بين ابن رشد والغزالي
سنعرض في هذا الفصل الأخير المسائل التي اشتدَّ من أجلها الخلاف بين الغزالي والفلاسفة المسلمين، أو بعبارة أدق بين الغزالي والفارابي وابن سينا، وكانت سببًا في أن كتب الغزالي كتابه المعروف «تهافت الفلاسفة»، كما كانت أيضًا سببًا لأن قام ابن رشد يرد على الغزالي بكتابه المعروف «تهافت التهافت».
فهما معركتان إذن لا يزالُ لهما أثرهما العميق في التفكير الفلسفي الإسلامي، وقد أثار الأولى الغزالي في كتابه العنيف، وأثار الثانية ابن رشد بكتابه العنيف أيضًا الذي أراد به هدم الكتاب الأوَّل، ومِنَ الطَّبيعي لذلك أن نبدأ بما كان من الغزالي وننتهي بما كان من ابن رشد.
(١) الغزالي وتهافت الفلاسفة
-
(١)
كان من قدر الله أن يصير أبو حامد أحمد بن محمد الغزالي (٤٥٠–٥٠٥ﻫ) حجة الإسلام، وذلك على الأخص بكتابيه الخالدين: إحياء علوم الدين، وتهافت الفلاسفة.
فالأول يشمل ما به يكون المُسلم مُسْلمًا حقًّا أهلًا للسعادة في الدنيا والآخرة، من عِلْم الكلام القائم على الكتاب والسنة والسهل الفهم والإقناع، والأمور العملية الأساسية الدينية كالعبادات والعادات الطيبة؛ فيما يتصل بالزواج والاتجار والسفر، وغير ذلك من شئون الحياة، ومن التصوف والأخلاق القائمين على المعرفة بالنفس الإنسانية معرفة أكيدة حقة، ومن غير هذا وذاك كله مما فيه غذاء صالح لقلب الإنسان وعقله وروحه.
ولذلك تقبل المسلمون وما يزالون إلى اليوم هذا العملَ الضخم القيم بقبول حسن، والكثير يجدُ فيه تصحيحًا لدينه وغذاء لروحه وطمأنينه لقلبه؛ على أنَّ هذا لم يمنع من أنَّه لما وصل الكتاب إلى بلاد المغرب رأى بعض الفقهاء المُتعصبين أنه يحوي كثيرًا من البدع المُخالفة لسنة الرسول، فكان من ذلك فتنٌ كثيرة انتهت بالأمر بإحراق نسخ الكتاب، وربما أحرق فعلًا بعضها.١والكتاب الثاني جاء وقد بلغت الفلسفة الإسلامية ذروتها أو كادت على يدي الشيخ الرئيس ابن سينا، ووجد كثير من المسلمين أنها حوت آراء كثيرة لا تتفق وما يعرفون من العقائد الدينية الأساسية، فظهر الغزالي بهذا الكتاب «والناس — كما يقول تاج الدين السبكي — إلى ردِّ فِرْية الفلاسفة أحوج من الظلماء لمصابيح السماء، وأفقر من الجدباء إلى قطرات الماء.»٢ -
(٢)
ولكن لا ينبغي أن نفهم من هذا أنَّ الغزالي هو الذي بدأ الهجوم على الفلاسفة، ذلك بأنَّ المُتكلمين من أهل السنة، وقد رأوا ضرورة خصومة المُعتزلة لإعطائهم العقل حُرِّية أكثر مما ينبغي في فهم بعض العقائد الدينية (صفات الله، والصلاح، والأصلح مثلًا)، رأوا بالأولى ضرورة حرب الفلاسفة منذ بدء تكوُّن المدرسة الفلسفية في الإسلام، ونستطيع أن نذكر من هؤلاء المتكلمين بعد الإمام أبي الحسن الأشعري الأشهر، إمام الحرمين الجويني شيخ الغزالي وبخاصة في علم الكلام والجدل.
حقيقة إن الغزالي يذكر لنا في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه لم يعرف أحدًا من علماء الإسلام صرف همته لتحصيل الفلسفة والرد عليها قبله، ولكنَّا سنرى الآن أنَّه كان قبل الغزالي من عُني في كثير من المسائل الدينية النقدية بالرَّدِّ على أصحاب الآراء الضالة في رأيهم، سواء أكانوا عرفوا بأنهم فلاسفة أم ملاحدة.
هذا هو إمامُ الحَرمين يذكر في كلامِهِ على «حدوث العالم»: «والأصل الرَّابع يشتمل على إيضاح حوادث لا أوَّل لها، والاعتناء بهذا الركن حتم، فإنَّ إثبات الغَرَض منه يُزعزع جملة مذاهب الملحدة، فأصل مذهبهم أنَّ العالم لم يزل على ما هو عليه، ولم تزل دورة للفلك قبل دورة إلى غير أول، ثم لم تزل الحوادث في عالم الكون والفساد تتعاقب إلى غير مُفتَتَح، فكل ذلك مسبوق بمثله.»٣كما نراه أيضًا يذكر في معرض كلامه عن إثبات العلم بالصانع: «وباطل أن يكون (يريد المخصص الذي خصص العالم بالوجود في وقت دون آخر بدل استمرار العدم) جاريًا مجرى العلل، فإنَّ العلة تُوجب معلولها على الاقتران؛ فلو قُدِّر المخصص علة لم يخلُ من أن تكون قديمة أو حادثة، فإنْ كانت قديمة، فيجبُ أن توجب وجود العالم أزلًا، وذلك يفضي إلى القول بقِدم العالم، وقد أقمنا الأدلة على حدوثه، وإن كانت حادثة افتقرت إلى مخصص ثم يتسلل القول في مقتضى المقتضى.»٤وهذا النوع وذاك من الجدل والاستدلال، في معرض الرَّدِّ على من قال بقِدَم العالم وعدم حاجته إلى صانع، سنجدهما قريبًا لدى الغزالي.
ومثل ثانٍ يدُلُّنا على استمداد الغزالي من سابقيه، نأخذه من كلام أبي الحسين الخَيَّاط المُعتزلي في رَدِّه على ابن الراوندي المُلحد؛ إنَّه يذكر في صدد الكلام عن علم الله تعالى: «الصحيح من القول هو أنَّ الله، جل ثناؤه، كان ولا شيء معه، وأنه لم يزل يعلم أنه سيخلق الأجسام وأنها ستتحرك بعد خلقه إياها وتسكن، فهو جل ذكره لم يزل يعلم أن الجسم قبل حلول الحركة فيه سيتحرك، ويعلم أنه في حال حلول الحركة فيه مُتحرك، ومما يبين ذلك أنَّ النبي ﷺ لو أعلمنا يوم السبت أن زيدًا يموت يوم الأحد، لكنا يوم السبت نعلم أن زيدًا قبل حلول الموت فيه سيموت يوم الأحد، ونعلم أيضًا أنَّه ميت يوم الأحد إذا حل الموت فيه.»٥وسنجد هذا الضرب من الاستدلال لدى الغزالي في مسألة إبطال قول الفلاسفة بأنَّ الله لا يعلم الجزئيات الحادثة.٦ وكذلك يُوجد تشابه كبير بين رد الخياط في مسألة علم الله أيضًا، على هشام بن الحكم الرافضي الذي يزعم أن علم الله تعالى حادث بحدوث المعلومات٧ وبين استدلال الغزالي على ما زعمه من تلبيس الفلاسفة حين يرون أنَّ الله فاعل العالم وصانعه مع قولهم بأنَّه صادر عنه صدور المعلول عن علته، فالله إذن لم يرده ولا يعلم به.٨ويطول بنا القول لو أردنا الإشارة لمن سبقوا الغزالي في الرد على الفرق المنحرفة عن سواء السبيل، ولكن نذكُرُ أخيرًا مثالًا ثالثًا في هذه النَّاحية؛ إنَّ أبا محمد بن حزم الظاهري يرد على الذين قالوا بأنَّ العالم قديم وله فاعل يعتبر علة له، وهو الله، فيذكر أنَّ «المفعول هو المنتقل من العدم إلى الوجود، بمعنى من ليس إلى شيء، فهذا هو المحدث، ومعنى المحدث هو ما لم يكن ثم كان، وهم يقولون إنَّه هو الذي لم يزل، وهو خلاف المعقول.»٩وهذا الرَّدُّ والاستدلال من ابن حزم غير بعيد مما ذكره الغزالي في مسألة تلبيس الفلاسفة بقولهم إنَّ الله صانع العالم مع قولهم بقِدمه.١٠ ومعروف أنَّ ابن حزم توفي سنة ٤٥٦ﻫ وأنَّ الغزالي قرأه وأعجب ببعض ما كتب.١١ومهما يكن من شيء؛ فإنه ما ينبغي أن يُفهم من هذا أننا نُريد الغضَّ من قدر الغزالي، أو الانتقاص من قيمة عمله في هذه الناحية أو نُريد أن نسويه في الرد على الفلاسفة بسابقيه، إنما الذي نريد بهذه الإشارات هو أن نثبت أنَّ حجة الإسلام كان له سلف في هذا الكفاح، وأنَّه طبعًا قد أفاد مما عرفه عن هؤلاء الأسلاف.
إنَّ الغزالي وقد ولد بعد عشرين عامًا من وفاة ابن سينا، رأى أنَّ هذا قد أعطى للفلسفة قوة ومنزلة بالنسبة لعلم الكلام، لم يكونا لها من قبل، فرأى فرضًا عليه أن ينتدب نفسه للرد على الفلاسفة وأن يُشن عليهم حربًا لا هوادة فيها، وكان على هذا قادرًا.
لقد كان فقيهًا، ومتكلمًا، وصوفيًّا، ومتبحرًا في الدراسات الفلسفية، فرأى أن القدَر أعده ليكون الرجل الذي يربح المعركة الفاصلة ضد الفلسفة والفلاسفة، وقد كان يحس فعلًا بهذه الرسالة التي يجبُ أن يضطلع بها دون تريث، فاندفع إلى أدائها بضمير يقظ وعقل قوي محيط.
هذا بإجمال دقيق هو الغزالي الذي أعدَّبغرضَه نفسه لحرب الفلسفة ورجالها، فكتب في ذلك كتابه «تهافت الفلاسفة» فماذا كان بدقة غرضه وغايته من هذا العمل الكبير، وماذا كانت خطته التي اصطنعها للوصول إلى الغاية التي ندب نفسه لها؟
-
(٣)
يرى «شمولدير Schmoslders» أنَّ غرض الغزالي من كتابه هو بيان تهافت الفلاسفة وتناقضهم بعضهم مع بعض، وأنَّ المذهب الفلسفي للواحد منهم يُضادُّ فلسفة الآخر، ومعنى هذا أنَّ الغزالي لم يكن له في عمله مجهود إيجابي يُدلل به على تهافت الفلاسفة وتداعي مذاهبهم، بل كل ما كان له هو بيان تناقض هذه المذاهب فيما بينها.١٢ولذلك لم يرضَ «مونك» هذا الرأي، بل إنَّ غرضه كان هدم تلك المذاهب الفلسفية بنقد عنيف عامٍّ.١٣
ونحنُ مع موافقتنا المستشرق «مونك» على أنَّ ما ذكره كان غرضًا للغزالي من تهافته، نرى أنَّه لم يكن الغرض الوحيد من كتابته، إنَّ الغرض أو الأغراض التي أرادها حجة الإسلام من حربه الفلاسفة بهذا الكتاب، تُبين لنا من كلامه نفسه، وبخاصة من افتتاحه لهذا الكتاب.
إنَّه قد هاله أنَّ المتفلسفين المسلمين، وبخاصة الفارابي وابن سينا، قد تركوا الدين — كما يقول — اغترارًا بعقولهم، وتقليدًا للفلاسفة القدماء الذين لهم أسماء مدوِّية مثل سقراط وأبقراط وأفلاطون وأرسطوطاليس؛ ولهذا فرض على نفسه الرد على هؤلاء «الفلاسفة القدماء»،١٤ مُبينًا تهافت آرائهم وتناقضها فيما يتعلق بالإلهيات، وذلك «ليكف من غلوائه من يظن أنَّ التجمل بالكُفر تقليدًا يدلُّ على حُسن رأيه، أو يُشعر بفطنته وذكائه.»١٥ وهو حين يرد على الفلاسفة اليونان يعتمد في شأنهم على ما نقله عنهم الفارابي وابن سينا مُعترفين بصحته وراضين به.على أنَّ لحجة الإسلام بجانب ذلك غرضًا آخر، وهو نزع الثقة من الفلاسفة المسلمين، و«تنبيه مَن حَسُن اعتقادهم فيهم فظن أن مسالكهم تقيه عن التناقض، ببيان وجوه تهافتهم؛ فأبطل عليهم ما اعتقدوه مقطوعًا به.»١٦ ولعلَّ هذا هو الغرض الأخير للغزالي والغاية التي أَعَدَّ العدة للوصول إليها، بعد أن رأى شدة أسْر الفلسفة وذيوعَ اسم الفلاسفة وقوة أثرهم.ومن أجل هذا نراه وهو يُجادلهم يصفهم تنفيرًا للناس منهم، بأنَّهم أغبياء،١٧ زاغوا عن سبيل الله الحق،١٨ وبأنَّ بعض نظرياتهم ظلمات فوق ظلمات،١٩ إلى نحو هذا كله من الصفات التي تُزري حقًّا بمن اتصف بها، والتي تُنَفِّر النَّاسَ منه وتصرف عنه حتى من يثق به.على أَنَّنَا بعد هذا نرى أنَّ الغزالي يتخذ بادئ ذي بدء من اختلاف الفلاسفة اليونان في المسائل الإلهية فيما بينهم، دليلًا على أنَّ آراءهم فيها مُحتملة للشك؛ ولذلك نراه يقول: «ولو كانت علومهم الإلهية متقنة البراهين، نقية عن التخمين، كعلومهم الحسابية والمنطقية، لما اختلفوا فيها كما لم يختلفوا في الحسابية.»٢٠ وهذه حجة نجدها بعد أكثر من خمسة قرون لدى «ديكارت» الفيلسوف الفرنسي المشهور، وذلك عندما أخذ في نقد ما بعد الطبيعة. -
(٤)
وإذا كانت تلك هي الأغراض التي قصدها الغزالي من حربه الفلاسفة، فإنَّ الطريقة التي سلكها لبلوغها يجبُ أن تكون مناسبة معها، فكذلك يصنع الخصم الماهر اللبيب.
حقيقة، إنَّه في مُقدِّمته الثانية لكتابه لا يُنازع الفلاسفة في بعض المصطلحات التي اصطنعوها، مثل تسميتهم «الله» جوهرًا ما داموا يُريدون بالجوهر ما يقوم بنفسه، وكذلك لا يُنازعهم في بعض نظرياتهم في الطبيعة التي لا تعارض الدين بحالٍ، مثل تفسيرهم للكسوف، ما دام ذلك مبنيًّا على أُصول رياضية يقينية، بل إنَّ الشك في هذا ونحوه يضُرُّ الدين نفسه ويظهره متعارضًا مع الرياضيات التي لا ريب فيها مُطلقًا، كما لا ينازعهم أيضًا في المنطق؛ إذ لا بد منه لدراسة العلوم الإلهية.
إنما ينازعهم بعنف وشدة فيما يتعلق بأصول الدين، وفيما يرجع إلى الطبيعة وما بعد الطبيعة، إذا ما رأى ما ذهبوا إليه لا يتفق والعقائد الدينية الصحيحة، مثل قولهم في قدم العالم أو حدوثه، وإنكارهم البعث الجسماني.
وهكذا لم يُهاجم الغزالي ما كان موثوقًا به من فلسفة اليونان، نعني الرياضيات والطبيعة القائمة عليها والمنطق، وركز حملته بعد هذا فيما بعد الطبيعة ينقدها بشدة؛ ليقيم بدلها ما جاء به الدين الذي نجد فيه ما يعجز العقل عن الوصول إليه من المسائل الإلهية، وحجة الإسلام في هذا وذاك يذكِّرنا بما سيكون من «كانط» الفيلسوف الألماني الأشهر المتوفى سنة ١٨٠٤م.
والغزالي حين يُنازع الفلاسفة في تلك المَسائل ونحوها، لا يتناولها جملة، بل يعرض الرأي الذي لا يرضاه مع الأَدِلَّة التي ساقها الفلاسفة لتأييده، ومع ما يراه هو من أدلة أخرى فاتت الفلاسفة، وبعد هذه المرحلة يأخذ في الرد والاعتراض على هذه الأدلة ويتصور لهم إجابات على اعتراضاته، ويأخذ في الرد عليها من جديد.
وبهذا نرى الغزالي لا يسيرُ في المعركة على طريقة المحامي الذي لا يعنيه أن يظهر أدلة خصمه، بل إنَّه يسيرُ سير من يُريد الوصول إلى الحقيقة، مع إنصاف خصمه وتقدير أدلته وبراهينه ثم نَقْدِها، وهذه طريقة نجدها ماثلة في كثير من المؤلفات التي تدرس حتى اليوم بالأزهر، وهي طريقة فيها إنصاف للخصم إلى حدٍّ كبير.
على أنَّ هذا أو ذاك ليس كلَّ الطابع الذي يسم طريقة الغزالي في كتابه وخصومته، إنه وقد أراد نزع الثقة من الفلاسفة، والحدَّ من اعتزازهم بالعقل وقدرته، يُنازعهم أيضًا في بعض مسائل يتفق معهم فيها.
ومن المثل لذلك مسألة رُوحانية النفس وعدم فنائها، هذه المسألة التي قدَّم الفلاسفة للاستدلال لها أدلة عقلية قويَّة حرية بالإقناع ومن شأنها تقوية العقيدة الدينية، والتي لا ينازع الغزالي في الرأي الذي وصل إليه للفلاسفة فيها، ولكنه يردُّ على هذه الأدلة والبراهين، وذلك ليُبين للفلاسفة عجز عقولهم عن الاستدلال لما ذهبوا إليه مع أنَّه حق، وأنَّ الخير الاستدلال بالشرع وحده فيها.٢١ثم بعد هذا وذاك، سنرى — وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك — أنَّ الغزالي يُبيح لنفسه أن يرمي خصومه بالجهل الفاضح والتخبط في الظلمات، وبالكفر تقليدًا للفلاسفة اليونان الذين اعتقدوا عصمتهم من الخطأ، إلى نحو هذه التشنيعات التي تُتِمُّ له تحقيق التشويش على الفلاسفة المسلمين وتسويء سمعتهم، وهو بعض ما قصده من حملته العنيفة.
والآن بعد أن عرفنا أغراض الغزالي من تهافته، وكيف سلك لبلوغ هذه الأغراض، ننتقل إلى النَّاحية المُهِمَّة من البحث، وهي عرض بعض المسائل التي يتركز حولها الخصام بين الغزالي والفلاسفة.
على أننا نُشير من الآن إلى أنَّ حجة الإسلام لم يكن من غرضه في تهافته بيان الرَّأي الحق في المسائل التي دار حولها النزاع، هذه المسائل التي — كما يقول — سيخصص لها كتابًا يُعنى فيه بالإثبات كما عُني في «التهافت» بالهدم.٢٢ -
(٥)
ونرى بعد ما تقدم أن نعرض المسائل التي دار فيها النزاع بين الغزالي وبين الفلاسفة، سواءٌ ما كان منها مُتعارضًا مع ما قرره الدين في رأي حجة الإسلام، أو ما كان منها حقًّا في نفسه، ولكن عجز الفلاسفة في رأيه عن إقامة الدليل العقلي عليه، ونكتفي هنا بأن نورد بإيجاز ما أراد الغزالي بيانه في كل مسألة من هذه المسائل بكتابه «تهافت الفلاسفة»، مرجئين الجدل فيها إلى القسم الثاني من هذا الفصل الخاص بردود ابن رشد عليه، وهذه المسائل هي:
- (١)
قدم العالم أو حدوثه.
- (٢)
صدور العالم عن الله أو تعجيز الفلاسفة عن إثبات أنه الصانع له.
- (٣)
علم الله بنفسه وبالعالم، ومدى هذا العلم.
- (٤)
مشكلة الأسباب والمسببات.
- (٥)
البعث والجزاء الأخروي.
- في المسألة الأولى: التي استنفدت الجانب الأكبر من جهد الغزالي، أراد أن يُبطِل قول الفلاسفة بأنَّ العالم يوجد دائمًا ما دام هو معلول الله القديم الأزلي، وذلك بالتدليل على استحالة زمن لا ينتهي، وبإدخاله فكرة أنَّ الإرادة الإلهية قدرت في الأزل أن يوجد العالم في الوقت الذي أراده الله، وهكذا وُجد العالم مُحدثًا عن الله بعد أن لم يكن، دون المساس بما يُحافظ الفلاسفة عليه من عدم التغير في إرادة الله تعالى.٢٣
- وفي الثانية: حاول أن يُدلل على أنَّ الفلاسفة لا يرون أنَّ الله صانع العالم، وأنهم يعجزون عن إثبات ذلك حسب ما ذهبوا إليه: من أنَّ العالم قديم؛ فلا يمكن أن يكون مخلوقًا، وأنَّ الله ليس مريدًا حتى يكون فاعلًا، ومن أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد، والعالم مركب من مُختلفات؛ فلا يُمكن صدوره عن الله الواحد.٢٤
- وفي الثالثة: حاولَ إلزام الفلاسفة القولَ بأنَّ الله لا يعرف ذاته ولا غيره، ما دام العالم صدر عنه بلا إرادة بل بالضرورة كصدور الحرارة عن النار والنور عن الشمس.٢٥ كما عُني بإبطال قولهم بأنَّ الله لا يعلم الجزئيات.٢٦
-
وفي المسألة الرابعة: عمل على التدليل على أنَّ الارتباط بين ما يُسَمَّى
سببًا وما يُسَمَّى مُسبَّبًا ليس ضروريًّا على خلاف
ما يرى الفلاسفة، وهذا لتكون المعجزات النبوية
ممكنة، وذلك ببيان أنَّ احتراق القطن — مثلًا — إذا
لامس النار لا يدل على أنَّ الاحتراق هو من النار
وبها حقيقة، بل لا يدل إلا على حدوث الاحتراق عند
الملامسة، أمَّا السبب فهو الله الذي خلق الاحتراق
عند الملامسة، والذي يجوز أن يخلق ما يُسَمَّى
مسببًا بدون ما يسمى سببًا.٢٧
ويذكِّرنا ما ذهب الغزالي إليه في هذه المشكلة بما ذهب إليه كلٌّ من مالبْرانْش في القرن السابع عشر وهيوم من بعده، أي: نفي الارتباط الضروري بين ما يُسَمَّى سببًا وما يُسمى مسببًا.
إن «هيوم» يقول بأنَّ التجربة ترينا فقط أن واقعة ما ينتج عنها أخرى دون أن يبين لنا ارتباطًا ضروريًّا بينهما، أي: الارتباط الذي يُراد بهذا التعبير: علاقة السببية.٢٨ بل إنَّ «مالبرانش» يُصَرِّح بأنَّ السبب الحقيقي الذي يوجَد الشيءُ به هو الله وحده، فإنَّ السبب الحقيقي في رأيه هو ما يرى العقل ارتباطًا ضروريًّا بينه وبين ما ينتج عنه، وهذا ما لا يراه العقل إلا لله الذي يكون عن إرادته وحدها كل شيء، ولا يُمكن أن يجعل الله هذه القوة لشيء مما خلق، وإلا لتعددت الآلهة الخالقة.٢٩ ومن ثَمَّ فإنَّ الإنسان حين يحرك ذراعيه مثلًا، يفعل هذا بقوة ليست في الحق منه.ومع اشتداد حجة الإسلام في نصرة ما ذهب إليه في مشكلة السببية، فإنه يشعرنا بأن إنكار لزوم المسببات عن أسبابها وإضافتها إلى الله وحده دون منهج متعين، يجرُّ إلى الفوضى في الطبيعة، وذلك بتجويز انقلاب غلام كلبًا، أو كتاب فرسًا، أو غير ذلك وذاك من انقلاب أعيان الموجودات إلى بعض.
ولهذا نجده يتدارك هذا الزَّعم، أي: تجويز الانقلابات في الطبيعة، بأن قرر أنَّ الله خلق فينا علمًا بأنَّ انقلاب الشيء إلى شيء آخر دون ما يُسَمَّى سببًا أمر ممكن في نفسه ولكنه لا يقع، وبخاصة أنَّ استمرار عادة ترتُّب الأشياء بعضها عن بعض، بإرادة الله وسببيته وحده، رسَّخ في أذهاننا أنَّها ستجري دائمًا وفق هذه العادة والنظام.٣٠هذا، وفكرة هذه «العادة» التي خلقت فينا هذا «العلم» نجدها أيضًا كذلك لدى «هيوم». فإنه يُعلل بها اطِّراد ما نراه من النظام في الطبيعة، ووجود شيء عن شيء دائمًا باطِّراد.٣١ - وأخيرًا في المسألة الخامسة: وهي المسألة العشرون التي ختم بها الغزالي كتابه تهافت الفلاسفة، نجده يُعنى بإبطال ما ذهب إليه الفلاسفة من إنكار البعث الجسماني الثواب والعقاب الجسمانيين، مُستندًا في هذا بحق إلى ما جاء عن ذلك في الشريعة من نصوص لا تحتمل التأويل تثبت البعث والجزاء الجسمي والروحي معًا، كما نراه يُعنى بعد هذا بإبطال المحالات التي رأى الفلاسفة أنها تمنع من بعث الأجساد.٣٢
- (١)
وهكذا حدد حجة الإسلام أغراضه وغايته من كتابه، وسلك في سبيل تحقيق ما أراد الطريقَ التي ارتضاها ورأى أنَّها تحقق غايته، وحَدَّد ميدان المعركة بينه وبين الفلاسفة.
فلننظر بعد ذلك ماذا سيكون من خصمه ابن رشد نصير الفلسفة، ثم علينا بعد هذا كله أن نتقدم برأينا الخاص في هذه المعركة التي ما تزال آثارها مَاثلة في التفكير الفلسفي حتى هذه الأيام.
(٢) ابن رشد وتهافت التهافت
- (١)
على أنه ما ينبغي أن نظن أنه كان أول من أحس بثقل وطأة الغزالي على الفلاسفة ووجوب الرَّدِّ عليه، فقد كان قبله من أحس هذه الشدة، ونعني به «ابن طُفيل».
لقد عاب أبو بكر بن طفيل على الغزالي أنه «بحسب مخاطبته للجمهور يربط في موضع ويحل في آخر، ويكفِّر بأشياء ثم ينتحلها.» وضرب لهذا مثلًا مسألة إنكار البعث الجَسدي التي كانت من أسباب تكفيره للفلاسفة، مع أنَّه لا يبعد أن يكون هذا هو رأيه الخاص على ما يُؤخذ من كتابيه: ميزان العمل، والمنقذ من الضلال.٣٤وابن طفيل يذكر بعد هذا أنَّ الغزالي يعتذر عن اتخاذه آراء مُختلفة في المسألة الواحدة بقوله في آخر كتاب «ميزان العمل» بأنَّ الآراء ثلاثة أقسام: رأي يُشارك فيه الجمهور فيما هم عليه، ورأي يكون بحسب ما يخاطب به كل سائل ومسترشد، ورأي يكون بين الإنسان وبين نفسه لا يطلع عليه إلا من هو شريكه في اعتقاده.
وهذا المعنى الذي أحسه ابن طفيل في الغزالي، نجد ابن رشد يحسه أيضًا حين يرى — كما سيجيء — أنَّه اضُطرَّ لأن يقول ما لا يعتقد من أجل زمانه ومكانه، ومُلاحظة فيلسوف الأندلس هذه هي التي جعلت «مونك» يؤكد أنَّ للغزالي مؤلفات مضنونًا بها على غير أهلها ésotéripues.٣٥ - (٢) ويفصح ابن رشد عن غرضه من كتابته «تهافت الفلاسفة» في وضوح وإيجاز، فيفتتحه بقوله: «وبعد حمد الله الواجب، والصلاة على جميع رسله وأنبيائه، فإنَّ الغرض في هذا القول أن نُبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب «التهافت» في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن مرتبة اليقين والبرهان.»٣٦
وهذا الغرض مع تأكيد ابن رشد إياه في مواضع كثيرة أخرى من كتابه، ليس في رأينا إلا وسيلة يصل بها إلى غرضه الأخير، وهو أنْ يردَّ عدوان الغزالي ويجعل حملته على الفلسفة باطلة، وبذلك يتم له ما نَصَب نفسه له من الانتصار للفلسفة وإزالة الجفاء بينها وبين الشريعة، إن لم نقل التوفيق بينهما.
- (٣) وسنرى من عرض مسائل النِّزاع المُهِمَّة بين فيلسوف الأندلس وحجة الإسلام، أنَّ «تهافت التهافت» كما يقول بحق الأب بويج، ليس دفاعًا قام به ابن رشد ليُعيد للفلسفة منزلتها، ولكنه فحص دقيق وتفسير أو تأويل عميق متبصر لكتاب الغزالي.٣٧
ولشعور أبي الوليد بثقل ما يحمل من مسئولية، وبأنَّ الأمر جدٌّ كل الجد، نراه ينعَى بحرارة من كل قلبه على الغزالي حين يصرح — كما عرفنا من قبل — بأنه لم يقصد من تهافته بيان الحق في نفسه، وإنما قصد التشويش على الفلاسفة ونزْعَ الثقة منهم، إلى آخر ما قال في هذه الناحية.
وإن وضعنا أنهم مخطئون في أشياء من العلوم الإلهية، فإنا إنما نحتج على خطئهم من القوانين التي علَّمونا إياها من القوانين المنطقية، ونقطع أنهم لا يلوموننا على التوقيف على خطأ إن كان في آرائهم، فإن قصدهم إنما هو معرفة الحق، ولو لم يكن لهم إلا هذا القصد، لكان ذلك كافيًا في مدحهم، فلا أدري ما حمل هذا الرجل على مثل هذه الأقوال»!
ولأنَّ غرض ابن رشد هو كما عرفنا بيانُ ما هو حق من آراء الغزالي، نراه يقرُّ له بما يكون في آرائه من صواب، وينقد أحيانًا وبشدة الفارابي وابن سينا على ما ذهبوا إليه من خطأ، وذلك صنيع العالم الباحث الطالب للحقيقة وحدها.
والآن، بعد هذا التمهيد الذي عرفنا منه ما كان من جهد في الرد على الغزالي، نأخذ في صميم الموضوع، نعني في بيان رأي فيلسوفنا في أهم المسائل التي عرضناها عن الغزالي من قبل، والتي رأينا تركيز المعركة بينهما فيها وحولها.
(٣) مسائل النزاع
(٣-١) قدم العالم
ليس من المبالغة في شيء أن نقول بأنَّ هذه المسألة أهم المسائل التي كانت وما تزال سبب الخصومة العنيفة بين الفلاسفة والمتكلمين، هؤلاء يرون أنَّ القول بقِدم العالم على أي نحو كان وصدوره ضرورة عن الله كالمعلول عن العلة، ومساوقته له تعالى في الزمن يُعتبر إنكارًا للخلق وتعريضًا لوجود الله للجحود!
لكنَّ الفلاسفة لا يرون في القول بالقدم إنكارًا للخلق، ولا تعريضًا لوجود الله للجحود، فإنهم يرون أن من العسير حقًّا تصور «الخلق والحدوث» للعالم دون أن يسبقه «العدم» أو بعبارة أخرى، دون أن يسبق وجود العالم «زمان» كان معدومًا فيه.
- (أ)
قبول ما رآه صحيحًا من الأدِلَّة التي تقدم بها الغزالي في كتابه التهافت، ذاكرًا أنَّها أدلة الفلاسفة لمذهبهم، ورفض ما لا يراه صحيحًا منها.
- (ب)
الرد على ما وجهه الغزالي من اعتراضات على تلك الأدلة.
- (جـ)
التقدم بأدلة أخرى لتأييد رأي الفلاسفة.
- (د)
بيان أنَّ كتابه «تهافت التهافت» ليس مخصصًا للبرهنة، بل لرد هجوم الغزالي وبيان أنَّ أكثر ما جاء به لا يرتفع إلى مرتبة اليقين والبرهان.
هذا، وليس من الميسُور ولا من الضروري في رأينا أن نُورد هنا سجِلًّا لما كان من جدل طويلٍ في هذه المَسألة بين ابن رشد وبين خصمه اللدود، ويكفي أن نذكر بإيجاز دقيق أهم ما استند إليه فيلسوف الأندلس في دحض مذهب المتكلمين، وهو حدوث العالم بعد زمان كان معدومًا فيه، والبرهنة على أنه قديم بما يتفق والغرض الذي كتب كتابه من أجله.
-
(١)
يرى الفلاسفة أنه يستحيل صدور حادث عن قديم، وذلك أَنَّنا لو فرضنا زمنًا كان العالم ممكن الوجود فيه لكنه لم يوجد؛ لأنه لم يكن لوجوده مرجح على عدمه، كان لنا أن نتساءل: هل جَدَّ مرجح اقتضى وجوده حين وجد، أم لا؟ فإن كان الثاني، كان الواجب أن يظل العالم مُمكنًا غير موجود؛ إذ لا يوجد شيء بلا مُرَجِّح، وإن كان الأول سألنا عن السبب الذي جعل المرجح يجدُّ الآن لا قبل، ومع هذا فيكون الله تعالى محلا للتغير بسبب هذا المرجح الذي جد وبسببه وجد العالم بعد ما كان معدومًا.
وهذا القول وإن حكاه الغزالي دليلًا للفلاسفة لا يعدُّه ابن رشد إلا جدلًا عاليًا لا يصل إلى مرتبة البرهان.٤٤على أنَّ الغزالي يعترض على هذا الدليل؛ فيقول: ما الذي يمنعنا من أن نعتقد أنَّ الله أراد أزلًا أن يستمر العالم معدومًا طول مدة عدمه، وأن يوجد بعد هذا الزمن في الوقت الذي وُجد فيه، وحينئذ لم يكن وجوده قبلُ مرادًا فلم يحدث، ثم حدث بعدُ في الوقت الذي عيَّنه الله بإرادته القديمة لوجوده، وظل الله منزَّهًا عن كل تغير.٤٥وفي رأينا أن هذا يُعتبر من جانب الغزالي حلًّا موفقًا للمسألة، ولكن ابن رشد يرى — في سبيل نقده وعدم التسليم به — أنَّ المُتكلمين لا بدَّ لهم حينئذ من التَّسليم بأن حالة الفاعل في وقت عدم الفعل ليست هي حالته وقت الفعل،٤٦ بل لا بدَّ حين الفعل من أمر جدٍّ إمَّا في الفاعل نفسه أو في المفعول، وإذن هذه الحالة الجديدة لا بدَّ لها من فاعل، وهذا إما أن يكون غيره، فلا يكون الموجد مكتفيًا في الإيجاد بذاته وحده، وإمَّا هو ذاته، فلا يكون العالم أول مخلوق له، بل أول مخلوق هو تلك الحالة، مع أنَّ المتفق عليه أن العالم هو أول ما خلق الله.٤٧ثم كيف يُتَصور فعل حادث عن إرادة قديمة من غير أن تتغير حالة الفاعل وقت الفعل عن حالته قبله، بأن تَزيدَ رَغبته في تحقيق الفعل، وهذا ما يعتبر نقصًا في حقه تعالى.٤٨ولا ندري كيف يَصِحُّ هذا من ابن رشد بالنسبة لله تعالى، إنه يصح في الإنسان الذي إن أراد مثلًا أن يفعل كذا بعد عام لا بدَّ له من أن يُباشر بنفسه ما أراد سابقًا فعله، وحينئذ يُقال إنَّ حالة جديدة حصلت له.
أمَّا صانع العالم، أي: الله، فقد سبق أن عَبَّر الغزالي عن رأي المُتكلمين حين ذهب إلى أنَّ الله أراد أزلًا أن يُوجد العالم في وقت كذا، وفي هذا الوقت وجد بسبب الإرادة القديمة دون أن تتغير حالة الفاعل — أي: الله — في الحالتين: حالة عدم الفعل وحالة الفعل.
على أنَّ هناك اعتراضًا آخر للفلاسفة على حل الغزالي تقدم به حجة الإسلام نفسه، وهو أقوى من اعتراض ابن رشد، ولهذا رضيه تمامًا، وهو يتلخص في أنَّه كما يستحيل وجود حادث ومُسبب بلا سبب، يستحيل تأخر وجود المسبب عن سببه الكامل شروط الإيجاد والإيجاد، وهنا مثلًا كان الله وما يزال موجودًا، وإرادته موجودة ونسبتها إلى المُراد موجودة وثابتة، فكيف يتأخر وجود العالم عن وجود الله الذي هو علته التامة وسببه الكامل!٤٩وهذا ما يذكرنا بما سيقوله البغدادي فيما بعد عن القائلين بقِدم العالم؛ إذ يُقررون أنَّ الله إذا كان لم يزل موجودًا عالمًا مريدًا قادرًا، كان لا بد أن يكون العالم موجودًا أزلًا أيضًا، ولا يُعقل أن تكون مدة قبل العالم يكون الله فيها عاطلًا غير خالق ولا موجد.٥٠وقد قلنا آنفًا إنَّ ابن رشد رضي تمامًا ذلك الرد الذي تقدم به الغزالي عن الفلاسفة، إلَّا أنَّ هذا لم يسلمه، بل أخذ في الإمعان في الجدل، إنه يُطالب الفلاسفة ببيان أنَّ استحالة تأخر وجود المفعول عن فاعله الكامل شروط الخلق والإيجاد، أمرٌ معروف بداهة، أو بإقامة الدليل البرهاني عليه إن لم يكن من المعارف الأولى، فإن القائلين بحدوث العالم عن إرادة قديمة أكثر بكثير جدًّا من الفلاسفة المُخالفين.٥١ وفي الرَّدِّ على هذا الجدل يرى ابن رُشد بحق أنه ليس من شرط المعرَّف بنفسه أن يعترف به جميع الناس؛ إذ المراد به أنه مشهور.٥٢على أنَّ الغزالي أراد بعد هذا إلزام الفلاسفة بأن يقروا بما جعلوه محالًا من صدور حادث عن قديم، إنَّه يقولُ بأنه من المعروف والمتفق عليه؛ لأنَّه مُشاهد أنَّ في العالم أمورًا حادثة تجدُّ آنًا فآنًا، وهذه الأمور لها بلا ريب أسباب تصدر عنها، وإذن هذه الأسباب إن كانت آخر الأمر حادثة كان معناه الاستغناء عن الخالق القديم، وإن انتهت إلى هذا الخالق كان معنى صدور الحادث عن القديم، فلم لا يكون الأمر هكذا بالنسبة للعالم.٥٣وهنا يرى ابن رشد — كسائر أنصار القول بقِدم العالم مثل الفارابي وابن سينا — أنَّ هذه الأمور الحادثة تنتهي آخر الأمر إلى سبب قديم، ولكنها حادثة الأجزاء أزلية الجنس، فلا يلزمنا القول بصدور حادث بجنسه عن القديم.٥٤ وهذا الغموض الذي نجده عند فيلسوف الأندلس في هذا الجواب، يُوضِّحه البغدادي حين يشرح مذهب أنصار قدم العالم في كيفية صدور الحادث عن القديم.إنَّه يقول في هذا الصدد بأنَّ القديم بذاته يوجد أزلًا حركة مستمرة، وباستمرار هذه الحركة تكون الحوادث التي يجيء بعضها بعد بعض عن أسباب قديمة، حادثة السببية بحركاتها التي تتجدد منها كلَّ آن حالةٌ تصير سببًا لحادث، وذلك مثل الشمس التي بذاتها القديمة لا يجب عنها النهار والليل والفصول الأربعة، بل إنَّ ذلك يحدث عنها بسبب حركتها الطولية والعرضية.٥٥وفي رأينا أنَّ هذا وذاك يرجع إلى ما هو معروف من أنَّ الفلاسفة حين قالوا بقِدَم العالم أرادوا قدم بعضه، أي: أرادوا فقط قدم العقول السماوية، والنفوس الفلكية، والأفلاك بذواتها دون حركاتها، والعنصريات بمادتها لا بالصور التي تطرأ عليها، وبهذا يكون لا مانع في رأيهم أن يصدر حادث عن قديم من هذه الأشياء، لا عن قديم هو الله سبحانه وتعالى.
-
(٢)
وبعد هذا الدليل الذي ذكره الغزالي في تهافته للفلاسفة، للاستدلال به على ما يرون من قدم العالم، وبعد ما عرفنا ما ثار عليه من اعتراضات وإجابات على هذه الاعتراضات، ذكر كذلك دليلًا ثانيًا ثم أخذ في الرد عليه.
وهذا الدليل يتلخص في أنَّ تقدم الله تعالى عن العالم إما أن يكون بالعِلِّية فقط، فيكون العالم قديمًا مثله لتلازم العلة والمعلول في الزَّمان، أو يكون تقدم الله عن العالم بالزمان، فيكون إذن قبل العالم زمان قديم كان الله فيه دون العالم، وإذا كان الزمان قديمًا وجب قدم الحركة التي لا يُفهم إلا بها، ومن ثم وجب قِدم المتحرك بها أيضًا.٥٦لكن ابن رشد لم يرضَ هذا دليلًا صحيحًا للفلاسفة:٥٧ وإذن فلا ضرورة فيما نرى للكلام فيه، ولْنتجاوزه إلى الدليل الأخير الذي نختم الحديث به في مشكلة قِدَم العالم. -
(٣)
لا بدَّ لكل حادثٍ من مَادَّة يقومُ بها؛ وذلك لأنَّه ممكن قبل حدوثه، والإمكان يَسْتَلْزِمُ موضوعًا يقومُ به ويكون قابلًا له، وإذن هذه المادة — أو الموضوع أو المحل — لا يُمكن أن تكون حادثة، وإلا لاحتاجت إلى مادة أخرى، وهكذا من غير نهاية، فيجبُ إذن أن تكون قديمة، ويكون الحادث هو ما يطرأ عليها منَ الأعراض والصور المُختلفة، وذلك هو المطلوب.٥٨والغزالي وقد ساق هذا الدليل يعترضُ عليه بأنَّ إمكان هذا الشيء أو وجوبه أو استحالة الآخر، أمورٌ يرجعُ فيها إلى قضاء العقل، بمعنى أنَّ ما قدَّر العقل وجوده؛ فلم يمتنع عليه تقديره سميناه مُمكنًا، فإن امتنع تقدير وجوده سميناه مستحيلًا، وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجبًا، وإذن هذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود سابق تجعل وصفًا له.٥٩ ولو كان الإمكان يستدعي مادة يقوم بها لاستدعى الامتناعُ مادة كذلك، مع أنه ليس للشيء الممتنع مادة يطرأ الامتناع عليها؛ لأنَّ الممتنع محال وجوده.٦٠وابن رشد لا يعيا هنا بالجواب، إنه يُؤكد أنَّ استدعاء الإمكان مادة يقوم بها أمرٌ بيِّن، ما دام كلٌّ منا عندما يسمع مثلًا أنَّ هذا الشيء ممكن يفهم شيئًا يقوم به هذا الإمكان، وكذلك الممتنع يستدعي موضوعًا مثل ما يستدعي الإمكان، وهذا واضح أيضًا ما دام الممتنع مقابل الممكن، والأضداد المُتقابلة يقتضي كلٌّ منها ولا شك موضوعًا، فإنَّ الامتناع هو سلب الإمكان عن شيء ما، فكما يقتضي هذا الإمكان موضوعًا يقتضي الامتناع كذلك موضوعًا يسلب عنه إمكان الوجود كقولنا: الخلاء ممتنع، ونحوه.٦١
هذا، ونعتقد أن هذا القدر كافٍ في تعرف وجهة نظر كلٍّ من الخصمين في مشكلة ليس من السهل أن يقوم دليل عقلي قاطع فيها، إن فيلسوف الأندلس يرى أنَّ أدِلَّة المُتكلمين على حدوث العالم، كما حكاها الغزالي ليست برهانية ولا يقينية، وكذلك الأدلة التي حكاها عن الفلاسفة في كتابه «تهافت الفلاسفة» للاستدلال بها على قدمه، ومع هذا وذاك نحنُ نرى أنَّ ابن رشد نفسه لم يُقَدِّم دليلًا برهانيًّا يقينيًّا على ما يَدَّعيه هو والفلاسفة من قدم العالم.
وإن لنا أخيرًا أن نقول بأنَّ القول بالحدوث يجعل من السهل تصورَ النِّسبة بين الله وبين العالم، أي: بين الخالق والمخلوق، وإنه مع هذا لنا أن نقول أيضًا بأنَّ الوحي وإن جاء بحدوث العالم في الزَّمان، فإن للعقل منطقيًّا أن يُجيز لا أن يوجب — كما يدعي ابن رشد وأمثاله — كون العالم قديمًا ومخلوقًا لله تعالى.
ثم لنا أن نقول أيضًا بأنَّ ما ذهب الفلاسفة إليه، من أنَّ العلة التامَّة يجبُ أن يوجد معها معلولها في نفس الزَّمان، يكون أمرًا ضروريًّا في العلة التي تفعل من طبعها دون إرادة لها، كالنار والحرارة مثلًا.
أمَّا الفاعل الذي له إرادة وهو علة تامَّة لشيء ما، فإنَّ له أن يُوجد ما يريد في الزمن الذي يريده ويعينه، وبكلمة واحدة إننا لا نستطيع أن نسلِّم للفلاسفة بأنَّ المعلول يتبع دائمًا في زمن وجوده علته وإن كانت تامة.
(٣-٢) وجود الله وصدور العالم عنه
هنا نتكلم عما أراد الغزالي إثباته من أنَّ الفلاسفة لا يُريدون الحقيقة حين يقولون إنَّ الله صانع العالم، بل إنَّ هذا القول مجاز عندهم وتلبيس منهم، ومعنى ذلك أنَّ الفلاسفة لا يرون أن الله هو خالق العالم حسب مذهبهم.
وهذا البيان من الغزالي يجعل من اليسير حصر الخلاف بين المتكلمين والفلاسفة على هذا النحو: ما هو الفاعل؟ وما هو الفعل؟ وما المراد بما ذهب إليه الفلاسفة من أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد؟
-
(أ)
يرى الغزالي كما عرفنا أنَّ الفاعل ليكون فاعلًا يجب أن يكون عالمًا بما يفعل، ومُريدًا له عن اختيار، ويفرق بين مجرد السبب لشيء، كالشخص للظل والشمس للضوء والحرارة، وبين ما يكون سببًا على نحو خاص هو الإرادة، فالأول ليس فاعلًا ولا صانعًا، والثاني هو الفاعل حقًّا ما دام يعلم ما يفعل ويريده. أي إنَّ الأول إن سُمِّي فاعلًا كان بطريق المجاز لا الحقيقة، ومثاله من ألقى شخصًا في النار فمات كان هو القاتل دون النار التي ليست إلا سببًا لا فاعلًا حقًّا.٦٤ويُريد الغزالي بهذا كله أن يُقرر ضرورة عنصر الإرادة والاختيار في الفعل حتى يكون من صدر عنه فاعلًا حقًّا، وما دام العالم صدر عن الله بالضرورة عند الفلاسفة، يكون الله غير مريد، وإذن فلا يكون فاعلًا ولا خالقًا للعالم، ويكون إطلاق وصف «الفاعل أو الصانع» عليه إطلاقًا غير حقيقي يُراد به موافقة ما جاء به الإسلام!٦٥
وفي الرد على ذلك كله يبدأ ابن رشد بالقول بأنَّ اشتراط الإرادة والاختيار، على النَّحو الذي يُريده المتكلمون، في الفاعل للعالم — أي: في الخالق — ليس من المعروف بنفسه أو المعتَرَف به، إلا إذا قام الدليل عليه أو صح نقل حكم الشاهد فيه إلى الغائب.
وهذا، بأنَّ الفاعل في الأمور المشاهدة إمَّا فاعل بذاته وطبعه شيئًا واحدًا فقط لا يتغير، ونستطيع أن نمثل لها بالنار تكون عنها الحرارة، والثلج تكون عنه البرودة، وإمَّا فاعل عن علم وروية، فهو يفعل هذا الشيء اليوم مثلًا ويفعل ضده غدًا، والله منزه عن أن يكون فاعلًا بالمعنى الأول وهو واضح، وكذلك بالمعنى الثاني على النحو الذي يُوصف به الإنسان؛ لأنَّ الإرادة انفعال، والله منزه عنه، والمريد من ينقصه المراد، والله لا ينقصه شيء، والمُريد من إذا حصل المراد كفت إرادته، وهذا ما لا يَصِحُّ أن يُفهم في جانب الله، وإذن كيف يُقال إنَّ الفاعل الحق هو من يفعل عن إرادة واختيار، ويجعل هذا الحد مطردًا في الشاهد والغائب على السواء!٦٦ولكن إذا كان الله ليس فاعلًا بالطبع ولا بالإرادة والاختيار على النحو المعروف في الشاهد، فعلى أي نحو هو فاعل إذن عند فيلسوف قرطبة؟ إنه في مذهبه ومذهب الفلاسفة أمثاله، مخرج للعالم من العدم، ومُريد لوجوده، وعالم به، وكل ذلك على نحو أشرف مما هو في الإنسان حين يُريد فعل شيء من الأشياء؛ بمعنى أنَّ العالم وجد عنه من غير ضرورة داعية إليه لا من ذاته ولا لشيء من خارج، بل بسبب وجوده وفضله؛ ولهذا لا يلحقه النقص الذي يلحق المريد في الشاهد.٦٧ وهو لذلك علة لوجود العالم لولاه لما وجد، وكلُّ من كان علة لشيء فهو فاعل له.ومن خلق الله وإيجاده على هذا النَّحو، فهو الذي يحفظه دائمًا موجودًا على أتمِّ وجه، ولولاه لما استمرَّ وجوده طرفة عين، فهو لهذا أحق بوصف الفاعل بإطلاق، وذلك بأنَّ من الفاعلين من يستغني عنه الفعل متى وجد عنه كوجود البيت بالنسبة للبناء، ومن يظن الفعل مُحتاجًا إليه لدوام وجوده وحفظه، كالعالم بالنسبة لخالقه وموجده، وهذا الصنف الثاني هو أحق باسم الفاعل الحق.٦٨وهذا كله معناه أنَّ الله فاعلٌ للعالم على نحو لا يصحُّ أن يُقال فيه بالطبع ولا بالاختيار على ما هو معروف في الشاهد، بل بإرادة لا تُشبه في شيء إرادة البشر، كما يُقال إنه يعلم الأمور بعلم لا يشبه علم البشر.
-
(ب)
وفيما يختص بالفعل، يرى الغزالي أنَّ معناه هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود بإحداثه، وإذا كان العالم موجودًا في القدم فلا يُتصور إحداثه لأنَّ الموجود لا يمكن إيجاده، وإذن لهذا لا يُمكن أن يكون العالم فعلًا لله تعالى.٦٩
وهنا نُلاحظ أنَّ حجة الإسلام كما اشترط في الفاعل الحقيقي أن يكون مريدًا، اشترط كذلك في الفعل أن يكون إخراجًا من العدم إلى الوجود.
وابن رشد في الجواب عن ذلك يفرق بين القديم بذاته فلا يحتاج في وجوده إلى غيره، وهو الله تعالى الذي لا يتعلق به «الإحداث» من الغير لأنَّه موجودٌ فعلًا بذاته، وبين من لم يكن كذلك كالعالم، فإنَّه ليس لحدوثه أوَّل، فهو لهذا قديم، ولكنه مع هذا في حدوث دائم ومُتجدد، وهذا الحدوث في حاجة دائمة إلى محدث.
وإذن، فلا تناقض ولا عَجَب في أن يكون العالم وهذا شأنه محدثًا عن الله تعالى، فإن الذي أفاد الإحداث الدائم أحق بوصف الخلق والإحداث من الذي أفاد الإحداث المُنقطع، وهذا مثل البناء بالنِّسبة إلى البيت، ومعنى هذا أنَّ ابن رشد يجعل «الفعل» الكائن من الله للعالم هو الخلق أو الإحداث الدائم، وإن لم يكن بعد عدم، أي: وإن لم يكن له أول.٧٠ والنتيجة أن يكون العالم «فعلًا» لله تعالى، ويكون حاله مع الله غير حال المصنوعات مع الصانع، هذه المصنوعات التي إذا وجدت لا يقترن بها عدم تحتاج من أجله إلى فاعل يستمر به وجودها.٧١ -
(جـ)
وأخيرًا؛ فيما يتعلق بمبدأ أنَّ الواحد من كل وجه لا يمكن أن يصدر عنه إلَّا واحد، وهي النقطة الأخيرة من النقط التي تركز الخلاف فيها في هذه المُشكلة، نرى الغزالي يُقَرِّر استحالة أن يكون العالم صادرًا عن الله تعالى بناء على هذا الأصل بسبب مشترك بين الفاعل والفعل، وذلك بأنَّ الله واحد من كل وجه، والعالم مُركب من أشياء كثيرة مُختلفة، فلا يتصور إذن أن يكون فعلًا اللهُ بنَّاء على أصل الفلاسفة هذا.٧٢وهنا نجدُ الخلاف يزول تقريبًا بين حجة الإسلام وفيلسوف قرطبة الذي يُقَرِّر أنَّه «إذا سُلِّم هذا الأصل والتُزم فيعسر الجواب عنه، لكنه شيء لم يقله إلا المتأخرة من فلاسفة الإسلام.»٧٣ ومعنى هذا أنَّ ابن رشد لا يرى أن ذلك الأصل صحيح، وإذن فليس ما يمنع من هذه الجهة أن يكون العالم فعلًا صادرًا عن الله باعتباره خالقًا له.حقيقة إنَّ ابن رُشد يذكر أنه لا يعترف بصحة ما اتفق عليه الفلاسفة القدماء من «أنَّ الواحد لا يصدر عنه إلا موجود واحد.» وحينئذ اختلفوا في بيان من أين جاءت الكثرة وتعليلها، ثم يذكر أنَّ المشهور اليوم هو ضد هذا، أي إنَّ الموجود الأول صدر عنه صدورًا أولًا جميع الموجودات المتغايرة.٧٤ وهو لهذا ينتقد بشدة ذلك الرَّأي الذي ذهب إليه ابن سينا ومن أخذ أخذه حتى رتبوا صدور الموجودات عن الله على نحو خاص، فلا يصدر عنه مباشرة إلا العقل الأول، ثم تصدر باقي الموجودات بعضها عن بعض على ما هو معروف حسب نظرية العقول العشرة.٧٥وابنُ رشد بعد نقده لابن سينا الذي أثار الغزالي ضد الفلاسفة بسبب رأيه الخاطئ، لم ينسَ أن يُشير في «تهافت التهافت» إلى كيفية فهم صدور الكثرة عن الله، إنه يرى مستلهمًا أرسطو، أنَّ العالم بجميع أجزائه مُرتبط بعضه ببعض، وأنَّ وجوده تابع لهذا الرباط الذي يؤلف بين أجزائه، وأن هذا الرِّباط هو الذي يُوجب كون هذه الأجزاء «معلولة بعضها عن بعض، وجميعها (معلول) عن المبدأ الأول، وأنَّه ليس يفهم من الفاعل والمفعول والخالق والمخلوق في ذلك الوجود إلا هذا المعنى فقط.»٧٦
وإذا كان الأمر هكذا، يكون من الحق القول بأنَّ العالم بجميع أجزائه المُختلفة فعل لله، وصادر عنه باعتباره خالقًا له؛ لأنه هو الذي أعطاه الرِّباط الذي يُؤلف بين أجزائه ويجعلها وحدة بعضها معلول عن بعض، «ومعطى الرباط هو معطى الوجود» كما يقول فيلسوف الأندلس، وبهذا المعنى نفهم ما أثر عن أرسطو من أن «العالم واحد صدر عن واحد»، وليس على المعنى الذي فهمه الفارابي وابن سينا فاستوجبا نقد الغزالي العنيف.
وهكذا أخيرًا يرى ابن رشد أنَّه قد صح له القول بأن الله هو خالق العالم بإرادته واختياره، وحقيقة لا مجازًا ولا تلبيسًا، وإن كان العالم قديمًا مساوقًا لله تعالى في الوجود، وإن كان أيضًا مختلف الأجزاء.
(٣-٣) العلم الإلهي
رأى الغزالي أن يكون الكلام في هذه المسألة على مراحل ثلاث: مناقشة ابن سينا في أن الله يعلم ذاته وغيره، تعجيز الفلاسفة عن إثبات أنَّ الله يعرف ذاته حسب مذهبهم في كيفية صدور العالم عنه، إبطال قولهم بأنَّ الله لا يعلم الجزئيات.
-
(أ)
يبدأ حجة الإسلام ببيان أنَّ المسلمين، ما عدا الفلاسفة، مجمعون على أنَّ الله يعلمُ كل شيء؛ إذ يرون أنَّ كل الموجودات حادثة بإرادته، وأن كل ما يكون في العالم يحصل بإرادته كذلك، فمن الطبيعي أن يكون الكل معلومًا له؛ لأنَّ المراد لا بدَّ أن يكون معلومًا للمريد.
أمَّا الفلاسفة؛ وقد نفوا الفعل الإرادي لله بما ذهبوا إليه من قدم العالم وصدوره عن الله صدور المعلول عن علته، فلا يمكنهم إثبات العلم لله تعالى.٧٧ وأمَّا ادعاء ابن سينا أنَّ الله عقلٌ محض فمن الضروري والبديهي أن يعقل غيره؛ لأنَّ المادة هي التي تمنع من إدراك الأشياء فليس بديهيًّا، وإلا لما خالفه الفارابي قبله فيه، ثم بعد هذا لا دليل عليه.٧٨وهنا يرد ابن رشد ببيان أنَّ الموجودات يجبُ — كما ظهر بالدليل — أن تنتهي إلى جوهر عريٍّ عن المادة وهو بالفعل دائمًا، أي إلى جوهر هو فعلٌ محض، وأنَّ علة الإدراك هي حقيقة التَّبَرِّي من المَادَّة، وإذن يكون هذا الجوهر وهو الله تعالى عقلًا محضًا، ويكون عقله لذاته معناه عقله كلَّ الموجودات الصادرة عنه.٧٩ على أنَّ الله كما يقول ابن سينا أيضًا قبل ابن رشد، لا يزال فاعلًا وإن كان على نحو أشرف مما في الإنسان، وكل فاعل لا بدَّ ضرورة أن يكون عالمًا بما يفعل.ولكن أبا حامد لا يترك هذا الاستدلال بلا اعتراض، وإنَّ من الحق أن الفاعل لا بد أن يعلم فعله إذا كان هذا منه عن إرادة واختيار، ولكن أنتم معشرَ الفلاسفة ترون، أو يلزمكم أن تروا أنَّ الله فاعل «بطريق اللزوم عن ذاته بالطبع والاضطرار»، كما يكون الضوء والحرارة عن النار، وإذن فلا يكون الله فاعلًا حقًّا، ولا يكون لذلك عالمًا بالموجودات.٨٠ويرد فيلسوف قُرطبة على هذا بنفي قسمة «الفعل» إلى ما يكون بالإرادة والاختيار، أو ما يكون بالطبع والاضطرار فقط، إنه يرى أنَّ هذه القسمة صحيحة في الفاعلين غير الله تعالى، أمَّا الله ففعله عند الفلاسفة لا طبعيٌّ بوجه من الوجوه، ولا إراديٌّ بإطلاق، بل هو إراديٌّ منزَّه عن النقص الموجود في إرادة الإنسان، يُريد أن يقول إنَّ الإرادة في الإنسان هي انفعال ومعلولة عن المراد، والله مُنزه عن أن يكون فيه صفة معلولة.٨١إنَّ الإرادة إذن، إذا تكلمنا عن الله، لا يصح أن يُفهم منها إلا صدور الفعل عنه مقترنًا بالعلم.٨٢ ثم عدم فعل الله الضدين معًا، وهو يعلمُهما جميعًا، دليل على اختياره، أي: على أنَّ له صفة أخرى هي الإرادة.هكذا يردُّ ابن رشد على الغزالي ليصل إلى إثبات العلم لله تعالى بذاته وبغيره، على أنَّ لنا أن نُلاحِظَ أنَّه وهو بسبيل هذا الرد حاول أن يُثبت لله الإرادة والاختيار ليجعل هذا أساسًا للقول بأنَّ الله يعلم ما يوجد عنه بالإرادة والاختيار كذلك، وجعل وهو يستدل على الإرادة «أنَّ الله يعلم الضدين» أمرًا مُسلمًا به مع أنه جانب من المسألة موضوع النزاع!
ومع هذا؛ فقد بقي للغزالي اعتراض آخر، إنه يَرَى أنَّه مع التسليم بأنَّ فعل الله على النحو الذي ذهب إليه الفلاسفة يقتضي العلم بما صدر عنه، فإنَّ لنا أن نقول بأنَّه في رأي الفلاسفة لم يصدر عن الله مباشرة إلا العقل الأول، فيجبُ ألا يعلم شيئًا غيره.٨٣وعلى هذا الاعتراض يردُّ ابن رشد بسهولة ويسر، إنه يرى أنَّ علم الله يسبق المعلوم فهو علة له، وليس كعلم الإنسان الذي هو مُتأخر عن المعلوم ومعلول عنه، وإذن يكون علم الله في غاية التمام والكمال، كما يكون شاملًا لكل ما كان عنه مُباشرة أو بطريق غير مباشر.٨٤ ونحن نرى أنَّ هذا حق وواضح وبخاصة أنَّ كل هذه الكائنات المتوسطة يرجع وجودها لله نفسه. -
(ب)
وفي هذه الثانية نجدُ الخطب يسيرًا حقًّا، إنَّ الغزالي يعود إلى ما سبق له قوله من أنَّ الفلاسفة لا يرون أنَّ الله فاعل بالاختيار بل بالطبع، فأي بُعْدٍ إذن أن يكون الله ذاتًا من شأنها أن يصدر عنها المعلول الأول، وهذا يصدر عنه وهكذا، دون أن تشعر بنفسها، كما لا نشعر بالنار التي تكون عنها الحرارة بذاتها، ولا الشمس بما يصدر عنها من حرارة وضياء!
وهنا كما كرر الغزالي ما سبق أن اعترض به، لم يجد ابن رشد إلا أن يُعيد ما سبق له أن قرره، أي: من بيان أنَّ فعل الله هو على نحو آخر غير الطبع، وغير ما نعرف من الإرادة في الإنسان، وإذن لا معنى أن نُطيل نحن القول في ذلك.
-
(جـ)
وأخيرًا، وهذه هي المرحلة الثالثة يُقرر الغزالي أنه حتى ما ذهب إليه ابن سينا من أنَّ الله يعلم ذاته وغيره أيضًا ولكن بنوع كلي، فيه استئصال للشرائع بالكلية، فإنَّ هذا يئول إلى أنَّه تعالى يعلم الأسباب التي تكون عنها أشياء هذا العالم وأحواله، ولكنَّه لا يعلم الأُمور الجزئية مثل طاعة هذا الإنسان أو عصيانه وإيمانه أو كفره.٨٥
ولم ينسَ الغزالي أن يُبين بوضوح السبب الذي من أجله ذهب ابن سينا وأمثاله إلى هذا الرأي، إنَّهم يرون كما يذكُر حجة الإسلام أنَّ اختلاف العلم يُوجِبُ التغير في العالم، وهذا ما لا يصح في حق الله.
ولنضرب لهذا مثلًا، إذا كُنَّا لا نكتفي فيما يتعلق بكسوف الشمس أن نعتقد أنَّ الله يعلمه على نحو كلي؛ إذ يعلم بوجود الشمس والقمر وأنهما يتحركان، وبأنه لأسباب معروفة يحصل حتمًا أنْ يتوسط جرم القمر بين الشمس والأرض؛ فيكون من هذا كسوف الشمس كليًّا أو جزئيًّا مدة كذا من الزمن، إلا أن علمه بهذا كله قبل الكسوف وفي أثنائه وبعد زواله، يكون هو هو لا يختلف ولا يُوجب تغيرًا في ذاته؛ لأنَّه علم بالأسباب فقط لا بالأحوال التي تحدث وتتجدد من آن إلى آخر.
نقول: إذا كُنَّا لا نكتفي بعلم الله على هذا النَّحو، بل نذهب إلى أنه تعالى يعلم قبل كسوف الشمس فعلًا أنَّها ستنكسف يوم كذا، ويعلم في هذا اليوم أنَّه حاصلٌ فعلًا، ويعلم بعده أنَّه قد كان ومضى، فقد أثبتنا لله علمًا مُتجددًا مُختلفًا، وينتج من ذلك اختلاف في ذات الله نفسه وتغيُّر فيها؛ إذ لا معنى للتغير إلا اختلاف العلم، وهذا ما لا يَصِحُّ أن ينسب إلى الله تعالى.٨٦ويأخذ الغزالي بعد هذا البيان في الاعتراض على الفلاسفة فيما ذهبوا إليه فيقول: «بم تنكرون على من يقول إن الله تعالى له عِلْم واحد، بوجود الكسوف مثلًا في وقت معين، وذلك العلم قبل وجوده علْم بأنه سيكون، وهو بعينه عند الوجود علم بالكون، وهو بعينه بعد الانجلاء علم بالانقضاء، وإن هذه الاختلافات ترجع إلى إضافات له لا توجب تبدُّلًا في ذات العلم، فلا توجب تغيرًا في ذات العالِم …»٨٧ثم يذكُر صَاحب «تهافت التهافت» أيضًا بعد هذا، أنَّه ما دام الفلاسفة يرون أنَّ الله يعلم أجناس الموجودات وأنواعها كلها — وإن كان هذا على نحو كلي كما يقولون — ولا يوجب هذا اختلافًا في علمه ولا تغيرًا في ذاته، فلم لا يجوز أن يعلم الله أيضًا الحالات والأُمور الجزئية للشيء الواحد دون أن يجرَّ هذا إلى ما يخشون من التعدد في العلم والتغير في الذات، وخاصَّة أنَّه ثبت بالبُرهان أنَّ اختلاف الشيء الواحد باختلاف الأزمان أدنى من اختلاف الأجناس والأنواع!
وهذا الاعتراض القوي من الغزالي الذي من اليسير تعزيزه بكثير من آيات القُرآن، قد استوجب مجهودًا غير قليل من ابن رشد في سبيل إبطاله ودفعه، إنَّه يُوجب أولًا أن نفرق بين علم الله بالكليات بما هو عقل، وبين علم الإنسان بالأمور الجزئية بالحواس، هذا من ناحية، وأن نُفرق من ناحية أُخرى بين علم الله الذي هو سبب وجود الموجودات، وبين علم الإنسان الذي هو مسبب عن وجود الموجودات، أي: معلول عن المعلول نفسه، فهذه التفرقة هي التي تنجينا من الخطأ الكبير والجدل الكثير.
ومتى فهمنا هذه التفرقة بناحيتيها، لم يكن لنا أنْ نَقِيس عِلم الله على علمنا، ولا يكون من المستطاع إلزامُ الفلاسفة إجازَة علم الله بالأشخاص وأحوالها العديدة، ما داموا قد أجازوا علمه تعالى بالأجناس والأنواع العديدة، وذلك بأنَّ العلم بالجزئيات يكون بالحس، ويوجب — مع تعدد العلم — تغيُّر الإدراك بتغير الحالة المدرَكة! على أنَّ العلم بالكليات (الأجناس والأنواع) لا يُوجب التغير في العالم، لعلمه إياها بسبب عِلْمِهِ بأسبابها العامة والثابتة التي لا تتغير.٨٨ونحنُ نكادُ نفهم من هذا أنَّ فيلسوف قُرطبة يمس برفق مسألة حُرِّية الإنسان في أعماله، إنه وإن كان من أنصار حرية الإنسان فيما يعمل، حتى يكون مسئولًا عَمَّا يَصْدُر عنه، يرى أنَّ العمل الذي يكون عن المرء هو نتيجة أو مُسبب عن إرادته التي يجبُ أن تكون مُتفقة آخرَ الأمر مع القدَر الإلهي الثابت أزلًا.
ومهما يكن من شيء؛ فإنَّ ابن رشد يقرُّ بأنَّ الغزالي مصيب فيما لاحظه من أن التعدد في الأجناس والأنواع يُوجب التعدد في العلم، وهذا ما يحذره ابن سينا وأمثاله؛ ولهذا ينتهي إلى تقرير «أن المحققين من الفلاسفة لا يصفون علم الله سبحانه بالموجودات لا بكلي ولا بجزئي» إلا أن هذا من علم الراسخين في العلم، ولا يجب أن يكتب ولا أن يكلَّف الناس اعتقادَه.٨٩
وأخيرًا هاتان الفكرتان: كونُ علم الله هو سبب وجود الموجودات وعلم الإنسان معلول عنها، وأنَّ علم الله لا يصح وصفه بأنه كلي أو جزئي، نجد ابن رشد يتناولهما بالإيضاح في مواضع عدة من تهافته؛ ولهذا نراه يُؤكد أنَّ العلم الذي ينفيه الفلاسفة عن الله، هو ما يكون تعلم الإنسان ناتجًا عن المعلوم لا علةً له، وبعد هذا لا يرون مانعًا من القول بأنَّه تعالى يعلم كل شيء حتى الأمور الجزئية من جهة أنَّه علة لها، كما جاء في قوله تعالى في سورة الملك: أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
وهكذا ينتهي فيلسوف الأندلس من مسألة العلم الإلهي ببيان أنَّ الفلاسفة يرون خلافًا لما ذكر الغزالي، أنَّ الله عالم بكل شيء، ولكن على نحو خاص يُغاير علم الإنسان، أي: على نحو أشرف ما دام أن علمه تعالى هو سبب وجود الأشياء، لا أنَّه معلول عنها كما هو الحال في علم الإنسان القاصر المحدود.
(٣-٤) مشكلة السببية
على أنَّا لا ندري كيف جاز لفيلسوفنا أن يذكر أنَّ «الفلاسفة القدماء»، ويُريد بهم كما نعرف فلاسفة اليونان، لم يتعرضوا للمعجزات؛ للسبب الذي تقدم به! إنه لم يكن عندهم نبوات إلهية، ولا شرائع سماوية تحتاج للمعجزات في إثباتها، فكيف رأوا مع هذا ألا يتكلموا في المعجزات والمسألة لم توضع بالنسبة إليهم! ثم من الممكن أن نقول معه إنَّ بعض المعجزات كالقرآن أمرٌ ممكن في نفسه ممتنع على غير النبي، ولكن البعض الآخر كإحياء الموتى وانقلاب العصا حية، لا يَصِحُّ أن يُقال فيه في رأينا إنه ممكن في نفسه!
على أن فيلسوفنا يذكرُ بعد ذلك بحق أنَّه ليس لا للمُتكلمين ولا للفلاسفة دليل من العقل على ما ذهبوا إليه، وأنَّه يجبُ أن يعتقد كل إنسان ما يُفتيه به قلبه، وذلك كما أمر الرسول ﷺ في المشكلات من الأمور التي ترجع إلى ما هو حلال أو حرام.
(٣-٥) البعث والحياة الأخرى
- (أ) إنَّ الغزالي لا يُخالف الفلاسفة في أنَّ الروح لا تفنى بفناء البدن، ولها في الحياة الأُخرى لذائذ أو آلام روحانية وعقلية تفوق كثيرًا اللذائذ والآلام الحِسِّية، ولكنه يرى أولًا معرفة هذا من الشرع لعجز العقل وحدَه عن معرفته، كما يرى ثانيًا أنَّ إنكار الجزاء الجسدي لا يتفق بحالٍ مع الشرع، كما تدلُّ عليه آيات كثيرة من القرآن، وهذه الآيات لا يُمكن تأويلها كلها من ناحية، وليس يجب هذا التأويل من ناحية أُخرى كما وجب تأويل الآيات التي توهم الجسمية والتشبيه لله تعالى.١٠٣أمَّا ما يعترض به الفلاسفة على تجويز البعث الجسدي بأنَّه من المُحال أن تعود روح كل امرئ إلى بدنه الذي كان له في الحياة الأولى، هذا البدن الذي تحلل إلى عناصر مختلفة، ربما صار بعضها جزءًا من بدن إنسان آخر؛ فيكون مُتعذرًا أن يُعاد بدن كلٍّ منهما كاملًا، فإن الغزالي يجيبُ عنه بأنَّ روح المرء تُعاد إلى بدن أي بدن كان، سواء أكان مواد بدنه الأول أم غيرها، أم مواد استؤنف خلقها، فإنَّ الإنسان بنفسه لا بجسمه.١٠٤
وهذا ما نؤمن به نحن، ويتضح هذا إذا لاحظنا أنَّ الواحد منا هو هو مع أن جسمه يتغيرُ دائمًا بسبب تبدُّل الغذاء وبالسمنة والهزال مثلًا، وإذن يكون الغزالي على حق في قوله بأنَّ البعث الجسدي ليس محالًا من تلك الجهة، ويكون في القول به تصديق للقرآن الذي ورد كثير من آياته بالجزاء الروحي والجسمي معًا بوضوح لا يحتمل التأويل.
- (ب)
والآن ماذا سيفعل ابن رشد وقد رأينا خصمه فوق اعتماده على النَّظر العقلي يجد له من القرآن سندًا أيَّ سند في إثبات البعث الجسدي؟
إنَّه يبدأ بالقول بأنَّ الفلاسفة لا يرون إنكار البعث والجزاء الجسديين، ويُؤَكِّد كما ذكرنا من قبل أنَّ الشرائع كلها قالت بذلك، وإذا كانت الشرائع جميعها، من شريعة بني إسرائيل إلى شريعة الإسلام، قالت به وجعلته من المبادئ الأولى العامة التي تقوم عليها، لما ينبغي عليه من الدفع إلى طيبات الأعمال؛ فإنَّ من المعروف أنَّ الفلاسفة لا يرون التعرض بقول مُثبِت أو مُبطل للمبادئ العامة للشرائع.١٠٥على أنَّه بالنِّسبة إلى البعث خاصَّة، فقد اتفقت الشرائع جميعًا — كما يذكر ابن رشد أيضًا — على وجود أُخروي بعد الموت وإن اختلفت في صفة ذلك الوجود١٠٦ فمنها من جعله روحانيًّا فقط، ومنها من جعله جسمانيًّا أيضًا بالأمثال التي ضربتها له، على أنَّ تمثيل الجزاء جسمانيًّا، كما جاء بالشريعة الإسلامية، أدفع للعمل والفضيلة بالنسبة للجمهور، وهذا ما سبق تفصيله في الفصل الثالث من هذا القسم.وإذا كان الأمرُ كذلك فمن الضروري كما يقولُ فيلسوفنا أنْ يُقال إن الأرواح ستُعاد في الدار الأُخرى إلى أجسام مثل أجسامها التي كانت لها في الدار الدنيا، لا لهذه الأجسام نفسها التي عدمت بالموت؛ لأنَّ المعدَم يستحيل إعادته بعينه، وهُنا نجد ضروريًّا أنْ نُشير إلى ما سبق أن بيَّنَّاه في هذه المشكلة من أن فيلسوفنا يرى أنَّ المعاد سيكون روحانيًّا فقط.
- (١)
المعاد الروحاني لا الجسدي، مع أنَّهم لم يُنكروا المعاد الجسماني، ومع أنَّ مُنكره لا يُكفر لأنه غير مجمع عليه بدليل تردد الغزالي نفسه فيه.
- (٢)
علم الله بالكليات دون الجزئيات، وقد تبين أنهم لا يرون ما فهم الغزالي، بل يرون القول بعلم الله الشامل لكل شيء على نحو خاص.
- (٣)
قِدَم العالم، وقد وضح أنهم لا يعُنون المعنى الذي كفَّرهم من أجله المتكلمون.
ثم يختم أخيرًا الحديث ببيان أنَّ الغزالي قد «أخطأ على الشريعة، كما أخطأ على الحكمة.» وبالاعتذار عن التكلم في هذه الأشياء، بأنه إنما اضطُرَّ لذلك لضرورة طلب الحق مع أهله، وهو واحد من ألف، والتصدي لمن يتكلم فيه ممن ليس من أهله، ولولا هذا وذاك ما تكلم فيه بحرف.