لِماذا هَامَ بهَا؟

حواء أُخرِجَت من جنة، وبناتها كل يوم يخرجن من جنات … فهل المرأة ضرة الجنة تغار منها غيرة الضرائر؟ لا ندري، ولكنها هي المرأة أبدًا لا تريد للرجل أن ينعم بغير نعيمها، أو يسعد بغير سعادتها، وليس يعنيها أن تفرح معه كما يعنيها أن تكون سبب فرحه وينبوع سعادته دون كل ينبوع، وربما أرضاها أن تكون سبب ألمه وألمها، ولم يرضها أن تشاركه السعادة الوافية، إن كان للسعادة سببٌ سواها.

كان همام قانعًا بالمودة الهنيئة الوادعة بينه وبين سارة، إن حضرت سرَّه حضورها، وإن غابت لَمْ يغضبه غيابها، لا يفرض عليها حقًّا، ولا يحسب أنها تفرض حقًّا عليه، ويتصلان وينفصلان ولا قلق في الأمر ولا استطلاع ولا استكراه؛ لها وقتها كله وله وقته كله، إلا ما يشتركان فيه من الوقت فهو لهما على السواء، بلا اقتسام ولا جور ولا اعتداء.

غير أن «سارة» لَمْ يعجبها هذا الجدول المترقرق المنساب، وأبت إلَّا أن تراه شلالًا يعج ويثور، ويضطرب ويمور، فنصبت فيه الحواجز وأقامت فيه الصخور.

كان يسألها في مبدأ العلاقة بينهما عن الموعد المقبل فتذكر له يومًا ويذكر هو أن ذلك اليوم يوم زيارة صديق أو يوم شهود احتفال أو يوم عمل من الأعمال التي تشغله عن اللقاء، ويرجوها أن تنظر في تأجيل الموعد فلا يعجبها ذلك.

وكانت تستعجل الانصراف في بعض زياراتها وتعتذر إليه بموعدٍ أو بمصلحةٍ أو بما شابه هذه المعاذير، فيأذن لها ولا يمسكها، فلا يعجبها ذلك.

وقالت له يومًا بعبارةٍ صريحةٍ إنه لو «أمرها» بالبقاء لبقيت وهي مسرورة.

وقالت له أيامًا إنه لو فضَّل موعدها على كل موعدٍ غيره لفهمت أنها أثيرة عنده وأن لقاءها محبَّبٌ إليه مُفضَّلٌ لديه، فلما قال لها إنه يُفضِّل لقاءها على غيره إذا كان حُرًّا في الارتباط بهذا أو بذاك، قالت هذه حجج يحتج بها الرجال حين لا يريدون وينبذونها حين لا يريدون، وإنه لو ترك من أجلها ميعادًا لتركت من أجله مواعيد.

واستباحت لنفسها رويدًا رويدًا أن تفتش في أوراقه الخاصة وهو لا يمنعها، فعثرت فيها مرة بصورة فتاة هيفاء ممشوقة القوام في غلالة تنم على محاسن بدنها وانسجام أوصالها، فصاحت به عابسة ما هذه؟

وكان همام قد نسي الصورة ونسي أنها هناك، فنظر إليها وقال بغير اكتراث: فتاة راقصة.

غير أنه لاحظ أن سارة لَمْ تؤخذ بجمال الفتاة كما أُخذت بنوع جمالها، فلو كانت أجمل مما هي مائة مرة وكانت تشبه سارة في بضاضتها لما راعها أن تعثر بصورتها هناك تلك الروعة التي بدرت منها في صيحتها العابسة، لكن الفتاة هيفاء، وجميلة الهيف، وليس فيها ما يعيب بعض النحيفات من هزالٍ وقلة اعتدال، وطلعتها مع ذلك طلعة راقصة كسائر أوصالها تكاد تنضح بالخفة والنغم.

وقد كانت نوبة النحافة والتنحيف يومئذٍ في بدايتها وفي إبانها، وكانت سارة تروِّض بدنها رياضة قاسية لتخف وتستوي على طرازٍ لجمال الحديث، فكان هذا جميعه مما ضاعف اهتمامها بالفتاة وألهب فضولها.

قالت: وفيمَ تحتفظ بها؟

قال: صورة فنية جميلة، كأنها تمثال، كأنها تحفة.

قالت وهي تنظر إلى توقيع الفتاة وخطها الركيك: ولماذا هذا التوقيع؟ ولما لَمْ تقرنها بثانية وثالثة ورابعة؟ أهي الراقصة الوحيدة التي راقك جمالها؟

قال: إن كان لا يقنعك إلا مجموعة كاملة من صور الراقصات فليس في الأمر صعوبة … ثم قال: لو علمتِ يا خبيثة مقدار ما وهبكِ الله من حدة الذكاء لأنفتِ أن تغاري من صاحبة هذه الصورة وأنتِ ترين «أميتها» ماثلة في خطها.

قالت: أوَتظن أنني أبتهج بأن تحبني لحدة ذكائي وتحب هذه الراقصة لما … لما لستُ أدري ما أنتَ واجد فيها؟

قال: أنا لا أحبها.

قالت: أصحيح؟ إذن هل أنا في حلٍّ من تمزيق الصورة؟

قال: لا أمنعكِ ولكنها خسارة.

قالت: أهي خسارة أم تخشى أن تسألك عنها صاحبتها؟ إنني لا أنافس الراقصات يا سيدي، فاحتفظ بالصورة كما تهوى، ولكن أرجوك أن ترد إليَّ صورتي، فلستُ أختار لها أن تقيم هنا وأمثال هذه الصور في مكانٍ واحدٍ.

فكبر الأمر على همام، وأحس لأول مرة أن فراق سارة يثقل عليه، فقال لها: إن كان لا يريحك إلا أن تمزقي الصورة فمزقيها …

فما أمهلته أن يتم جملته حتى قبضت على الصورة تمزقها كل ممزقٍ كأنها تضمر لصاحبتها ضغينة وهي لَمْ ترها ولم تسمع باسمها، ولا يذكر همام أنه بصر بامرأة تفرح هذا الفرح بتمزيق ورقة إلا امرأة جاهلة أسلمها الساحر المشعوذ لفة من الورق زعم أنها هي الرقية التي كتبتها لها الضرائر ليبتلينها بالسقم في جسمها والنكد في عيشها، فمزقتها وكأنها تود أن يصير جسمها كله أيديًا تشترك في تمزيقها.

وهكذا أخذت تحاسبه وأخذ يحاسبها، وشعر بالتضييق عليه، ولكنه لَمْ يضجر منه ولم يتبرم بالباعث إليه، وأنشأ يتعود أن يفكر فيما تصنعه وفيمَن تلقاه أثناء غيابها، ويتعود أن يسألها وأن يتحرى حركاتها … وفرغ لها فوقع في روعه ألا يقنع منها بما دون الاستئثار والتفرد، وانقلب الجدول الهادئ المنساب رويدًا رويدًا فغاب فيه الحمل الوديع وبرز منه الأسد المتحفز، ولو ظل كما كان جدولًا وديعًا لصفا واسترسل، أو لانتهى كما ينتهي النهر إلى مصبه في رفقٍ وسخاوةٍ.

•••

ذلك سبب من أسباب الهيام، وقلما يكون الهيام لسببٍ واحدٍ.

ومن أسبابه الكثيرة لذة الاستكشاف الدائم المصحوب بالتجديد والتنويع؛ فإن الرجل ليسرُّه أن يستكشف المرأة ويسرُّه ألا يزال واجدًا فيها كل حين ميدانًا جديدًا للاستكشاف، ويسرُّه أن يراقب المرأة وهي تستكشفه وتتخذ لها مسربًا إلى عواطفه، وترفع من دخائله حجابًا وراء حجابٍ، ويسرُّه أن يستكشفا الدنيا معًا والناس معًا والطبيعة معًا بروحٍ مركبةٍ من روحين وجسدٍ مؤلَّفٍ من جسدين، وضياء كله شفوف وتجديد وآفاق تنساح إلى آفاقٍ.

فإن وقف الاستكشاف ولم يتجدد من جانب الرجل ومن جانب المرأة فقد يكون سببًا للسآمة والعزوف لا سببًا للشغف والهيام.

إن المرأة في استكشافها الرجل لكمن يجوس خلال الغابة المرهوبة ليهتدي أولًا وآخرًا إلى موطن الرهبة منها ووسيلة الطمأنينة إلى تلك الرهبة، ثم يرتع في صيدها وثمرها ويشبع من مظاهر العظمة والفخامة فيها.

وإن الرجل في استكشافه المرأة لكمن يجوس خلال الروضة الأريضة ليهتدي إلى مجتمع الظل والراحة والمتعة والحلاوة بين ألفافها وثناياها؛ فهو يستكشفها ليعرف أحلى ما فيها وهي تستكشفه لتعرف أرهب ما فيه، ثم تصبح الروضة روضة وغابة، وتصبح الغابة غابة وروضة، ويقوم حواليهما سورٌ واحدٌ يشعران به إذا خرجا إلى الدنيا، ولا يشعران به وهما بنجوةٍ منها.

وكان همام وسارة يتكاشفان كل يوم ولا يخفيان أنهما يتكاشفان، بل يتحدثان بما يعنُّ من شأنها وشأنه كأنهما رحَّالتان في نزهةٍ طويلةٍ، يشتركان في مراجعة عمل النهار كلما سكنا إلى ظلال الخيمة في ظلام المساء.

كان يراقبها في نفسها ويراقبها في نفسه، كان يرى المرأة المرحة الطروب وهي تلهو وتعبث، ويرى المرأة الكسيرة المطواع وهي تلتمس الأمان والعزاء، ويرى الإنسانة الفطرية وهي تطيع الغريزة وتلبس «دورها» على مسرح الطبيعة بين نباتها وحيوانها ومكانها وأهوائها، ويرى المرأة الذكية وهي تقرأ النثر والشعر وتنتقد الصور المتحركة، ويرى المرأة العصرية وهي تتغلب على امرأة الجيل الغابر في ميدان، وتخضع لها وتنهزم أمامها في ميدان، ويرى من وراء ذلك جميعه وفي خلال جميعه المرأة الخالدة التي لا تتحول ولا تتبدل، والأنثى السرمدية التي يهمها من «الذكر» الحماية والجاه قبل كل شيء وبعد كل شيء، ولا يهمها العقل والرجحان والفضائل والمناقب إلا لأنها وجهٌ من وجوه الحماية والجاه.

لقد أكبرته كثيرًا وهي تسمع الثناء عليه في مجالس أناسٍ من عِلية الناس لا يعلمون ما بينهما من صلة، ولا يستريحون إليها لو علموها.

ولقد أكبرته كثيرًا وهي تقرأ له أسفار النوابغ من أساطين الأقدمين وفحول المحدثين الغربيين، وهو يعقب على ما يسمع بكلمةٍ هنا وكلمةٍ هناك، ويناقش لها ما يبدو أنه حقيق بالمناقشة، وليست هي من الجهل بحيث يخفى عليها سداد مناقشاته، وليست هي من قلة الثقة به بحيث تغلق المنافذ على ذهنها مكابرةً وتقليدًا كما يفعل العامة الجامدون، وليست هي من العلم بحيث تفهم أن نوابغ الغرب كائنةً ما كانت أقدارهم وبالغًا ما بلغ صيتهم واشتهارهم خاضعون للنقد قابلون للتشريح والتصحيح، بل هي نشأت نشأتها الأولى على تقديس هؤلاء النوابغ والعلو بهم إلى مرتبة العصمة والتأليه، فإذا بدهتها الملاحظة ولم تجهل سدادها فغرت فاها الصغير وحملقت بعينيها الواسعتين كما تفعل الطفلة وهي تتفرج على منظرٍ طريفٍ، وجال في قلبها إكبارٌ تعبر عنه بكل ما تستطيع من علامات التحبب والتدليل.

إلا أن شيئًا من ذلك — في مدى السنوات الطوال — لَمْ ينعشها ولم يلمس كوامن أنوثتها ولم يقدح من سرورها به وحنينها إلى جواره مثل ما نعشها وسرى فيها وتجلى عليها في حادثة عرضية حدثت ذات مساء في مركبةٍ من مركبات الأجرة بين الزمالك والجزيرة.

كانت المركبة تسير على مهلٍ والحوذي قد غفل عن إشعال مصابيحها بعد مغيب الشمس، فصدمت واحدًا من ثلاثة أو أربعة من رجال الضبط كانوا يتمشون على ساحل النيل في محاذاة العوامات والذهبيات، وذلك جرم من الحوذي تضيق عنه رحمة الله! فإن كل شيء ليجوز للحوذي الغافل إلا أن يصدم السادة «رجال الضبط»، وهم هم أصحاب الحول والطول والقول الفصل في الخيل والمركبات والسيارات والحوذية والساقة، وما يحملون ومَن يحملون! … فإذا كان ذلك في أثناء «تأدية وظيفة» كما يسهل القول والإثبات، فويلٌ يومئذٍ للمسكين … إنه لذاهب من الدار إلى النار وما له من شفيع.

وقد كان أصاب الغافل الأثيم جزاءه اليسير في سرعة لا تليق بمركبات الخيل ولو كان لها مائة حصان، فجذبه «رجال الأمن» من مقعده الرفيع وصافحوا صدغيه بكل ما وسعته الكفوف من مرانٍ على هذا الضرب من المصافحات، وجعل الرجل يستغيث ويعتذر ويتوسل ولا جواب له إلا ضربات متداركات تتبارى فيها الألسنة والكفوف.

وطال الخصام ولاح لهمام أنه لا يؤذن بختام … فلم يجد مناصًّا من النزول والسعي في الإصلاح، ولم يَغِب عن باله أن اللجاجة قد تفضي برجل الضبط «المعتدَى عليه» إلى كتابة محضر واستدعاء شهود، وأنه سيكون لا محالة واحدًا من هؤلاء الشهود، فإذا أفضى الأمر إلى ذلك فقد كان ينوي أن يعطيهم عنوانه إن قنعوا به أو يصاحبهم بعد أن يحتال في صرف سارة وإبعادها عن القضية ما استطاع.

على أن المسألة لَمْ تلجئ إلى شيء من ذاك، ولم تستغرق أكثر من دقيقة أو دقيقتين، فقد كان «رجال الضبط» ظرفاء رقاق الحاشية يعرفون همام بالرؤية والسماع وإن لَمْ تجمعهم به صداقة، فتلطَّف أكبرهم وحيَّا همامًا بلقبه دون اسمه، واتجه إلى الحوذي بعد أن صفعه الصفعة الأخيرة وأسلمه الرخصة المنزوعة … وهو يهنئه بالسلامة، إكرامًا للرجل الذي معه لا إكرامًا لأمه وأبيه اللذين من صفاتهما كيت وكيت، كما علم قبل ذلك على ما يظهر.

ولم تكن سارة من السذاجة بحيث تَفرُق من محذور هذه الحادثة، ولم تكن من قلة الحيلة بحيث تعي بتدبيرها أن ساءت الجريرة وقد أفهمها همام قبل نزوله من المركبة أن اتقاء المحذور سهل من «الوجهة الرسمية»، وقد سبق لهما أن تعرضا معًا لمهاجمة بعض العاطلين الذين يأخذون الطرقات على المارة في الضواحي البعيدة رجاء المساومة على ما يحسبونه من الفضائح الغرامية، فنظرت إليهم غير حافلة وتركت همامًا يزجرهم وينهرهم ليعلموا ألَّا رجاء في مساومةٍ ولا خوفٍ من فضيحة، فلم يكن سرورها بصاحبها تلك الليلة سرور النجاة من مأزقٍ مخيفٍ والفزع من عاقبةٍ محذورةٍ، وإنما كان سرور المرأة بالحماية والثقة والاستسلام وهي مغمضة العينين.

فلما عاد همام إلى المركبة واستوى في مكانه فيها لَمْ تَزِد على أن زحفت إلى جانبه واستكانت إلى جواره وتطامنت في حضنه تطامن الفرخ في حضن أبيه، وهمست تحت أذنه وهي تمسح خدها بخده: ما أسعدني بجوارك سيدي ومولاي! وكانت تلك أول مرة دعته فيها تلك الدعوة، وكان ذلك كل ما فاهت به من تعبيرٍ عن سرورها، وما كانت في حاجةٍ إلى أن تزيد؛ فقد كان شعور همام بسرورها الناعم المرفرف الشكور غنيًّا عن كل كلام.

وعرف همام أنها استكشفته وطبعته في صفحة المحاكاة عندها بعد فترةٍ وجيزةٍ، فجعلت تحكيه وتمثله في ضحكه وحديثه وتأمينه الصامت، واعتراضه بالإشارة، وردوده وهو مشغول، وردوده وهو حاضر القريحة، وتعقد أحيانًا محادثةً طويلةً بينها وبين نفسها تتكلم فيها مرة بصوتها وأسلوبها ومرةً بصوت همام وأسلوبه، فتجيد المحاكاة في اللهجة والتفكير إجادةً لا يعيبها الفرق بين الصوتين والجسمين والهيئتين، بل يزيدها ملاحةً على ملاحةٍ.

وإنها لقد عرفت منه بزكانة المرأة في شهرٍ واحدٍ ما لَمْ يعرفه أصدقاؤه وخلطاؤه في أعوام، فتقول له إن الزوبعة منك لا تخيف ولا تطول بمقدار ما يخيف الاستقرار الذي بطل فيه التردد وخلا من كل هياجٍ وكل ثورةٍ، وتقول له: إنني إذا أردتُ أن أهزمكَ لَمْ أبرز لكَ بسلاحٍ ولم ألبس لكَ شكة الحرب، فأقودكَ من أذنيك.

•••

وما زالا يتكاشفان ويتكاشفان حتى علما أنهما مكشوفان لا يتواريان في جنةٍ لا ينبت فيها ورق التين، فكان هذا التكاشف سببًا ثانيًا من أسباب هيام همام، وقلما ينحصر الهيام في سببين اثنين.

نعم، فقد كان لهيامه بها أسباب مختلفات، بعضها محدود واضح المعالم وبعضها مزيج من شتى أسباب لا تتضح لها حدود.

فمن تلك الأسباب الواضحة أنه كان يحس إحساسًا شديدًا أن توديع هذه العاطفة قد يرادف في معناه توديع الحياة.

لأنه تعلق بها وهو في العِقْد الرابع من عمره، فإذا انقطع ما بينه وبينها فمَن بفتاةٍ تخلفها في ذكائها ونضارتها وموافقتها؟ وإذا وجد الفتاة فمَن له بالقلب الذي يلبي دواعي الصبا وينزع منازع الفتوة ويتقد ويخبو على حسب المشيئة، ويغامر اليوم في عاطفةٍ مرجوَّةٍ وقد كان بالأمس في عاطفةٍ يائسةٍ مضيعةٍ؟

إن خَبَتْ هذه العاطفة فهي جذوة الغرام الأخيرة، عليه أن يذكيها ويرعاها كما كان الأقدمون يرعون الشعلة المقدسة مخافة أن تنطفي فلا يستعيدوها، قبل أن يحذقوا صناعة الزناد والثقاب.

•••

ومن أسباب هيامه بها ألفة متغلغلة في أنحاء النفس والجسد كألفة المدمن للعقار المخدر، مَن شاء أن يسميها حُبًّا فهو صادق، ومَن شاء أن يسميها بغضًا فهو صادق، ولمن شاء أن يزعم أن المدمن يتعاطى عقاره وهو راغب فيه، ولمن شاء أن يزعم أنه يتعاطاه وهو ساخط عليه فقصارى القول أنه يتعاطاه، وأن الإقلاع عنه يكلفه جهد الطاقة وغاية المشقة.

ومن الحق أن نذكر هنا أن الرجل يعشق الأنثى في مبدأ الأمر؛ لأنها امرأة بعينها؛ امرأة بصفاتها الشخصية وخلالها التي تتميز بها بين سائر النساء، ولكنه إذا أوغل في عشقها وانغمس فيه أحبَّها لأنها «المرأة» كلها أو المرأة التي تتمثل فيها الأنوثة بحذافيرها وتجتمع فيها صفات حواء وجميع بناتها، فهي تثير فيه كل ما تثيره الأنوثة من شعور الحياة، وأي شعور هو بعيد من نفس الإنسان في هذه الحالة؟ إن الأنوثة لتثير فيه شعور القوة، وشعور الجمال، وشعور الألم، وشعور الجموح والانطلاق من قيود المنطق والحكمة، وشعور الإنسان كله، وشعور الحيوان كله، بل تثير فيه حتى الشعور بما وراء الطبيعة من أسرار مرهوبة ومن أغوار لا يسبر مداها في النور والظلام؛ لأن المرأة حين تمثل الأنوثة هي مناط الخلق والتكوين، وأداة التوليد والدوام والخلود، وهي مظهر القوة التي بيديها كل شيء في الوجود وكل شيء في الإنسان.

•••

وكذلك تجمعت أسباب الهيام من أُلفةٍ إلى متعةٍ إلى تفاهمٍ إلى اتفاقٍ في أمورٍ غيرها، حتى استحكمت أواصر الملازمة، وتلاحمت وشائج الفتنة، فلما أنشأ يحاسبها على حقوق الوفاء، ويتقاضاها أمانةً الإخلاص، لَمْ يكن ذلك غُلوًّا منه في تنزيه العصمة الإنسانية، ولا غلوًّا في تنزيه عصمتها، ولكنه حاسبها ذلك الحساب لأنه حتمٌ لا مندوحة له عنه، ولأن السكوت عنها كان أشق عليه من حسابها.

وإلا فماذا هو صانع؟ أيفارقها؟ ذلك عسير!

أيستبقيها على أن يكون لها وحدها ولا تكون له وحده؟ ليس ذلك بيسير!

وهكذا يتفق أن يحاسب الرجل المرأة بميزان الملائكة، وهو لا يستبعد منها غدر الشياطين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤