التعمق للدراسة

العبرة في الحياة — كما في الحرب — بالخطة التي تتبع، وكذلك الشأن في الثقافة؛ فإن في مكتبة المتحف البريطاني أكثر من أربعة ملايين مجلد ليس من المعقول أن أحدًا يطمع في قراءتها أو قراءة نصفها أو عشرها؛ لأن العمر البشري في حدوده الحاضرة يفنى قبل أن ننتهي من قراءتها، وبدهي أننا لسنا في حاجة إلى قراءة هذه الكتب، فإن كثيرًا منها بل أكثر ما فيها لا تزيد قيمته على الغبار الذي يعلوها.

فيجب لذلك أن تتبع خطة حتى تنتظم جهودنا في التثقيف الذاتي، وحتى نأخذ بالأهم قبل المهم، فضلًا عن ترك السخيف والعقيم، ويجب لذلك ألا نتسع فنقرأ جزافًا، فليس في الدنيا أثمن في الحياة البشرية من الذهن البشري؛ ولذلك يجب أن تكون أكبر عنايتنا في الحياة به، نربيه ونثقفه وننميه، ويجب أن نفكر في الخطط الدراسية التي نستطيع باتباعها أن نقتصد في وقتنا وجهودنا.

ولا بد أن من ينشد الثقافة سيجد نفسه حائرًا بين أن يتوسع ويعرف أكثر ما يمكن من المعارف السطحية، وبين أن يتعمق ويتخصص في فن أو علم يعرفه بكل ما فيه وبكل هوامشه ونواحيه، أو هو بكلمة أخرى سيقف بين التعميم والتخصيص، فأي الخطتين يجب عليه أن يتبع؟

لقد سبق أن ذكرنا خطة نابليون في الحرب، وهي أنه كان يصر على أن يكون متفوقًا على سلاح معين على العدو، وقد يكون هذا السلاح هو فرق الفرسان أو فرق المدافع أو فرق المشاة، ولكن لا بد من التفوق في واحد منها، أو في غيرها، كي ينفذ عن سبيل هذا التفوق إلى نقطة ضعف العدو فيضربه فيها ويتجاوزها إلى سائر قواته فيفتتها.

ونحن أيضًا في حاجة إلى خطة يجب أن نتبعها في دراستنا كي نصل إلى الظفر المنشود، والظفر المنشود هنا هو أن ننمو بالثقافة، ونمتلك بأذهاننا أوسع وأكبر ما يمكننا من المعارف التي تربي بصيرتنا في الحياة، فإذا لم تحمل إلينا السعادة فلا أقل من أن تحمل إلينا الفهم، بل إن الفهم عند الرجل المثقف هو السعادة، بل أهم من السعادة.

والراغب في التثقيف الذاتي سيأخذ أولًا في التعميم، ويتعرف إلى مختلف الفنون والعلوم، ولا غبار عليه في ذلك؛ فإنه سيمد مجساته الذهنية إلى مختلف الموضوعات، كأهداب الحشرة، حتى يقع على الغذاء الذي يحب، أي حتى يهبط على المادة التي تحملنا ظروفنا ومزاجنا ومعيشتنا ومشكلاتنا على تعمقها، وعندئذٍ لن يكون أمامه أربعة ملايين كتاب يجب عليه أن يقرأها، بل هو يكتفي بمئة كتاب أصلي، وسائر ما يقرأ يعد فرعيًّا في شرح هذه المئة أو في التعليق عليها.

والخطة في الثقافة هي أيضًا كالخطة في الحرب عند نابليون، أي إننا نتعمق نقطة، ثم نتوسع من هذه النقطة، ونتفرع هنا وهناك في مختلف المعارف التي تصل بهذه النقطة أو المادة، وهذه الخطة هي الخطة الفسيولوجية التي تنهض على مقدار ما عندنا من كفايات وما لنا من ميول، ففي العالم الآن نحو ١٣٠ علمًا وفنًّا ومحال أن يكفي العمر البشري لدراستها، بل محال أن يقبل أحد الأذهان هذه الدراسة العامة؛ لأنه لا بد سيصد عن بعض ويُقبل على بعض، فما يجب على الراغب في الثقافة إنما هو أن يرسل مجساته الذهنية حتى تهبط على المادة التي تحمله معيشته على التعرف إليها وتعمقها، ثم ينشر مجساته بعد ذلك إلى مختلف الفنون التي تتصل بها، فالمادة الأصلية التي يدرس هي النقطة البؤرية التي يحدث منها الإشعاع إلى المواد الأخرى، فالدراسة لا يمكن أن تجري جزافًا، بل يجب أن تكون لها علاقة فسيولوجية بأذهاننا وما تتطلبه معيشتنا الفردية والاجتماعية.

والذهن المتوسط، ولا نذكر الذهن العالي، لا يقنع فيها الثقافة بأن يحسو من كل مورد جزافًا وتسكعًا، بل هو لا بد بعد فترة من الفوضى سيقع على المورد الوحيد الذي يعب منه، فعلى القارئ الذي يجد نفسه عازفًا عن التعمق ألَّا ييأس؛ فإن الوقت لن يطول به حتى يجد شبكة المعارف التي تتصل بفسيولوجيته، كما لو كانت شبكة من الأعصاب تتداخل في أنحاء ذهنه؛ فإنه سيطلب هذه المعارف بالشهوة التي يطلب بها الطعام، بل أحيانًا أَحَدَّ وأقوى.

ولا يمكن إنسانًا أن يسمي نفسه مثقفًا ما لم يتعمق مادة معينة، وصحيح أن هناك علماء جهلاء تعمقوا مادة ثم لم يخرجوا منها إلى سائر المواد، ولكن لا أسمي هؤلاء متعمقين وإنما أسميهم «متخصصين».

وهم في الغالب لم يختاروا هذه المادة التي تخصصوا فيها وإنما حُمِلُوا على التخصص قبل أن يقضوا من حياتهم فترة التسكع والاختيار، ونجد أمثال هؤلاء في المتخصص مثلا في الكيمياء، لا يدري شيئًا من الاقتصاديات أو الأديان، وهذا لأنه قد بدأ يتخصص منذ صباه تقريبًا في المدرسة، فلم تتح له الفرصة كي يرعى في المروج الخصبة للثقافة ويختار منها ما يحب، فتثقيفه في الكيمياء لم يكن «ذاتيًّا»، وهذا الكتاب قد خصصناه للتثقيف الذاتي، أي لأولئك الذين يبغون تربية أنفسهم، وكل منهم معلم وتلميذ، وكلاهما حرٌّ في اختياره، وأولئك الذين اخترعوا القنبلة الذرية كانوا بلا شك متخصصين، وكانوا لتخصصهم هذا يجهلون الأدب والدين والفلسفة؛ لأنهم لو كانوا قد عرفوا هذه الدراسات لما اخترعوا هذه القنبلة.

على أن القارئ يجب أن يذكر — على الدوام — أنه لن يكون مثقفًا حق الثقافة ما لم يتعمق علمًا معينًا، يكسب منه التدريب العلمي والتميُّز بين الحقائق والبواطل، وهذا التعمق يجعله قادرًا على النقد في سائر المواد التي يدرس حتى الدراسة السطحية، وعليه هو أن يختار؛ لأن اختياره ينبع من أعماق شخصيته، بحيث يلائم كفاياته؛ أي يجب في لغة نابليون أن يتفوق في سلاح معين ولا يبالي أن يكون بعد ذلك عاديًّا في سائر الأسلحة، والخطة هنا للحياة كلها وليست للثقافة والحرب فقط.

والقارئ الذي تمضي عليه السنوات ونفسه جامدة لا تنزع إلى المادة التي يتعمقها إنما هو مريض يحتاج إلى العلاج، فعليه أن يسأل ويستشفي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤