دراسة الدين

دراسة الدين يجب أن تكون من الاهتمامات الكبرى للمثقف؛ لأن غاية المثقف لا يمكن أن تخرج عن أن يعيش المعيشة الذكية الطيب، وهذه المعيشة غير مستطاعة إلا مع الدين.

ونحن ندرس الآداب والفلسفات كي نستنبط منها القيم التي نقيس بها شرف الحياة وغايتها، وما فيها من جمال أو قبح، ونعين الغايات التي نسترشد بها في معيشتنا، ونجهد لتحقيقها، وهذه الغايات هي الدين.

ونحن نأخذ الدين عن أبوينا تقليدًا، ونعيش في صبانا وبعض شبابنا ونحن نستند إلى الدين التقليدي كما نستند إلى معونة الأبوين، ولكن التكشف الديني للرجل المثقف يحتاج إلى سنين عديدة ودراسات مختلفة وتغيرات نفسية متوالية تنشأ من الاختبارات الدنيوية، وحوالي سن الخمسين نجد أن ما ورثناه من عقائد ليس شيئًا في جنب ما استنبطناه من بصيرة دينية هي ثمرة الحياة الفهيمة على الأرض نصف قرن أو أكثر، وقد تؤيد هذه البصيرة بعض العقائد أو لا تؤيدها، ولكن محال أن يبلغ الإنسان المثقف هذه السن، وأن يكون قد عاش عيشة الجد الثقافي مع الفهم الأصيل، ثم يجد نفسه بلا دين أي يجد نفسه بلا ضمير إنساني، وهناك بالطبع كثيرون يعيشون حياتهم بما ورثوه من عقائد لم يبحثوها قَطُّ بالنقد والتمحيص، وهذا هو الدين العرفي الذي طلبه أحد الكتاب حين قال: «اللهم ألهمني إيمان العجائز»، وهذا الإيمان قد يؤدي إلى السعادة الاجتماعية، ولكنَّا لا نطلب الدين لمثل هذه السعادة العرفية وإنما لنحس بمسئولياتنا البشرية، وكي نجد الحافز من هذه المسئوليات لأن نعيش الحياة الذكية الصالحة، ويجب لهذا السبب أن ندرس الدين بعناية، وأن نجعل جميع المواد الثقافية في خدمة البصيرة الدينية، والرجل المتدين الذي تكوَّن دينُه بعد دراسات بشرية خالية من الغيبيات هو أذكى الثمرات للتثقيف الذاتي، أجل هو الذي يفكر بقلبه ويحس بعقله، ويسلك كأنه مسئول عن ارتقاء العالم والبشر.

وقد يسأل القارئ بعد هذا: ما هو الدين الذي تقصد؟

فأجيب بأن الدين هو خلاصة الثقافة التي حصلنا عليها إلى جنب اختباراتنا الدنيوية فيما لا يقل عن خمسين سنة، ومن هذه الثقافة وهذه الاختبارات قد تعين لنا موقف واتجاه في الدنيا، وتكوَّن لنا ضمير وبصيرة، وهذا هو الدين، وهو دين حسن إذا كنا على ذكاء أصيل، قد نعمنا بوسط حسن وثقافة بشرية، وهو دين سيئ إذا كنَّا على ذكاء ناقص قد عشنا في وسط سيئ واغتنينا بثقافة منحطة.

وليس القارئ في حاجة إلى أن ننصح له بدراسة الكتب المقدسة التي أخذ عنها ديانته التقليدية؛ لأن المجتمع الذي ينتمي إليه يطالبنا بهذا الواجب، ولكنه محتاج أيضًا إلى أن يدرس الكتب المقدسة للأديان الأخرى، العصرية والقديمة، الإلهية وغير الإلهية، وعلى القارئ العربي أن يذكر أن البوذية والكونفوشية — وهما دينان يؤمن بهما أكثر من ألف مليون إنسان في آسيا — لا يعترفان بالله، فيجب ألا نجحد دراستهما لهذا السبب.

وليست دراسة الأديان قائمة على بحث الخلافات أو المشاغبات المذهبية في الفرق المسيحية أو الإسلامية أو اليهودية؛ لأن هذه الخلافات قامت على «غيبيات» يعرف كل من حاول التغلغل في تفاصيلها أنه كان يتغلغل في خواء، وأن المقياس الذي نقيس به ميزات أي دين في العالم إنما هو مقياس المجتمع الحسن الذي استطاع هذا الدين أن يلهمه ويوجهه نحو البر والخير والشرف.

ويجب أيضًا ألا نتغاضي عن سمو الفكرة الدينية في نظرية التطور التي جعلت الأفق الديني لكل منَّا يتجاوز بضعة ألوف من السنين إلى الملايين بل مئات الملايين، والتي شرحت لنا المجهود الرائع الذي بذلته الطبيعة كي يصل الإنسان إلى مقامه الحاضر، وقد أكسبتنا نظرية التطور فكرة جديدة لم تعرفها الأديان الأخرى، هي احترام الحياة كائنة ما كانت للنبات أم الحيوان؛ لأن بيننا جميعًا قرابة تطورية، ولأن المجهود الذي بذلته الطبيعة كي نصل إلى مقامنا الحاضر هو مجهود مشترك بين الكائنات الحية، فنحن وهي عائلة واحدة قد حاولت الطبيعة عن سبيل كل فرد منَّا ومنها أن تتسلط على المادة، وكذلك يحسن أن نقرأ كتاب «الغصن الذهبي» تأليف فريزر، وهو للأسف لم يُتَرْجَمْ إلى العربية، كما نقرأ — بل ندرس — مؤلفات إليوت سمث عن العقائد المصرية الأولى؛ فإن هذه المؤلفات تبسط لنا نشأة الأديان البدائية.

وإلى جانب الكتب المقدسة يجب أن ندرس كتب الأدب والفلسفة العظيمة كما ندرس نظريات العلم الحديث، وعلى المسلم أن يدرس الإنجيل والتوراة كما على اليهودي والمسيحي أن يدرسا القرآن؛ لأن هذه الكتب الثلاثة كانت من العوامل الكبيرة في تكوين الضمير البشري، بل يجب أيضًا أن ندرس حتى من يُتَّهمون بالكفر؛ لأن هذا الكفر قد يكون برهان الإيمان، وقد أعجبت بكلمة قالها ألفريد نويس في كتابه عن فولتير، فإن المؤلف هنا كاثوليكي يؤمن بالمسيحية ويحترم الكنيسة، ولكنه مع ذلك وصف فولتير الذي حارب الكنيسة الكاثوليكية بأنه كان «مسيحيًّا طيبًا».

وهذا حق؛ لأن جهاد فولتير ومحاربته للكنيسة في عصره كان من لُباب المسيحية.

ولا يمكن أن تؤدي الدراسة مع الذكاء الأصيل إلى الضرر، ويجب لهذا السبب أن تجد الآراء الجديدة ضيافة حسنة في أذهاننا، ولا بد أننا بعد الدراسة سنقول كما يقول برناردشو: «رجل بلا دين هو رجل بلا شرف»، وهو يعني الإنسانية بكلمة الدين.

وهناك من يعيشون في قبو من العقائد والتقاليد بعيدين عن الآفاق الرحبة للمعارف كما أن هناك من ينغمسون في جبرية الغيبيات لم يعرفوا قط حرية الماديات وهواءها المنعش، ولهؤلاء جميعًا الرثاء.

ومن الحسن أن نلخص هنا بعض الاستنتاجات في التميز بين العلم والأدب والفلسفة والدين، على الرغم مما يكون في هذا من تكرار:
  • (١)

    العلم محايد، يبحث ماهية الأشياء ولا يبحث قيمتها، وهو موضوعي.

  • (٢)

    العلم يميز بين الحقيقة والوهم، ولكنه لا يدلنا على الفرق بين الحق والضلال، أي بين العدل والظلم؛ لأن كل هذه الصفات ذاتية.

  • (٣)

    العلم يعين الوسائل، ولكنه لا يعين الغايات؛ إذ ليست له غاية.

  • (٤)

    الأدب والفلسفة والدين هي التي تعين الغايات.

  • (٥)

    مثال ذلك اختراع العلم الطائرة، فقد أوضح لنا «ماهية» آلاتها، ولكن الدين يعين الغاية منها، وهل هي لقتل الناس وتدمير المدن أم لتقريب المواصلات على هذا الكوكب وزيادة الاتحاد البشري.

  • (٦)

    في العلم نجد المعرفة، وفي الأدب والدين والفلسفة نجد الحكمة.

  • (٧)

    المعرفة تنير الحكمة، ولكن الحكمة هي التي تستخدم المعرفة وتوجهها لخير البشر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤