دراسة العلوم

من أعظم الغايات التي نرمي إليها من التثقيف الذاتي أن نفهم العصر الذي نعيش فيه، بل إن دراسة عصرنا يجب أن تكون أولى الدرجات لدراسة أي عصر آخر، وحضارتنا القائمة يجب أن تكون المقياس الذي نقيس به أي حضارة أخرى في العصور الماضية.

والحضارة العصرية، أي حضارة القرن العشرين، بما فيها من فوضى أو نظام، ومن مشكلات قد حل بعضها وبعض منها لا يزال قيد الحل، هذه الحضارة هي في كثير من وجوهها ثمرة العلم.

ولكن ما هو العلم؟ إن مجلة نيتشر التي تتخصص لنشر العلوم ترفض استعمال هذه الكلمة، فنقول إن هناك موضوعات للدراسة مثل علم البيولوجيا أو علم السيكلوجية ولكن ليس هناك علم مطلق؛ لأننا حين نقول علم «البيولوجية» إنما نعني ترتيب المعارف الخاصة بالحياة بدقة وعناية تجمع الصحيح وترفض الخطأ، فقد كانت البيولوجيا تدرس منذ أيام الإغريق، بل قبل ذلك، ولكنها لم تكن علمًا، إنها كانت معارف مجموعة قد اختلط فيها الخطأ بالصواب، ولم تكن لها مقاييس دقيقة جامعة ومانعة، فلما تقدمت هذه المعارف ورتبت بالدقة والعناية صار عندنا منها علم البيولوجيا.

فعند كتاب هذه المجلة أن كلمة «علم» لا تعني سوى الطريقة الدقيقة للدراسة والبحث، أي دراسة وبحث أي موضوع في العالم سواء أكان هذا الموضوع نحو اللغة أو الجيولوجية أو نظام العائلة، فلا يمكن أحدًا منَّا أن يقول إنه يدرس علمًا، وقصاراه أنه يدرس هذه المادة أو تلك بالطريقة العلمية، أي بطريقة الترتيب والدقة اللذين يجمعان الصحيح ويمنعان الخطأ، والمعارف التي تبحث في عصرنا، بالطريقة العلمية كثيرة جدًّا، بل إن منَّا مَنْ يرفض المعارف ما لم تجمع وترتب بهذه الطريقة، والطريقة العلمية هي ثمرة القرون الثلاثة الماضية، وأعظم ما هيَّأ لها وجعلها ممكنة هو الأرقام الهندية التي نقلها العرب إلى أوروبا من الهند، ثم أعظم ما جعلها في خدمة البشر هو التجربة.

وليس شك في أن النظر العلمي الجديد سوف يغير الدنيا، ليس فقط من حيث الإنتاج والتوزيع، بل أيضًا من حيث الأخلاق والاجتماع والدين؛ لأن الأخلاق والاجتماع والدين تتوقف جميعها في كل مكان وزمان على طريقتي الإنتاج والتوزيع، وما نكابده في الوقت الحاضر من مشكلات التعطل والاستعمار، والإمبراطوريات، والاستيلاء على الأسواق والحروب، كل هذا هو ثمرة الإنتاج العظيم الذي أوجدته الآلات الكبيرة؛ أي «ثمرة العلم الميكاني» مع التوزيع القليل الذي لا يزال يتبع الطرق التقليدية غير العلمية.

ويجب على كل من ينشد الثقافة لهذا السبب أن يدرس الطريقة العلمية، كي تتفتح بصيرته لفهم المشكلات العالمية القائمة، وأيضًا كي يستنير ذهنه برؤيا العالم الجديد فلا ييأس من الجهل الفاشي بين الساسة والقادة.

ولكن كيف ندرس العلوم؟

وجوابنا هو أن ندرس تلك العلوم التي تتصل اتصالًا صميمًا بعصرنا الحاضر والتي أوجدت لنا مشكلاته، وكلما كان اتصالها أوثق كانت ضرورة الدراسة أوجب، غاية الدراسة هي الفهم، ولن نستطيع أن نفهم عصرنا إلا إذا عرفنا الجذور التي نبتت منها مشكلاته، ومتى عرفنا هذه الجذور استطعنا أن نهتدي إلى الحلول.

وأكبر المشكلات في عصرنا هي مشكلة التعطُّل الذي يصيب العمال لوفرة الإنتاج، فيجب أن نبحث الأسباب لهذه الوفرة، وهي بالطبع تعود إلى المخترعات الميكانيكية والكيماوية في مدى المئة والخمسين من السنين الأخيرة.

والمصري الذي تعوَّد أن يستمع للقول بأن القطن هو ركن الثروة المصرية، يجب أن يعرف من الكيمياء ما يدرك به قيمة الأقمشة الكيماوية التي تطرد القطن من العالم وتوشك على أن تمحو زراعته، والعالم الآن قد تغير تغيُّرًا كبيرًا، يشبه الانقلاب، بعلمين اثنين هما الميكانيات والكيمياء، ومن الحسن لكل راغب في التثقيف الذاتي أن يتابع هذين العلمين في نموهما الذي يمكن أن يعد نموًّا للحضارة.

وهناك مشكلة أو أكذوبة السلالات البشرية وتفاضلها والتناسل من حيث تحديده وترقيته، وقد أسمعنا هتلر عنهما الشيء الكثير، فيجب أن ندرس الانثربولوجية واليوجنية.

وهذا العلم الثاني نحتاج إليه في مصر كثيرًا، حتى تسن القوانين التي تمنع غير الأكفاء، للأبوة والأمومة الحسنة من التناسل.

ثم هناك العلوم التي ترقي الفرد ذهنيًّا ونفسيًّا وجسميًّا وروحيًّا؛ فإن البيولوجية ضرورية لكل مثقف؛ لأنها توسع الآفاق الروحية وتعقد بيننا وبين الحيوان صلة لها أكبر الدلالة في الإدراك السامي وفي فهم الأسباب التي عملت وما زالت تعمل للرقي البشري، ثم هناك السيكلوجية التي نفهم بها تصرفنا وسلوكنا وحركة أدمغتنا، ولسنا في حاجة إلى شرح مسهب كي نوضح ضرورة الدراسة لعلوم طبية مختلفة، مثل الاغتذاء والفسيولوجية، كي نتوقى الأمراض ونتحفظ بصحتنا في شبابنا وشيخوختنا.

وكي نحصل على المرانة الذهنية العلمية يجب أن نتعمق دراسة علمية معينة لأحد الموضوعات، مثل البيولوجية أو الفلك أو أي موضوع آخر مما نحب، ونجعل هذه الدراسة هواية الحياة، ثم نتوسع — بلا تعمق — في دراسة الموضوعات الأخرى على سبيل الإلمام، ومتى استطعنا أن ندرك أن كثيرًا من الارتباك الذهني، في السياسة والدين والاقتصاد وغيرهما، إنما يعود إلى أننا لا نعالج هذه الموضوعات بالطريقة العلمية، بل نتركها بما تراكم عليها من تقاليد وعادات تحول دون تطورنا ورقينا، عرفنا قيمة العلم.

•••

ولا نظن أننا في حاجة إلى كتابة فصل للتمييز بين الأدب والعلم ولكنَّا نحتاج إلى كلمات موجزة يسترشد بها من يتوخَّى التثقيف الذاتي.

فكتب الأدب القديمة هي تراث بشري يجب أن يقف عليه كل مثقف، ولكن الاقتصار عليها يجعل النظر خلفيًّا، والتصرف رجعيًّا، والاتجاه تقليديًّا، والأديب بطبيعة دراسته تليدي الذهن وليس بطارفه، وهو قد ينعي على عصره ما يحسبه شططًا، مع أن كل ما فيه أنه يسير على إيقاع ولحن ليسا مطابقين لإيقاع العصور القديمة ولحنها.

ودعاة الآداب القديمة يزعمون أنها مستودع الحكمة البشرية، وهي كذلك إلى حد ما. ولكن قليلا من التفكير يوضح لنا أن المستودع الأصلي للحكمة البشرية هو الإنسان، وأن الآداب القديمة هي بعض حكمته وليست كلها.

ونحن نحس وجدانًا بشريًّا جديدًا يُعْزَى كثيرٌ منه إلى العلم وليس إلى الأدب؛ فإن العلم هو الذي ربط الأمم الحديثة برباط جديد ورفع الإنسان من وطنية الوطن إلى وطنية العالم، وهو الذي يجعل النظر أماميًّا نحو المستقبل.

ولكن مع كل هذا يجب ألَّا يغيب عن أذهاننا أن العلم يبحث ماهية الأشياء ويقتصر على ذلك، فهو معرفة، أو وسيلة للمعرفة، ولكن استخدام هذه المعرفة يحتاج إلى الحكمة التي نستخلصها من الآداب والفلسفات والأديان.

والأديان في نظري هي بعض الآداب والفلسفات، والضمير الراقي هو الذي تَكَوَّنَ وتربَّى بالثقافة العالمية التي تعد الاديان بعضًا منها، والإحساس الديني الراقي هو الإحساس الإنساني الذي ينكر الغيبيات إنكارًا تامًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤