دراسة الفلسفة

كثيرًا ما حملتني دراستي للسيكلوجية على أن أتعمق درس الأمراض النفسية، من أخف أنواعها كالقلق والهم، إلى أخطرها كأنواع الجنون المختلفة مثل الشيزوفرنيا والمانيا.

والمتعمق لهذه الأمراض يستطيع أن يصفها بأنها «أمراض فلسفية» فهي توصف بأنها «أمراض نفسية» من حيث إن الجسم سليم ولكن النفس معتلة، وقد يؤدي اعتلالها إلى اعتلال للجسم أو لا يؤدي.

ولكن الأساس لاعتلال النفس أن النظرة الفلسفية للحياة في أسلوبها وغايتها سيئة، لا تتَّفق والقوى البشرية، أو لا تلائم المجتمع، أو لا تشبع شهوات النفس وأمانيها.

وعلى الرغم من الجهل العام في سواد الأمم، لا يزال لكل فرد نظرية فلسفية يمارسها عن وجدان ودراية في كامنته، أو عقله الكامن الذي لا يدري به، ولكل مجتمع اتجاهات في الحياة، وقيم معينة لبعض الممارسات دون بعض، وهي تحمل الأفراد على بذل المجهود كي يصلوا منه إلى ما ينشدونه من كرامة وعزة ووجاهة.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا يتجه الفرد إلى اقتناء الثروة وهو يؤمن بإنجيل النجاح، ولا يبالي في سبيله ما يجني على نفسه من هموم تجعله يبكر في الصباح ويتأخر في المساء، وهذا مجهود كل أمريكي يريد أن يصل إلى القمة، المباراة عامة، تجعل اقتناء الثروة يسير بالعدو والهرولة ويغطي على أي مجهود آخر، ثم سرعان ما تنفق الثروة بعد جمعها، فتكون مباراة في الإنفاق كما كانت في الجمع.

فهذا النظر للحياة هو في صميمه نظر فلسفي؛ إذ هو يجحد القناعة والبساطة في العيش، ويحمل على الطموح والرغبة في الإسراف والبذخ، وليس في الولايات المتحدة شاب أو فتاة إلا وهما في همٍّ وقلق كيف يحصلان على الثروة وكيف يفوزان في المباراة الاقتصادية العامة، والهم والقلق هما تعب مرهق يؤدي إلى انهيار نفسي في حالات كثيرة، يدلنا على ذلك أن أكثر من نصف الْأَسِرَّةِ في مستشفيات الولايات المتحدة يملؤها مرضى النفوس وليس مرضى الأجسام، وليست حال فرنسا أو ألمانيا أو هولندا بأفضل من حال أمريكا إلا قليلًا.

وإذا شئنا أن نعالج أحد هؤلاء المرضى فليس أمامنا سوى العلاج الفلسفي، وهو أن للقناعة وبساطة العيش قيمتهما في الدنيا، وأنهما يفضلان البذخ والترف، وأنهما يتيحان لنا الوقت كي نلهو ونستمتع بالدنيا، وأن نستبدل بالتوتر المضني استرخاء يريح ويسعد، وأن قيصر الرومان «مرقس أوريليوس» كان يصف السعادة بأنها رغيف مع الجبن نأكلهما في ظل شجرة، فإذا تغير النظر الفسفي لهذا المريض فإنه يشقى وإلا فإن روح المباراة يلازمه حتى يقتله.

أجل يقتله؛ لأن مرض النفس عندئذٍ ينقلب مرضًا جسميًّا؛ ذلك أن الهموم تزيد ضغط الدم فتنتفخ الشرايين، ثم تتصلب، ويتحمل القلب أكثر من طاقته في دفع الدم لهذه الشرايين المتصلبة، وعندئذٍ قد يفشل القلب، فيموت صاحبه بالسكتة، أو قد ينفجر شريان في الدماغ فيموت بالنقطة، وقبل هذا الموت يقضي سنوات في حال جسمية منحطة.

وهذه المبالغة في المباراة هي مثال واحد من أمثلة النظر الفلسفي السيئ، وهناك الغيرة عند النساء، بل هناك الرغبات الطفلية تبقى معنا إلى سن الشباب والكهولة، وتغمر سلوكنا النفسي بل سلوكنا الجسمي، وكل هذا يدل على أنَّنا في حاجة إلى الصحة والسداد في النظر الفلسفي كي نعيش المعيشة الطيبة.

وقد أصبح معنى الفلسفة في عصرنا يخالف معناها التقليدي المعروف في أوروبا وفي العالم القديم كله، فقد كنا نفهم من الفلسفة أنها تأمُّل في الخلق والخالق، وتفسير لمعميات الكون، ودرس للمذاهب القديمة والحديثة في عهد الإغريق إلى العصر الحاضر، وموازنة بين مختلف النظريات، أو محاولة للتوفيق بينها بالزيادة هنا والحذف هناك، والفيلسوف في نظرنا هو الرجل الذي انصرف عن معترك الحياة، ووضع نظارتيه على أرنبة أنفه، وغرق في أكداس الكتب يقلب صفحاتها ويستوعب محتوياتها، فإذا رفع عينه عنها فذلك كي يجتر أفلاطون وأرسطو ويفكر في ديكارت وسبينوزا.

ولكن التفكير الجديد يتجه اتجاهًا آخر وينحو نحوًا جديدًا، من ذلك أن الأستاذ «ديوي» زعيم حركة التجديد في الفلسفة الحديثة يرى أن الفلسفة وسيلة من وسائل الكفاح والنجاح في الحياة، شأنها في ذلك كشأن جميع أنواع الثقافات، وأن همها ينبغي أن ينصرف كله إلى ترقية عيشة الإنسان والمجتمع الإنساني كله؛ ولذلك يجب أن يكون هذا المجتمع أساس النقد والتجديد في الفلسفة، ومن هنا نرى هذه الظاهرة الجديدة وهي أن الدراسات الفلسفية قد انطلقت من مخابئها في مكتبات العلماء المتزمتين إلى الحياة العامة، ونرى مثلًا أن الحكومة الأمريكية تعين مستر «ماكيفر» أستاذًا للفلسفة في كلية الزراعة في تكساس.

فلنتأمل هذا الخبر الصغير في مبناه، الكبير في معناه، هذه كلية تلقن الطلبة كيف يزرعون القطن ويعنون بالطماطم ويحلبون البقر، ولكن إلى جانب هذا يجب أن يتعلموا الفلسفة، وأن يعرفوا أثرها في حياتهم الزراعية المستقبلية، ويجب أن ينيروا بصائرهم في قيمة الحياة، وأن يستعينوا بالفلسفة كي يعينوا ويحددوا مطامعهم الفردية ومكانتهم الاجتماعية في الأمة.

فالفلسفة لم تعد من الكماليات التي يتذوَّقها المتحذلقون أو المتخصصون، وإنما أخذت تتصل بالزراعة والصناعة، فيجب أن يكون اتصالها وثيقًا بالبيت والمصنع كما يجب على الشاب والفتاة أن يتساءل كلاهُما في بداية أي مشروع: هل هذا العمل يتفق والنظر الفلسفي الحسن أم لا يتفق؟

وهذا يحملنا على القول بأنَّ كل شاب في حاجة إلى تدريب فلسفي أي يجب أن نألف الفلاسفة وأن ندرب الذهن ونربي العاطفة على معالجة مشكلاتنا بالفلسفة، وإذا فعلنا ذلك فإننا نرفض الانسياق وراء غايات تستأثر بمجهودنا ووقتنا بلا طائل، مثل «المركز الاجتماعي» او التباهي باقتناء المال أو نحو ذلك.

والذهن المدرب بالفلسفة هو الذي يوازن بين شراء عقار بمئة جنيه أو شراء مكتبة بهذا المبلغ؛ لأنه هنا يقف بين التوسع الذهني أو الرقي الشخصي، وبين التوسع العقاري أو التكبير المركز الاجتماعي، وهو قيمة الحياة وغايتها.

والدين يكمن في الفلسفة، أو الفلسفة تكمن في الدين؛ لأن كليهما يرسم لنا الاتجاهات في السلوك ويعين لنا القيم في المعيشة والأخلاق، وقد ظهرت في اللغة العربية بعض الكتب التي لا تفي ولا تُشبع، ولكن ليس هناك أفضل منها، ومنها كتاب الأستاذ أحمد أمين بك عن قصة الفلسفة، ومنها أيضًا سلسلة موجزة للأستاذ عبد الرحمن بدوي، وكتاب الأخلاق لأرسطوطاليس (ترجمة أحمد لطفي السيد باشا) وكتاب الدكتور طه حسين بك المترجم عن أرسطوطاليس في نظم الحكم، كل هذه يمكن أن تُقرأ مع الفائدة، ولكنها فائدة ضئيلة.

أما كتب الفلسفة القديمة في اللغة العربية فهي غيبيات عقيمة، وهي خلاصة التفكير الإغريقي بعد إخراجه مزيَّفًا في خدمة المجادلات المذهبية المسيحية.

والفلسفة بطبيعتها بطيئة التجديد، ولكن يجب أن نعرف أنها تنحطُّ بمقدار اتجاهها نحو الغيبيات، وترقى بمقدار اتجاهها نحو البشريات، وهي تبحث القيمة في حين يبحث العلم الماهية، أو هي بمثابة الدفَّة التي توجه في حين يؤدي العلم مهمة الشراع أي القوة، وعلم بلا فلسفة هو قوة بلا دفة، قد تسير بالسفينة نحو الصخرة، والفلسفة الراقية هي ديانة راقية، وربما نحتاج إلى تعبير جديد يحملنا على الانتفاع بدراسة الفلسفة والدين معًا، وهو أن نقول «الفلسفة التطبيقية» و«الديانة التطبيقية». وعلى قدر استعداد الفلسفة والدين للتطبيق في خدمة البشر تكون قيمتهما، وإلا فهما غيبيات سخيفة أي تفكير وخبط في الخواء.

وربما يكون في التحديدات التالية بعض ما ينير عن ماهية الفلسفة بالمقارنة إلى العلم:
  • (١)

    العلوم مجزأة والفلسفة كلية، وهي لذلك تبحث العلوم المستقلة كي تجمع بينها وتستخرج الدلالة العامة منها.

  • (٢)

    العلوم تبحث ماهية الأشياء، في حين أن الفلسفة تبحث قيمتها للإنسان، فالعلم كشف عن الطاقة الذرية ولكن على الفلسفة أن تبين الغاية من هذا الكشف.

  • (٣)

    ولذلك ليس من شأن العلوم أن تتحدَّث عن الجمال والفضيلة ومستقبل البشر؛ لأن كل هذه الأشياء تتصل بالقيمة وليس بالماهية.

  • (٤)

    العلم يبحث السبب المباشر، والفلسفة تبحث الهدف النهائي.

  • (٥)

    العلم يعطينا الحقائق والفلسفة تعيِّن لنا المناهج.

  • (٦)

    العلم يشرح الواقع والفلسفة تعين الأهداف.

  • (٧)

    العلم للمعرفة والفلسفة للحكمة.

ومن هذه التحديدات الموجَزة يتَّضح أن الفلسفة لا تختلف عن الأدب والدين إلا من حيث الوسيلة والتعبير، ولكن الثلاثة تتفق في الهدف وهو تعيين القيم البشرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤