وَكَيفَ الرقَابة؟

صحَّت النية على الرقابة فلا مناص منها.

وبقي أمر الرقيب والعثور عليه.

فمَن يكون هذا الرقيب؟

لَمْ يشرع همَّام في بحث هذه المسألة حتى وضح له أنها مشكلة كثيرة الشعاب.

فخطر له في بداية الأمر أن يستعين برجلٍ يؤدي هذه المهمة وينقده على ذلك أجرًا يرضيه.

ثم قلَّب الأمر على وجوهه فرأى أن هذا الرجل المستأجر يحتاج إلى رقيبٍ عليه لضمان إخلاصه وجدِّه وحسن التبصر في عمله، فإذا بغير رقيبٍ فأغلب الظن أنه يأتي في آخر كل نهار ومعه كشف طويل عريض بأجور السيارات والجلوس على القهوات ورشوة الخدم والبوابين، ولا فائدة من جميع ذلك غير التضليل والمراوغة والتشويق لاستطالة الرقابة واغتنام الأجور.

ثم تنقضي الأيام وهو لَمْ يعرف شيئًا ولا أعان على معرفة شيء.

وهبه عرف بعض الحقيقة أو عرف الحقيقة كلها، فهذا أخطر وأخسر … لأنه يستغل معرفته كلَّمَا احتاج إلى المال لابتزاز الإتاوات والإنذار بكشف الأسرار، فيومًا يهدد السيدة ويومًا يهدد السيد ويومًا يقارب الأقرباء والأولياء ويلوح لهم بما وراء الغطاء، ولعله يختصر الطريق من أوله فيُطْلِع السيدة على مهمته ويفسد الأمر فسادًا لا صلاح بعده.

رقيبٌ أجيرٌ لا ينفع في هذه المواقف.

ولن ينفع فيها إلا الصديق الصدوق.

نعم، لا ينفع فيها إلا رجل يعنيه أن يعرف الحقيقة ويؤمن قبل ذلك بأنها حقيقة تستحق عناءها! فكم عندك يا همَّام من أمثال هذا الصديق؟ مئات؟ عشرات؟ آحاد؟

إن الناس يحسبون «الضيق» محك الصداقة الذي لا يكذب ولا يخيب.

والناس في ذلك مخطئون.

لأن الصديق الذي ينجد صديقه في الضيق قد يتخلى عنه وينقلب عليه في أعماق السريرة.

وليست المعونة الصادقة هي المعونة التي تدخل في رقابة العُرف أو في رقابتك أنت بينك وبين صديقك، ولكنها المعونة التي لا حسيب عليها غير الضمير، ولا باعث لها غير اتفاق الهوى وامتزاج الشعور.

كثيرٌ من الأصدقاء يعينون أصدقاءهم في الضيق لأن العرف يحمد لهم هذه المعونة ويتخذهم مثالًا للأمانة والوفاء وجميل الفداء.

وكثيرٌ من الأصدقاء يعينون المرء على الشئون التي يشعر هو بمعونتهم أو بتقصيرهم فيها؛ لأنه يحمد لهم ما صنعوا ويجزيهم بما أسلفوا ويرد لهم ما أقرضوا.

أما الشئون التي لا رقابة عليها للمرء ولا للعُرف فالمعينون عليها أقل من القليل، وهمام أو غير همام سعداء إن ظفروا من كل ألف صاحبٍ بواحدٍ فذٍّ من هؤلاء الأعوان.

في هذه الشئون يستطيع الصديق أن يقصِّر وأنت لا تشعر بتقصيره، وبما قصَّر ولم يؤمن هو بأنه مقصر ملوم؛ لأنه لا يؤمن بجنون العاطفة ونزوات الهوى … فكيف يتقي مغبة التقصير ويصبر في سبيل ذلك على الجهد العسير أو اليسير؟

وإذا انكشف تقصيره فمَن ذا الذي يلومه؟ لعله يلقى يومئذٍ من المعذرة والثناء أضعاف ما يخشاه من العذل والمذمة.

ذلك كله على أهون الفروض.

أما أصعب الفروض فهو أن تنقلب الرقابة إلى مطاردة، والمطاردة إلى اقتناص … وليس أصعب الفروض دائمًا بأبعدها وأندرها في الوقوع!

حيرة جديدة «نجا» إليها همام من الحيرة الأولى … والحيرة الأولى باقية كما كانت في موضعها القديم.

وإن همامًا ليضرب أخماسه في أسداسه ويبرح في ضربه وإيجاعه إذا بالقدر يحل المشكلة العصية أسهل حل مستطاع، وإذا بالسماء تنفتح على حين غرة ويهبط منها الرقيب المنشود!

– ماذا جاء بك يا أمين؟

– جاءت بي إجازة أيام.

– ويحك! أنت طول عمرك تُفصَل من أعمالك بغير داعٍ، أفما كان في وسعك هذه النوبة أن تنفصل فصلًا نهائيًّا يا لئيم!

قال أمين وقد فوجئ: لماذا هذا الاستعجال على الفصل؟ ما الخبر؟

قال همام: الخبر أنك لازم لنا مدة طويلة … أطول من أيام … ولعلها أطول من أسابيع.

وسرد له المسألة بأقصى ما رآه صالحًا من التفصيل والإسهاب، فلم يكذبه حدسه، وأسرع أمين بالإجابة والموافقة، وأوشك أن يسرع بالشكر والتهلل كأنه كان يتمنى ما اقترح عليه، ووعد أن يأتي بقصارى جهده في هذه الأيام القليلة ولا حاجة إلى الفصل المألوف!

لَمْ يكن همام قد نسي أمينًا في مشكلة الرقابة، وليس أمين بالصديق الذي يُنسَى في مشكلةٍ من قبيلها؛ لأنه يؤمن بالواجبات الشعرية أشد من إيمانه بجميع الواجبات الإنسانية، وهو ذو أريحيةٍ ومروءةٍ وصدق لسانٍ وصراحة شيمة، ويحسب أن خيانة الصديق في العشق لا تقل عن الخيانة في أقدس الحرمات، وبينه وبين المطاردة والاقتناص هذا الخُلُق المستقيم الجميل وشيء آخر غير مستقيم ولا جميل! وهو أسنان عوجاء مثرمة ووجه كثير التجاعيد والغضون … فإلى أن يمسخ طبعه وتنصلح أسنانه ووجهه هو ولا ريب وفاق الشرائط من وجوهٍ كثيرةٍ، وأحق من الصحب قاطبة بالتذكر والاعتماد.

إلا أن همامًا تخطاه بادئ الأمر لسببين؛ أحدهما أن أمينًا كان يومئذٍ يعمل بقريةٍ بينها وبين القاهرة مسيرة ساعات على جميع وسائل المواصلات: على القدم وعلى المطية وعلى السفينة وعلى القطار أو السيارة.

وثانيهما — وأخطرهما — سهوات الذكاء التي اشتهر بها أمين، ويا لها من سهواتٍ! فهي كعيب ذلك الزنجي الذي يكذب في السنة أكذوبة واحدة … وفي هذه الأكذوبة الواحدة قاصمة الظهور.

فيجوز أن يكون إخلاصه هو كل المطلوب في هذه المواقف، ويجوز أيضًا أن يكون هو المحذور، وهمام وحظه ونصيبه بين الجوازين! وإليك المثال:

كان السيد أمين في إحدى إجازاته القصيرة ينزل بمنزل همام، ودق التليفون عصاري يومٍ في مسألةٍ عاجلةٍ، فخف همام إلى الخارج وأوصى أمينًا أن ينتظره ريثما يعود بعد نصف ساعة، وأن يستقبل ضيوفًا قادمين في هذه الآونة ويعتذر إليهم بعذر همام المفاجئ، ويبلغهم أنه سيرجع بعد هنيهة ليقضي معهم الأصيل حسب الموعد، وقد عاد همام بعد نصف الساعة المقدور فلا أمينًا ولا ضيوفًا وجد في المنزل! وكل ما وجده بطاقات الضيوف في عقب الباب عليها كلمات تشف عن الأسف والاستغراب.

ولبث همام يقدر في ذهنه ما توهمه الضيوف من أسباب مغيبه المتعمد ولا مراء، فإنه لا يخرج في هذه الساعة، وليس للضيوف إلا أن يعتقدوا كل الاعتقاد أنه راغ عن الموعد أو أخفى نفسه وتركهم يرجعون على أعقابهم مسافةً ليست بالهيِّنة ولا بالقصيرة.

وبينما همام يستغرب خروج أمين ولا يدري ماذا أخرجه خاصةً في هذا اليوم الذي سُئِل فيه الانتظار، أقبل السيد أمين يحمل في يديه قازوزتين وقليلًا من الفاكهة والحلوى وهو راضٍ عن نفسه رضى الرجل الضليع بمهام الأمور.

قال أمين وهو يخفي اعتزازه واغتباطه بحسن تدبيره وعرفانه بالواجبات التي ينساها الغافلون: إنك يا صاح قد نسيت أن الثلاجة خالية وأن الضيوف قادمون، وقد ذهبت أحضر لهم بعض الشيء فعسى أن يستطيبوه!

فضحك همام غيظًا وعجبًا من اهتداء صديقه إلى العمل الوحيد الذي لا ينبغي أن يعمل، واعتقاده مع ذلك أنه هو الواجب الذي ينبغي دون سواه، وربت على كتف الصديق قائلًا: أحسنت أحسنت يا مولانا، وما عليك الآن إلا أن تعدو بالقازوزة والفاكهة في أثر الضيوف، فلا شك أنهم منتظروها في الطريق! وأراه البطاقات وما هو مكتوب عليها، فما زاد على أن فغر فاه ونطق بحكمته المأثورة كلما أدرك خطأه: «مدهش! حضروا وعادوا؟ ليس لهم حق! … ما كان يصح أن ينتظروا؟»

نعم، كان يصح أن ينتظروا، أما هو فلا يصح أن ينتظرهم في البيت.

وكان أمين وبعض صحابه يجلسون إلى منتدى على مقربةٍ من مكتب «جماعة المؤاساة» وكلهم من شراة نصيبها المكثرين، فارتفعت الجلبة والصياح من جانب المكتب ونهض أمين يستطلع الخبر، وعاد بعد دقائق فجلس وعلى سيماه قلة الاكتراث وهو يقول: إنما هي النمر الأربع الكبيرة!

فانفجر الصحاب ضاحكين وأطالوا في الضحك، وأمين لا يدري ممَّ يضحكون، حتى سأله أحدهم: أوَاطلعت على النمر؟

فأخذ يفطن لسهوته البارعة، وحاول أن يصلحها كعادته فقال: أوَكنتم تريدون الوقوف عليها؟

فزادوا ضحكًا وركبوه بالعبث من جميع نواحيه، وجعل هذا يقول له: «لا، معاذ الله! وهل يليق أن نربح إلا الجنيه والجنيهين؟» وذلك يجذبه من كسائه ويصيح به: «يمينًا لو ربحنا النمرة الكبيرة لنقذفن بها في التراب، وهل ثمانية عشر ألف جنيه مما يساوي عناء السؤال؟» … وذلك يناديه: «اقعد يا شيخ اقعد، لا كانت النمر الكبيرة ولا كان مَن يسأل عنها، إنما القناعة كنز لا يفنى، وإنما المعول على الدراهم والملاليم!» … وآخر يصطنع الجد ويقول وصاحبنا يتوقع منه الإنصاف: «لا، لا يا إخوان، أنا أعرف ما ينتظر أمين … إنه ينتظر كشف الخسائر والغرامات!»

فلم يجد الرجل مخلصًا من هذه الحملة المتداركة إلا أن يلوذ هربًا بمكتب المواساة ويرجع إليهم بأرقام النمر الكبيرة ويقتحم في سبيل ذلك زحام المزدحمين الذي تلاحقوا من كل صوبٍ في تلك اللحظة، وتكوَّفوا حتى أغلقوا مسالك المكتب … وعناء على كل حالٍ أخف من عناء.

وأفلح الرجل، ووصل إلى الكشف، وكتب الأرقام الأربعة، ورجع بها ليقرأها على أولئك المشاغبين الذين لا يرحمون، ولم يبقَ إلا شيء يسير جدًّا هو الذي فاته يحسب حسابه، وهو قراءة الأرقام.

فإن الأرقام الملعونة تآمرت عليه مع المتآمرين، وأبت أن تنقرئ لا من اليمين ولا من الشمال ولا من الأعلى ولا من الأسفل، وراح المسكين يجاهد ويعالج، وراحت هي تأبى وتصر على الإباء … ويحمر وجهه ولا فائدة! ويحملق ولا فائدة! ويحاول أن يفسر عجزه ولا فائدة! حتى رحمه أحد الصحاب فانتزع منه الورقة فإذا هي تذكرة ترام، وإذا بالأرقام مكتوبة على صفحة التذكرة التي تمتلئ بالكتابة، ومن ورائها صفحة أخرى يوشك أن تكون فارغة لَمْ يلتفت إليها أمين لأنها — لأمر ما لا يعلمه هو ولا يعلمه أحد — غير جديرة بالالتفات!

لقد كانت الحملة الأولى رحمة سماوية بالقياس إلى الحملة الأخيرة؛ فأينما تحول ببصره فثمة لسان بارز أو تحية ساخرة أو تبويخة حاضرة، وهو صامت يغوص في أعماق القريحة عن المعاذير والمسوغات، ولا تطمئن عزيمته الماضية إلى التسليم والاعتراف.

ومن عادته إذا اعتذر أن يجيء بطرفةٍ أطرف من الأضحوكة الأصيلة التي أثارت الضحك والمشاغبة، وعرف أصحابه ذلك منه فطفقوا يحرِّضونه على الكلام كلما بدرت منه تحفة من تحفه المأثورات، وبالغوا في الإلحاح يومئذٍ لينظروا بماذا يتجلى عليه السهو المبارك بعد تلك السهوات الألمعيات، فلم يخلف ظنونهم آخر الأمر فتكلم، وكان ما قال بيت القصيد وآية الآيات في ذلك اليوم الخصيب.

انقلب من الدفاع إلى الهجوم، وقال لهم مستجمعًا سكينته واعتداده: تترقبون ألوف الجنيهات! تريدون أن تكسبوا … وهل أنتم وجه مكسب، الله لا يكسبكم؟! إنني تعمدتُّ أن أجيئكم بالأرقام، واكتفيتُ بما أذكر من أرقام الأستاذ همام وأرقامي ولم أحفل بما عدا ذلك! وهل كنتم من البلاهة والغفلة حيث تحسبون أنني أراجع لكم أرقامكم ومكاسبكم لأكسب منكم هذا الهراء الذي لا تفلحون في غيره؟!

ويلاحظ أنه لَمْ يختلق هذه المعذرة إلا بعد ما حصل الصحاب على الكشف وراجعوا الأرقام ويئسوا جميعًا من الأرباح، ولم يختلقها قبل ذلك مخافة أن يكذِّبه الواقع عند مراجعة الكشف فيسقط في يديه.

إلا أنهم لَمْ يتركوه ينعم بأكذوبته المهلهلة التي ساقه إليها الحرج والنكاية والمزاح وراحوا يقولون له بعدما أوسعوه سخرًا وأشبعوه هذرًا: يا مكابر! أتذكر سبعين نمرة بين كبيرة وصغيرة قرأتها منذ أيام ولا تذكر نمرًا أربعًا قرأتها منذ دقائق؟! طيب … ها نحن أولًا معك، أعد علينا النمر الأربع ولك عن كل واحدة جنيه!

فحار وأبلس، ابتأس وعبس، وألقى يد السلم واستسلم، وزادت تجعيدة حديثة إلى جانب كل تجعيدة قديمة في ذلك الوجه المشدوه.

•••

تلك نماذج غير منتقاة من سهوات السيد أمين حديثها وقديمها، نضعها إلى جانب إخلاصه واستقامة طبعه فنفهم المركب الذي ركبه همام من تفويض الرقابة إليه، وأصدق ما يوصف به أنه كالسفينة التي لها شق متين يكافح الأمواج والرياح، وشق هزيل محلول الدسر والألواح، ولا مناص من السفر عليها، ولا أمان في البقاء على الساحل.

فأما الرقابة فلا حيلة غيرها.

وأما الرقيب فغير أمين لا يوجد.

وكل ما يملك همام من اختبارٍ فهو الإكثار من التوصية والإلحاف في التحذير والمعاودة بالتنبيه، وقد فعل جهده ثم أغمض عينه، وآوى إلى السفينة وهو يترقب الغور كما يترقب ساحل النجاة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤