الثقافة العربية الحديثة

لا يكاد القارئ يحتاج إلى هذا الفصل؛ فإنه يجد الكتب العربية الحديثة معروضة في المكتبات، وأحيانًا تعلن عنها إعلانات زاعقة في الجرائد والمجلات، ولكنه لنفس هذه الأسباب يحتاج إلى بعض الإرشادات.

فإن الجمهور القارئ في مصر ينقسم قسمين، أحدهما مؤلف من أولئك الذين تعلَّموا وأتقنوا (والإتقان هنا يستحق التأكيد) لغة أوروبية، وهؤلاء قلَّما يقرءون كتابًا عربيًّا حديثًا لأنهم يرتعون في مرعى خصيب من الآداب الأوروبية الراقية يصلون عن سبيلها إلى جميع ألوان الثقافة التي يرغبون فيها، وقل أن نجد واحدًا من هؤلاء يحمل كتابًا من هؤلاء يحمل كتابًا عربيًّا أو يتحدث عن أديب عصري؛ لأن وطنه الأدبي هو الوطن الفرنسي أو الإنجليزي أو الألماني.

وهذه حال نأسَف عليها نحن المؤلفين في مصر، ولكنَّا لا نستطيع أن نستصغر شأن هذا الجمهور، ويجب أن نعترف أنه هو الجمهور الراقي الذي يشرب من رحيق لا يستطيع سائر القراء العرب أن يعرفوا كيمياءه، بل حتى حين نكون لهؤلاء القدرة على تذوق هذا الرحيق، فإنهم لا يجدون في المناخ الأدبي العربي الذي يعيشون فيه ما يعين أدبهم على الاختمار.

والقسم الثاني مؤلَّف من أولئك الذين لم يتعلموا اللغة الأجنبية، أو تعلَّمُوها ولم يتقنوها؛ فلذلك لا يقرءون المؤلفات الإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية، وهؤلاء هم جمهور القراء في مصر والأقطار العربية، ومستوى هذا الجمهور مع الأسف ليس عاليًا، وقدرته الشرائية ليست كبيرة؛ ولذلك فإن المؤلفين الذين أرصدوا أقلامهم لتنويره لا يجدون التشجيع الكافي منه، وقد عاش العالم العربي في طاعة إمبراطوريات استعمارية في الخمسين أو الستين من السنين الأخيرة منعت تعليمه، أو أقامت العقبات للحد من هذا التعليم، فصار الجمهور القارئ الذي يشتهي الثقافة العالية صغيرًا لا تستطيع الكتب العلمية أو الاجتماعية أو الأدبية الراقية أن تجد عنده الرواج الكافي للإنتاج الخصب الوفير.

وإذا تركنا الإمبراطوريات جانبًا وجدنا عقبة أخرى، هي هذا النزاع المضمر أو الصريح بين الثقافة العصرية والثقافة العربية القديمة، وليس شك في أن قيام الجامعة المصرية في ناحية والجامعة الأزهرية في ناحية أخرى في القاهرة هو رمز إلى هذا الصراع المضني، ففي كل من هاتين الجامعتين نحو ٤٠ ألف طالب، يتفرقون في أنحاء البلاد بعد تخرُّجهم، ويقسمون الرأي العام في مصر قسمين سواء في السياسة أم الاجتماع أم الاقتصاد أم الغيبيات، وليس بين الفريقين تجانس في الثقافة، فالأمة المصرية مع هذا الاختلاف تشبه الشخصية المنشقة التي نعرفها في السيكلوجية الحديثة، وهذا الانشقاق نراه واضحًا في بعض كتابنا، فهم إما متأثرون ﺑ «مركب العرب» وإما ﺑ «مركب أوروبا»، وأحيانًا نجد التعصب لأحد المركبين قويًّا كأننا في حرب أهلية، ولهذا كله آثار سيئة، بل غاية في السوء في الرأي العام.

وبدهي أننا نعيش للعالم وليس للعرب، وأننا يجب أن نتصل بالعقل العام على هذه الكرة الأرضية، ورابطتنا بالبشر كلية، ورابطتنا بالعرب جزئية، فإذا كان يجب علينا أن نعرف تاريخ العرب وثقافتها، فأولى من هذا مئة مرة أن نعرف تاريخ العالم وثقافته، ولن نكون أمة متمدِّنة عصرية ما لم نتوسع في ثقافتنا ونقيس مجتمعنا وخططنا الاقتصادية بالمقاييس العالمية.

وبعد هذه المقدمة الصغيرة نقول إن القارئ الذي يرغب في ترقية ذهنه بالكتب العصرية، يجب أن يمتحن نفسه ويقيس مقدار الانتفاع والارتفاع مما يقرأ، فيجب أن يسأل نفسه:
  • ما هو التوجيه الذي يوجهني إليه هذا الكاتب ثقافيًّا وروحيًّا واجتماعيًّا؟

  • هل هذا الكاتب الذي قرأت له جملة مؤلفاته قد خدمني في تطوُّري؟ فأنا شخص آخر غير ما كنت قبل أن أعرفه؟

  • هل هذا الكاتب يرشد الجمهور ويقوده، أم ينقاد به ويتملقه، حتى تروج مؤلفاته بينه؟ هل هو يسلي الجمهور أم ينفعه؟ هل هو ناضج الذهن، راشد النفس، قادر على النظر الواسع للأمداد العالمية، أم هو صبياني النزعات تافه الأفكار؟

كل هذه الأسئلة وأكثر منها يجب أن يسألها القارئ لنفسه من وقت لآخر، وهذا التساؤل ينقله إلى وجدان جديد يحس فيه تبعات خطيرة في تربيته الذاتية.

ويحسن القارئ إذا هو تتبَّع أحد المؤلفين الذي يحبهم فلم يترك له صغيرة أو كبيرة حتى يقرأها أو يدرسها، وهو حين يفعل هذا ينتفع بحياة هذا المؤلف، فكأنه هو — أي القارئ — قد عاشها، لأنه يتتبع تطورها من عقيدة إلى رأي، أو من انفعال إلى وجدان، أو من ضمير مصري عربي إلى ضمير عالمي بشري، والقارئ لا بد واجد واحدًا من المؤلفين يجذبه أكثر من غيره.

فيجعل هذا الواحد بؤرة ثقافته، وليتعرف إلى كل كتبه، بل ليتعرف إلى حياته، فإنَّ أحسن ما نؤلِّف هو حياتنا التي نعيشها، وخير الأساليب التي يجب أن نتبعها مع أي مؤلف ليس أسلوب الكتابة، بل أسلوب العيش، ومع ذلك لا يمكن أن نفصل بين الاثنين، وإذا لم يكن الأدب قد أثمر حياة طيبة للأديب المؤلِّف، فلن يثمر شيئًا طيبًا للقارئ.

•••

وعندنا أدباء نشأوا في أحضان الأحزاب السياسية، فعلموا في الأدب والسياسة معًا، وتعلموا من السياسة ألفاظ الوقاحة والواقعية، والتسلق بالغش والخداع، ونقلوها جميعًا إلى الأدب، فهؤلاء يمكن إهمالهم؛ لأن دراساتهم ملوَّثة، مغرِضة، هدفها الكسب فقط؛ إذ هم لا يؤمنون بالخرافات ولكنهم يُدَافِعُونَ عنها تملُّقًا للعامة، وهم يخدمون الدول الاستعمارية ويؤجِّرون أقلامهم لها، وهم يلوِّثُونَ الجو الأدبي في مصر بكلمات السباب والبذاء التي تعلَّمُوها ومارسوها من الخلافات الحزبية في ميدان السياسة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤