تخريج الرجل العربي العصري

وجهت إلى مجلة الآداب البيروتية سؤالًا عن الكتب التي تأثرتُ بها في حياتي، وكانت لها قوة التوجيه، وماذا أختار منها كي يترجم إلى لغتنا العربية؟

وهذا السؤال وأشباهه برهان على القلق الذي يكاد يبلغ السخط بشأن حالتنا الثقافية، ولكنهما قلق وسخط يدلَّان على الصحة والرغبة والقوة.

وكما ترغب الأمة في القوة العسكرية، وفي الأخلاق الإيجابية، وفي صحة الأجسام، وفي زيادة الإنتاج الزراعي والصناعي، كذلك هي ترغب في القوة الثقافية التي تدرب بها ذكاء أبنائها وتوجههم بها نحو المستقبل.

وقد أرسلت إجابتي إلى مجلة الآداب، ولكني عدت بالتأمل، ثم التفكير، في الثقافة الشائعة في مصر والأمم العربية من حيث قدرتُها على تخريج الرجل العصري الذي يستطيع المواجهة للمشكلات القائمة ويحيا الحياة السوية، بل الحياة العبقرية، إن استطاع.

•••

وكما يختلف الجندي العصري عن الجندي القديم، من حيث سلاحه وعتاده ومرانته، كذلك يختلف رجل الثقافة العصرية عن رجل الثقافة القديمة من حيث دراستها ووجهته وهدفه، والجندي القديم، والجندي العصري، سواء في الشجاعة، ولكن الفرق العظيم بينهما هو تغير الظروف في حوافز القتال من ناحية وفي أدوات القتال من ناحية أخرى.

وكذلك الشأن بين رجل الثقافة العصرية ورجل الثقافة القديمة، فهما سوء في الذكاء والفهم، ولكن حوافز الثقافة في عصرنا تختلف أكبر الاختلاف من حوافز الثقافة قبل ألف أو ألفي سنة، فإن قدماءنا كانوا ينبعثون — في الأغلب — للدفاع عن العقائد والنظم الإقطاعية، وكان إحساسهم طبقيًّا؛ إذ كانوا يعيشون لخدمة الأمراء والملوك والزعماء، فكان أدبهم لا يخرج عن المعاني التي تلابس هؤلاء الحاكمين أو تخدمهم أما الشعب فلم يكن مذكورًا.

وأكثر من هذا خطرًا أن مجتمعهم، أي مجتمع هذه الطبقة الحاكمة، كان مجتمع الرجال فقط، ثم كان الرجل المثقف لا يكاد يحس أن هناك شعبًا مؤلَّفًا من الفلاحين والصناع، بل حتى التجار لم يكونوا مذكورين إلا في الأقل النادر، أما المرأة فلا تكاد تُذْكَرُ في الأدب العربي إلا فلتة أو سهوًا.

ومن هنا غرابة الأدب العربي القديم، بل الثقافة العربية القديمة جميعها للمثقف العصري؛ فإنها غريبة عن أذواقنا، أجنبية الأسلوب والهدف أمام أرواحنا.

وقبل أكثر من عشرة سنوات احتفل بعض أدبائنا من غير المفكرين بمرور ألف سنة على المتنبي، ولم أشترك في هذا الاحتفال لأني أحسست أن المتنبي لا يختلف عن شوقي، من حيث أن كليهما قد أرصد حياته لإطراء أميره، بل لعله أفسده بذلك، فكان المتنبي يكذب على سيف الدولة ويرفعه إلى السماء. أما الشعب، الناس، العامة، الكادحون، الذين كانوا يستحمون في عرقهم، فهؤلاء كانوا مجهولين لديهما.

واعتقادي أن الذين احتفلوا بالمتبني إنما انبعثوا إلى هذا الاحتفال بالإحساسات السقيمة التي أحسُّوها وهم يعيشون في ظل فؤاد وفاروق، ولو أن ميعاد هذا الاحتفال كان قد وقع بعد الثورة، بعد ٢٣ يولية من ١٩٥٢، لما أحس أحد أية كرامة أو شهامة في مدح المتنبي أو الاحتفال بذكره.

•••

من هو الرجل العصري؟

هو رجل جديد، لا يرجع تاريخه إلى أكثر من خمس مئة سنة حين شرع الأوروبيون يعتمدون على المعارف العلمية بدلًا من العقائد الموروثة.

أما كيف تسللت المعرفة والتجربة، فأخذتا مكان العقيدة والتسليم، فموضوع كثير التفاصيل، وسوف يعرفه القراء العرب حين تشرع الشعوب العربية في الأخذ بأسباب القوة العلمية.

وحسبي أن أذكر أن أمامي الآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، صورة عجيبة رسمها رجل فرنسي يدعي «بيلون» في كتابه الذي ألفه في ١٥٥٥، أي قبل ٤٠٠ سنة، بعنوان «التاريخ الطبيعي للطيور».

والصورة هي رسمان متقابلان لكل من الهيكل العظمي للإنسان وللطائر، وهو يشير إلى العظام المتقابلة عظمة فعظمة.

لقد عرف الأوروبيون هذا الرسم منذ ٤٠٠ سنة، ولم نعرفه نحن إلى الآن، وهو محاولة واحدة من آلاف المحاولات لوضع المعرفة مكان العقيدة، ولتخريج الرجل العصري العلمي.

وإذن الرجل العصري — كما أفهمه — هو الذي يعرف ويجرب ولا يعتقد ويسلم، هو الرجل الناضج الذي يزن نفسه، والدنيا، والكون، بالأوزان والقيم التي تمليها عليه العلوم.

هذه هي السمة الأولى للرجل العصري؛ إذ هو العارف المجرب، الذي يدأب في زيادة معارفه وتجاربه.

والحضارة العصرية هي حضارة الصناعة، أي حضارة العلم الذي يعتمد على المعارف المحققة المجربة.

أما السمة الثانية للرجل العصري فهي أنه ليس قرويًّا؛ لأنه قد تعوَّد قراءة الصحف كما تعوَّد غسل وجهه في الصباح، وقد غيرته هذه الصحف؛ لأنها جعلته عالمي النزعة ديمقراطي التفكير، فهو لا يعيش بعقله أو نفسه في القرية؛ إذ هو يصطدم كل صباح بما يجعله يحس أنه مع الهنود، يسمع كلمات الرجولة من نهرو، أو كلمات القداسة من غاندي، وهو يرتعش خوفًا من الممكنات التدميرية في القنبلة الذرية ويتلهف لذلك على وسائل السلم، وهو يحس أنه يدين بدين الحب مثل ابن عربي، حين يقرأ عن أولئك الذين يبصقون على وجوه الزنوج في أفريقيا الجنوبية، ولكنه أيضًا متقائل بالمستقبل لأنه إنساني، ولا يطيق أن يسلم بأن الشر سيتغلب على الخير، وهو لذلك أيضًا اشتراكي النزعة في السياسة.

والسمة الثالثة في الرجل العصري أنه متطور، وهو يكاد يعتقد — ضد مزاجه العلمي — أن التطور ارتقاء.

وهذا شيء جديد في العالم نختلف فيه عن القدماء؛ إذ إننا نسأل في عصرنا عن أحد الناس: هل هو متطور؟ هل هو ارتقائي الذهن، يوقن بأنه ليس على الأرض، بل ليس في هذا الكون مادة أو نبات أو حيوان إلا وهي تتطور كل يوم بل كل لحظة؟

هذا الإيمان بالتطور هو الإيمان بالارتقاء وبالتفاؤل، وبأن الدنيا سوف تكون بعد عشر سنوات، أو مئة سنة، قريتنا الكبرى، حين نؤمن بأننا جميعًا إخوة متضامنون، ليس فينا من يسأل قابيل: هل أنا حارس لأخي؟

والسمة الرابعة للرجل العصري أنه على الرغم من حبسه للطبيعة وإحساسه بأن كنوزها من نبات وحيوان يجب أن تصان، هذا الرجل العصري يعيش في وسط صناعي يستخدم فيه الحديد والنار وسائر القوة المادية للإنتاج الوفير الذي يلغي الفقير ويعمم الرفاهية.

هذه هي السمات الأربع للرجل العصري، وهي تميزه من غيره كما يتميز أي إنسان من غيره بأنف كبير أو عينين سوداوين أو قامة عالية أو ذكاء أو شجاعة.

•••

فهل المكتبة العربية — بما أصدرت من مؤلَّفات في النصف الأول من هذا القرن — قد استطاعت تخريج الرجل العصري؟

الجواب هو قطعًا «لا».

والتبعة تقع على أولئك الغافلين الذين يذكرون المتنبي ولا يذكرون داروين، ويؤلِّفون عن معاوية أو الرشيد وينسون العبرة في حياة بيكون الأول أو بيكون الثاني.

ويجهلون أن الأدب حياة وكفاح، وأسلوب للعيش، وتطور وثورة، ويجهلون إلى جانب هذا طبيعة الحضارة العصرية، حضارة العلم والصناعة؛ ولذلك لا يكادون يلتفتون إلى المشكلات البشرية والاجتماعية، وكثيرًا ما أقع مع هؤلاء في نقاش فيفحمني جهلهم؛ لأني أجد أنهم يتحدثون عن المرأة مثلًا كما يتحدث طفل عن حصانه الخشبي، كأنها لعبته الخاصة التي يعين لها الأكل والشرب والنوم والحياة والسلوك، وليست إنسانًا لها حق تقرير المصير لنفسها.

ولكن التبعة تقع أكثر على الاستعمار والاستبداد اللَّذَيْنِ تحالفا على أن يمنعا نهوض الصناعة، ولو أن المصانع كانت قد تفشَّت في بلادنا لتغيرت جميع مشكلاتنا، وكان يكون تغيُّرها إلى أعلى، فكان الأدب ينحاز إلى الشعب، وينطق بلهجته في بلاغة شعبية، وكانت المرأة تجد الكرامة الاقتصادية التي تلقي الرعب في قلوب أولئك الذين يريدونها أنثى فقط، وكان الزعماء يحسون الديمقراطية ولا يتصنعونها، وكان العامل يحس كرامة الإنتاج، فلا يجرؤ سياسي على أن يشتري صوته أو يضربه للحصول عليه.

لا، لسنا نحن العرب شعوبًا عصرية. لا، إن المستعمرين والمستبدين منعونا من حضارة الصناعة، ومنعونا بالتالي من ثقافة العلم التي تعتمد على المعارف والتجارب، ثم انساق مع المستعمرين والمستبدين «أدباء» قرويون في مزاجهم، فلاحون في عقائدهم، يؤلِّفون القصائد في مدح الملك فؤاد أو فاروق، أو يكتبون لنا عن الرشيد أو المأمون، بل إن واحدًا من هؤلاء المؤلفين ارتضى لقلمه الدفاع عن تعطيل الدستور ثلاث سنوات تقبل التجديد إلى مئة سنة، ثم بعد ذلك صار يخرج لنا الكتاب تلو الآخر عن رجال الحق والعدل الذين عاشوا قبل ١٣٠٠ سنة مثل معاوية وعثمان وأبي بكر، وكأنه نفى عن نفسه وجدان عصره، وفصل بينه وبينه بأكثر من ألف سنة.

إن هؤلاء الجهلة يفحمونني بجهلهم لأنهم يعيشون قابعين من حيث الحياة الفكرية في زقاق بالٍ مظلم رطب، وهم لم يجرءوا قَطُّ على أن يرافقوا كولمبوس إلى مجاهل الموت والحياة، ولم يتذوقوا تلك المعارف الخطرة التي تجعل الفكر يتقزَّز ويتأمل ويقتحم، ولم يحسوا طربًا عندما سمعوا عن سمكة السيلا كانت أو إنسان النيندرتال، ولم يأرقوا ليلة لعجزهم عن التوفيق بين تنازُع البقاء وبين ما يستلهمون من الرحمة والشرف في الطبيعة.

وأنا ذاكر لك أيها القارئ هنا مشكلةً قد شغلت رأسي منذ عشرات السنين، ثم زاد اشتغالي بها في السنوات الثلاث الأخيرة، وأنا واثق أنك لم تسمع بها إلا مني، إذا كنت قد تعودت قراءة مؤلفاتي أو لم تسمع بها بتاتًا، وهذه المشكلة هي:

هل النبات والحيوان والإنسان مقيدون بالوراثة لا يخرجون عن الممكنات التي تولد معهم في جهازهم التناسلي، أم هم أحرار يتميزون بقوة ما يتعلمون، ويتأثرون بالوسط الطبيعي والاجتماعي واللغوي والحرفي؟

هو خلاف فلسفي لم تسمع عنه؛ لأن الثقافة العامة في مصر قروية قد حبست نفسها في سياج من التقاليد؛ ولذلك لا تنفسح إلى الآفاق العصرية ولا تشتبك في المشكلات الإنسانية.

فهناك رأي يقول: الحي لا يتغير بالوسط إذ هو مقيد بالوراثة.

وأذكر عندما تتأمل هذه المشكلة أو تقرأ تفاصيلها أثر كل منها في معاملة البيض للسود، وفي معاني الارتقاء البشري، وفي معاني التربية وأساليبها، وفي مستقبل الإنسان، ومرامي كل ذلك في السياسة والاجتماع واختراع السلالات الجديدة من الحيوان والنبات.

مشكلة عصرية للرجل العصري، لم نسمع بها لأننا غير عصريين، ولأن المكتبة العربية لم تُهَيِّئْنَا لدرسها وفهمها.

•••

نحن في قروية أدبية وثقافية عجيبة حتى بتنا كأننا منفصلون عن العالم.

وجائزة نوبل تُهْدَى إلى العشرات من أبناء الأمم في آسيا وأوروبا ولكنها لا تُهْدَى إلى مصري أو عربي واحد.

إنها تُهْدَى عن الأدب والكيمياء والطبيعيات والميكانيكات والجغرافيا والتاريخ وحركة السلم، ولكنها لم تُصِبْ عربيًّا في هذه السبعين أو الثمانين من ملايين البشر الذين يعيشون في مصر وغير مصر؛ لأن الثقافة العامة والأدب السائد فيها، كلاهما يعيش صغيرًا، كأنه حديث القرية في غير هدف بشري أو نزعة عالمية، كما أنه يستلهم الأدب الشرقي القديم كي يعالج به الوسط العصري الجديد؛ وهو لذلك متناقض لا يستطيع التفوق، وهنا بالطبع لا أنسى الاستعمار والاستبداد وإصرارهما على منعنا من الصناعة.

وأقول — مرورًا — إن المصانع هي التي أوجدت العلوم، وهي التي تحفز على الاختراع والاكتشاف، وليس العكس.

وكذلك أقول إن الحرية والديمقراطية والشخصية واستقلال المرأة هي جميعها نتيجة المصانع، ولا يمكن وسطًا زراعيًّا أن ينتج هذه النتائج.

ولكن استيعاب هذا البحث يخرج عن موضوعي هنا.

•••

والآن، وبعد أن انتهينا من أن المكتبة المصرية أو العربية لا يمكنها أن تخرج الرجل العصري، علينا أن نتقدم بالمقترحات.

وأول ذلك أن تتغير — أو بالأحرى تتطور — حياتنا من الإنتاج الزراعي إلى الإنتاج الصناعي.

إن مصر تحتاج إلى ألف مصنع كل منها يحوي الآلاف من العمال.

ولكن إلى أن نصل إلى هذه الحال، وإلى أن نتغلب على الاستعمار وعلى التاريخ وعلى التقاليد وعلى العادات، نحتاج إلى الاعتماد على الوسائل الثقافية التي تحرك الأذهان إلى الأخذ بالروح المصري.

وعندي أن أسرع الوسائل إلى ذلك أن نترجم الموسوعة البريطانية (وهي ٢٩ أو ٣٠ مجلدًا). واعتقادي أن نقلها إلى اللغة العربية جدير بأن يُحْدِثَ نهضة تشبه الثورة، وتزودنا بهموم واهتمامات جديدة ترفع بلادنا، وتملأ قلوب شبابنا بالطموح والشهامة، كما تذكي عقولَنا في معاني الحضارة والقوة، وتحرك عواطفنا نحو الرقي.

وترجمة هذه الموسوعة هي خير ألف مرة من إنشاء هذه المجاميع التي يقال إنها لغوية أو علمية، والتي تنفق عليها الدول العربية مئات الألوف من الجنيهات.

ترجِموا لنا هذه الموسوعة، فهي السلاح والعتاد للثقافة العصرية، وهي التي يمكن أن تخرج الرجل العصري؛ لأن المعارف الجديدة التي تحويها عن تسلط الإنسان على المادة، وشروحها المسهبة لوسائل الإنتاج، وفكرة التطور التي تلهم صفحاتها، وآماد التاريخ البشري التي تبسطها قبل أن يكون الإنسان إنسانًا إلى أن عرف كيف يخلق المادة، وحلقات الاكتشاف والاختراع التي تتبعها، من الفأس إلى الطائرة فالذرة، كل هذا جدير بأن يحفز القارئ العربي إلى الاجتراء على المستقبل والدخول فيه، وهو ما لم يفعله إلى الآن؛ إذ هو لا يزال قابعًا في الماضي، لا يأكل الجديد ويمثله، ولكنه يجتر القديم ويقيئه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤