دراسة السياسة

الجريدة هي فطورنا الذهني في الصباح، ونحن نقرأ أخبارها ونتأمل صورها فننتعش، ونجد المواد للحديث والتفكير سائر اليوم، والجرائد تُعنى أكبر عناية بالسياسة الداخلية والخارجية، ولكن عنايتها مقصورة على الأخبار أو الدعاية.

وكي نفهم الجريدة يجب أن ندرس السياسة؛ أي الأسس التي تنبني عليها السياسة، وهي التاريخ والاقتصاد والسيكلوجية، ومن سوء حظ العالم كلِّه أن السياسة في الوقت الحاضر يتولَّى شئونها هواة وُصُولِيُّون يعجزون عن المعالجة العلمية لمشكلاتها، ومن هنا تعلُّقهم بالخطابة الانفعالية بدلًا من اعتمادِهِم على الوجدان والتعقل، ومن هنا أيضًا هذه الفوضى العامة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، بل هذه الحروب التي تزلزل الأمم.

وإذا تركنا الأمم البدائية والمتوحشة، وكذلك الأمم الشرقية التي لا تزال تشقى بالمستعمرين أو بأمرائها المستبدِّينَ أو شيوخها الرجعيين، وجدنا ثلاثة أنواع من النُّظُمِ تستحق من الرجل المثقف الدراسة الجدية، هي النظام الديمقراطي والنظام الفاشي والنظام الاشتراكي.

فأما النظام الديمقراطي فهو على أحسنه في أمم أوروبا الصغيرة مثل سويسرا وسويد ونرويج ودنمركا، وتأتي بعد هولاء الولايات المتحدة، وهذا النظام ينشد حرية الفرد، ويحاول أن يتوقى التفاوت الاقتصادي بضرائب تخفف من قسوته، ومع هذا التخفيف يستطيع الإنسان أن يعيش في حرية نسبية وقد يجتاز القلاقل الاقتصادية بعض الأحيان، وليس شك في أن الديمقراطية المدنية ستنتهي يومًا إلى ديمقراطية اقتصادية.

وهذه الديمقراطية الاقتصادية هي ما نجد في عصرنا في الدولة البريطانية، حيث يسود النظام الاشتراكي في كثير من المرافق، وحيث تجبي الحكومة ٩٥ ألف جنيه من الثري الذي يبلغ دخله ١٠٠ ألف جنيه، ويجب على كل مثقف أو من ينشد الثقافة السياسية أن يدرس هذا النظام، وهذا النظام الاشتراكي حين يتم هو النهاية التي سوف تنتهي إليها جميع النظم الديمقراطية.

فأما الفاشية فقد كانت دخانًا من الاستبداد خيَّم على ألمانيا وإيطاليا وبعض الأمم الأخرى، وقد انقشع عنهما، وسوف ينقشع عن الأمم الأخرى؛ لأنه خلو من ميزات الديمقراطية والاشتراكية وليس فيه شيء من عوامل البقاء، وهو يعيش الآن بقوة الآلة الحربية الضخمة التي أوجدها والتي لا يستطيع أن يعيش بدونها.

وهناك مفتاح نفهم به أَدَقَّ فهم تلك الانقلابات التي تحدث في عصرنا في السياسة العالمية، نعني به نظرية التفسير الاقتصادي للتاريخ، فإذا درسنا هذه النظرية عرفنا البواعث والمحركات التي انتهت بالفاشية في إيطاليا وألمانيا، والاشتراكية في بريطانيا، بل عرفنا أيضًا البواعث والمحركات للإمبراطوريات البريطانية والفرنسية والهولندية، وللاستعمار في جميع ألوانه العصرية، والفرق ليس عظيمًا فقط، بل هو فاحش، بين من يملك هذا المفتاح ومن لا يملكه؛ لأن الخبر الصغير في إحدى الجرائد عن اتفاق سياسي بين دولتين أو اندغام شركتين أو دعوة إلى دين أو تأييد لرجعية في آسيا أو أفريقيا أو أوروبا، كل هذه الأخبار ومئات غيرها تعود لها دلالة جديدة إذا كنا نقرؤها ونحن نسترشد بالتفسير الاقتصادي للتاريخ.

والقارئ المصري يحتاج إلى أن يدرس أكثر من الديمقراطية والاشتراكية والفاشية؛ فإن القارئ الأوروبي يمكنه أن يقنع بدراسة هذه النظم؛ لأن مناخه السياسي يتألَّف منها جميعًا، أو يتقلب فيها، أو يستقر على واحدة منها، أما القارئ المصري فيحتاج إلى دراسة أخرى، هي دولة تركيا التي انسلخت من الشرق وانضمت إلى الغرب بقيادة رجلها كمال أتاتورك الذي يزيد في عظمته وصدق فراسته وقوة خياله على آلاف ممن يُسَمَّوْنَ عظماء منذ الإسكندر إلى يومنا، ويجد القارئ في كتاب عزيز خانكي (بك) عن هذا الزعيم التركي ما يقفه على شيء من عظمته، ويحثه على الاستزادة من الدراسة للنهضة التركية الرائعة، وهو في هذه الدراسة سيجد أسبابًا كثيرة لتأخرنا نحن في مصر.

وفي اللغات الأوروبية كثير من الكتب التي تشرح النهضة التركية وتوضح فلسفة هذا الانقلاب.

وكذلك يجب أن ندرس الهند ونظامها الجديد بعد جلاء الإنجليز عنها؛ فإنها بقيادة غاندي أولًا، ثم نهرو ثانيًا، قد فصل الدين عن الدولة، وألغت النجاسة، ومنحت المرأة الحقوق الدستورية التي ساوتها بالرجال في التصويت والانتخاب، وعينت المرأة وزيرة وسفيرة، وساوت في الميراث بين الذكر والأنثى.

وفي ظروفنا القائمة يجب أن ندرس الإمبراطوريات العصرية الفرنسية والبريطانية والهولندية، وألوان الحكم التي تفشَّت في مصر والهند وجاوة وتونس وغير هذه الأقطار، كما ندرس الاستعمار بأشكاله المختلفة في الأمم المتأخرة، والمرجو أن ينتهي الاستعمار وتموت المبادئ الإمبراطورية عقب هذه الحرب، ولكن هذا الرجاء في الوقت الحاضر يشبه الأمنية الخيالية أكثر مما يشبه الأمل الذي يتحقق، والعالم لا يزال في حاجة إلى كفاح لتحرير الشعوب الخاضعة، كما احتاج من قبل إلى كفاح لإلغاء الرق، ويجب أن نتزود بالإحصاءات السنوية والتعداد الذي يتم كل عشر سنوات مع أطلس جغرافي، وكل هذا متوافر في لغتنا، ولكن هناك أطلسًا سياسيًّا ينشر في اللغات الأوروبية ويبين التغيرات الإقليمية التي تنص عليها المعاهدات أو تحدثها الحروب، وهذا أيضًا ضروري لكل من يدرس السياسة ويقرأ أخبارها اليومية، ومما يؤسف له كثيرًا أن بعض القراء يهملون الإحصاءات، مع أنها المواد الخامة التي يتألَّف منها كل مشروع إصلاحي، والعقلية الإحصائية هي العقلية العلمية، وهي أكثر العقليات سدادًا لدرس السياسة والاجتماع.

ومن الحسن أيضًا أن يشترك القارئ في مجلة أوروبية سياسية من تلك المجلات الأسبوعية التي تنقل التطورات السياسية وتُعنى بإيضاحها.

•••

كتبت هذا الفصل في ١٩٤٥؛ ولذلك تحاشيت ذكر دولة الاتحاد السوفيتي اتقاء السجن، فلم أقل بضرورة الدراسة لهذا النظام. أما الآن — في ١٩٤٨ — فإني أحتاج إلى تذكير القارئ بأن في العالم ألف مليون إنسان يعيشون في الاتحاد السوفيتي والصين وغيرها في نظام اشتراكي كامل، ومن الحمق والغباوة أن يعد أحدنا نفسه مثقفًا إذا لم يدرسه، وإذا لم يتابع التطورات الاشتراكية فيه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤