كيفَ عَرفهَا

ترتيب الحوادث أن تنتهي ثم نكرُّ راجعين للسؤال عن بدايتها، وسبيل التواريخ أن تنطوي السير وتنصرم الدول ثم نتقصى مناشئها وأسباب ظهورها.

فنحن لا نحيد عن مجرى الزمان حين نعرف الساعة كيف تلاقت سارة وهمام، بعد أن عرفنا منذ برهة كيف كانت القطيعة وكيف كان اللقاء الأخير.

لَمْ يقصد همام أن يلتقي بسارة ولم تقصد سارة أن تلتقي بهمام، وإنما جاء اللقاء كما تجيء معظم الحوادث الكبرى في معظم التواريخ والسير، من زواج وفراق ورحلة واختيار مساعٍ واقتحام غيوب، مصادفة لا يسبقها عمد، وعرضًا لا يمهد له بتفكير.

خرج همام يتمشى في الخلاء ضحوةً من ضحوات الخريف التي تبتهج فيها الشمس في هدوء، ويرقص فيها الهواء في حنين، ويرق فيها الجو في تشوُّق وارتقاب، وتطرح فيها النفس أعباءها كما تطرح القافلة أحمالها عند مشارفة الواحة المبشرة بالماء الغزير والظل الظليل، ريثما تنهض بالعبء من جديد.

ماذا عسى أن يكون العبء المنظور؟

لا تقول الشمس، ولا يجيب الهواء، ولا يشف عنه الجو، ولا تحفل النفس ما يكون، حتى يكون … إن كان!

ويعود همام من رحلته وقد علق جميع همومه وأجَّل جميع نياته، وأصبح جزءًا من الشمس والهواء والجو، ولم يعد جزءًا من عالم الإنسان.

وألفى نفسه وهو عائد إلى منزله على مقربةٍ من مسكن صاحبه الأستاذ زاهر، وهو رجل ظريف طيب النحيزة من أولئك الذين يرضون فيسلون ويطربون، ويسخطون فيكونون أدنى إلى التسلية والطرب، لطرافة ما يرتجله في هذه الحالة من مفارقات اللذع والتنديد.

وكان يومئذٍ يسكن في بيتٍ من بيوت الحجرات المفروشة تديره خائطة فرنسية، ليكن اسمها «ماريانا» … فدلف همام إلى المنزل يزور صاحبه ويقضي معه فترة يقفزان فيها بين معارض الحديث التي لا وصلة بينهما، ويضحكان ضحكًا كثيرًا، إن لَمْ تكن فيه فكاهة عالية ففيه ولا شك تمرين نافع للرئتين.

ووجد «ماريانا» في فناء الدار تطعم الديكة الرومية التي عندها صفحة من «المكرونة» البائتة، وعندها فتاة مليحة يصعب تقدير سنها؛ لأنها تصلح للعشرين كما تصلح للخامسة والعشرين، وتُسمَّى آنسة كما تُسمَّى سيدة، وهي مشغولة بكساءٍ تقلبه وتمعن النظر فيه.

قال همام: أسعد الله الصباح، أين زاهر يا مدام؟

فردت تحيته بمثلها، وقالت: أوَلا نراك إلا زائرًا لزاهر؟ إنه خرج منذ هنيهة على أن يعود بعد قليل.

والتفت همام إلى صفحة المكرونة قائلًا: أرى أن الديكة اليوم إيطالية وليست رومية.

فلم تجب ماريانا بغير ابتسامةٍ عريضةٍ، وإنما أجابت الفتاة قائلة: إن كان الجنس بالطعام فالديكة هنا عالمية لا تدين بجنسٍ من الأجناس، مصرية إن أكلت الفول المدمس، وإنجليزية إن أكلت البطاطس، وهندية إن صبرت على الصيام الطويل.

فنظرت إليها «ماريانا» نظرة العتب المصطنع، واستظرف همام جوابها واستغرب مشاركتها في الحديث في وقتٍ واحدٍ، ورحب مع ذلك بهذه المشاركة التي أحس لتوها أنها وافقت هواه، وأنه كان يسوق الحديث إليها إن أبطأ المساق.

قال همام: إن الآنسة تعرف كل شيء عن ديكة البيت وتذبذبها في الوطنية، ولكني لا أذكر أنني رأيتكِ هنا يا آنسة قبل الآن.

ماذا يقول؟ أيقول لا أذكر أنني رأيتكِ؟ أكان من الجائز إذن أن يراها ويهملها وينسى أنه رآها؟

أحس همام أيضًا أن الكلمة لَمْ توافق هواها، وسمعها تجيب بشيء من الامتعاض المكتوم كأنها تخاطب نفسها: ولماذا تدعوني يا آنسة؟ أتستصغرني؟ إنني ربة بيت، وأم!

•••

يا للمرأة! أتريد أن يفهم أنها غضبت لأنه دعاها يا آنسة؟ لا والله! لقد كان بريق الرضى بهذه التسمية يومض في عينيها … إنما عزَّ عليها أنه جعلها شيئًا مهملًا يجوز أن يراه مرة أو مرات ثم ينساه، فأسفرت عن الغضب وسترت السبب، وتوارت وراء حجاب المجاملات والألقاب.

فأَحَبَّ أن يغيظها قليلًا وعاد يقول: ولكن السيدات يا آنسة … يلبسن في أصابعهن علامة تُسمَّى خاتم الزواج، فأين هذه العلامة؟

قالت: لذلك شرح يطول.

قال: عسى أن أسمعه في وقتٍ قريبٍ.

ثم اقتضب الحديث والتفت إلى شيخٍ متهدمٍ يعبر الفناء، فسأل الخائطة: أهذا ضيفٌ جديدٌ عندك يا مدام؟

فزمت شفتيها لا يدري أهي مشمئزة من الرجل أم راثية لحاله، وقالت: ضيف، ولكن لا أظنه طويل المقام، ألا تراه يتعثر بقدميه؟ وفي أقل من دقائق لا تتجاوز الخمس عرف همام والفتاة كل ما تعرفه «ماريانا» عن الرجل وعاداته وأطواره، وثروته التي تُربي على الألوف، ولا وارث له ولا قريب تلوذ به في شيخوخته الكئيبة.

قال همام: وما حاجته إلى البحث عن وارثٍ؟ إن الورثة يبحثون عنه ولا يقصرون «عند اللزوم».

قالت: ألا يحتاج إلى مَن يعوله ويواسيه ويحف به وهو يودع دنياه.

قال همام: إن كنتِ يا ماريانا حريصة على خروجه من حجراتكِ فانصحي له بكتابة إعلان في الصحف السيارة، يقول فيه إنه يملك كذا من الألوف ويحتاج إلى كذا من الأخوال وأولاد الأعمام وأولاد الأخوال، وانظري كيف يضيق بيتكِ عن الطالبين والطالبات ممَّن «آنسوا في نفوسهم بالشروط».

فنسيت الفتاة غضبتها الصغيرة واندفعت ضاحكة، وما زالت حتى أجبرت همامًا — وهو في غنى عن الإجبار — أن يحوِّل الحديث إليها. فسألها قائلًا: وأنتِ يا سيدة، نعم أنتِ يا سيدة في هذه المرة، لأية قرابة ترشحين نفسكِ إذا أعلن الرجل إعلانه؟

فهزت رأسها تفكر، ثم قالت: أوفرها نصيبًا في الميراث؟

قال: لا تكونين إذن إلا زوجة؟

قالت ما معناه: فأل الله ولا فألك، أي غرامٍ غرامك هذا بذكر الزواج والزوجات والأزواج؟ … ثم رفعت رأسها متأففة كأنها تطوي حديثًا لا تحب أن يجري لها على لسان، وهي في الواقع تود لو أفرغت كل ما في جعبتها من ذلك الحديث، أول ما تسعف المناسبة وتبدر من همام بادرة إغراء.

قال همام: لا تؤاخذيني إن ذكرت الزواج مرة أو مرتين، فإنني لَمْ أتزوج قط ولا خبرة لي بهذا الجانب من مزعجات الدنيا …

قالت: أصحيح؟ … لقد أراحك الله، فبأي جانبٍ من مزعجات الدنيا أنت خبير؟

فأسرع همام قائلًا: لذلك شرح يطول!

قالت: يا لكَ من منتقم … على أنك تستطيع أن تطمئن كل الاطمئنان، فإنني لا أكلفك عناء هذا الشرح ولا أستطلع دخائل شأنك … لستُ فضولية بحمد الله.

قال: وإذا كنتُ أنا فضوليًّا؟

قالت: إذن يختلف الأمر.

قال: كيف يختلف؟

قالت: يلوح لي أنك كما وصفتَ نفسك؛ أنتَ فضوليٌّ ولا فخر.

قال: ليس مع كل الناس.

قالت: تحيات وغزل … وعما قريب عيناكِ ووجنتاكِ وأهواكِ ولا أنساكِ، إلى آخر هذا الموال المحفوظ.

قال: ولماذا عما قريب! … الآن!

قالت: أنتَ عَجُول، وأنتَ جريء أيضًا.

قال: إن وعدتِنِي أن أجني للصبر ثمرة فأنا أصبر من أيوب، قوليها كلمةً واحدةً وأنا لا أتعجلك شيئًا، وأنصرف الآن!

قالت: وصاحبك الذي تسأل عنه؟

قال: ها … يلوح لي أنني أعجبتكِ! وأنكِ تسبقينني!

قالت: لولا أنك تمزح لقلتُ إنك مغرور، غروركم كلكم معشر الرجال، لا تتكلم الواحدة كلمتين مع واحدٍ منكم حتى يحسبها مجنونة بهواه.

قال: أو يحسب أنه مجنون بهواها!

قالت: طيب والله لقد قطعنا شوطًا بعيدًا جدًّا في نصف ساعةٍ، ولا أدري ما خطب «ماريانا» سامحها الله! أين ذهبت وتركتنا؟ ألعلك على اتفاقٍ معها أن تهيئ هذا اللقاء؟ … ما في ذلك من عجب، فهكذا تصنع الخائطات فيما يُقَال.

وسمعت «ماريانا» اسمها فعادت تهرول وتتساءل: ماذا تقولين عني يا سارة؟

قال همام: إنها تتهمكِ بأنك تدبرين عن عمدٍ خلوة غرامية بين هذه الديكة وهذه الدجاج.

قالت ماريانا: أنا أعلم على الأقل أن الدجاج لا تحتاج إلى مَن يدبر لها الخلوة مع الديكة.

قالت الفتاة: قاتلك الله يا عجوز السوء، لماذا تنصلين من التهمة؟ أما كان الأَوْلى أن تتمهلي لمحة لعلِّي كنتُ أنوي أن أشكركِ على ما صنعتِ؟

فطاش الفرح بهمام، وأوشك قلبه أن يفلت من نياطه، وانتشى نشوة خمسين كأسًا في رشفةٍ واحدةٍ، وقال وهو يهجم على «ماريانا»: بل دعي لي أنا أن أشكرها، إنني أُقبِّل وجنتيها … إنني ألثم فاها … وصنع ما يقوله قبل أن تفيق «ماريانا» من دهشتها وقهقتها، ومال إلى الفتاة قبل أن تدري ما هو صانع قائلًا: وأُقبِّلكِ أنتِ أيضًا إكرامًا لماريانا. وقبَّلها!

ثم جلس مأخوذًا بما حدث يتوقع ماذا تكون الكلمة الأولى التي تلفظها الفتاة؛ أتشتم؟ أتصطنع الغضب؟ أتنطلق من المنزل؟

وكأنما كان التوقع هو شغله الشاغل في حينها دون ما يتبعه من ثورةٍ أو مسامحةٍ، فاستطال الأمد، وما انقضت غير ثوانٍ في توقع ما يكون، وزاده فرحًا على فرحٍ أن شيئًا مما توقعه لَمْ يحدث، وأن كل ما حدث أن الفتاة بهتت وراحت تقول شيئًا لا بد أن يُقال، فقالت في صوتٍ خافتٍ: لقد آذاني شاربك الطويل!

•••

وتم التعارف بالأسماء.

واسترسل الحديث أصداء لا يقصدها القائل ولا يصغي إليها السامع، لحظة يسيرة ثم انقلب الفرح غمًّا ثقيلًا بغير منفذٍ وبغير دلالة، فإن الفتاة لبثت تتكلم ويبدو من عينيها أنها تفكر في غير ما تتكلم، ثم خرجت ساهمة بغير استئذان إلا حين قاربت الباب، فقد انثنت تحيي همامًا تحية مَن يؤدي «واجب اللياقة» لا تحية مَن يجامل في وداع.

قال همام: ما معنى هذا؟

قالت «ماريانا»: لا عليكَ منها، إنها ستعود يومًا لا محالة.

قال: لستُ عن هذا أسأل؟ فهل هي غاضبة؟

قالت: ممَّ تغضب؟ أمن القبلة؟ فلِمَ لَمْ أغضب أنا؟!

قال: خيبة الله عليكِ يا عزيزتي ماريانا … دعينا من غضبكِ أنتِ ورضاكِ، فإنها هي القبلة الأولى والأخيرة بغير مراء! ولئن رضيتِ عنها فما أنا براضٍ … ولكن الذي يعنيني ألَّا تكون قبلتها هي القبلة الأولى والأخيرة. فما رأيكِ؟

قالت: ابغِ لكَ مستشارًا غيري، إنني أعرف كيف أوفق بين الكسوة وصاحبتها، ولا معرفة لي بالتوفيق بين رجلٍ وامرأة!

فلم يشأ همام أن يطيل الكلام، ولم ينتظر صاحبه الذي لَمْ يعد، ولم يكن يبالي في تلك الساعة أن يعود، وخرج منقبضًا متحاملًا يلوم نفسه على خروج الفتاة ولا يلوم نفسه على تقبيلها، كأنما كان يستطيع الفصل بين الأمرين! … وعادت القبلة إلى شفتيه كأنها طيف يرف على مهاده الأول، حتى لقد أوشك أن يضم شفتيه ليلامس ذلك الثغر الذي لاح له أن ينضغط وينضغط من لينه وطراوته إلى غير نهاية، وسرت لذعته الباردة كلذعة النعناع الذي هدأت سورته وبقيت ذكراه، فازداد غمًّا على غمٍّ، ولعن ذلك الشيطان الكامن في أعماق كل نفسٍ يثير لواعجها وينكأ جراحها، في حيثما احتاجت إلى التهوين والنسيان.

وذهب إلى المكتب فتلقاه الخادم قائلًا: إن سيدة سألت عنك بالتليفون.

فلم يُعِره كبير التفات.

وعاد الخادم بعد فترة يقول: إن سيدة على التليفون تسأل عنك، وأظنها السيدة الأولى.

فنهض همام إلى التليفون وآخر ما في ذهنه أن المتكلمة هي فتاة ذلك الصباح، وقال بغير اكتراث: مَن المتكلم؟

قال صوتٌ كصوت الفتاة بعد التحريف المعهود في أداء التليفون: ألَا تعرفني؟

قال: عرفتكِ الآن، أنتِ سارة ولا ريب!

ولم يلاحظ هو ولا لاحظت هي أنه حذف اللقب وخاطبها باسمها كما يتخاطب الأصدقاء الأقدمون!

قالت: أوَكنتَ تنتظر هذه المحادثة؟

قال: لا أزعم أنني كنتُ أنتظرها، ولكني أحسب أنني كنتُ أتمناها!

قالت: إذن هل تحب أن أراك الليلة في دار الصور المتحركة …؟

قال: بل أحب أن نلتقي على انفرادٍ، فذلك أروح وأسلم.

قالت: إنما عنيتُ أن تشهد الرواية؛ لأنها تشبه قصتي تمام المشابهة، ويجوز أن تكون القصة مما يعنيك.

قال: لأن أسمعها من لسانكِ خيرٌ من أن أشهدها مع مئات.

قالت: فأين إذن؟

قال: ما رأيك في حديقة الأهرام؟ إنها مكان قلما يغشاه أحدٌ في هذه الآونة، وسنلتقي في زاويةٍ من الطريق ونستقل سيارة من هناك إلى الحديقة، وأسمع منكِ أو أقول لكِ كل ما تحبين.

•••

كان أول ما فاهت به وهي تجلس إلى جانبه في السيارة أن قالت: لا بد أنكَ حسبتني مجنونة وقلتَ في خُلدك: ما هذه الرعناء التي تقبل التقبيل، ثم تخرج مغضبة، ثم تتكلم بالتليفون، ثم تحضر إلى الموعد طائعةً؟ فماذا حسبتني بربك؟ قل لي ولا تكذب!

قال: على كل حالٍ لستُ بآسف لجنونِك.

قالت: وأنت يا حضرة العاقل اللبيب الرشيد، أما حاولت أن تفهم لماذا كان خروجي بهذه المفاجأة قبل أن ترميني بالجنون؟

قال مستفهمًا: أللأمر علاقة بماريانا؟

قالت: هو ذاك، فلو أنني أطلتُ المكوث لباخ الغضب بعد ذلك، ولو أننا تواعدنا أمامها لوقعتُ في براثنها بلا رحمة، فإما أن أطيعها في كل ما يَعِنُّ لها، وإما التهديد والإنذار.

فربتَ على خدها كأنها طفلة أجادت درسها، وقال: إنكِ لحصيفة يا هذه التي تتطلع مني إلى تهمة الجنون، ولكنها حصافة مخيفة.

ثم حكى لها ما قالته ماريانا بعد انصرافها، وكيف أنها لَمْ تغضب حين قَبَّلها، فكيف تغضب الفتيات الماجنات؟ … فأخذت تضحك حتى اغرورقت عيناها بالدموع، وثابت إلى الحصافة فأوصته أن يزور «ماريانا» في اليوم التالي ويثابر على سؤالها بضعة أيامٍ، ثم ينسى المسألة كأنه ألقى بها في ذمة المصادفات.

وانطوت المسافة إلى حديقة الأهرام بمثل لمح البصر، وزعم همام وهو يناول السائق أجره أن سيارته أسرع ما أنجبته المصانع الحديثة، وأنه حرام عليه أن يشترك بها في سباق السيارات.

وخفَّ كل شيء في الدنيا حتى أشفقا أن يذهل قانون الجاذبية عن واجبه المرسوم، وشعرا بهذه الخفة من حولهما، ولا سيما حين بصرا بالمكان خاليًا من كل إنسان، فانطلق الكلام كأنه ثرثرة الأطفال، وانبعثا معًا في خلقٍ جديدٍ.

وطلبا الطعام فظهر لهمام أن صاحبته من صاحبات النظام المتحذرات من كل ما يجلب السمنة في طعامٍ وشرابٍ، فصدَّقت على كل ما اقترحه عليها إلا صفحة شواء لا تشبع، فأراد أن يحذرها من القسوة على جسدها، وقال لها إن بعض الأجسام إذا خفَّ لَمْ تكن خفته على استواءٍ واحدٍ، فيخف هنا ويسمن هناك ويشوه من حيث يُرَاد له حسن الهندام، ولا ينال أصحابه إلا الجوع والندم!

فنظرت إليه بعينَي طفلة تخاف، وسألته مستوثقة: أحق ما تقول؟

قال: حقٌّ كل الحق، وسأريكِ إذا زرتِني في المنزل صور التماثيل التي يعدونها في العالم بأسره نماذج لجمال الأنوثة، فإن تماثيل الزهرة التي صنعها اليونان — وهم أساتذة الذوق السليم — ليست على نحافةٍ ولا ودقةٍ في الخصور والأطراف، ولكنها مثال الجسم المتين المنسوق. وسيفسد علينا سماسرة البدع الحديثة تنويع الجمال في بنات حواء. فأين نرى البضاضة والسموق إذ أصبح النساء وكلهن نحيفات هزيلات؟ وكيف تتعدد القوالب إذا كانت المرأة لا تُخلَق لنا إلا في قالبٍ واحدٍ؟

وسرَّها ما سمعت فسألته عفوًا: أيعجبك إذن هندام جسمي على ما هو عليه؟

قال متماجنًا: ومن أين لي أن أحكم؟

ثم أحجم عن التمادي في هذه النغمة، وأيقن أنهما في هذه الخفة التي يشعران بها ليستطيعان أن يتحدثا عن الموت كما يتحدثان عن الرقص واللهو والمجانة، وأَحَبَّ أن يتحول الحديث إلى قصة الزواج التي وعدته أن تقصها عليه، والتي يتوقف على فهمه إياها أن يفهم مدى العلاقة التي ستجمعه بهذه الفتاة الجالسة في تلك الساعة أمامه، فقال وهو لا يحذر من تنغيصها باستطراده: إن كنتِ لا ترضين زوجًا بالتماس النحافة فعلامَ كل هذا العناء؟ أهناك رجل آخر؟

وصحَّ ما قدَّره همام، فكان جوابها على نغمة الخفة التي شملت في تلك الساعة كل شيء، وقالت: أوَتحسب أن المرأة لا تتزين إلا لزوجٍ أو حبيبٍ؟ إنها لتتزين لنفسها، وإنها لتتزين للرجل الذي في عالم الخيال، ولو لَمْ يكن له في عالم الواقع وجود.

واسترسلت تتهكم كأنما سألت نفسها وهي تسأله: أأرضي زوجًا؟ ألا ليت هذا كل ما يعنيني! … إذن لأكلتُ قنطارًا من الأرز والزبدة كل يوم!

واجتازت النقلة بين إرضاء الزوج وقصة الزواج في جملةٍ أو جملتين، ثم انقضى نصف ساعة علم فيه همام صفوة ما أرادت أن يعلم، فلو سأله سائل: أصدَّقها في جميع قولها؟ أعذرها في جميع فعلها؟ لكان من الصعب عليه أن يجيب بالإيجاب.

بيد أنه أدرك مما سمع أنها طفلة فقدت رحمة الأمومة، ونمت وهي لا تعرف إلا جماح الحيوية العارمة لا تمسكها هداية أم ولا تقوى على حبسها التقاليد الضعاف، مع ذلك الذكاء الوقَّاد الذي لا تخفى عليه خافية الموانع والمحظورات، وأنها لو سيقت إلى زوجٍ «يملأ عينها» ويحقق معنى الرجولة في رأيها وعاطفتها لاستقرت بعض الاستقرار وقنعت بعض القنوع، ولكنها أخطأت حظها من الزواج، وبرمت بفراغ قلبها فلم تعذر الدنيا، والتمست لقلبها وحده جميع الأعذار.

قالت وقد سردت له قصتها: أصغرتُ الآن في نظرك؟

قال: أمِنِّي تطلبين الحكم؟ أنا حاكم مغرض فلا تنفعكِ الشهادة مني، غير أني أقول إن الذين ينصفونكِ في الدنيا قليلون.

قالت: لا حاجة بي إلى إنصاف الدنيا، فلتحفظه لمن يطلبونه.

•••

ولقد رجعا من الحديقة إلى الجيزة مشيًا على الأقدام، لَمْ يتعبا ولم يشكُوَا طول الطريق، وجاء الترام فركبت في مقصورة النساء وركب مع الرجال.

وكان الموعد الثاني في بيت همام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤