الفصل الثالث

استدلال ابن رشد للعقائد الدينية

سنرى في هذا الفصل كيف رأى فيلسوفنا أن يُدلِّل لما جاء به الوحي من عقائد لا يقوم الدين بدونها، بطريقة تُلائِمُ عقول طوائف الناس جميعًا، وذلك من غير ضرر بالدين أو الفلسفة، وقد خصص لهذه الغاية من مؤلفاته رسالته المُسَمَّاة: «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة.»

وقد كان من الضروري حقًّا أن يُخصص بعض مؤلفاته لهذه الغاية؛ لأنَّه متى سلمت هذه العقائد وقامت عليها الأدلة، دون أن يكون في ذلك ما يتعارض مع النظر الفلسفي الصحيح، لم يكن لأحد أن يذم الفلسفة أو يشكو منها، وكان هذا خطوة طيبة حاسمة في سبيل التوفيق بين الوحي والعقل.

وسنعرض لأُمَّهات هذه العقائد واحدةً بعد أُخرى على اختلاف ضروبها، أي: سواء منها ما يختص بحدوث العالم عن عدم، ووجود الله ومعرفته ووحدانيته، وما يختص بصفات الكمال التي يجبُ أن يتصف بها، والأخرى التي يجب أن يتنزه عنها، وما يختص بالحاجة إلى الرسالات الإلهية للناس، والعدل والجور، والمعاد في الدار الأخرى وما يكون فيه.

(١) حدوث العالم

هذه العقيدة أولى العقائد الدينية بالبحث والاستدلال عليها في رأينا؛ فقد كانت هذه المسألة إحدى المسائل الثلاث التي كفَّر الغزالي الفلاسفة من أجل مذهبهم فيها، وربما ما تزال موضع نزاع بين رجال الدين وبعض المتفلسفين.

ونُحبُّ أن نقول من أول الأمر إننا لن نتعرض هنا فيما يختص بهذه المسألة وغيرها من مسائل هذا الفصل، لتقرير رأي ابن رشد والحكم بينه وبين رجال الدين، فلهذا موضع خاص يجيء بعد هذا الفصل، كما نلاحظ أنَّ ابن رشد في هذه المسائل يجعل القرآن عماده في الاستدلال لجميع العقائد الدينية، فهو لا يعتمد على الاستدلال الذي يقوم على المُقدمات المنطقية التي لا تطيقها العامَّة وأحيانًا لا تكون يقينية؛ ولهذا يرفض غالبًا أدلة رجال علم الكلام، على ما سنرى أثناء البحث.

هذا، ويبدأ فيلسوف قرطبة ببيان أنَّ الشرع أو القرآن بصفة خاصة دعانا في آيات كثيرة إلى معرفة العالم وفهمه، وذلك لنصل من هذه المعرفة إلى أنه صُنع صانع حكيم هو الله جلَّت حكمته.

ثم أخذ بعد ذلك في نقد طريقة المتكلمين الأشاعرة لإثبات هذه العقيدة، مبينًا أنَّها ليست الطريقة الشرعية التي أشار القرآنُ إليها، وأنَّها مع هذا لا تصلح للعلماء؛ لأنها ليست يقينية، ولا للجمهور لأنها ليست بسيطة قليلة المُقدمات التي تكون نتائجها قريبة من المقدمات المعروفة بنفسها.

وذلك بأنَّ طريقة هؤلاء القوم لإثبات حدوث العالم تنبني على القول «بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ، وأنَّ الجزء الذي لا يتجزأ محدَث، والأجسام مُحدثة بحدوثه، وطريقتهم التي سلكوا في بيان حدوث الجزء الذي لا يتجزأ، وهو الذي يُسمونه الجوهر الفرد، طريقة مُعتاصة تذهب على كثير من أهل الرياضة في صناعة الجدل فضلًا عن الجمهور، ومع ذلك فهي طريقة غير بُرهانية ولا مفضية بيقين إلى وجود الباري.»١

وإذا كانت هذه الطريقة لا تصلح في رأي ابن رشد ومن ثَم لم يرْضَها، فما هي الطريقة التي يرضاها ويراها مُثبتة ومؤدية إلى إثبات وجود العالم عن الله تعالى؟ إنَّ هذه الطريقة هي «التي نبَّه الكتاب العزيز عليها، ودعا الكلَّ من بابها، وإذا استُقرئ الكتاب العزيز وُجدت تنحصر في جنسين: أحدهما: طريق الوقوف على العناية بالإنسان، وخلق جميع الموجودات من أجلها، ولنُسم هذه دليل العناية.»

والطريقة الثانية: ما يظهر من اختراع جواهر الأشياء الموجودات مثل اختراع الحياة في الجماد، والإدراكات الحسية والعقل، ولنسمِّ هذه «دليل الاختراع».٢

وسنرجئ الحديث عن دليل الاختراع عند الكلام عن وجود الله.

ونتكلم الآن عن أول الدليلين فنجد ابن رشد يقولُ بأنَّ هذا الدليل قطعي وبسيط «وذلك أنَّ مبناه على أصلين معترَف بهما عند الجميع؛ أحدهما: أن العالم بجميع أجزائه يوجد موافقًا في جميع أجزائه لوجود الإنسان، ولوجود جميع الموجودات التي ها هنا، والأصل الثاني: أن كل ما يوجد موافقًا في جميع أجزائه لفعل واحد، ومسدَّدًا نحو غاية واحدة، فهو مصنوع ضرورة، فينتج من هذين الأصلين بالطَّبع أنَّ العالم مصنوع وأنَّ له صانعًا.»٣ أي إنه مُحدث لا قديم.

وهذا النَّوع من الاستدلال هو النوع الموجود في القرآن، وهذا حقٌّ كما يقول ابن رشد، كما يظهر من آيات كثيرة جدًّا، يلفتنا القرآن بها إلى ضرورة النظر في العالم وفي سائر الموجودات؛ ليتبين لنا أنها من خلق إله حكيم في صنعه، ولا نرى ضرورة لذكر بعض هذه الآيات كما فعل ابن رشد نفسه.

ولكن من الخير أن نُشير منها إلى قوله تعالى (سورة النبأ: ٦–١٦): أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا * وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا * وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا * وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا * وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا * وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا * وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا.

وفي الاستدلال بهذه الآيات على العقيدة التي نحن بصددها، يُفكر صاحب كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد المِلَّة» أنَّ هذه الآيات إذا تأَمَّلها الإنسانُ وَجدَ فيها التنبيه على موافقة أجزاء العالم لوجود الإنسان؛ وذلك أنَّه تعالى ابتدأ فنبه على أمر معروف بنفسه لنا معشرَ الناس الأبيضِ والأسود، وهو أنَّ الأرض خُلقت بصفة يتأتى لنا المقام عليها، وأنَّها لو كانت بشكل آخر غير شكلها، أو في موضع آخر غير الموضع الذي هي فيه، أو بقدر آخر غير هذا القدر، لما أمكن أن نُخلق عليها ولا أن نوجد فيها، وهذا كله محصور في قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا، وذلك أنَّ المهاد يجمع الموافقة في الشكل والسكون والوضع، وزائدًا إلى هذا معنى الوَثارة واللين، فما أعجب هذا الإعجاز!

ثم نبه الله بقوله: وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا على المنفعة الموجودة في سكون الأرض بسبب الجبال، فإنَّها لو كانت أصغر مما هي لتزعزعت من حركات الماء والهواء وتزلزلت وخرجت من موضعها، ولهلك ما عليها من الحيوان ضرورة، وإذن موافقة سكونها لما عليها من الموجودات لم يكن بالاتفاق، ولكن عن قصد قاصد وإرادة مريد، فهي ضرورةً مصنوعة لذلك القاصد سبحانه وموجودة على الصفة التي قدَّرها.

وجاء بعد ذلك قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا تنبيهًا على مُوافقة الليل والنهار للحيوان والنبات؛ إذ الليل يسترها من حرارة الشمس، كما يستر اللباس الجسد ويقيه شدة الحرارة، ومع هذا فالليل يجعل كل ما فيه حياة يستغرق في النوم؛ ولذلك قال: وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا، أي: مستغرقًا بسبب الظلام.

ثم قال: وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا وهي السماوات، فعبَّر بلفظ البنيان عن معنى الاختراع لها، وكذلك عن معنى ما فيها من نظام واتفاق أو موافقة لما خُلِقَت من أجله، عَبَّر بلفظ الشدة عما جعل فيها من القوة على الحركة الدَّائبة الدَّائمة، فليس هناك خوف من أن تخِرَّ كما تخر السقوف والمباني العالية، وهذا كله تنبيه من الخالق على موافقة السماوات والأفلاك وسائر ما فيها، في إعدادها وأشكالها وأوضاعها وحركاتها، لوجود ما على الأرض وما حولها؛ حتى إنه لو وقف جرم من الأجرام السماوية لحظة واحدة، فضلًا عن أن تقف كلها لفسد ما على وجه الأرض.

ثم نَبَّه بقوله: وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا على منفعة الشمس بخاصة وموافقتها لوجود ما على الأرض، إذ لولا الضوء لما انتفع الإنسان والحيوان بحاسة البصر،٤ ونبَّه على هذه المنفعة لأنها أشرف منافع الشمس وأظهرها.

وأخيرًا نَبَّه الخالق جلت حكمته بقوله: وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا * لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا * وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا على العناية في نزول المطر، وأنَّه ينزل لمكان الحيوان والنبات، وأنَّ نزوله لهذا بقدر محدود وفي أوقات محدودة لا يُمكن أن يكون عن مصادفة، بل سبب ذلك العناية الإلهية بالأرض وما عليها.

وبعد أن انتهى ابن رشد من الاستدلال بتلك الآيات على أنَّ العالم صُنْع من صُنع الله وخلْق من خلقه، وذلك بدليل يفهمه الناس جميعًا وتؤمن له عقولهم وقلوبهم، نراه يقرِّر أنَّ العالم محدث عن إرادة قديمة، وأنه خُلق من لا شيء وفي غير زمان، أمْرٌ لا يُمكن أن يتصوره العلماء فضلًا عن الجمهور، ويوقع في شُبَهٍ عظيمة تُفْسِدُ عقائد الجمهور وبخاصة أهل الجدل منهم.٥
ولذلك؛ كان أهل علم الكلام بصنيعهم في هذه المسألة، وبقولهم إنَّ العالم مُحْدَث عن إرادة الله القديمة، ليسوا من العلماء النَّاجين بما وصلوا إليه من العِلم البُرهاني اليقيني الذي هُم أهلٌ له، ولا من الجمهور الذين سعادتهم في اتباع الظاهر وما أذن به الشارع، بل هم من الذين في قلوبهم زيع ومرض.٦

وهكذا يخلص لفيلسوف الأندلس على ما نرى الاستدلال على حدوث العالم عن الله تعالى بأدِلَّة ترتكز على النَّظر السليم والمُلاحظة الصَّادِقَة، وتؤخذ مقدماتها وأصولها من القرآن نفسه، فهي لذلك بسيطة وتؤدي بالناس جميعًا إلى اليقين.

ولكن، لنا أن نقول مع ذلك بأنَّ ما رآه من الدليل على حدوث العالم عن الله تعالى هو بالأولى على أنَّ هذا العالم «الحادث» له صانع حكيم. أمَّا الحدوث نفسه الذي هو ضد القدم فدليله كما يرى المُتكلمون هو ما ينتابه من التغير واختلاف الصفات والأحوال؛ فإنَّ هذا هو شأن الحادث لا القديم.

ويكفي في بيان هذا الذي يراه المُتكلمون أن نُشير إلى أي كتاب من كتب علم الكلام مثل «التبصر في الدين» لأبي المظفر الإسفراييني من رجال القرن السادس الهجري؛ إذ فيه أنَّ الدليل على حدوث الموجودات التي يتكون منها العالم «أنها تتغير عليها الصفات وتخرج من حال إلى حال.» وإذن، تكون الموجودات التي تتغير أحوالها مُحدثة؛ لأنَّ ما لا يخلو من الحوادث يكون محدثًا.٧

على أنَّ ابن رشد تناول هذا الدليل ونحوه من أدلة المتكلمين على حدوث العالم، ونقده بأنَّ مُقدماته تحتاج في إثباتها إلى أدلة، فالأدلة لهذا عسرة الفهم ولا يُطيقها الجُمهور، كما أَنَّها بعد ذلك ليست يقينية؛ فلا تصلح للعلماء أيضًا.

(٢) وجود الله ومعرفته

في هذه العقيدة أيضًا نجدُ ابن رشد قبل أن يَأتي بالدليل الشرعي الذي يراه صالحًا لأن يُؤدي بالعامَّة والخاصة إلى وجود الله ومعرفته، يعرض دليل رجال علم الكلام الأشاعرة عليها، ثم يُتْبعه بطريقة المتصوفة في الاستدلال وينقد كلًّا من الطريقتين.

ودليلُ الأشاعرة في إحدى صوره نراه هكذا: العالم حادث، وكل حادث لا بد له من محدث، وهذا المحدث هو الله.٨ وهذه الطريقة في الاستدلال كما يرى ابن رشد، ليست هي الطريقة الشرعية التي نَبَّه الله عليها ودعا الناس للإيمان من قِبَلها، وهذا لما في إثبات كل هذه المقدمات من شكوك ليس في قوة صناعة الكلام الخروج منها، كما بيَّن ذلك بشيء من التطويل.٩
وكذلك الأمر في الصورة التي ارتضاها لهذا الدليل إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك بن يوسف الجويني شيخ الغزالي، فضلًا عن أنه يُبْطِل حِكْمَة الصانع، فإنَّ الجُويني في رسالته المعروفة بالنظامية — كما يذكر ابن رشد١٠ — يبني هذا الدليل على مُقدمتين: العالم كان جائزًا أن يكون على غير ما هو عليه حجمًا أو شكلًا أو حركة، والجائز مُحدَث لا بد له من مُحدِث صيَّره بأحد الجائزين أولى منه بالآخر، وهذا المحدِث هو الله.

وفي رأينا أنَّ فيلسوف قرطبة مُحِقٌّ فيما يذكر هنا من أنَّ المُقدمة الأولى غير صحيحة، وأنَّها مع هذا مبطلة لحكمة الصانع؛ لأنَّ العالم لو كان جائزًا أن يكون على صفة غير الصفة التي هو عليها فعلًا، لكان وجوده على هذه الصفة بلا سبب ولا حكمة، وهذا ما لا يليق بالله العليم الحكيم الذي خلق كل شيء وقدَّره تقديرًا.

وإذا كان ابن رشد لم يتعرض لطريقة المعتزلة في الاستدلال على هذه العقيدة، فإنه يعتذر عن ذلك بقوله: «وأمَّا المُعتزلة فإنه لم يصل إلينا في هذه الجزيرة من كتبهم شيء نقف منه على طرقهم التي سلكوها في هذا المعنى، ويشبه أن تكون طُرقهم من جنس طرق الأشعرية.»١١
وأمَّا الصوفية فلم تُرضِ طريقتهم أيضًا في التوصل إلى معرفة الله ابنَ رشد، فإنَّ طريقتهم لا تقومُ على النَّظر بالعقل في العالم الموجود للاستدلال منه على الله مُوجِدِه، ولكنَّها تقوم على «الذوق» وحده، وإذن فهي في رأي ابن رشد طريقة ليست للناس بما هم ناس، ولو كانت هي المقصودة لبَطُلَ النَّظر العقلي الذي دعا القرآنُ إليه ونَبَّه على طريقه.١٢

وهكذا لم يُرضِ ابنَ رُشد دليلُ المُتكلمين ودليل المتصوفة لإثبات وجود الله ومعرفته، فما هو إذن طريقه إلى هذا؟ الطريق إلى هذا هو الطريق الذي نَبَّه القرآنُ نفسه إليه، وهو ينحصر في دليلين: دليل العناية الذي يقوم — كما ذكرنا ذلك عند الكلام على حدوث العالم — على أنَّ جميع الموجودات موافقة لوجود الإنسان وسائر ما على الأرض من حيوان، فهي إذن من قِبل فاعل قاصد مريد لذلك.

ثم دليل الاختراع الذي يقومُ على أنَّ كل شيء من السماوات والحيوان والنَّبات مُخترع، وذلك بدليل المُشاهدة في هذين، وبدليل حركات السماوات التي تؤذن بأنَّها مُسَخَّرة لنا، وكل ما كان كذلك فهو مُخترَع حتمًا، وكل مُخترَع له مخترِع ضرورة، فيصح من هذين الأصلين أن للعالم مخترِعًا له.١٣
وقد ساق ابن رشد بعد هذا وذاك، في إحكامٍ، آيات كثيرة من القرآن يُؤيد بها هذين الدليلين وما اشتملا عليه من مُقَدِّمات، ثم قال: «فقد بان من هذه الأَدِلَّة أنَّ الدِّلالة على وجود الصانع مُنْحَصِرة في هذين الجنسين، دلالة العناية ودلالة الاختراع، وتبين أنَّ هاتين الطريقتين هما بأعينهما طريقة الخواص، وأعني بالخواص العلماء، وطريقة الجمهور، وإنما الاختلاف بين المعرفتين في التفصيل، أعني أنَّ الجمهور يقتصر من معرفة العناية والاختراع على ما هو مدرَك بالمعرفة الأولى المبنية على علم الحِسِّ، وأمَّا العلماء فيزيدون على ما يُدرك من هذه الأشياء بالحس ما يدرك بالبرهان.»١٤

ومن أجل ذلك كانت هذه الطريقة — كما يقول فيلسوفنا — هي الطريقة الشرعية والطبيعية، وهي التي جاءت بها الرُّسل، ونزلت بها الكتب المُقدسة، والعلماء يَفْضُلون الجمهور في هذين الاستدلالين من ناحية الإحاطة في المعرفة والتعمق فيها.

(٣) وحدانيته تعالى

وإذا كان العالم محدَثًا ومُوجِدُه هو الله، فهذا الإله واحد لا شريك له، ولكن كيف السبيل إلى إثبات هذه الوحدانية؟ إنَّ المُتكلمين وابن رشد يلجئون في هذا إلى قوله تعالى في سورة الأنبياء: (آية ٢٢): لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا.

إلَّا أنَّ الأولين يأخذون من هذه الآية دليلًا يُسَمَّى دليل التمانع أو الممانعة، وهو دليل لا يرضاه ابن رشد ويرى أنَّه دليل متكلَّف، و«ليس يجري مجرى الأدلة الطبيعية والشرعية»؛ لأنَّه ليس بُرهانًا، ولأنَّ الجمهور لا يَقْدِرُون على فهمه ولا يحصل لهم به إقناع.

وذلك بأنَّ هذا الدليل يجري هكذا: لو كان الخالق للعالم اثنين لجاز أن يختلفا، وإذن فإما أن يتم مرادهما جميعًا، فيكون العالم موجودًا ومعدومًا معًا وهذا مُستحيل، أو لا يتم مراد واحد منهما، فلا يكون العالم موجودًا ولا معدومًا، أو يتم مراد أحدهما دون الآخر، فيكون هذا الآخر عاجزًا والعاجز ليس بإله، ويكون الذي تم مراده هو الإله وحده، وهذا هو المطلوب.

وفضلًا عن أنَّ هذا الدليل ليس برهانًا قاطعًا، وليس في طاقة الجمهور فهمه، ولا يَحْصُل لهم به اقتناع إذا بُسط مُفَصَّلًا، فإنَّ ابن رشد يرى ضعفًا واضحًا؛ إذ يمكن أن يُقال بأنَّ هذين الإلهين قد يتفقان بدل أن يختلفا، وهذا هو الأَليقُ بالآلهة، وحينئذٍ يَحْتَاجُ الأمر إلى تفصيل الدليل بما لا يُطيقه الجمهور والعامة من الناس.١٥

لم يرضَ فيلسوف الأندلس هذا الاستدلال إذن، ويفهم الآية على نحو آخر فيه يسر وبلوغ إلى إثبات الوحدانية لله بقياس الغائب على الشاهد؛ وذلك إذ يرى أنَّ مِنَ المعلوم بالطَّبع أنَّ اجتماع ملكين في مدينة واحدة وعملُ كلٍّ منهما هو عمل صاحبه، يُؤدي إلى فساد المدينة، فكذلك لو كان هناك خالقان لفسد العالم، ولكن العالم موجود وعلى غاية الصلاح، فيكون الخالق واحدًا ضرورة.

ويُضيف إلى الآية آية أخرى (سورة المؤمنون: ٩١) تقول: مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ، إنه يُضيفها في استدلاله لينفي ما قد يُقال إنَّ لنا أن نَفْرِضَ آلهة مُتعددة يتفقون فيما بينهم على أن يكون لكلٍّ منهم عمل خاص، وذلك بأنَّه في هذه الحالة يكون لنا أكثر من عالم واحد، ولكن العالم بأجزائه المُتَمَاسكة المُتَرابطة هو واحد لا أكثر، وإذن فالخالق واحد لا غير.١٦

وهذا الدليل كما يقول فيلسوفنا بعد ما تقدم، صالح للعلماء والجمهور معًا، والفرق بينهما فيه هو «أنَّ العلماء يعلمون من اتحاد العالم، وكون أجزائه بعضها من أجل بعض بمنزلة الجسد الواحد، أكثر مما يعلمه الجمهور.» ونحنُ نرى أنَّ هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد من البيان.

(٤) إثبات صفات الكمال لله

الله متصف بكل صفات الكمال، هذا حقٌّ لا رَيبَ فيه، والقرآن يُرَدِّد الكثير منها في كثير من آياته، وسنتكلم عن سبع منها أجمع عليها رجال علم الكلام وسائر رجال الدين والمفكرون والفلاسفة المسلمون، وهي: الحياة، والعلم، والإرادة، والقدرة، والسمع، والبصر، والكلام. وهذه هي الصفات التي جاء في القرآنُ وصف الله الخالق بها، وقد تناولها ابن رشد بالتدليل عليها على هذا النحو:١٧
  • (أ)
    نَبَّه الكتاب على وجه الدِّلالة على العلم بقوله تعالى (سورة الملك: ١٣، ١٤): وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ، والدلالة نجدها هنا في الآية الثانية، وذلك بأنَّ المصنوع بترتيب أجزائه وموافقة جميعها للمنفعة المقصودة منه، يدلُّ على أنَّه حدث عن صانع يجعل ما يصنع على ترتيب ونظام يُؤدي إلى الغاية المقصودة منه؛ فوَجَب أن يكون عالمًا ضرورةً به.

    يجب لهذا؛ أن يكون خالق هذا العالم المحكم في ترتيبه ونظامه مُتَّصِفًا بصفة العلم اتصافًا دائمًا لا في حال دون حال.

    هكذا ينبغي في رأي ابن رشد أن يكون الاستدلال على إثبات صفة العلم لله تعالى، استدلالًا ينفع للناس جميعًا عامَّتهم وخاصتهم، وإن كان هؤلاء الخاصَّة يمتازون بمعرفة أتمَّ بما في العالم من ترتيب ونظام، وبأنَّ كل شيء خُلق موافقًا للغاية المقصودة منه.

    وأمَّا ما يقوله المُتكلمون من أنَّ الله يعلم حدوث الأشياء بعلم قديم؛ فإنَّه:
    • أولًا: لم يصرح به الشرع، بل صرح بخلافه وهو أنَّ الله يعلم المحدثات حين حدوثها، وفي هذا جاء في القرآن (سورة الأنعام: ٥٩): وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ.
    • وثانيًا: إنَّ قول المُتكلمين هذا يلزمه «أن يكون العلم بالمحدَث في وقت عدمه ووقت وجوده علمًا واحدًا، وهذا أَمرٌ غير معقول؛ إذ كان العلم واجبًا أن يكون تابعًا للموجود، ولمَّا كان الموجود تارة يُوجد فعلًا وتارة يُوجد قوَّة، وَجَبَ أن يكون العلم بالموجودين مختلفًا؛ إذ كان وقت وجوده بالقوة غير وقت وجوده بالفعل.» إلى آخر ما قال.١٨

    والنَّتيجة لهذا وذاك كله أن نكتفي بهذا في إثبات العلم لله في رأي ابن رشد، ولا نقول إنه يعلم ما يكون وما يفسد من الموجودات لا بعلم قديم ولا بعلم مُحْدَثٍ، فإنَّ هذا ما تقتضيه أصول الشرع، والقول بخلافه بدعة في الإسلام، والجمهور لا يفهمون من العالَم في الواقع المشاهد إلا هذا المعنى.

  • (ب)

    وإذا كان من المشاهد أنَّ من شرط العلم في العالِم أن يكون حيًّا، وإذا كان من شرط من يصدر عنه شيء من الأشياء أن يكون مُريدًا له وقادرًا عليه، كان من الطبيعي أن تثبت لله تعالى صفات الحياة والإرادة والقدرة.

    وكذلك لما كان من شرط الصانع الحريِّ بهذا الوصف أن يكون مُدركًا لما يصنعه بكل نوع من الإدراك، وجب أن يكون الخالق، جل وعلا، سميعًا بصيرًا، وإلا لما كان أكملَ الخالقين، ولما استحق أن يكون معبودًا، ومن ثم جاء في القرآن حكاية لقول سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام لأبيه (سورة مريم: ٤٢): يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا.

    وينبغي أن نُلَاحِظَ أنَّ كل ذلك يتفق فيه فيلسوف قرطبة وعلماء الكلام، إلَّا أنَّه فيما يختص بصفة الإرادة يجبُ الاكتفاء بأن نقول فضلًا عَمَّا تقدم، بأنها صفةٌ قديمةٌ ككل الصفات التي يتصف بها الله؛ إذ لا يجوزُ أن يتصف بها وقتًا دون وقت، وحالًا دون حال، وليس لنا بعد هذا وذاك أن نبحث كما فعل رجال علم الكلام، هل يُريد الله وجود الأشياء المُحدثة بإرادة قديمة أو بإرادة محدثة؟

    إنَّ هذا، كما يقول ابن رشد، بدعة في الدين، وشيء لا يعقله العلماء أنفسهم، ثم هو لا يُقنع الجمهور حتى من بلغ منهم رُتبة الجَدَل، بل ينبغي أن يُقال بأنَّ الله مُريدٌ لكون الشيء في وقت كونه وغير مريد لكونه في غير وقت كونه، كما قال تعالى (سورة النحل: ٤٠): إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.

    وفي الحقِّ كما يقول ابن رُشد أنَّه ليس في الشرع وصف لإرادة الله بالقِدَم أو الحدوث، فالمتكلمون حين أثاروا هذا البحث قد انحرفوا عما أراد الشارع نفسه، وأتوا في الشرع بما لم يأذن به الله، وذلك فضلًا عن أنَّ دليلهم على ما زعموه من أنَّ الله أوجد ما أوجد من الأشياء بإرادة قديمة لم يسلم لهم، بل ثارت من أجله اعتراضات لم يُمكنهم دفعها، وليس أهونَها شأنًا ما يُقال لهم: إذا كان الله يُريد إيجاد شيء في وقتٍ ما بإرادة قديمة، فإذا جاء هذا الوقت فوجد، هل وجد بفعل قديم أو بفعل محدث؟ إنه إن قالوا إنه وُجد بفعل قديم فقد جوَّزوا إذن وجود المحدث بفعل قديم، وهو أمرٌ غير معقول، وإن قالوا إنه وجد بفعل مُحدث لزمهم أن يكون هناك إرادة محدثة وهو غير مذهبهم.

    هذا، وسيجيء لذلك تحقيق وبحث في الفصل الآتي الخاص بالمعركة بين ابن رشد والغزالي، ولكن لنا أن نقول الآن إنه قد يجيب المتكلمون عن هذا الاعتراض بأنَّ الإرادة صفة لله، عملها أن تخصص في الأزل الشيء الذي يوجد في الزمان بأن يوجد في وقت معين لا غيره، وعلى شكل خاص لا غيره، ويكون الله دائمًا هو الفاعل والموجد للشيء، وتكون النتيجة أن يوجد الشيء دائمًا عن فاعل هو الله الذي أراد في القدم أن يوجد في زمن معين وعلى شكل خاص معين.

  • (جـ)
    وأخيرًا فيما يختص بالاستدلال على ثبوت هذا النوع من الصفات لله تعالى، نعني صفات الكمال التي يجب أن يتصف بها، يجيء الحديث عن صفة الكلام، ويبدأ فيلسوفنا فيعرف الكلام بأنه فعل يَدُلُّ المتكلم به المخاطَب على ما في نفسه، وهذا الفعل في الإنسان يكون بواسطة اللفظ، ثم يقول: «وإذا كان المخلوق الذي ليس بفاعل حقيقي يقدر على هذا الفعل من جهة ما هو عالمٌ قادر، فكم بالحريِّ أن يكون ذلك واجبًا في الفاعل الحقيقي.»١٩ يُريد الله تعالى.
    ولكن كما يذكر ابن رشد أيضًا بعد ذلك، فرقٌ بين الإنسان والله، إنَّ كلام الإنسان يكون باللفظ يتلفظ به كما هو المعروف المشاهد، ولكن كلام الله قد يكون بواسطة ملك، أو قد يكون وحيًا وإلهامًا، كما قد يكون بواسطة لفظ يخلقه الله في سمع من يصطفيه بالتكليم، وإلى هذا كله أشار الله بقوله (سورة الشورى: ٥١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ، وقوله (سورة النحل: ١٧): وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، ويُريد بقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، الكلام الذي يكون بواسطة الألفاظ يخلقها في نفس كليمه، وتلك هي الحالة التي خص بها موسى عليه السلام.

    هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ الله متكلم بهذا المعنى، وبإحدى هذه الطرق الثلاث، ولكن لنا أن نقول: هل يُعتبر الله مُتكلمًا حقًّا برسول يرسله إلى من يصطفيه من خلقه، أو بإلهام يُلقيه في ذهنه فينكشف له به المعاني التي يُريدها الله تعالى، أو بألفاظ يخلقها في سمعه؟ أو أنَّ الأولى أن نقول بأنَّ هذا الرسول عندما ينطق بألفاظ تعبِّر عن مراد الله — الذي عرَّفه بحالة من تلك الحالات — يكون هو المتكلم؛ لأنه فعل فعلًا قام بذاته ونفسه، لا الله الذي لم يقم بذاته شيء من الألفاظ التي نطق بها الرسول.

    وفي الإجابة عن هذا التساؤل نجدُ فيلسوفنا يلمِس لمسًا رفيقًا، إلا أنه واضح سديد، مشكلة خطيرة كانت فترة من الزمن من سياسة الدولة العُليا، نعني بها مشكلة القرآن أهو مخلوق أم غير مخلوق، هذه المشكلة التي أثارها المعتزلة والمأمون في عنفوان الدولة العباسية في أوائل القرن الثالث الهجري، كما نجده يقف من هذه المشكلة موقفًا وسطًا بين المعتزلة والأشاعرة.

    وذلك بأنَّ ابن رُشد يرى أنَّ الله يعتبر مُتكلمًا على وجهين: الكلام الأزلي الذي في نفسه،٢٠ والألفاظ التي تدل على هذا الكلام النفسي كالقرآن والتي هي مخلوقة لله نفسه لا لبشر من خلقه؛ ولذلك يكون القرآن إذا أُريد به الكلام النفسي قديمًا غير مخلوق كما يقول الأشاعرة، وإذا أُريد به الألفاظ التي نقرؤها ونسمعها كان حادثًا مخلوقًا كما يقول المعتزلة.

    هذا؛ والذي دعا الأشاعرة إلى موقفهم هذا هو اعتقادهم أن المُتكلم هو من يقوم الكلام بذاته، فإذا كان الله متكلمًا بالقرآن الذي نقرؤه ونسمعه، والذي ألفاظه مَخْلُوقة حَادِثَة مِنَّا بإذنه تعالى، كانت ذاته محلًّا للحوادث؛ ولهذا لم يثبتوا لله إلا الكلام النفسي القديم فقط، والمعتزلة يرون أنَّ الكلام ليس إلا ما فعله المتكلم، أو بعبارة أُخرى يشترطون في المتكلم أن يكون فاعلًا للكلام؛ ولهذا أنكروا الكلام النفسي، وقالوا بأنَّ الكلام هو اللفظ فقط، فكان القرآن عندهم مخلوقًا، ولكن لا يلزمهم مع هذا أن تكون ذات الله محلًّا للحوادث؛ لأنَّ اللفظ من حيث هو فِعْل ليس من شرطه أن يقوم بفاعله.

    وهكذا، كما يقول ابن رشد نجد في قول كلٍّ من هاتين الفرقتين جزءًا من الحق وآخر من الباطل، وأنَّ الحق هو الجمع بينهما كما رأينا.

  • (د)

    وأخيرًا فيما يتعلق ببحث صفات الكمال الواجبة لله والاستدلال عليها، يرى ابن رشد أنَّه لا يجوز البحث في أنَّها زائدة أو غير زائدة على ذاته تعالى كما فعل المتكلمون من الأشاعرة والمعتزلة، فإنَّ الكلام في ذلك بدعة وبعيد عن مدارك الجمهور وأفهامهم، وقد يُضلهم بدل أن يرشدهم.

    وذلك بأنَّ الأَشَاعِرَة يرون أنَّ هذه الصفات صفات زائدة على الذات، فالله عالمٌ بعلم زائد على ذاته، ومريد بإرادة زائدة على ذاته، وهكذا، ويلزمهم على هذا أن الخالق جسم؛ لأنه يكون هناك صفة وموصوف وحامل ومحمول، وهذه هي حال الجسم، أو يلزمهم إن قالوا بأنَّ الصفات قائمة بنفسها لا بالذات، القول بآلهة متعددة، كالنَّصارى الذين زعموا أنَّ الأقانيم ثلاثة. أمَّا ما يقوله المعتزلة من أنَّ الذات والصفات شيء واحد، فهو قول بعيد عن المعارف الأولى، فإنه يظن أن العلم مثلًا غير العالم، وهكذا باقي الصفات.

وإذا كان الكلام في الصفات على نحوِ ما فعل الأشاعرة والمعتزلة بدعةً وبعيدًا عن مقصد الشرع، وقد يُؤدي إلى إضلال الجمهور، فينبغي إذن أن يعلم الجمهور من أمر هذه الصفات ما صَرَّح به الشرع فقط، وهو الاعتراف بوجودها وثبوتها لله دون تفصيل الأمر فيها ذلك التفصيل، فإنه ليس يُمكن أن يحصل عند الجمهور في هذا يقين أصلًا.

هكذا يقول فيلسوف الأندلس في آخر بحث الصفات الواجبة لله تعالى، والجمهور في رأيه — كما عرفنا من قبل — هم من لم يكونوا من أهل البرهان وإن كانوا من رجال علم الكلام.

(٥) نفي الصفات التي يجب تنزيه الله عنها

عُني فيلسوف الأندلس بالكلام عن ثلاث صفات يتنزه الله عنها، وهي: المماثلة أو المشابهة لشيء من المخلوقات، الجسمية، الكون في جهة:٢١
  • (أ)

    ليس لنا أن نتوهَّم من كون الله حيًّا، عالمًا، مُريدًا، قادرًا، سميعًا، بصيرًا، مُتكلمًا، ومن أنَّ الإنسان نفسه له حظ من كلٍّ من هذه الصفات، أنَّ بين الخالق والمخلوق مماثلة أو مشابهة ما، فإنه لا مماثلة أو مشابهة بين الخالق وأحد من خلقه، وإنه منزه عن جميع صفات النقص.

    والقرآن نفسه اشتمل على آيات كثيرة جدًّا فيها دلالات على ذلك بصفة عامة، ولكن أبْينها في نفي المماثلة قوله تعالى (سورة الشورى: ١١): لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وقوله (سورة النحل: ١٧): أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ وهذه الآية هي برهان ما جاء في الأولى من نفي المُمَاثلة، وإلا كان الخالق لكل شيء كمن لا يخلق شيئًا ما.
    وإذن، فالله تعالى منزه عن كل صفة من صفات النقص التي نراها تعتري الإنسان، وذلك كالموت، والنوم، والنسيان والغفلة، والخطأ. فكل هذا وما إليه بسبيل منفيٌّ عن الخالق جلا وعلا، وقد صَرَّحَ القرآنُ بذلك في أكثر من آية: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى، إلى غير ذلك كله مما هو معروف.٢٢
    وإنَّ العقل نفسه كما يذكر فيلسوفنا يقضي بنفي صفات النَّقص هذه وأمثالها عن الخالق، وإلا لما بقي العالم حتى الآن موجودًا لا يعتريه فساد أو اختلال،٢٣ على أنَّ الله قد أشار إلى هذا أيضًا في القرآن إذ يقول (سورة فاطر: ٤١): إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ.
  • (ب)
    وإذا كان الأمر صار سهلًا بالنِّسبة إلى نفس المسائلة، أي: بلا خلاف من أحد من رجال علم الكلام، فإنه ليس كذلك في صفة الجسمية بالنسبة لله تعالى، وهنا يبدأ ابن رشد الحديث عن هذه المشكلة بقوله: «إنه من البيِّن من أمر الشرع أنها (أي: صفة الجسمية) من الصفات المسكوت عنها، وهي إلى التصريح بإثباتها في الشرع أقرب منها إلى نفيها، وذلك أنَّ الشرع قد صَرَّح بالوجه واليدين في غير ما آية من الكتاب العزيز، وهذه الآيات قد تُوهم أنَّ الجسمية هي له من الصفات التي فضَل فيها الخالق المخلوق، كما فضَله في صفة القُدْرة والإرادة وغير ذلك من الصفات التي هي مشتركة بين الخالق والمخلوق، إلا أنها في الخالق أتمُّ وجودًا؛ ولهذا صار كثير من أهل الإسلام إلى أن يعتقدوا في الخالق أنه جسم لا يشبه سائر الأجسام، وعلى هذا الحنابلة وكثير ممن تبعهم.»٢٤
    ولكن فيلسوف الأندلس أبعدُ بفلسفته من أن يذهب إلى أن الله تعالى جسم على أي وجه كان، غير أنه يرى — كما ذكر بعد ما تقدم نقله عنه آنفًا — أنَّ الواجب في هذه الصفة أن يُجرى فيها على منهاج الشرع؛ فلا يُصَرَّح فيها بنفي أو إثبات، ويجاب من سأل في ذلك من الجمهور بقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، ويُنهى عن هذا السؤال.
    وفيلسوفنا حين يُوجِبُ السكوت عن نفي صفة الجسمية وإثباتها، يصدُر في رأيه هذا عن أسباب لها تقديرها، إنَّه يرى أنَّ إدراك هذا المعنى ليس في طاقة الجمهور، بدليل الطريق التي سلكها المُتكلمون في نفيها، وهي مع هذا ليست بُرهانية، ولأنَّ الجمهور يرون أنَّ الموجود هو المتخيَّل والمحسوس وأنَّ ما ليس كذلك فهو عدم، فإذا قيل لهم بأنَّ الله ليس جسمًا لم يستطيعوا تصوره وصار عندهم من قبيل المعدوم، ولأنَّه لما صُرِّح بنفي الجسمية عرضت في الشرع شبهات وشكوك كثيرة فيما جاء في القرآن والحديث خاصًّا برؤية الله، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة، ومجيئه يوم الحشر بين الملائكة، ونزول الوحي عنه من السماء، وصعود الملائكة والروح إليه، إلى كثير من نحو هذا.٢٥
    وفي رأيه أنه حينئذ، أي إذا صُرِّح بنفي الجسمية عن الله تعالى، كان لا بد من أحد أمرين: إما تأويل هذه النصوص كلها، فتتمزق الشريعة وتبطل الحكمة المقصودة منها، وإمَّا أن يُقال إنَّ هذه النصوص من المتشابهات التي استأثرَ اللهُ بعلمها، وهذا إبطال للشريعة ومحوٌ لها من النفوس، هذا إلى أنَّ الدَّلائل التي احتج بها المؤوِّلون لهذه الأشياء كلها ليست بُرهَانِيَّة، وإلى أنَّ الناس أميل إلى التصديق بظواهر النصوص.٢٦

    هذا هو رأي ابن رشد في المشكلة، وفي أنه لا يجوز أن نؤوِّل كل تلك النصوص للأسباب التي أشرنا إليها، وهنا نرى من اللازم أن نُشير إلى رأي إمام كبير من الأشاعرة يُشير إلى ابن رشد نفسه كثيرًا، نعني إمام الحرمين الجويني من أعيان المتكلمين في القرن الخامس الهجري.

    يقول إمام الحرمين ما نصه: ذهب بعض أئمتنا إلى أنَّ اليدين والعينين والوجه صفات زائدة للرب تعالى، والسبيل إلى إثباتها السمعُ دون قضية العقل، والذي يَصِحُّ عندنا حمل اليدين على القدرة، وحمل العينين على البصر، وحمل الوجه على الوجود، ومن أثبت هذه الصفات السمعية وصار إلى أنها زائدة على ما دلت عليه دلالات العقول، استدل بقوله تعالى (سورة ص: ٧٥) في توبيخ إبليس إذ امتنع عن السجود: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وقوله (سورة القمر: ١٤) متحدثًا عن سفينة نوح عليه السلام: تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا، وقوله (سورة الرحمن: ٢٧) متحدثًا عن بقائه وحده بعد عدم العالم يوم القيامة: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ.٢٧
    وفي كل هذه الآيات يؤوِّل إمام الحرمين هذه الألفاظ بما لا يجعلها تدلُّ على إثبات صفة جسمية لله تعالى، كما يؤوِّل ما يُؤدي بظاهره إلى ذلك من الآيات والأحاديث الأُخرى، ومن هذا الآية رقم ٢٢ من سورة الفجر التي تقول: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، ويرى أن المجيء هنا معناه مجيء أمر الله وحكمه.
    ومِن هذا أيضًا حديث النزول المشهور الذي جاء فيه: «ينزل الله تعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة جمعة ويقول: هل من تائب فأتوبَ عليه؟ هل من مستغفر فأغفرَ له؟ هل من داعٍ فأستجيبَ له؟»٢٨ فإنه يؤوِّل في هذا الحديث «نزول الله» بجعل المراد منه نزول ملائكته المقربين.٢٩

    إننا نَرى بعد ذلك أنَّ من السهل تأويل تلك النصوص ونحوها بما يبعدها عن إيهام الجسمية لله سبحانه وتعالى دون أي عناء، وأنه في طاقة من ليس من أهل البُرهان إدراك هذه التآويل والاقتناع بها؛ ولهذا لا نَدري كيف لم يرضَ ابن رشد هذه التآويل التي يعرفها والتي تنفي عن الله تعالى توهم اتصافه بالجسمية، وبخاصَّة أنه باعتباره فيلسوفًا يبعد الله تمامًا عن كل ما يُوهم الجسمية.

    ومهما يكن فإنَّ فيلسوف الأندلس يعرف أن الجمهور لن ينتهي عن التساؤل عما هو الله، ولن يقنعهم أن يُقال إنه موجود وليس كمثله شيء؛ ولهذا يرى «أن يُجابوا بجواب الشَّرع فيُقال: إنه نور، فإنه الوصف الذي وصف به الله نفسه في كتابه العزيز، فقال تعالى (سورة النور: ٣٥): اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وبهذا وصفه النبي في الحديث الثابت، فإنَّه جاء أنه قيل له عليه السلام: هل رأيتَ ربَّك؟ قال: نورٌ أنى أراه!»٣٠ وبخاصة كما يذكر أيضًا ابن رشد بعد ما تقدم، والنور يجتمع فيه أنه محسوسٌ تعجز الأبصار والأفهام عن إدراكه مع أنَّه ليس جسمًا، والجمهور يفهم من الموجود أنَّه المحسوس، وأيضًا فالنور أشرف المحسوسات؛ فوجَبَ أن يُمثل به أشرف الموجودات وهو الله تعالى.
    هكذا يرى ابن رشد أنه بما ذهب إليه في صفة الجسمية صان الشرع عن الشكوك، وجمع بين الآيات والأحاديث، وجعل إيمان الجمهور في أمن من الشبهات. على أنَّ إمام الحرمين يؤوِّل آية النور بأنَّ المُراد منها هو أنَّ الله هادي أهل السماوات والأرض، ثم يقول: ولا يستجيز مُنْتَمٍ إلى الإسلام القولَ بأنَّ نور السماوات والأرض هو الإله.٣١

    وأخيرًا من الإنصاف لابن رشد أن نُؤكد هنا أنَّه لا ينبغي أن نفهم مما تَقَدَّم أنه يعتقد أنَّ الله تعالى نور، ولكنَّه فقط يرى أنَّ ذلك أنسب وأصلح ما يُجَاب به الجمهور حين يسألون عن الله ما هو؟ وأنَّه من الخير عدم البحث في صفة الجسمية إثباتًا أو نفيًا، فإنَّ هذا يُؤدي إلى البحث فيما تعجز العقولُ عن فهمه، أي: عن طبيعة الله مثلًا.

  • (جـ)

    وإذا كانت صفة الجسمية من الصفات التي سكت عنها الشرع؛ فلم يثبتها أو ينفِها كما رأينا، وإن كان — كما يقول ابن رشد — أقرب إلى إثباتها من نفيها، فهل الأمر كذلك عند فيلسوف الأندلس في هذه الصفة الأُخرى، أي: كون الله تعالى في جهة، أم ماذا يرى؟

    هنا نجد ابن رُشد يُؤَكِّد لنا «أنَّ هذه الصفة لم يزل أهل الشريعة من أوَّل الأمر يثبتونها لله سبحانه حتى نفتْها المُعتزلة، ثم تبعهم على نفيها مُتأخرو الأشعرية كأبي المعالي «الجويني» ومن اقتدى بقوله.» ولا عجب في هذا كما يقول، فإنَّ ظواهر الشرع كلها من القرآن والحديث تقتضي إثبات الجهة، مثل قوله تعالى (سورة السجدة: ٥): يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، وقوله (سورة المعارج: ٤): تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وقوله (سورة الملك: ١٦): أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ، ومثل حديث نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا ليلة كل جمعة.
    إلى غير ذلك كله من الآيات والأحاديث «التي إنْ سُلِّط التأويلُ عليها عاد الشرع كله مؤوَّلًا، وإن قيل إنها من المتشابهات عاد الشرع كله مُتشابهًا؛ وذلك لأنَّ الشرائع كلها مبنية على أنَّ الله في السماء، وأنَّ منه تنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأنَّ من السماء نزلت الكتب، وإليها كان الإسراء بالنَّبِي حتى قرب من سِدْرة المنتهى، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أنَّ الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع.»٣٢
    وإذا كان الأمر كذلك، فلِمَ إذن نفى المعتزلة ومتأخرو الأشاعرة الكون في جهة عن الله سبحانه؟ إنهم صاروا إلى هذا لأنَّ الكل متفق على أنَّ الله ليس بجسم، وإن كان ابن رشد لا يرى التصريح بذلك للجمهور كما عرفنا، واعتقد نُفاة الجهة أنَّ إثباتها يُوجب إثبات المكان، وإثبات المكان يُوجب إثبات الجسمية، فلذلك اشتدوا في التدليل على نفي الجهة عن الله سبحانه وتعالى.٣٣
    ولكنَّ فيلسوف قُرطبة لا يَرَى في إثبات الجهة هذا الخطر؛ لأنَّ الجهة كما يقولُ غير المكان،٣٤ إنه يرى أنَّ الجهة لا تكون غير واحد من أمرين: سطوح الجسم الستِّ المُحيطة به، وهي ليست مكانًا للجسم أصلًا، أو سطوح الأجسام المُحيطة به التي تعتبر مكانًا له، مثل سطوح الهواء المُحيطة بالإنسان، وسطوح الفلك المحيطة بالهواء والتي هي مكان له، وهكذا كل الأفلاك بعضها محيط ببعض ومكان له.
    وقد قام البُرهان أنَّه لا يُوجد خارجَ سطح الفلك الخارج جسمٌ آخر، وإلا لكان خارجَ هذا الجسم جسم آخر، ويمر الأمر هكذا إلى غير نهاية؛ فإذا قام البرهان بعد ذلك على وجود موجود في هذه الجهة التي لا يمكن أن يكون فيها الجسم، فواجب أن يكون غير جسم، وليس للخصوم أن يقولوا إنَّ خارج العالم خلاء، فإنه قد تبين في العلوم النظرية امتناع الخلاء.٣٥
    وهذا الموضع ليس بمكان ولا يحويه زمان، وقد قيل في الآراء القديمة والشرائع الغابرة إنه مسكن الروحانيين، يريدون الله تعالى والملائكة، فإن كان ها هنا — كما يقول ابن رشد — موجود هو أشرف الموجودات، فواجب أن يُنسب من الموجود المحسوس إلى الجزء الأشرف وهو السماوات، وهذا كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.٣٦

    ويختم ابن رُشد كلامه في هذا بقوله بعد ما تقدم: «فقد ظهر لك من هذا أنَّ إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل، وأنَّه الذي جاء به الشرع وانبنى عليه، وأنَّ إبطال هذه القاعدة إبطال للشرائع، وأنَّ وجه العُسر في تفهيم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو أنه ليس في الشاهد مثال له.»

    هذا، وقد رأى فيلسوفنا هنا أن يُصرح بإثبات الجهة، على حين أنَّه أَوجَبَ في صفة الجسمية عدم التصريح بإثباتها أو نفيها؛ لأنَّ الشبهة التي أوجبت على نُفاة الجهة لا يتفطن الجمهور لها، فلا ضرر إذن في إثباتها بل الضرر في نفيها وتأويل كل النصوص الدالة عليها.

(٦) رؤية الله

وهذه المَسألة مما اشتد فيه الخلاف بين المُتكلمين، وهي تتصل اتصالًا وثيقًا بمسألتي الجسمية والكون في جهة، وسنكتفي فيها — كما فعل ابن رشد — بالإشارة إلى رأي المُعتزلة ورأي الأشاعرة، ثم ننتهي إلى بيان رأي فيلسوفنا فيها.

إنَّ كلًّا من هاتين الفرقتين ترى أنَّ الله ليس بجسم، ونتيجةً لهذا لا يكون في جهةٍ ما، وإلا كان في مكان فكان جسمًا، وكل ذلك تقدم بيانه؛ فالمعتزلة بحكم المنطق رأوا لذلك كله أن الله تعالى لا تجوز رؤيته، واستشهدوا بقوله تعالى (سورة الأنعام: ١٠٣): لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وجهدوا في تأويل الآيات الأُخرى التي قد تدل على جواز الرؤية، وعملوا على رد الاستدلال بما يدل من الأحاديث على جوازها بأنَّها أخبار آحاد فلا تفيد العلم.٣٧
وإذا رجعنا إلى ما حكاه عنهم إمام الحرمين في هذه المسألة، وجداله معهم وردِّه عليهم فيها، نرى أنَّهم يذهبون إلى أنَّ الله لا يُرى بالحواس ولا بغيرها، وأنَّهم يحتجون لمذهبهم بأنَّ رؤية الله لو كانت جائزة لرأيناه الآن مع انتفاء الموانع من الرؤية الممكنة، وأن المرئي يجبُ أن يكون في جهة مقابلة للرائي، ومن المُستحيل في حق الله تعالى أن يكون في جهة، ثم هم يحتجُّون فضلًا عن ذلك كله بقوله تعالى: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ، وبقوله (سورة الأعراف: ١٤٣) حكاية لطلب موسى عليه السلام منَ الله أن يسمح له بأن يراه: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ.٣٨

ذلك هو موقف المعتزلة: نَفْيٌ مطلق لجواز الرؤية، تطبيقًا لمذهبهم في نفي الجسمية والجهة عن الله سبحانه وتعالى.

أمَّا الأشاعرة: فقد راموا أمرًا عسيرًا، وهو الجمع بين نفي الجسمية والجهة عن الله وبين جواز أن يُرى، فلجئوا — كما يرى ابن رشد — إلى حجج سوفسطائية تُوهم أنَّها صحيحة وهي كاذبة، ويكفينا هنا أن نُشير إلى رأي إمام الحرمين الجويني الذي ناقشه فيلسوفنا نفسه.

إنَّ إمام الحرمين يُؤكِّد لنا أَنَّه قد «اتفق أهل الحق على أنَّ كل موجود يجوز أن يُرَى، والمصحح لكون الشيء بحيث أن يدرَك هو الوجود.»٣٩ ولم يبقَ عليه بعد هذا المبدأ ليثبت جواز رؤية الله، إلا أن يقول بأنَّ الله موجود فيجوز لذلك أن يُرَى، ثم أخذ بعد ذلك يُناقش حجج المعتزلة، ويأتي في مقابلها بالأدلة من القرآن والحديث التي يراها تدل على جواز رؤية الله وأنها ستكون في الجنة.
ونرى من الضروري بعد هذا أن نأتي بنص الحجة التي يرى إمام الحرمين وجوب الارتكاز عليها لإثبات جواز رؤية الله، وهي حجة لخصها ابن رشد قال: «إذا تقرر بضرورة العقل أنَّ الإدراك (لعله يريد الإدراك بالرؤية) لا يتعلق إلا بالوجود، فإذا رُئي موجُود لَزِمَ تجويز رؤية كل موجود، كما إذا رُئي جوهر لزم تجويز رؤية كل جوهر، وهذا قاطع في إثبات ما نبغيه.»٤٠
وابن رشد بعد أن لخص هذه الحجة في إثبات جواز رؤية الله تعالى، قال: «وهذا كله في غاية الفساد.»٤١ ثم أخذ يُعلل بحق بأنه لو كان البصر مثلًا إنما يدرك ذوات الأشياء، لا أحوالها التي تدرك به؛ لما أمكنه أن يُفرق بين الأبيض والأسود؛ لأنَّ الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه، ولما كان لحاسة البصر أيضًا إدراكُ فصول الألوان، ولا لحاسة السمع إدراك فصول الأصوات، وهكذا سائرُ الحواس، ولكانت مُدْركات الحواس واحدة بالجنس، لا فرق بين ما تُدركه حاسة وما تدركه حاسة أخرى؛ ثم يختم هذا النقد بقوله: «وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان.»
هذا، والذي أدى الأشاعرة إلى هذه الحيرة واللجوء إلى مثل هذه الأقاويل هو — كما يذكر فيلسوف الأندلس — التصريح في الشرع بما لم يأذن به الله ورسوله من نفي الجسمية بالنسبة للجمهور، وذلك أنَّه من العسير أن يجمع في اعتقاد واحد أنَّ ها هنا موجودًا ليس بجسم وأنه مرئي بالأبصار؛ لأنَّ مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام؛ ولذلك رأى قومٌ أنَّ هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت (أي: في الجنة)، وهذا أيضًا لا يليق الإفصاح به للجمهور.٤٢

والنتيجة لهذا كله: أنَّ فيلسوفنا يرى هُنا كما في مسائل أُخرى كثيرة، أنَّه متى أُخذ الشرع على ظاهره في صفات الله لم تعرض هذه الشبهة ولا غيرها، فقد وصف الله نفسه بأنَّه نور، وجاء في الحديث أنَّ له حجابًا من النور، وأنَّ المؤمنين يرونه في الآخرة كما نرى الشمس، وهذا كله متى أُخذ بظاهره لا يكون مثارًا لأي شبهة، لا عند العلماء الذين عرفوا بالبرهان أنَّ هذه الحال مزيد علم، ولا عند الجمهور الذي يقنع بالفهم اليسير.

وإذا صُرِّح للجمهور أنَّ تلك الحالة مزيد علم، شكُّوا في الشريعة ونصوصها وكفَّروا المصرح لهم بها، فمن خرج عن منهاج الشرع في هذه الأشياء فقد ضل سواء السبيل؛ ولهذا يجبُ أن نجعل لكل طبقة من النَّاس تعليمًا خاصًّا كما قال الرسول : «إنَّا معشرَ الأنبياء أُمرنا أن نُنْزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم.» وإذن رؤية الله معنى ظاهر، ولا يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تعالى، يعني إذا لم يصرح بنفي الجسمية ولا بإثباتها.٤٣

(٧) بعثة الرسل

إنَّ إثبات النبوات والرِّسالات الإلهية للبشر من أعظم أركان الدين؛ ولهذا نرى علماء الكلام يخصصون مَكانًا لذلك في مؤلفاتهم؛ وذلك ليردوا على البراهمة الذين يُنكرون بعثة الرُّسل عقلًا؛ إذ يجدون في العقل الإنساني غُنْية عن الوحي الإلهي إلى رُسل من البَشر، ويرون هذا مُستحيلًا لحجج يحتجون بها.٤٤
ورجال علم الكلام يُدللون على جواز أنْ يُرسل الله رسلًا من خلقه إلى خلقه «بأنَّ ذلك ليس من المُستحيلات التي يمتنع وقوعها لأعيانها، كاجتماع الضدين وانقلاب الأجناس (مثل انقلاب العصا حية) ونحوها؛ إذ ليس في أن يأمر الله عبدًا بأن يشرع الأحكام ما يمتنع من جهة التحسين والتقبيح.»٤٥

وإذن، فالعقلُ لا يجعل محالًا بعثة الرُّسل من هذه الجهة لو سلمنا جدلًا بمبدأ التحسين والتقبيح العقليين؛ إذ بعثة الله رسلًا من البشر إلى الناس يُعتبر لطفًا منه، جل وعلا، بهم؛ ليكون هذا سببًا لإيمانهم بما وصلوا إليه بعقولهم، وأيَّدته الرسالة الإلهية، وليعرفوا الحقائق الأُخرى التي يَعجزُ العقل الإنساني عن معرفتها وحده.

وكذلك الله مُتكلم وقادر، فلا يُوجد ما يمنع من أن يبلغ إرادته لمن يُريد بإحدى الوسائل التي عرفناها: وحي، ملك، خلق أصوات في سمعه، إلخ.

وأيضًا كما يجوز في المُشاهد أن يُرسل المالك رسولًا إلى عبيده المملوكين له، يجبُ أن يكون هذا مُمكنًا وجائزًا في الغائب، ما دام الله يملك الخلق، وله إرادته وقدرته على تبليغها لهم.٤٦
وابن رشد بعد إشارته هذه إلى طريقة المُتكلمين في إثبات جواز البعثة، يقول: «وهذه الطريقة هي مُقنعة، وهي لائقة بالجمهور بوجه ما، لكن إذا تُتُبِّعَت ظَهَرَ فيها بعض اختلال من قِبَل ما يضعون من هذه الأصول …» إنَّه يُريد أن ينقدها من ناحية كيف نعرف — على رأي المُتكلمين، حين تظهر معجزة من شخص يدَّعي أنَّه نبي — أنَّ هذه المعجزة هي العلامة التي يدل بها الله تعالى على أنَّ من تظهر منه هو رسوله! «إنه محالٌ أن يُدرَك هذا بالشرع؛ لأنه الشرع لم يثبت بعدُ، والعقلُ أيضًا ليس يمكنه أن يحكم أن هذه العلامة هي خاصة بالرُّسل، إلا أن يكون قد أدرك وجودها مرات كثيرة للقوم الذين يعترف برسالتهم ولم تظهر على أيدي سواهم.»٤٧ مع أنَّ المسألة هي إثبات أول رسالة إلهية للناس.

فيلسوف الأندلس لم يرضَ إذن طريقة المتكلمين في إثبات النبوة عامَّة، وإثبات بعثة خاتم الأنبياء خاصَّة، وذلك لمكان هذه الشبهة أو هذا الضعف فيها، فما هي الطريقة التي يرضاها وتصلح على السواء للخاصة والعامَّة من الناس؟ هنا تظهر حقًّا طَرَافة رأي ابن رُشد إذا قورن برأي المتكلمين.

إنَّه يرى أنَّ مُحمدًا لم يدَّع النبوة مُتحديًا المُعارضين المُكَذِّبين لرسالته بأمور خارقة للطبيعة، مثل قلب العصا ثعبانًا ونحو هذا مما ذهب إليه المتكلمون، ودليل هذا أنَّ قُريشًا ومُعارضيه جميعًا حين طلبوا منه — فيما طلبوا — دليلًا على صدقه ليؤمنوا به، أن يفجُر لهم من الأرض ينبوعًا، أو يُسقط السماء عليهم، أو يرقى إليها ليأتي منها بكتاب يقرءونه، أمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله (سورة الإسراء: ٩٣): سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا يُريد أن يقول لهم بأنَّ هذه الخوارق للطبيعة من شأن الخالق وحده، ولستُ إلا بشرًا لا قدرة له عليها، وكل أمري أني فقط رسول من الله إليكم وإلى الناس كافة.

وإذا كان رسولنا لم يقم بشيء من ذلك للتدليل على صدقه في أنه نبيٌّ، فإنَّ «الذي تحدى به الناس وجعله دليلًا على صدقه فيما ادَّعى من رسالته هو الكتاب العزيز» وحده.٤٨

ولكن كيف نعرف أنَّ هذا الكتاب مُعْجِزٌ، وأنَّه يدل على كون محمد رسولًا وقد سبق أن نقد ابن رشد نفسه طريقة المتكلمين بأنْ بيَّنَ ضعف دلالة المعجز على الرسالة، وبخاصة على أول رسالة إلهية؟

هنا يقول فيلسوفنا بأنَّ إعجاز القرآن، الذي يدلُّ دلالة قطعية على صفة النبوة، يتبيَّنُ لنا بوضوح متى قرأناه وفهمناه حق الفهم، فعرفنا أنَّه تضمَّن الإنباء بأمور غيبية لم يكن محمد يعرفها قبل الوحي، وتذوقنا نظْمه وأسلوبه الغريبين عن كلام العرب جميعًا، إلى آخر ما قال مِمَّا لا جديد فيه عما قاله المتكلمون في إعجاز القرآن.٤٩

لكن الذي أربى به عليهم حقًّا هو ما ذهب إليه من أنَّ المُعجزة يجبُ لتدل دلالة قاطعة على النبوة، أن تكون مُناسبة لرِسَالة النبي، هذه الرِّسالة التي هي إرشاد الناس وهدايتهم بالشرع الذي يأتيهم به، كما يدل الإبراء من المرض على صناعة الطب لمن يدَّعيها، والقرآن هو المُعجزة الكبرى من هذه الناحية «فإنَّ الشرائع التي تضمنها من العلم والعمل ليست مما يُمكن أن يُكتسب بتعلم، بل هي بوحي.» هذه الشَّرائع التي غايتها سعادة الإنسانية والتي لا تُنال إلا بعد معرفة الله والاتصال به، ومعرفة السعادة والشقاوة ما هما، وما هي الأمور التي توصل للأولى وتُبعد عن الأخرى، إلى آخر ما يتصل بهذا كله من المَعارف التي لا تُتبين إلا بوحي أو يكون تبيينها بالوحي أفضل.

وأخيرًا لما وُجدت هذه الأمور كلها في الكتاب العزيز على أتم وجه، عُلم أنَّ ذلك بوحي من عند الله، وأنَّه كلام ألقاه على لسان نبيه؛ ولذلك قال تعالى مُنَبِّهًا على هذا (سورة الإسراء: ٨٨): قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.

وإذا ثبت أن القرآن معجز بنظمه وأسلوبه، ومن ناحية مناسبته تمامًا لرسالة الرسول من لدن الله لتعليم الخلق الشرائعَ الضرورية لسعادتهم، وأنَّه مُوحى به من الله؛ لأنَّه ما كان ممكنًا أن يأتي به الرسول من نفسه كان طبيعيًّا ومنطقيًّا أن يكون من جاء على لسانه رسولًا، وبخاصَّة أنَّه من المعلوم أنَّه نشأ أُميًّا في أُمَّة أُمية، ولم يسبق له أن مارس العلم، ومُحاولة فهم الكون كما عُرف عن اليونان، وإلى هذا الدليل على أنه رسول أشار الله تعالى بقوله (سورة العنكبوت: ٤٨): وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.

ويضاف إلى ذلك كله أنَّ وجود طائفة من الناس اصطفاهم الله لرسالاته لخلقه هو أمر بيِّن معروف بنفسه، وقد اتفق عليه الفلاسفة والناس جميعًا ما عدا من لا يُعبأ بقولهم وهم الدهرية، وقد نبه القرآن إلى هذا بقوله تعالى (سورة النساء: ١٦٣ و١٦٤): إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ إلى قوله: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا.٥٠
وبالجملة إنه متى علمنا مما تقدم أنَّ هناك رسلًا من الله لخلقه، وأنَّ الأمور المعجزة لا تكون إلا منهم، كان المعجز دليلًا على صدقهم. لكن ابن رشد يُفرق بين نوعين من الأمور المعجزة، فهناك المعجز الذي يسميه المعجز البرَّاني، وهو الذي لا يناسب الصفة التي بها سُمِّي النبي نبيًّا، وهناك المعجز الآخر المناسب لهذه الصفة، والمعجز من النوع الأول هو طريق الجمهور وإيمانه بالنبوة، والثاني هو طريق مشترك بين الجمهور والعلماء كل بحسب طاقته، ولكن إذا تأملنا الشريعة وجدنا أنها اعتمدت المعجز المناسب.٥١

هكذا اختتم ابن رشد الكلام في بعثة الرسل، ونقول: لعل الحق هو أنَّ الشريعة اعتمدت في إثبات الرسالات الإلهية على هذين النوعين من الإعجاز أو المعجزات، وبخاصة ما يتعلق بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام، إذا لاحظنا أن ما تقدم به كل منهما دليلًا على صدق رسالته، كان من قبيل ما سماه فيلسوفنا بالمعجز البراني، وذلك مثل انقلاب العصا حية، وانفلاق البحر لموسى عليه السلام، وإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص لعيسى عليه السلام، ولكن القرآن العظيم وهو معجزة رسولنا يعتبر بلا ريب من قبيل المعجز المناسب لرسالته.

(٨) العدل والجور

هذه مسألة من المسائل الهامَّة التي ثار من أجلها الخلاف واشتدَّ النِّزاع بين الأشاعرة وبين المعتزلة والفلاسفة، ومن ثَمَّ نرى ابن رشد في بحثه لها لا يذكر المعتزلة في نقده، على حين ينال الأشاعرة بفيض من نقده اللاذع الشديد.

وهي مسألة تقوم في أساسها على مسألة الحُسْنِ والقُبْح في الأفعال، أذلك يرجع إلى العقل، كما يرى المعتزلة والفلاسفة، أم إلى الشرع كما يرى الأشاعرة؟ ولذلك سنرى كل فريق يبني رأيه في مسألة العدل والجور على رأيه في مُشْكِلَة الحُسن والقبح.

ويبدأ فيلسوف الأندلس البحث بقوله: «قد ذهبت الأشعرية في العدل والجور في حق الله سبحانه إلى رأي غريب جدًّا في العقل والشرع، أعني أنَّها صرَّحت من ذلك بمعنى لم يصرح به الشرع بل صرح بضده.»٥٢
ثم يُلَخِّص ابن رشد هذا الرَّأي بأنَّ الإنسان يُوصف بالعدل تارة، وبالجور أُخرى؛ لأنَّ الشرع أمره ببعض الأفعال ونهاه عن البعض الآخر، فمن أتى ما رَضِيه الشَّرع كان عادلًا، ومن أتى ما نهاه عنه الشرع ووصفه بالجور كان جائرًا، أمَّا الله سبحانه وتعالى وهو فوق كل أمر وتكليف، فليس في حقه فعلٌ هو جور أو عدل، بل كل أفعاله عدلٌ، وكان مِنْ هذا أن قالوا ليس شيء في نفسه عدلًا، ولا شيء في نفسه جورًا، بل كل ذلك يرجع إلى الشرع الذي أمر بأي معصية لكان ذلك عدلًا، وهذا في غاية الشناعة وخلاف المسموع والمعقول!٥٣

هكذا يرى فيلسوف الأندلس أنَّ موقف الأشاعرة في هذه المَسألة «خلاف المسموع والمعقول»؛ وذلك لأنَّ الله وصف نفسه بأنَّه القائم بالقسط، وبأنَّه لا يظلم، وهذا إذ يقول (سورة آل عمران: ١٨): شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ، وإذ يقول (سورة فصلت: ٤٦): وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ، وإذ يقول أيضًا (سورة يونس: ٤٤): إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا. يُريد فيلسوفنا بهذا أنْ يُقَرِّر على ما نعتقده، بأنَّ هذه الآيات — وأمثالها في القرآن — تشهد بأنَّ منَ الأفعال ما هو في نفسه عدل كثواب المطيع، وما هو في نفسه ظلم كتعذيب البريء الذي لم يجترح إثمًا.

ولكن الغزالي مَثَلُه في هذا مثل سائر الأشاعرة، يرى هنا أنَّ لله ألَّا يُثيب المُطيع كما له أن يعذب الحيوان والطفل البريء بما يشاء، وأنه بهذا وذاك لا يكون ظالمًا؛ لأنَّه يتصرف في ملكه بما يُريد، وكما يَرَى هو لا يرى غيره، فلا يُتَصور في حقه الوصف بالظلم، ما دام شرط هذا الوصف غيرَ موجود في حَقِّه، وهو التصرف في غير الملك أو مخالفة أمر من له عليه حق الأمر.٥٤
على أنَّ لنا أن نقول بأنَّ الأشاعرة حين ذهبوا هذا المذهب في هذه المسألة، تناسوا أن يقولوا بأنَّه تعالى وإن كان لا يَجِبُ عليه إثابة المطيع إلا أنه سيفعل هذا حتمًا تحقيقًا لوعده به، ومن أوفى بوعده من الله! إنه حين تُحل هذه المشكلة هذا الحل الذي يحقق لله العدالة والإرادة والقدرة بإطلاق، يشعر الإنسان أنَّه تحت حكم إله ليس عادلًا كل العدل فحسب، بل ورحيمًا أيضًا إذ وعد بالمغفرة لمن تاب من العُصَاة، وأنَّه لن يضيع أجر من أحسن عملًا.٥٥

ومع هذا فإنَّ ابن رشد لم يَسلَم له رأيه حتى الآن، بل عليه أن ينال بالتأويل آيات من القرآن لا تدلُّ بظاهرها لرأيه، وأنْ يُفسر آيات أُخرى تشهد لرأيه، مثلًا جاء في سورة المدثر: (آية ٣١): كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وفي سورة السجدة: (آية ١٣): وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا، إلى آيات أخرى تدلُّ — إذا أخذت حرفيًّا ومُستلقة عن غيرها — على أنَّ الله أراد إضلال بعض خلقه، وهذا يعتبر جورًا طبعًا.

وهنا نرى ابن رشد لا يعيا بالجواب عن هذه المشكلة، إنه يرى بحق أنَّ هذه الآيات ظاهرها لا يَتَّفِقُ وآيات أُخرى تدلُّ على عكس هذا المعنى، مثل قوله تعالى (سورة الزمر: ٧): وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ؛ إذ منَ البيِّن بنفسه أنَّه متى كان الله لا يَرضى الكُفر لأحد من عباده، فإنَّه لا يرضى طبعًا أن يوقع أحدًا في الضلال المؤدي إليه.٥٦ والنتيجة لهذا وذاك أنه يجب منعًا للتعارض بين آيات القرآن تأويلُ آيات الضرب الأول بما يجعلها تتفق والآيات الأُخرى، فهذا هو اللازم عقلًا، وما يتفق وعدْلَ الله الشامل العام.
ولكنْ كيف يؤوِّل هاتين الآيتين اللتين ذكرناهما آنفًا؟ إنه يرى في الآية الأولى التي تقول: كَذَلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، إشارة إلى أنَّ مشيئة الله الأزلية اقتضت أن يكون في بعض الناس خلق مُهَيَّئون للضلال بطباعهم وبأسباب أُخرى عرضت لهم، لا أن الله تعالى هو الذي يضلهم.٥٧ ولكن لنا أن نتساءل: وهذه الطباع التي هيأتهم للضلال، مَن الذي خلقها فيهم؟ وهذه الأسباب التي قادتهم إليه، من الذي كان السبب الأول فيها؟
على أنَّ فيلسوفنا كان جد موفق في تأويل الآية الأُخرى التي تقول: وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا. إنه يَرَى أنَّ ما يكون خيرًا للأكثر من الناس قد يكون سببًا لشر — هو هنا الضلال مثلًا — يُصيب الأقل، فليس من الحِكْمَة أَلَّا يخلق هذا الذي يكون منه الخير للأكثر كي لا يكون بسببه الشر للأقل، بل خَلْقه والأمر هكذا يكون عدلًا كل العدل،٥٨ ولهذا جاء في آية أخرى (سورة البقرة: ٢٦) قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.

وفي الحق لو لم يجئ الإسلام وينزل الله القرآن على محمد، ؛ ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور، لما صار من كفر به إلى الضلال الأبدي والخلود في النار، ولكنه كان من أعظم الخير والعدل للبشرية جميعًا أنْ جَاءَ هذا القرآن الذي هُدي به أضعاف أضعاف من كان سببًا عارضًا لإمعانهم في الضلال والكُفر، فالله إذن لم يقصد قصدًا أوَّليًّا أولئك الذين كفروا به، ولكن أراد الخير الكامل والسعادة التامة لأُمَّة رسوله المصطفى، وإن كان سببًا لشقاء من كفروا به.

ومن الواضِحِ بَعْدَ هذا كما يقول ابن رشد نفسه، أن نتصور «كيف ينسب إلى الله الإضلال مع العدل ونفي الظلم، وأنَّه إنما خلق أسباب الضلال؛ لأنه يُوجد عنها غالبًا الهداية أكثر من الضلال.»٥٩
أمَّا لماذا جاءت في هذا المعنى تلك الآيات المُتَعَارضة بظاهرها؛ حتى احتاج الأمر إلى التأويل، فإنَّ فيلسوف الأندلس يجيب بأنه كان ضروريًّا أن يفهم الجمهور أنَّ الله مع عدالته المُطْلَقة هو خالق كل شيء: الخير والشر؛ وذلك بسبب ما كان معروفًا — قريب عهد بالرسالة — من القول لدى بعض الأمم من وجود إلهين: واحد للخير وآخر للشر، فكان من الضروري تقرير أنه لا خالق لشيء ما إلا الله وحده، ولكن على معنى أنَّ خلقه للشر من أجل ما يكون سببًا للخير لأكثر الناس؛ فيكون خلقه للشر إذن عدلًا وخيرًا حقًّا.٦٠
ومهما يكن من شيء، فإنَّ هذا القدر من التأويل ليست معرفته واجبة على جميع الناس في رأي ابن رشد، ولكنَّ هذا واجب لمن عرض لهم فقط الشك في هذا المعنى؛ وذلك لأنَّه «ليس كل أحد من الجمهور يشعر بالمعارضات التي في تلك العمومات، فمن لم يشعر بذلك فغرضُه اعتقاد تلك العمومات على ظاهرها.»٦١ حتى لا يكون البحث في هذا سببًا لدخول الشك في قلبه.

هكذا سَلِم لابن رشد التدليل على أن الفعل يصح أن يوصف لنفسه بالحسن والعدل أو بالقُبح والجور، وعلى أنَّ أفعال الله تعالى تُوصف لذلك بالعدل دائمًا، كما سَلِم له أيضًا الجمع بين الآيات التي يُظَنُّ إذا أُخذت بظاهرها أنها مُتعارضة في هذا المعنى، وذلك دون أن ينزل إلى رأي الأشاعرة الذي يراه شنيعًا وضد الشرع والنظر العقلي الصحيح.

(٩) المعاد وأحواله

كون الإنسان يُبعث بعد موته ليُجزى عَمَّا عَمِل في الدار الدنيا، وليحيا حياة أخرى سعيدة أو شقية، هو كما يقول ابن رشد «مما اتفقت عليه الشَّرائع وقامت عليه البراهين عند العلماء.»٦٢ ولا نِزَاع فيه بين الفَلاسِفَة وبين رجال علم الكلام.

وذلك لأنَّ الإنسان لم يُخلق عبثًا، بل خُلِقَ لِغَايَةٍ جَليلة يُعتبر تحقيقها بأفعاله ثمرة وجوده في الدَّار الدنيا، فلا بدَّ إذن من أن يؤدي حِسَابًا عَمَّا عمل في سبيل هذه الغاية.

وكذلك؛ من الناس من يحيا في هذه الدار الدنيا حياة لا يجد فيها من السعادة ما يُكافئ فضيلته وأَعماله الخيِّرة، ومِنَ النَّاس من هم في مُتعة من اللذات والخيرات مع بُعدهم عن الفضيلة، فلا بدَّ إذن من حياة أخرى، بعد هذه الحياة التي يشقى فيها الفاضل وينعم الرذْل الشرير، يجد فيها كل إنسان من الجزاء ما يكون كِفاء ما عمل من خير أو شر في هذه الحياة الحاضرة.

ولهذا وذاك كان الاتفاق في هذه المسألة، مسألة المعاد والجزاء، يرتكز على ما جاء به الوحي وقامت عليه البراهين الضرورية عند الجميع، وفي ذلك يقول الله تعالى (سورة المؤمنون: ١١٥): أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ويقول (سورة النجم: ٣٩–٤١): وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى.

لم يجد ابن رشد إذن أي عناء في التدليل على مبدأ المعاد، وإنما الذي بذل فيه جهده هُنا هو بيان أنَّ هذا المعاد وما يتبعه من ثواب أو عقاب سيكون روحانيًّا لا جُسمانيًّا أيضًا كما يرى المتكلمون، وإثبات هذا بطريق يناسب الخاصة والعامَّة حسب المبدأ الذي أخذه على نفسه في كتابه «كشف الأدلة».

وهذا المجهود الذي بذله ابن رشد في بيان رأيه ورأي أسلافه فلاسفة الإسلام في هذه المسألة، وفي التدليل عليه سيكون الحكمُ له أو عليه في الفصل التالي الخاص بالخصومة بينه وبين الغزالي، وإنما طريقتنا هنا كما في سائر المسائل التي تقدمت في هذا الفصل، هي عرض رأي فيلسوف الأندلس وتدليله عليه كما أراد، ومُقارنته برأي بعض أعيان المُتكلمين وبالأخص إمام الحرمين وخريجه أبو حامد الغزالي.

•••

ذهب المتكلمون إلى أنَّ بعث الأجسام ثابت بالسمع وجائز عقلًا مع هذا، أمَّا السمع ففي القرآن كثير من الآيات التي تثبته، ومنها قوله تعالى (سورة يس: ٧٨-٧٩): وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ.

والعقل يُجيز البعث الجسماني أيضًا، فهذا هو إمام الحرمين الجويني يقول مستدلًّا بالعقل على جوازه: «ووجه تحرير الدليل أننا لا نقدِّر الإعادة مخالفة للنشأة الأولى على الضرورة، ولو قدَّرناها مثلًا لها لقضي العقل بتجويزها، فإنَّ ما جاز وجوده جاز مثله؛ إذ من حُكْم المثْلين أن يتساويا في الواجب والجائز.»٦٣

ولا يختلف الغزالي في هذا عن شيخه الجُويني، فهو يقرر أنَّ المعاد (يريد الروحاني والجسماني معًا) دلت عليه الأدلة القاطعة الشرعية، وأنَّه ممكن عقلًا بدليل الابتداء؛ فإنَّ الإعادة خلْق ثانٍ، ولا فرق بينه وبين الابتداء.

ولسنا الآن بسبيل استلهام الغزالي لشيخه إمام الحرمين في هذه المسألة وفي أكثر آرائه الكلامية، وإنَّما الغرضُ بيان أنَّ رجال علم الكلام مُجْمِعُون على أنَّ المَعَاد الجسمي لا الروحي فقط سيكون في الدار الأُخرى.٦٤ علينا إذن بعد هذا أن نعرف ماذا يرى ابن رشد في كيفية المعاد، وكيف يثبت رأيه في هذه العقيدة الأساسية في كل الأديان.
إنه يقرر أنَّ الشرائع وإن اتفقت على مبدأ المعاد، فإنها اختلفت في كيفيته، بل «في الشاهدات التي مثَّلَت بها للجمهور تلك الحال الغائبة، وذلك أنَّ من الشرائع من جعله روحانيًّا، أعني للنفوس، ومنها من جعله للأجسام والنفوس معًا.»٦٥
وذلك بأنَّ مما لا شك فيه أن للنفس بعد الموت إن كانت فاضلة حالًا تُسَمَّى سعادة، وإلا فحال أُخرى تُسَمَّى شقاء، والوحي الذي جاء في بيان هذا الحال يختلفُ باختلاف الأنبياء، ومن ثم كان اختلاف الشرائع في تمثيلها.٦٦
وفيلسوفنا يذكر سببين لاختلاف الشرائع في التمثيل لتلك الحال:٦٧

اختلاف ما أدركه الأنبياء من الوحي من هذه الأحوال، أو لأنَّ الذين مثلوا هذه الأحوال بمُثُل مادية قد «رأوا أنَّ التمثيل بالمحسوسات هو أشدَّ تفهيمًا للجمهور، والجمهور إليها وعنها أشد تحركًا … وهذه هي حال شريعتنا التي هي الإسلام.»

إنه إذن يذهب كما هو واضح من هذا إلى أنَّ المعاد سيكون روحانيًّا فقط، إلا أنه لا يُعنى هنا بإبراز هذا الرأي ولا بالتدليل عليه؛ وذلك لأنَّ المقام مقام توفيق بين الحكمة والشريعة بالتدليل على العقائد الدينية الأساسية تدليلًا يُوافق الخاصة والجمهور.

بل إنَّه يكتفي هنا بعد أن استدلَّ لأصل البعث من القرآن بأنْ يقول بأنَّ التمثيل الذي في شريعتنا يُشبه أن يكون أتم إفهامًا لأكثر الناس، وأكثر تحريكًا لنفوسهم إلى ما هنالك، والأكثر هم المقصود الأول من الشرائع، وذلك بخلاف التمثيل الروحاني، فهو أشد قبولًا عند غير الجمهور، وإنه لهذا المعنى نجد المسلمين فرقًا مختلفة في فهم التمثيل الذي جاء في الشريعة للمعاد وأحواله.٦٨
وتدليل ابن رشد لما ذهب إليه نجده في كتابه «تهافت التهافت»، وسنعرض له في الفصل التالي، وسنرى إنْ كان يُمكنه تأويل كل الآيات القرآنية التي تُؤَكِّد المعاد الجسماني والسعادة والشقاء الجسمانيين، أو إنه لن يجد إلى ذلك سبيلًا، ولكنه ينتهي من هذه المسألة هنا بقوله: «والحق في هذه المسألة أنَّ فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها، بعد ألا يكون نظرًا يُفضي إلى إبطال الأصل جملة، وهو إنكار الوجود جملة؛ فإنَّ هذا النَّحو من الاعتقاد يُوجِبُ تكفير صاحبه؛ لكون العلم بوجود هذه الحال للإنسان معلومًا للناس بالشرائع والعقول.»٦٩

•••

هذا، وإلى هنا انتهى ابن رُشد من التدليل على ما رأى التدليل عليه من العقائد الدينية الأساسية، تدليلًا يُنَاسِبُ الخَاصَّة والعامة من الناس، وإلى هنا أتمَّ في رأيه عملًا كبيرًا في سبيل الجمع أو التوفيق بين الشريعة والحكمة، فقد بيَّن أنَّ عقائد الدين يمكن أن يستدل عليها من الشرع ومن العقل معًا، وأنَّه لا يُوجد بين هذين المعنيين خلاف في شيء ما.

وإنَّ عليه بعد ذلك كله ليتم له ما أراد، أن يهدم تهافت الغزالي، وهذا ما سنراه في الفصل التالي الذي سيعالج فيه — ضمن ما سيعالجه من مسائل — بالبحث الطويل العميق بعض ما تناوله بإيجاز في كتابه «كشف الأدلة عن عقائد الملة» كما رأينا في هذا الفصل الذي انتهينا منه، نعني بذلك مثلًا مسائل: قدم العالم، وعلم الله، والحياة الأُخرى وما سيكون فيها من ثواب وعقاب.

١  فلسفة ابن رشد، نشر ميلير، ص٢٩-٣٠.
٢  الكشف، ص٤٥.
٣  فلسفة ابن رشد، نشر ميلير، ص٨١–٨٣.
٤  ونقول: فضلًا عن أثر الشمس في حياة الإنسان والحيوان والنبات.
٥  فلسفة ابن رشد، ص٩٠-٩١.
٦  فلسفة ابن رشد، ص٩٠-٩١.
٧  التبصير، طبع القاهرة سنة ١٩٤٠م، ص٩٢.
٨  انظر مثلًا كتاب الاقتصاد للغزالي، ص١٣ وما بعدها.
٩  راجع في هذا: فلسفة ابن رشد، ص٢٩ وما بعدها.
١٠  المرجع السابق، ص٣٧ وما بعدها، حيث عرض هذا الدليل وناقشه.
١١  فلسفة ابن رشد، ص٤٢.
١٢  فلسفة ابن رشد، ص٤٢.
١٣  نفس المرجع، ص٤٣-٤٤.
١٤  فلسفة ابن رشد، ص٤٦.
١٥  فلسفة ابن رشد، ص٤٩. وراجع في هذا الدليل مع بعض الاختلاف في عرضه، الإرشاد للجويني، بتحقيق الدكتور محمد يوسف موسى وآخر ونشر مكتبة الخانجي بالقاهرة سنة ١٩٥٠، ص٥٣ وما بعدها، الاقتصاد للغزالي، ص٣٦–٣٨.
١٦  فلسفة ابن رشد، ص٤٧-٤٨.
١٧  راجع فلسفة ابن رشد، ص٥١ وما بعدها.
١٨  فلسفة ابن رشد، ص٥٢.
١٩  فلسفة ابن رشد، ص٥٣.
٢٠  فلسفة ابن رشد، ص٥٤، وقارن هذا بما ذكره الغزالي في كتابه «الاقتصاد» ص٦٤ من أن الفلاسفة لا يثبتون كلامه النفسي.
٢١  فلسفة ابن رشد، ص٥٨ وما بعدها.
٢٢  فلسفة ابن رشد، ص٥٩، والآيات على التوالي في هذه السورة: الفرقان: ٥٨، البقرة: ٢٥٥، طه: ٥٢.
٢٣  نفس المرجع، ص٦٠.
٢٤  فلسفة ابن رشد، ص٦٠.
٢٥  المرجع نفسه، ص٦١-٦٢.
٢٦  فلسفة ابن رشد، ص٦٢.
٢٧  الإرشاد، ص١٥٥-١٥٦.
٢٨  رواه البخاري ومسلم بشيء من الاختلاف.
٢٩  الإرشاد، ص١٦١.
٣٠  فلسفة ابن رشد، ص٦٣-٦٤.
٣١  الإرشاد، ص١٥٨.
٣٢  فلسفة ابن رشد، ص٦٥.
٣٣  فلسفة ابن رشد، ص٦٥. وراجع مثلًا كتاب الاقتصاد للغزالي، ص٢٢–٢٦، حيث اشتد في التدليل على نفيها وتأويل الظواهر التي توهم إثباتها لله تعالى.
٣٤  راجع في تفصيل هذا فلسفة ابن رشد ص٦٥ وما بعدها.
٣٥  نفسه، ص٦٦.
٣٦  فلسفة ابن رشد، ص٦٧.
٣٧  فلسفة ابن رشد، ص٧٣.
٣٨  راجع في هذا كله، الإرشاد ص١٧٨ وما بعدها.
٣٩  الإرشاد، ص١٧٤.
٤٠  الإرشاد، ص١٧٧.
٤١  فلسفة ابن رشد، ص٧٦.
٤٢  نفس المرجع، ص٧٧.
٤٣  فلسفة ابن رشد، ص٧٨.
٤٤  راجع في توضيح مذهبهم والرد عليه، الإرشاد ص٣٠٢–٣٠٧.
٤٥  الإرشاد، ص٣٠٦.
٤٦  راجع فلسفة ابن رشد، ص٩٢، في إثباته لرأي المتكلمين هذا وطريق إثباته.
٤٧  فلسفة ابن رشد، ص٩٣. وراجع إلى نهاية ص٩٦، حيث تتمة النقد.
٤٨  فلسفة ابن رشد، ص٩٧.
٤٩  راجع مثلًا الإرشاد ص٣٣٥ وما بعدها، الاقتصاد ص٩٣.
٥٠  راجع في هذا وفي ما سبق من رأي ابن رشد في إعجاز القرآن ودلالته على النبوة، فلسفة ابن رشد ص٩٨–١٠١.
٥١  فلسفة ابن رشد، ص١٠٤.
٥٢  فلسفة ابن رشد، ص١١٣.
٥٣  راجع في ذلك فضلًا عن فلسفة ابن رشد، التبصير في الدين ص١٠٣، الاقتصاد ص٨٣ و٨٤، الإرشاد ص٢٥٨ وما بعدها، حيث أطال إمام الحرمين في جداله وردِّه على المعتزلة في قولهم بالحسن والقبح من ناحية العقل، وهذا ما ينبني عليه مسألة العدل والجور بالنسبة لله سبحانه وتعالى.
٥٤  الاقتصاد، ص٨٣.
٥٥  راجع مثلًا الآيتين ١٩٤ و١٩٥ من سورة آل عمران، والآية ٣٠ من سورة الكهف، وانظر مثلًا الإرشاد ص٣٨١، حيث يؤكد إمام الحرمين أن الثواب والعقاب سيكونان كما وعد الله وتوعد، ولكن لا على أنهما واجب عليه تعالى.
٥٦  فلسفة ابن رشد، ص١١٤.
٥٧  فلسفة ابن رشد، ص١١٤.
٥٨  نفس المرجع، ص١١٥.
٥٩  فلسفة ابن رشد، ص١١٦.
٦٠  فلسفة ابن رشد، ص١١٦.
٦١  فلسفة ابن رشد، ص١١٧.
٦٢  فلسفة ابن رشد، ص١١٨.
٦٣  الإرشاد، ص٣٧٢.
٦٤  راجع مثلًا الرازي كتاب الأربعين في أصول الدين ص٢٨٨؛ إذ يقول بحق: «إن الجميع بين إنكار المعاد الجسماني وبين الإقرار بأن القرآن حق، متعذر.»
٦٥  فلسفة ابن رشد، ص١١٨، وهناك آراء أخرى ذكرها الرازي (كتاب «الأربعين» ص٢٨٧)، ومنها القول بعدم البعث مطلقًا، وهو رأي الفلاسفة الدهريين الذين أشار القرآن كثيرًا إليهم: والمتوقف في المسألة وعدم الجزم بشيء، وهو القول المنقول عن جالينوس.
٦٦  راجع في هذا وفي بيان الاختلاف في ذلك، فلسفة ابن رشد، ص١٢٠-١٢١.
٦٧  نفس المرجع، ص١٢١-١٢٢.
٦٨  فلسفة ابن رشد، ص١٢١-١٢٢.
٦٩  فلسفة ابن رشد، ص١٢٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤