حُبَّان

إذا ميَّز الرجل المرأة بين جميع النساء، فذلك هو الحب.

إذا أصبح النساء جميعًا لا يغنين الرجل ما تغنيه امرأة واحدة، فذلك هو الحب.

إذا ميَّز الرجل المرأة لا لأنها أجمل النساء، ولا لأنها أذكى النساء، ولا لأنها أوفى النساء، ولا لأنها أولى النساء بالحب، ولكن لأنها هي بمحاسنها وعيوبها، فذلك هو الحب.

وقد يميز الرجل امرأتين في وقتٍ واحدٍ، لكن لا بد من اختلاف بين الحبين في النوع، أو الدرجة، أو في الرجاء.

فيكون أحد الحبين خالصًا للروح والوجدان، ويكون الحب الآخر مستغرقًا شاملًا للروحين والجسدين.

أو يكون أحد الحبين مقبلًا صاعدًا، والحب الآخر آخذًا في الإدبار والهبوط.

أو يكون أحد الحبين مغريًا بالرجاء، والحب الآخر مشوبًا باليأس والريبة.

أما أن يجتمع حبان قويان من نوعٍ واحدٍ في وقتٍ واحدٍ فذلك ازدواج غير معهود في الطباع؛ لأن العاطفة لا تقف دون المدى ولا تعرف الحدود، وإذا بلغت مداها العاطفة جبَّت ما سواها.

وقد كان همام يحب امرأةً أخرى حين التقى بسارة في بيت ماريانا، يحبها الحب الذي جعله ينتظر الرسالة أو حديث التليفون كما ينتظر العاشق موعد اللقاء، وكانا كثيرًا ما يتراسلان أو يتحدثان، وكثيرًا ما يتباعدان ويلتزمان الصمت الطويل إيثارًا للتقية واجتنابًا للقال والقيل وتهدئة من جماح العاطفة إذا خافا عليها الانقطاع، ولكنهما في جميع ذلك كانا أشبه بالشجرتين منهما بالإنسانين، يتلاقيان وكلاهما على جذوره، ويتلامسان بأهداب الأغصان، أو بنفحات النسيم العابر من هذه الأوراق إلى تلك الأوراق …

كانا يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل، ولا يزيدان.

وكان يغازلها فتومي إليه بأصبعها كالمنذرة المتوعدة، فإذا نظر إلى عينيها لَمْ يدرِ أتستزيده أم تنهاه، ولكنه يدري أن الزيادة ترتفع بالنغمة إلى مقام النشوز.

وكان يكتب إليها فيفيض ويسترسل، ويذكر الشوق والوجد والأمل، فإذا لقيها بعد ذلك لَمْ يرَ منها ما ينم على استياء، ولم يسمع منها ما يدل على وصول الخطاب، وإنما يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح.

وربما تواعدا إلى جلسةٍ من جلسات الصور المتحركة في مكانٍ لا غبار عليه، فيتحدثان بلسان بطل الرواية وبطلتها، ويسهبان ما احتملت الكناية الإسهاب، ثم يغيِّران سياق الحديث في غير اقتضابٍ ولا ابتسار.

وكانا أشبه بالنجمين السيَّارين في المنظومة الواحدة، لا يزالان يحومان في نطاقٍ واحدٍ، ويتجاذبان حول محورٍ واحدٍ، ولكنهما يحذران التقارب … لأنه اصطدام!

ولم تكن هند — وليكن اسمها هندًا — لتعتقد الرهبانية في همام، ولا لتزعم بينها وبين وجدانها أنه معزول عن عالم النساء، غير أنها لَمْ تكن تحفل اتصاله بالنساء ما دام اسمهن نساء لا يلوح من بينهن اسم امرأةٍ واحدةٍ، وشبح غرامٍ واحدٍ؛ فإن اسم النساء في هذه الحالة لا يدل على معنى، ولا انتقاص فيه لما بينهما من رعايةٍ واستئثارٍ.

فلما شعرت بأن النساء تحولن عنده إلى امرأة لها شأن غير شئون أخواتها من بنات حواء زارته على حين غرة في مكتب عمله، وهي الزيارة الأولى والأخيرة من قبيلها، ولم يكن لها مسوغ من طول الغيبة ولا امتناع الحديث في التليفون، فما شك لحظة في غرض الزيارة ولا في باعثها، وتوقع منها عتبًا عنيفًا على أسلوبها في التعبير الصامت المبين، ولكنه علم سلفًا أنها غير منصفة في عتبها؛ لأنه لَمْ يختلس منها شيئًا هو من حقها عليه، فرحب بها وأبدى لها استغرابه لزيارتها وابتهاجه بسؤالها عنه، وأنصت مترقبًا … فقالت بعد فترةٍ وصوتها يتهدج: لستُ زائرة ولا سائلة!

قال: إذن …

ولم يتمها لأنها نظرت إليه كمَن يستحلفه ألَّا يتكلم، وانحدرت من عينيها دمعتان.

فما تمالك نفسه أن تناول يدها ورفعها إلى فمه يقبِّلها ويعيد تقبيلها، فمانعته ولم تكف عن النظر إليه، ثم استجمعت عزمها ونهضت منصرفة، وهي تتمتم هامسةً: دع يدي ودعني! ثم انصرفت بعد أن سكن جأشها وزال من صفحة وجهها أثر الدموع.

لو جاءت هذه الزيارة وهمام في بداية العلاقة بسارة لما كان بعيدًا أن تقضي على تلك العلاقة، وأن ترد سارة اسمًا مغمورًا في عامة عنوان النساء.

بيد أنها جاءت وقد أوغلت العلاقة بينهما إيغالها الذي لا تراجع فيه، وصمدت على طريقها تعدو مع الأيام عدوًا لا تنظر فيه إلى الوراء، وفسح لها الطريق أن همامًا لَمْ يتوغل فيها مثقلًا بتبكيت ضمير؛ لأنه لَمْ يخن هندًا ولم يقصر في حقها عليه، ولا وهم أنها تغضب من أمرٍ لا عهد بينه وبينها فيه.

•••

ولقد كانت سارة وهند على مثالين من الأنوثة متناقضين؛ كلتاهما أنثى لا تخرج عن نطاق جنسها، غير أنهما من التباين والتنافر بحيث لا تتمنى إحداهما أن تحل محل الثانية، ويوشك أن تزدريها.

ماذا أقول؟ بل لعلهما من التباين والتنافر بحيث تتمنى كلتاهما قبسًا من طبيعة الأخرى، ولولا أنها تنكر الاعتراف بذلك بينها وبين نفسها، فتسمح للتمني أن يستحيل إلى نفور.

فإذا كانت سارة قد خُلِقَت وثنية في ساحة الطبيعة، فهند قد خُلِقَت راهبة في ديرٍ، من غير حاجةٍ إلى الدير!

تلك مشغولة بأن تحطم من القيود أكثر ما استطاعت، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر ما استطاعت من قيود، ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجوهر.

الحزن الرفيع والألم العزيز شفاعة عند هند مقبولة إذا لَمْ تكن هي وحدها الشفاعة المقبولة، أما عند سارة فالشفاعة الأولى، بل الشفاعة العليا، هي النعيم والسرور.

تلك يومها جمعة الآلام، وهذه يومها شم النسيم.

تلك تشكو ويخيَّل إليك أنها ذات أرب في بقاء الشرور تستديم بها معاذير الشكوى، وهذه تشكو كما يبكي الطفل لينال نصيبًا فوق نصيبه من الحلوى.

تلك مولعة بمداراة نقائصها لتبدو كما تتمنى أن تكون، وهذه مولعة بكشف نقائصها لتمسح عنها وضر الخجل والمسبة، وتعرضها في معرض الزينة والمباهاة.

تلك لها عدة المتانة والمجاملة، وهذه لها عدة الرخاصة والبساطة، لو عملت تلك عمل الرجال لانتظمت في السلك السياسي، ولو عملت هذه عمل الرجال لانتظمت نديمًا في حاشية أمير مفراح.

كلتاهما جميلة، ولكن الجمال في هند كالحصن الذي يحيط به الخندق، أما الجمال في سارة فكالبستان الذي يحيط به جدول من الماء النمير، هو جزء من البستان لا حاجز دون البستان، وهو للعبور أكثر مما يكون للصد والنفور.

تلك ذات طموحٍ وهممٍ، وهذه تحسب الواقع الذي يوائمها خيرًا وأشهى من كل مطمعٍ ومن كل همةٍ.

تلك تعطيك خير ما أعطت على البعد والحيطة، وهذه تعطيك خير ما أعطت على القرب والسرف.

كلتاهما ذات ثقافة وألمعية، لكن ثقافة هند إلى المعرفة، وثقافة سارة إلى الفطرة.

ولو نسينا العُرف والاصطلاح لحار الإنسان أيهما أقوم في السجايا والأخلاق، ولكن الذي لا ريب فيه ولا حيرة فيه أن سارة أرجح وأصلح قبل أن ينزل التكليف على أبناء آدم وحواء، وأن هندًا أرجح وأصلح حيثما نزل تكليف … أي تكليف!

•••

وما زالت الصور النسائية تتوارى وتتهافت في بديهة همام حتى احتجبت كل صورة إلا هاتين الصورتين المتقابلتين، إحداهما قائمة في محراب، والأخرى باثقة كالزهرة من زبد العباب! وتعاقب الأيام فأصبحت صورة فنية نفيسة لا تقوم بمالٍ ومثلت الأخرى كما كانت تمثالًا من لحمٍ ودمٍ.

•••

وكانت سارة لا تعلم من شأن هند إلا أن همامًا يعرفها ويكبرها ويزورها حينًا بعد حينٍ، فكانت تبرم بهذه الزيارات، ثم كانت تتوخى أن تغويه وتشغله في اليوم الذي يختاره لزيارة هند … فيؤجل الموعد لأنه لَمْ يكن في الحقيقة بموعدٍ، ولأن البعد يمنع الاتصال بسارة وما عندها من سرور، ولكنه لا يمنع الاتصال بهند في ذلك اليوم، وفي كل يوم.

وراح همام ينسرق من نفسه وهو يدري تارةً ولا يدري تارةً أخرى، حتى ابتلعته اللجة وشغلته سارة عن كل شاغلٍ، أو أصبحت على الأصح ممزوجة بكل شاغلٍ، فبعد أن كانت في بداية التعارف بينهما واحدة من ألوف وملايين يشملهن عنوان النساء مُفضَّلة إن حضرت، وتغيب فيُغنِي عنها مَن حضر، عادت وهي الواحدة وحدها لا يُغنِي عنها سواها، وعاد همام ينظر إلى النساء في الطرقات ويوشك أن يسأل جدًّا وصدقًا: ما بال هؤلاء؟ ولماذا خلقن؟ ومَن ذا الذي ينظر إليهن؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤