مَوعِدٌ

فارقته على موعد اللقاء في الساعة الخامسة «موعدنا القديم».

وكأنما كانت كلمة الموعد «القديم» وحدها طلسمًا ساحرًا نقله من حالةٍ إلى حالة، وأخرجه من الحذر والتردد إلى الراحة والاستبشار … فاحتجبت عنه صفحة الشكوك والآلام والمنغصات، ولم يرَ أمامه إلا «الموعد القديم» بل «المواعيد القديمة» في كل يومٍ، وما كانت تحتويه من سرورٍ ومتعةٍ وصفاءٍ، وذكريات لا تزال مرتسمة في الذهن، سارية في الجوارح كأنها وظيفة من وظائف الأعضاء.

وانطلق من المركبة خفيف الخطى موفور النشاط يكاد لا يعرف أحدًا، ويكاد لا يعرفه مَن كان يراه قبل ذلك بساعةٍ أو أقل من ساعة.

وأول ما خطر له أن يدخل في ذلك المساء دار «الصور المتحركة» التي كانا يلتقيان فيها معظم الأوقات، كأنها باب كان موصدًا أمامه ففُتِحَ على مصراعيه، أو فاكهة ممنوعة رُفِعَ عنها المنع والحرمان.

ومن عجائب العاطفة الإنسانية أنها أبدًا مولعة بالمراسم والشعائر، فلا تستولي على النفس حتى ترسم لها «طقوسًا» وعادات تُذكِّر الإنسان بطقوس العقائد والعبادات.

فلمَّا خطر له أن يقصد إلى دار «الصور المتحركة» أو إلى ذلك «الحرم» الذي كان ممنوعًا حتى ذلك المساء، لَمْ يكتفِ بتذكرةٍ واحدةٍ، بل طلب له تذكرتين اثنتين، وهو لا ينوي أن يصطحب أحدًا، ولو جاءه أحد يصطحبه لفرَّ منه كما يفر المرء من غريم.

وقضى الوقت الباقي إلى الساعة التاسعة في قلقٍ واشتياقٍ كأن موعد التمثيل هو موعد اللقاء المنظور.

ثم بدأ عرض الصور وهو يزعم لنفسه أنه يشهد الرواية ويتتبع الممثلين والممثلات، وليس في خُلده من ذلك شيء إلا كما يرى الناعس المهموم ما حوله من الأشباح، أو يسمع ما حوله من الأصداء … كل ما يثبت في خُلده منها أنها أشباح وأنها أصداء!

ثم جاءت فترة الاستراحة فإذا بالفتى الذي يبيع هناك بعض الحلوى والمرطبات مقبل عليه في دهشةٍ واستفهامٍ يسأله: أكنتَ مسافرًا يا بك؟

وقبل أن يسمع الجواب أسرع فقال: إن السيدة كانت هنا في حفلة الغروب.

وإذا بصاحبنا يسأله وهو لا يقصد السؤال، ولو فكر في سؤاله قبل أن يلفظ به لكتمه وأخفاه: أكانت وحدها؟

وخُيِّل إليه أنه يلاحظ في نظرات البائع ولهجته تلميحًا خبيثًا يقول له ما لا يريد أن يعرفه، ولا يريد أن يجهله في الوقت نفسه، فسلبته تلك الملاحظة كل طمأنينة إلى ما سيقوله البائع من خبرٍ مقبولٍ أو خبرٍ مرفوضٍ، وودَّ لو أنه يسكت فلا يجيب بشيء.

ولكن البائع لَمْ يزد على أن هز رأسه وقال: لا أدري … كانت إلى جانبها سيدة … ولعلها كانت معها.

فاندفع من صاحبنا سؤالٌ آخر كما اندفع السؤال الأول وهو يغالط نفسه، ويحسب أنه يتهكم أو يريد من البائع أن يحسبه متهكمًا غير جادٍّ في مطاولة الحديث: جانبها؟ أي جانب؟ إن للإنسان جانبين لا جانبًا واحدًا كما تعلم.

وهنا ظهر من البائع الخبيث أنه فهم كل ما هنالك من الشك والاستطلاع، فقد عوَّدته صناعته أمثال هذه المواقف وأمثال هذه الأسئلة وأمثال هذه الشكوك، فلم يفته أن «البك» يستطلع ويرتاب … ومَن يدري؟ فلعله كان يرى بعينه ما يدله على أن البك جدير بالاستطلاع والارتياب.

فتمهل قليلًا وقال: «كان إلى جانبها الآخر هذا الممر …» وأشار بيده إلى أحد الممرات التي بين الصفوف.

فارتفع كابوس ثقيل عن صدر صاحبنا، وأَحَبَّ أن يعتقد أن كلام البائع خليقٌ أن يزيل من نفسه جميع الشكوك، لا مجرد الشك الذي خامره عن زيارة السيدة لدار الصور المتحركة في ذلك اليوم.

إلا أنها طمأنينة عاجلة لَمْ تلبث أن ذهبت كما جاءت في طرفة عين، وإذا بصاحبنا يناجي نفسه ذلك النجاء الذي كان غائبًا عن خاطره منذ فترةٍ وجيزةٍ، يا عجبًا! إني لأجتنب هذه الدار كأنها تجمع شياطين الأرض كلها في حيزٍ واحدٍ، وهي تزورها ولا ترى فيما كان بيننا من القطيعة موجبًا لاجتنابها … لو كان قلبها خاليًا من هوى آخر لما استطاعت ذلك، ولفعلت كما كنتُ أفعل أنا إلى هذا المساء … والأغلب الأرجح أن هذا البائع يعلم من خفية الأمر أكثر مما يبوح به أو يريد أن يبوح، ألا ترى إلى غمزات عينيه وحركات وجهه ونغمات كلامه؟ فماذا على المنحوس لو أفضى بما عنده وأراحنا من هذا العناء؟

وعاد صاحبنا يتساءل في ضميره: ما عنده؟ أهكذا جزمت سريعًا بأن «عنده» سرًّا وأنه يستطيع أن يبوح بأكثر مما قال؟ ألا يجوز أنه لَمْ يعرف سرًّا على الإطلاق، وأن ما حسبته غمزات ونغمات مريبة في صوته إنما هي عادة هذه الطبقة عندما تتحدث لرجلٍ عن امرأة، أو عندما تتحدث في كل شأنٍ بين رجالٍ ونساء؟

– يجوز.

– لا يجوز.

وهكذا انطلقت في مخيلة صاحبنا أوهامٌ وأشباحٌ لا عداد لها في تلك الساعة القصيرة، ولا يُقَاس عليها كل ما شهدته تلك الدار من الأوهام والأشباح ومن المبكيات والمضحكات.

ولم ينقذه مما استغرق فيه إلا انتهاء التمثيل وزحام الخروج ولقاء بعض الأصحاب وسهرة كثرت فيها الشواغل وطال الحديث.

ونام تلك الليلة على أثر انفضاض السهرة وكان يُقدِّر أنه لن ينام.

ولكنه لو قضى الليل كله ساهرًا لما عمل في اليقظة إلا الذي عمله وهو نائم، حلم وتفكير وهواجس وخيالات تضطرب وتصطخب ويتبع بعضها بعضًا، ولا تميل إلى جانب الرضا لحظة حتى تعود إلى جانب الوسواس والمنغصات.

ثم استيقظ في الصباح وهو يسأل نفسه كأنما يسأل مخلوقًا غريبًا يجهل ما عنده من نيةٍ وشعور: أتنوي أن تنتظرها في الموعد؟

فما هو إلا أن وضح السؤال في خاطره حتى شعر بأنه سؤال غريب يدل على ما وراءه، وحتى بدت الدهشة من أن تكون هناك نية معقولة غير الانتظار.

وهنا دارت في سريرة هذا الرجل — هذا الرجل الواحد — مناقشة عنيفة طويلة كأعنف ما تدور المناقشة بين رجلين مختلفين، كلاهما مُصرٌّ على عزمه، وكلاهما يحاول جهده أن يخدع الآخر ويستميله إلى رأيه، وكلاهما يبذل كل ما هو قادر عليه في هذا الحوار من أساليب الإقناع والإغراء والرياء والتصريح: كيف لا تنتظرها؟ أتعطي سيدة موعدًا ولا تنتظرها فيه؟ أهذا يليق برجل؟

– ولكنها ليست سيدة كسائر السيدات، ولا زائرة من زائرات المجالس العامة اللواتي تقع بيننا وبينهن هذه التكاليف … إن هذه المجاملات أو هذه القيود لا حساب لها في العلاقات التي انطلقت من جميع القيود.

– ولكن ممَّ عساك أن تخاف؟ انتظرها وقل لها أنك لا تريد أن تراها بعد هذا الموعد.

– عجبًا … أتجهل ما أخافه؟ أتجهل تلك الآلام التي لا حيلة فيها لمخلوقٍ ولا تزال تبتدئ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبتدئ؛ لأنها تبتدئ وتنتهي من الشكوك، وليس للشكوك قرار حاسم، ولا مقطع بيقين؟

أتجهل تلك الأشباح اللئيمة التي تطل عليك في أطيب أوقاتك فتنغص عليك كل لذة وتكدر عليك كل صفاء؟

– لكنْ علامَ كل هذه الشكوك التي ليس لها من أولٍ ولا آخر؟ … اصرفها عنك مرةً واحدةً وافرض أسوأ الفروض، وقدِّر أنها تخونك وأنك تلهو بها في ساعات فراغك، ولا يعنيك من شأنها بعد ذلك إخلاصٌ ولا خداع.

– أأنت مخلص فيما تقول؟ وكيف تنقلب هذه المرأة التي كانت كل نساء الأرض عندي، وكل ما يخفق له قلبي، فتصبح بين مساءٍ وصباحٍ وهي لهو ساعة ومتعة فراغ؟ أهذا خداع يجوز على إنسان؟ أوَتضمن إذا أنا اتخذتها لهوًا ومتاعًا ألَّا يتمكن اللهو ويطيب المتاع، وأننا لا ننكفئ بعد أيامٍ أو بعد أسابيع إلى استغراقنا القديم وشكوكنا القديمة وعذابنا الأليم؟ لا لا، هذا مُحَالٌ باطلٌ، واستدراج لا يستر ما وراءه وتزويرٌ لا أرضاه.

– لكن الفتاة مليحة مع ذاك … تصور بضاضتها وهي جالسة إلى جانبك في المركبة، وأنفاسها وهي تهب على خدك فتسري في جميع أوصالك، وقُبلتها وهي ترتعش على شفتيك، وحلاوتها وقد زادها النحول في هذه الأشهر حلاوةً على حلاوة، ونحولها نفسه وما ينبئ عنه ويكشفه لك من المودة والحنين، وتصور ذلك كله بين يديك في مدى بضع ساعات وأنت مع هذا تفكر … تفكر في ماذا؟ في نبذ هذه النعمة التي تسعى إليك، وفي الخوف والجبن والفرار.

– هذا حق كله، إن الفتاة لمليحة ولا نكران … ولكن!

– ولكن ماذا يا أخي …؟ انتظرها والْهُ بها ولا تدعها لغيرك ينال منها ما لا تنال … ولا تستضعف عزيمتك هذا الاستضعاف المهين وأنت رجل ذو عزيمة ومضاء … فإذا عاودتك الشكوك فأنت قادر على قطع العلاقة بينك وبينها كما قطعتها من قبل، وإلا فأنت رابح ما استرجعت من متعةٍ وسرورٍ.

– عزيمتي؟ وأين هي عزيمتي إن كانت لا تنجدني في هذا النزاع العنيف؟

– إنها تنجدك في كل حينٍ ولكنك أنت لا تريدها الآن … لا تريد عزيمة الجفاء والقطيعة، ومتى أردتها غدًا فهي حاضرة لديك، وهي في كل ساعةٍ طوع يديك … ومع هذا ألا يشوقك أن تستمع إلى حديثها عن أيام القطيعة بينكما؟ ألا يجوز أن تفسر لك بعض الغوامض، وتريك من البواطن ما ينقض الظواهر وتصف لك من حالها في غيابها عنك ما يهمك ولو من باب الدراسة والاستقصاء؟

وتعاقبت الساعات ساعةً بعد ساعة في هذا الحوار الحثيث ولا قرار.

وتناول صاحبنا غداءه ولا قرار.

وجاءت الساعة الرابعة ولا قرار.

نعم، لا قرار فيما يشعر به صاحبنا أو صاحبانا المتحاوران على أصح التعبيرين، غير أن الذي حدث بعد ذلك يدل دلالةً لا شك فيها على أن الإنسان يقرر ما ينويه وهو لا يشعر ولا يعترف بشعوره، بل يدل على أن صاحبينا المتحاورين لَمْ ينفردا بالميدان فيما شجر بينهما من عراكٍ عنيفٍ، وإنما كان معهما ثالثٌ لا يدريان به وهما ماضيان في الإقناع والإنكار.

ففي الساعة الرابعة وبضع دقائق — والحوار على أشده بغير قرار — وجد صاحبنا أنه يلبس ملابس الخروج ويفتح باب حجرته وينحدر على الدَّرَج إلى حيث لا يعلم إلا أنه خارج من المنزل وكفى، ومضى في طريقه مهرولًا كمَن يمضي إلى غايةٍ معلومةٍ يخشى أن يفوته لحاقها، وركب سيارة لَمْ يعرف إلى أين تحمله إلا بعد أن استقر فيها، واستطاع أن يمكث حيث ذهب ساعات ثلاثًا لا ساعةً واحدة ولا نصف ساعة كما كان يتمنى وهو يعالج أن ينجو من الموعد المحدود.

ثم ساوره القلق ودلف إلى منزله بالسرعة التي فارقه بها، واستحالت كل حيرته قبل الخروج إلى حيرةٍ أخرى، أو شوقٍ آخر، وهو أن يعرف ما حدث في غيابه بجميع تفصيلاته، هل حضرت في الساعة الخامسة؟ أو حضرت قبلها أو بعدها؟ وماذا قالت حين علمت بخروجه؟ وما بدا على وجهها وهي تُصدَم بهذه «المقابلة»؟ وإذا كانت لَمْ تحضر فما الذي عاقها عن موعدها؟ ولماذا ضربت ذلك الموعد باختيارها؟ هل ضربته وهي تنوي أن تخلفه من اللحظة الأولى، أو طرأ الحائل بعد ذلك على الرغم منها؟

وأنه ليفتح الباب بالمفتاح الذي في جيبه ولا ينتظر أن يدق الجرس كعادته في الأوقات الأخرى، إذا بالخادم يصادفه وراء الباب، وهو يظن — بل يرجو — أن يخبره على الفور أن سيدة حضرت في غيبته ولا تزال في انتظاره، ويغلو به هذا الوهم حتى يُعجِّل بالالتفات إلى حجرة الاستقبال ليلقى السيدة التي تنتظره فيها.

ولم تمضِ في ذلك إلا لمحة خاطفة والخادم شاخص لا ينبس بحركةٍ ولا يلوح عليه أنه يحمل خبرًا من الأخبار يستحق أن يُقَال، ويساوي تلك اللهفة التي تعتلج في صدر صاحبنا.

فأسرع صاحبنا سائلًا: ألم تحضر إلى هنا السيدة؟ ألم تقل شيئًا؟

فقال الخادم في فتورٍ غريبٍ: لا أعلم!

فانفجر صاحبنا غاضبًا: كيف لا تعلم؟ ألم تكن هنا؟ هل هي أوصتك بأن تقول ذلك؟

قال الخادم وفي صوته احتجاج مَن يستغرب ولا يفقه معنى هذا الاتهام: يا سيدي قلتُ لا أعلم؛ لأنك نزلت من هنا وأنا نزلت وراءك حسب المعتاد في سائر الأيام.

فاشتعل صاحبنا غيظًا، وهَمَّ أن ينقض عليه لولا أن هرب الرجل من أمامه فتبعه إلى باب الخدم، وهو يعلنه بالطرد وألَّا يعود ليريه وجهه مرةً أخرى، ولم يصفح عنه إلا بعد ثلاثة أيام، وبعد أن شفع له أن الرجل معذور؛ لأنه لَمْ يأمره بالبقاء في المنزل، وقد أنساه أن يأمره بالبقاء فيه ما كان مشغولًا به من حوار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤