حقه كفر.»٣٢ لأنه يؤدي إليه.٣٣ وغني عن البيان أنَّه يُريد كذلك أنَّ من كان فَرْضُه التأويل، يكون الأمر بالنسبة إليه على العكس وبصفة عامة أيضًا.

كَمَا أنه لذلك أيضًا يتشدد في وجوب تطبيق ما وضع من قواعد تتعلق بالتأويل، وجواز أو عدم جواز إذاعته، ولمن تجوز إذاعته؛ ولهذا يلوم اللوم كله الغزاليَّ والمتكلمين: أشاعرة ومُعتزلة؛ لأنهم أثبتوا التآويل في مؤلفاتهم فذاعت بين العامة.

إنَّ الغزالي في رأي ابن رشد، «أخطأ على الشريعة والحكمة»، بإثباته التآويل في غير كتب البرهان، فذاعت بين الجمهور، وكان من ذلك أن عاب قومٌ الأولى وآخرون الأخرى.٣٤ وكذلك المُتكلمون، وبخاصَّة المعتزلة، إنهم بتآويلهم التي صرحوا بها للجمهور، «أوقعوا النَّاس في شنآن وتباغض وحروب ومزقوا الشرع.»٣٥
وفيلسوفنا لا ينسى حين يلوم بعنف هؤلاء على ما صرحوا به من تآويل لغير أهلها، أنَّه وقع في مثل هذا الصنيع؛ ولذلك نراه يعتذر عَمَّا فعل بأنَّ الجمهور قد عرف من أولئك الذين يلومهم هذه التآويل، فكان لا بد له من أن يتكلم فيها، وذلك لبيان الحق من جهة،٣٦ ولدفع الأذى عن الجمهور من جهة أُخرى، كما يفعل الطبيب الحاذق لشفاء المريض إذا تعدى الشرير الجاهل (يريد الغزالي وأمثاله) وسقاه السم على أنه غذاء.٣٧
وهذا الاعتذار يُذَكِّرنا باعتذار سلفه وبلديِّه ابن طفيل في مثل هذه الحالة، عن مُخَالفته طريق السلف الصالح في الضنِّ بالحكمة على غير أهلها، بأنَّه يُحاول إصلاح ما أفسده سابقوه بالتصريح بآراء مُفسدة وتآويل ضالة تلقَّفها غير أهلها فعمَّ بذلك ضررها.٣٨

(٤) تحديد مدى قدرة العقل، والصلة بينه وبين الوحي

نجيء بعد ما تقدم لأهم مسألة فيما نرى يتعرض لها من يُحاول التوفيق بين الدين والفلسفة، نعني مسألة الوحي وتحديد سُلطانه وميدانه بالنِّسبة للعقل؛ لا بدَّ إذن من أن يقول ابن رشد هنا كلمته، فيُبين صراحة رأيه في الوحي وتحديد الصلة بينه وبين العقل، وفي المعجزات والنبوة، وفيما يكون أو لا يكون من الحاجة للشريعة بجانب العقل.

الأمر خطير واللحظة حاسمة بالنسبة لفيلسوف قرطبة، وهو الحريص على الإيمان بالدين، والذي رأينا مبلغ اعتداده بالعقل ونظره، وذلك إلى درجة تجعله يُجيز أنْ يُخالف العقلُ بما يصل إليه من نتائج صحيحة الإجماعَ في الأمور النظرية، ويُوجب تأويل ما يخالف النظر العقلي من ظواهر النصوص كما رأينا فيما سبق.

•••

وهذه المشكلة قد تعرَّض لها كلُّ من وقف موقف ابن رشد بين الدين والفلسفة، سواء تقدم به الزَّمن عنه أو تأخر، ونذكر في هذا من باب التمثيل: سعاديا الفيومي المتوفى سنة ٩٤٢م، وابن ميمون، من اليهود، كما تعرض لها من رجال الكنيسة المسيحية كثيرون نكتفي منهم بذكر القديس «أنْسلم» المتوفى سنة ١١٠٩، و«أبيلارد» المتوفى سنة ١١٤٢م، ومن بعدهما «ألبير الكبير»، وتلميذه «توماس الأكويني» المُتوفى سنة ١٢٧٤م، وهو أكبر لاهوتي في العصر الوسيط.

حقًّا، لقد اضْطُرَّ هؤلاء جميعًا لمُعالجة هذه المشكلة بوجهيها: ما منزلة الوحي من العقل؟ وما صِلَة الفلسفة بالدين؟ فكلٌّ قد قال في ذلك كلمته.

يرى سعاديا الفيومي أنَّ العقيدة في حاجة إلى العقل لفهمها وشرحها والدفاع عنها، أي إنَّ للعقل بجانب الوحي هذا الدورَ الثانوي جدًّا كما يقول «مونك»، فليس للوحي أن يَخْشَاه، بل بالعكس يجد منه سندًا وظهيرًا.

وهذا الرَّأي — أي كون الفلسفة في خدمة الدين على ذلك النحو — هو رأي اليهود الربانيين أو أنصار التلمود، وهذا الرأي الثانوي الذي للعقل، له في رأي سعاديا ما يُبَرِّره؛ لأنَّه وإن كان العقل يعرف نفس الحقائق الوحييَّة، لكنه يحتاجُ لمعرفتها إلى نظر طويل، على حين أنَّ الوحي يُعطينا إياها بسرعة ويُسر.٣٩
وابن ميمون — مع اعتداده بالعقل واعتباره رباطًا بيننا وبين الله، فليس لنا أن ننبذه — يؤكد أنَّ مُهِمَّة الفلسفة هي شرح الحقائق الدينية والتدليل عليها٤٠ وأنَّ العقل له حد يقف عنده في قدرته على المعرفة، وحينئذ يجبُ اللجوء فيما لا يمكن أن يصل إليه العقل إلى الوحي، ومن هذا النوع العالم السماوي.٤١
ونَجِدُ الأمر على هذا النَّحو إذا جئنا إلى مُفكري رجال الكنيسة المسيحية، فإنَّ ما يظهر من التَّعارض بين الوحي هو تعارض غير مقصود، وإن كان حقيقيًّا مع هذا، ما دام الكل يتفق على أنَّ دور الفلسفة هو فهم العقيدة.٤٢
والقديس «أنسلِم» مع وصف موقفه بين العقل والوحي بأنه عقلي، نراه هو الذي أعطى الصورة النهائية لعلوِّ هذا على ذاك.٤٣

ثم نصل إلى «ألبير الكبير» وتلميذه الأشهر القديس توماس الأكويني، فنجد عندهما كذلك التأكيدَ بأنَّ كلًّا من العقل والدين له اختصاصه، وأنَّ الفلسفة — كما يرى الأكويني — ليس لها إلا أن تظل خادمة اللاهوت، وأنَّ الدين يعصم العقل من الضلال لو تُرك العقل لنفسه.

وبعد أن أوضح أو حدد هذان الفيلسوفان منزلة العقل من الوحي، هكذا وبيَّنَّا مدى سلطان كلٍّ منهما، نجدهما يقفان موقف المعارضة من اللاهوتيين الذين يرفضون فلسفة أرسطو إيثارًا للاهوت، ومن الرشديين الذين يرفضون اللاهوت لصالح الفلسفة.٤٤

•••

وبعد هذه اللمحات التي نكتفي بها في بيان أنَّ مُشكلة الصلة بين الوحي والعقل، في ناحيتيها اللتين أشرنا إليهما، قد عرضت للفلاسفة والمفكرين من رجال الدِّين في مُختلف العصور من غير المسلمين ومن المسلمين، ورأى كلُّ فريق منهم حَلَّها وتحديدها على ما عرفنا بعد ذلك، نعودُ إلى هدفنا الأصلى هنا وهو بيان موقف ابن رُشد من هذه المشكلة، وذلك لنضعه حيث يجبُ بين هؤلاء المُفكرين.

•••

إنَّ فيلسوف الأندلس مهما أشاد بالعقل ونظره وقدرته على المعرفة، يُصَرِّح بأنَّ هناك أمورًا يعجز العقل عن معرفتها، وإذن فلنرجع إلى الوحي الذي جاء متممًا لعلم العقل، فإنَّ «كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسانَ من قِبَل الوحي.»٤٥ وهذه الأمور التي يعزُّ إدراكها على العقل سيجيء بعد قليل جدًّا بيانها، وذكرُ مثَل لها، ولكنا نقول الآن إنها كما يذكر فيلسوفنا نفسه، أمور من الضروري علمها لحياة الإنسان ووجوده وسعادته٤٦
ونرى ابن رشد يُكرر هذا الذي يراه ويُؤكده في موضع آخر، حين يذكر أنَّ الفلسفة تعنى بتعرُّف ما يجيء به الشرع، فإن أدركته كان ذلك أتمَّ في المعرفة، وإلا أعلنت بقصور العقل الإنساني عنه، وأنَّ هذا مما يُدركه الشرع وحدَه.٤٧

ومِنَ الواضِح شَبَهُ هذا الرأي بما نقلناه آنفًا عن المفكرين من رجال اليهودية والمسيحية في هذه المشكلة، من أنَّ على العقل أن يفهم ما جاء به الشرع، ومن بطئه عن الوحي في المعرفة، ومن عجزه أحيانًا عن الوصول لما جاء به، والنَّتيجة الحتمية لذلك هي ضرورة اللجوء أحيانًا للوحي الذي هو أعلى من العقل ونظره وتفكيره.

ومهما يكن من شيء؛ فالأمور التي لا يكتفي العقل بنفسه في معرفتها تتلخص كما يرى فيلسوف الأندلس في معرفة الله، والسعادة والشقاء الإنساني في هذه الحياة الدنيا وفي الحياة الأُخرى أيضًا، ووسائل هذه السعادة وأسباب هذا الشقاء.

وذلك بأنَّ الفلاسفة (ولعله يُريد الفلاسفة اليونان) يرون أنَّ الإنسان لا تقوم حياته وسعادته في هذا العالم وفي العالم الآخر، إلا بالفضائل النظرية التي لا يوصل إليها إلا بالفضائل الخلقية، وهذه الفضائل لا تتمكن في النفس إلا بمعرفة الله وتعظيمه بالعبادات المشروعة حسب الملل المُختلفة، مثل القرابين والأدعية والصلوات، ونحو هذا وذاك مما لا يُعرف إلا من الشرع الموحى به.٤٨
أو بعبارة أُخرى: إنَّ هذه الأمور لا تُتَبَيَّن كلها أو معظمها إلا بوحي، أو يكون تبيينها بالوحي أفضل.٤٩ ولا عجب في هذا، فإنَّ الفلسفة تنحو نحو تعريف بعض الناس سعادتهم، وهم مَن عندهم استعداد لتعلمها، وأمَّا الشرائع فتقصد تعليم الجمهور عامة؛ ولذلك كان العلم الذي يأتي به الوحي رحمة لجميع الناس.٥٠
ولكن؛ إذا كان ابنُ رشد يرى ضرورة الوحي «رحمة لجميع النَّاس»، وإذا كان في تحديد الصلة بينه وبين العقل يجعل هذا أقل مقدرة في إدراك الحقائق على ما يُؤخذ من النصوص التي استشهدنا بها لبيان هذا الرأي من «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت»، إذا كان الأمر هكذا؛ فماذا نفهم من مُقارنة هذه النصوص بما جاء عن هذه المشكلة ذاتها في كتابه «فصل المقال» خاصًّا بعلوِّ النظر العقلي وقدرته على الوصول لكل ما جاءت به الشريعة من حقائق وتعاليم، وبأنَّ الوحي يُبَيِّن للجمهور — في رموز وأمثال — الحقائق التي قد يدركها عقل الفيلسوف خالصة مما تكتسبه في الوحي من تلك الرموز والأمثال، وأنَّه لهذا قد انقسم الشرع إلى ظاهر هو هذه الأمثال المضروبة لتلك المعاني والحقائق الخفية، وإلى باطن وهو هذه المعاني والحقائق التي لا يَصِلُ إليها إلا أهل البرهان.٥١
هل وقع فيلسوف الأندلس هكذا في التناقض مع نفسه؟ أو هل رجع عن كونه عقليًّا، كما عرفنا من قبل، يوجب تأويل النص الذي يُخالف ظاهره العقل؟ أو هل نقول مع الأستاذ «مهرن Mehren» الذي اعتمد على نصوص التهافت في فهم موقف ابن رشد من الدين: إن له بجانب نزعته العقلية نزعة أُخرى غير عقلية تُتْبع في بعض مسائل أساسية العقل للعقيدة والفلسفة للدين؟٥٢ أو هل نقول أخيرًا مع الأستاذ «ميجل آسين Miguel Asin» بأنَّ موقف فيلسوف قُرطبة يَتَلَخَّصُ في أنَّ الوحي والفلسفة مصدرهما الله؛ فلا يُمكن أن يتناقضا، بل لا بدَّ أن يكون بينهما وئام وتعاون متبادل، ولكن الوحي يفوق الفلسفة في مسائل أساسية، فإن اختلفا ظاهريًّا يجب خضوع الفلسفة للوحي؟٥٣

إنه من الممكن لنا بعد هذه الفروض والآراء في فهم موقف ابن رشد الحقيقي في العلاقة بين الدين والفلسفة، أن نُقَرِّر أنه يجب لمعرفة حقيقة موقفه أن نحاول أولًا إزالة ما يُوجد من تعارض ظاهري بين النصوص التي ذكرناها، نعني نصوص «فصل المقال» من جهة، ونصوص «مناهج الأدلة» و«تهافت التهافت» من جهة أُخرى، فإذا تمَّ لنا هذا فسنرى نزعة واحدة تسود جميع كتاباته وتكون هي المعبِّر عن موقفه الحق.

ولكن أي النصوص هي التي يجبُ تأويلها لتتمشى مع الطائفة الأُخرى من النصوص؟ هنا المُشكلة التي قد يتيسر لنا حلها إذا تبيَّنَّا العوامل التي دفعته لكتابة ما كتب من هذه النصوص وتلك في كتبه المُختلفة.

إنَّ فيلسوف الأندلس كتب «فصل المقال» لغرض واحد هو — كما يدل عليه اسمه — تبيين العلاقة أو الاتصال بين الحكمة والشريعة، ومحاولةُ التوفيق بينهما على أساس هذه العلاقة، على حين أنه كتب «مناهج الأدلة»؛ ليفحص فيه «عن الظاهر من العقائد التي قصد الشرع حمْلَ الجمهور عليها، ونتحرى في ذلك كله مقصد الشارع بحسب الجهد والاستطاعة.»٥٤ وأخيرًا كتب «تهافت التهافت» ليردَّ به على تهافت الفلاسفة للغزالي.

وفي هذين الكتابين الأخيرين لم يتعرض بأصالة لمسألة التوفيق بين الدين والفلسفة وبيان العلاقة بينهما، هذا الغرض الذي هو الغرض الوحيد من رسالة «فصل المقال».

وإذن، كما يقول الأستاذ «جوتييه» بحق ينبغي إذا أردنا التوفيق بين تلك النصوص جميعها، أن نؤوِّل نصوص المناهج والتهافت لتتفق مع ما تدل عليه رسالة «فصل المقال» التي فصَّل فيها الغرض والمنهج الذي سيسير عليه.

وإذا كان الأمرُ ينبغي أن يكون هكذا، كان من الحق أن نُقَرِّر أن ابن رشد بقي أمينًا دائمًا وصادقًا في نزعته العقلية، ومن الدلائل على هذا أنَّ رأيه في النبوة والمعجزات يتفق — كما أشرنا إلى ذلك فيما سبق — مع رأي ابن سينا الذي عرضناه من قبل.

إنه يذكر أنَّ النبوة حادث طبيعي تمامًا، وأنَّ الوحي يكون عن الله بتوسط ما يُسَمَّى عند الفلاسفة «العقل الفَعَّال وعند رجال الشريعة ملَكًا.»٥٥ كما يذكر في أثناء رده على الغزالي فيما حكاه عن الفلاسفة، أو بعبارة أدقَّ عن ابن سينا في هذه المسألة، أن المعجزة أمرٌ ممكن في نفسه يتفق والعقلَ وقوانين الطبيعة، وأنَّ ما ذكره ابن سينا من الأسباب التي تنشأ عنها ممكن وجائز، وأن ليس كل ما يكون ممكنًا في طبعه يقدر أن يفعله الإنسان، بدليل الحس والمشاهدة والواقع، فيكون إتيان النبي بأمر خارق أي معجزة ممكنًا في نفسه، وإن كان ممتنعًا على الإنسان، وليس يُحتاج في ذلك أن نقرر أنَّ الأمور الممتنعة في العقل ممكنة في حق الأنبياء.٥٦
وهكذا لم يَحِد ابن رشد عن نزعته العقلية في هذه المُشكلة الخطيرة، ولا يلوم ابن سينا على ما ذهب إليه فيها؛ لأن له رأيًا يُخالفه، بل لأنَّه صَرَّح بهذا الرأي للعامَّة الذين لا تصلح لهم التعاليم التي تصلح للخاصة وحدهم، وبذلك خالف الفلاسفة القدماء (أي اليونان) الذين لم يتكلم أحدٌ منهم في المعجزات مع انتشارها؛ لأنها من المبادئ العامة للشريعة التي يجب أن يعاقب الفاحص عنها والمشكِّك فيها.٥٧
وبعد أن فهمنا نظرية فيلسوف الأندلس في النبوة والمعجزات، نرى أنَّ النصوص التي جاءت في المناهج والتهافت موهمة أنه صار غير عقلي، فهو يجعل الوحي فوق العقل، ويُتبع هذا لذاك، أراد بها — كما يقول بحق الأستاذ جوتييه٥٨ — أن يُطمئن رجال الدين بأنَّه معهم، وبخاصة أنَّه مع هذا لم يخرج بها عن كونه عقليًّا، فهو يُؤَكِّد هذا أبلغ توكيد وأوكده إذ يُقَرِّر «أنَّ كل نبي فيلسوف.»٥٩

كما نرى كذلك أنَّ ابن رشد ظلَّ أمينًا على ما سبق أن ذكرناه عنه بخصوص وجوب تقسيم الناس إلى طبقات حسب استعداداتهم وعقولهم، فإنَّ منهم العامة والخاصة، ويجبُ أن يكون لكل طائفة منهم تعليم خاص، وبهذا يبقى الوئام بين العقل والوحي أو بين الفلسفة والدين اللذين لكلٍّ منهما غرض خاص، ولا يصطدم أحدهما بالآخر.

وقد يدلُّ أيضًا لما نذهب إليه من بقاء ابن رشد أمينًا لمذهبه العقلي، ما أَكَّدَه مرارًا من أنَّه يجبُ ألا يُصرح للجمهور — حرصًا على سعادته — بما يؤدي إليه النظر العقلي من العلوم التي سكت عنها الشرع.٦٠ فإن هذا معناه أنه فيما يختص بالعلماء، أي: طبقة الخاصة، لا يُعتبر شيء من المعاني والحقائق التي لم يصرح بها الشرع خافيًا، بل إنَّ عقولهم لتصل إلى إدراكها ومعرفتها.
وأمَّا ما سبق أن رأيناه له من أنَّه تُوجد أمورٌ يَجِبُ فيها الرجوع للوحي؛ لأنَّ العقل يعجز عن معرفتها، فإنَّه يقصد بالعقل الذي يعجز عن إدراك هذه الأمور العقلَ الذي يستدل، لا عقل النبي الذي يجبُ في رأيه أن يكون أيضًا فيلسوفًا، والذي يُدرك هذه الأمور بفيض العقل الفعال.٦١
وأخيرًا لعلَّ الحق هو أن نقرر أن فيلسوف الأندلس لا يصح أن يوصف بأنه عقلي إزاء جميع الناس وفي كل حال،٦٢ ولا بأنَّه غير عقلي كذلك، بل إنه فيما نرى غير عقلي حين يتعلق الأمر بالعامة الذين لا يطيقون النظر والأدلة البرهانية، وعقلي حين يتعلق الأمر بأهل النظر العقلي والفلسفة،٦٣ وإنَّ رعاية هاتين الناحيتين هو ما جعل في كلامه ما يوهم أحيانًا بأنه رجع عن نزعته العقلية إلى ما يناقضها.

•••

والآن بعد أن انتهينا من بحث العلاقة بين العقل والوحي في رأي ابن رشد، وهو أمر اضطره لاصطناع طريقة تأويل الكثير من النصوص الدينية، ننتقل للفصل الثاني لنعرف أنَّ هذا التأويل أو التفسير المجازي للنصوص الدينية كان ضروريًّا في رأي الفلاسفة والمفكرين من قبل فيلسوفنا وبعده: في اليهودية والمسيحية والإسلام، وبخاصة عند فيلون الإسكندري، لنرى صلة مذهب ابن رشد في هذه المسألة بما ذهب إليه أمثاله فيها.

١  اعتمدنا في هذين الكتابين على طبعة مونيخ سنة ١٨٥٩م، لناشرها ميلير Miiller.
٢  في هذا الكتاب اعتمدنا على الطبعة العلمية للأب بويج، بيروت سنة ١٩٣٠م.
٣  نشير دائمًا بالرقم الأول لرقم السورة في المصحف، وبالثاني لرقم الآية من السورة.
٤  فصل المقال، ص٢.
٥  سورة يونس ١٠ / ١٠١.
٦  سورة الزمر ٣٩ / ١٢.
٧  سورة البقرة ٢ / ٢٧٢.
٨  صحيح البخاري، طبعة بولاق بمصر سنة ١٣١٤ﻫ، ج١، ٢١-٢٢.
٩  فصل المقال، ص٧–٩.
١٠  فصل المقال، ص٧–٩.
١١  قانون التأويل، نشر عزت العطار الحسيني بمصر سنة ١٩٤٠م، ص٩-١٠.
١٢  قانون التأويل، ص٩-١٠.
١٣  نفسه، ص٨.
١٤  نفسه، ص٢١.
١٥  الكشف عن مناهج الأدلة، ص٧٩.
١٦  تهافت التهافت، ص٣٥٦-٣٥٧.
١٧  دلالة الحائرين، بالفرنسية، ج١، ١٠–١٢، وهذا المعنى نراه مكررًا في مواضع أخرى، مثلًا ج١، ٦٧–٦٩.
١٨  دلالة الحائرين، بالفرنسية، ج١، ١٠–١٢، وهذا المعنى نراه مكررًا في مواضع أخرى، مثلًا ج١، ٦٧–٦٩.
١٩  نفسه، ج١، ١١٥.
٢٠  رسالة في اللاهوت والسياسة، الفصل ١٤ ص٢٦٩، طبع باريس سنة ١٩٢٨.
٢١  نفس المرجع، الفصل ١٤ ص٢٧٨.
٢٢  المرجع السابق، الفصل ١٥ ص٢٩٣.
٢٣  رسالة في اللاهوت والسياسة، الفصل ١٣ ص٢٦٠.
٢٤  نفسه، الفصل ١٤ ص٢٧٨.
٢٥  نفسه، الفصل ٧ ص١٧٧.
٢٦  الكشف، ص١٢٤–١٢٦.
٢٧  الكشف، ص١٢٦-١٢٧.
٢٨  الكشف، ص١٢٦-١٢٧.
٢٩  فصل المقال، ص٢١.
٣٠  الكشف، ص٧٠.
٣١  مناهج الأدلة، ص٦٧-٦٨، ٩١.
٣٢  يريد طبعًا إذا كان ذلك في أصل من أصول الدين.
٣٣  فصل المقال، ص١٧.
٣٤  فصل المقال، ص١٧-١٨.
٣٥  فصل المقال، ص٢٣-٢٤.
٣٦  نفسه، ص١٨.
٣٧  تهافت التهافت، ص٣٥٨.
٣٨  حي بن يقظان، نشر جوتييه، ص١١٨.
٣٩  راجع في ذلك كله، مونك ص٤٧٧–٤٧٩.
٤٠  ليفي، ابن ميمون، ص٥٢-٥٣، بالفرنسية.
٤١  دلالة الحائرين، ج٢ فصل ٢٤، ١٩٥، وج٢، ف٢٥، ١٩٨.
٤٢  بريهييه، والفلسفة في العصر الوسيط، بالفرنسية، ص١٤٥.
٤٣  جلسون، روح فلسفة العصر الوسيط، بالفرنسية، ص٢٩.
٤٤  بريهييه، فلسفة العصر الوسيط، ص١٤ من المقدمة، ص٣٣٩ من الكتاب نفسه، وص٣٠٣-٣٠٤.
٤٥  تهافت التهافت، ص٢٥٥-٢٥٦.
٤٦  تهافت التهافت، ص٢٥٥-٢٥٦.
٤٧  نفسه، ص٥٠٣.
٤٨  تهافت التهافت، ص٥٨١، جوتييه، نظرية ابن رشد، بالفرنسية، ص١٥١-١٥٢.
٤٩  مناهج الأدلة، ص١٠١.
٥٠  تهافت التهافت، ص٢٥٦، ٢٥٨.
٥١  فصل المقال، ص١٥.
٥٢  راجع بحثه بالفرنسية عن فلسفة ابن رشد وصلتها بفلسفة ابن سينا والغزالي.
٥٣  جوتييه نظرية ابن رشد، ص١٥.
٥٤  المناهج، ص٢٧.
٥٥  تهافت التهافت، ص٥١٦.
٥٦  تهافت التهافت، ص٥١٥.
٥٧  نفس المرجع، ص٥١٤، ٥٢٧.
٥٨  نظرية ابن رشد، ص١٤١.
٥٩  تهافت التهافت، ص٥٨٣.
٦٠  تهافت التهافت، ص٤٢٨-٤٢٩.
٦١  مما ينبغي هنا ملاحظته، أن ابن رشد نفسه حينما تعرض في تهافته، ص٢٥٦، ليعجز العقل أحيانًا، قال بأن ذلك يكون عجزًا من العقل «بما هو عقلي»، وهذا التحفظ له قيمته في الدلالة على ما نقول.
٦٢  كما يقول رينان، ابن رشد ومذهبه، ص١٦٤-١٦٥، وكما يقول مونك أيضًا، ص٤٥٥-٤٥٦.
٦٣  كما يقول مهرن وميجل آسين، ما تقدم بيانه في هذا الفصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤