القَطِيعَة

حصلت القطيعة ولم تسفر الرقابة عن نتيجة.

حصلت ولم يردها أحد، ولم يغتبط بها أحد، كأنها مخلوق قائم بمعزلٍ عن أبويه، تريد له بنيته المستقلة ما تريد ولا يريد لنفسه أو يريد له أبواه، يمرض وينحل ويموت وهو لا يريد الموت ولا يريده له القوَّامون عليه، بل كأنه الجنين الذي استوفى حمله فلا بد له من الظهور ولو ماتت أمه وانفطر قلب أبيه.

أوَلَمْ يقل همام إنه لن يفرط في هوى سارة ولن ينفصل عنها إلا وهو واثق كل الوثوق من خيانتها، وعاجز كل العجز عن صيانتها؟

أوَلَمْ يقل إنها حلية مونقة إن غلت سُوِّمَت بكنوز الأرض وذخائر البحار، وإن رخصت هانت على السوَّام والصيان؟

أوَلَمْ يقل ذلك ويعتزم العزم كله ويستجمع النية كلها على أن لا فراق ولا قطيعة إلا وقد عرف ما تساويه من قيمةٍ وما تستحقه من غيرةٍ وضنانةٍ؟

بلى، قال كل ذلك، ونوى كل ذلك، ولكن الحب الذي أوحى إليه كل ذلك قد فسد وانحلَّ ومات، ولم يبقَ إلا أن يُدفَن! وأن يحمله إلى الدفن أبواه! وهما آخر مَن يود له الموت، ويخف به إلى ذلك المصير.

لو كانت المسألة قضية تُنظَر وحُكمًا يصدر بعد نظرها لكان عجيبًا أن تثبت القطيعة قبل ثبوت الخيانة، وأن تقع العقوبة قبل وضوح الجناية.

ولكن مَن هو القاضي هنا؟ ومَن الجاني؟ ومَن الفريسة؟ ومَن صاحب الفصل وشارع القانون؟

هنا قضية لا تلمح فيها قاضيًا حتى تراه جانيًا وتراه فريسةً وتراه مقضيًّا عليه، فلا حُكم ولا براهين ولا شريعة! بل حادث من حوداث القَدَر ينقضُّ كما تنقضُّ الصاعقة، أو يشتعل كما تشتعل النار.

هنا عناصر طبيعية لا تسأل فيها ماذا تنوي وماذا تريد؟ بل تسأل فيها ماذا عملت بعد أن تعمل، كالذي يهرب من السيل ليقع في الهاوية، وكالذي يهرب من البركان ليقع في اللجة الزاخرة، وكالذي يهرب من النمر ليبتلعه التمساح، وكالذي يهرب من الرصاص لتنوشه الرياح، كل ما أنت قادر أن تجزم به هنا أنه لن يستطيع البقاء حيث كان … وهل يستطيع البقاء حيث صار؟ كلا! ولا هنالك يستطيع البقاء.

فإذا سألت لماذا اعتزم همام القطيعة بعد أن كان يعتزم التربص والمطاولة، فليس سبيلك أن تعلم أنه آثر القطيعة وحمد مغبَّتها واستمرأ مذاقها، وإنما سبيلك أن تعلم أنه لا قرار على ما كان فيه، وأنه مدفوع إلى الهرب منه كما يندفع الهارب من النمر إلى التمساح.

•••

في أيام الرقابة وبعدها بأسابيع قليلة تكررت الزيارات وتسابق همام وسارة في الاستزادة منها وهما يتكلفان، ولا يجهلان أنهما يتكلفان.

أجل، ما كانا يتمليانه من سويعات الهوى في تلك الأيام إنما كان بالقياس إلى هواهما الخصيب المطواع كالثمار المحفوظة في العلب بالقياس إلى الثمار على أشجارها بين غياضها وأنهارها.

ولم يكن همام يصور لحدسه كيف تشعر سارة بتلك السويعات المصطنعة، ولكنه هو كان يشعر شعورًا لا يزال يعاوده ويبرز أمامه كلما جهد في تبديله والإشاحة عنه بخياله، كان يشعر كمَن يلهو ويتلاهى على مقربةٍ من جنازة وفي جوار مقبرة، فمن حيثما أقبل أو أعرض فهنالك ظلال الموت، وكآبة الفناء، وسوانح الأحزان.

ومن أعجب ما كان يتمثله وهو يداعبها ويعانقها ذات يوم سرير شيخ محتضر يتابع التدخين ولا يلقي بلفيفة إلا أومأ إلى مَن حوله في طلب لفيفة أخرى.

وما كان الشيخ يصنع ذلك قبل أن يثقل عليه السقام ويتدانى منه شبح الحمام، ولكنه كان يدخن مرة فدخل عليه همام عائدًا، واستبشر قائلًا: بركة يا عماه! إن الذي يتطعم الدخان يتطعم العافية، وأراك تتقدم إلى الشفاء إن شاء الله.

ومن تلك الساعة لَمْ تعد للشيخ وسيلة يحاذر بها وهم الموت غير التدخين كلما شارف اليقين، فهو يتبع اللفيفة بأختها ليقنع نفسه بأنه يشتهيها، وأنه ما دام يشتهيها فهو على رجاء في العافية والبقاء.

لقد كان يدخن ويبالغ في طلب التبغ خوفًا من خيال الموت لا سرورًا بموالاة التدخين، وما أقرب هذه الصورة الفاجعة مما كانت فيه سارة وهمام.

لقد كانا يحرقان من لفائف الحب أضعاف ما أحرقا في عنفوانه وانطلاق طوفانه، ولكنهما يفرطان في الحب ويتكلفان الإفراط لشعورهما بقنوطه لا لشعورهما برجائه، ولإقبالهما على شتائه الأجدب لا لإقبالهما على ربيع بهجته وروائه.

وكانا في عنفوان الهوى يتشاجران ولا يباليان الشجار، ويتغاضبان ولا يجفلان من الغضب، ويختلفان ويلحان في الخلاف ولا يتحرزان من الخلاف والإلحاح، جسم فتيٌّ قويٌّ فماذا تضيره هبة من عاصفة أو لفحة من هجير؟

فلما شاخ الحب أجفلا من الغضب والخلاف، كما يجفل الشيخ الهَرِم من غضبة تنذر بالقضاء عليه، فلا هما هانئان بوئام ولا هما قادران على خصام.

سرور مشكوك فيه، وإن غاب عنه الشك فهو هزيل.

وألم حق لا شك فيه، ثم يتلو اللقاء فيزيد همامًا علامة من علامات الخيانة التي ليس بعدها من إقناع عنده غير يقين اللمس والعيان.

وإنهما ليدافعان الغضب والخلاف ويطاولان المغالطة والمراء إذا بالغضب يدفعهما في شلاله بين صخوره وأوحاله، فيندفعان ويندفعان كأبشع ما يكون الهياج والثوران، وكأنما هما نادمان على ما كان من مصانعة وبهتان.

كلا، لا جدوى من المراء، لا بقاء لهذه الحال، لا مناص من الفراق، إن كان لا مناص منه … ولا مناص!

•••

كانا يتلاقيان — إذا لَمْ يتلاقيا في المنزل — عند مفترق طريق في الضاحية ينشعب يمينًا إلى ناحية الصحراء، ويسارًا إلى ناحية الأندية ودور الصور المتحركة، وكانت تلمحه مقبلًا فتسبقه خطوات إلى حيث تواعدا من قبل؛ فإما في الصحراء أو في بعض الأندية يدخلانها على انفراد.

وقد تواعدا — بعد أسبوع من تلك الغضبة الثائرة — على اللقاء عند ذلك المفترق من الطريق، ليعطيها أوراقها وصورها وذكرياتها ويسترد منها أوراقه وصوره وذكرياته، ثم يفترق كل منهما في طريقه إلى حيث يختفي من حياتها وتختفي من حياته.

وقبل الموعد بساعة أخذ في جمع تلك الأوراق ومراجعتها ليعلم منها ما هو مطلوب وذو بال وما هو مهمل ومطروح، فيا لله كم تبلغ الورقة الخفيفة من وقرٍ وفداحةٍ! وكم تختلف المعايير والأحجام في موازين الأكف والأذهان! لقد كانت الرسائل والصور والهدايا كلها لا تملأ حقيبة صغيرة تحملها اليد الواحدة، ولكنه كان يحمل الورقة منها وكأنما يزحزح جبلًا راسخًا يشل السواعد والأقدام دون صخرة واحدة من صخوره.

ومشى إلى الموعد مشيةً لا اختيار فيها ولا إكراه، مشية الرجل الذي يسعى بقدميه إلى غرفة الجراحة ليبتر عضوًا من أعضائه غير آمن أن يكون في بتره الموت، أو مشية الأمهات اللواتي كنَّ فيما مضى يحملن فلذات أكبادهن إلى مذبح الأرباب قربانًا غير رخيص ولا مزهود فيه.

وسبقها إلى الموعد فانتظرها دقائق معدودات لاحت له كأنها آباد، ولكنه في الواقع كان يتمنى لها الفوات.

ثم أقبلت في ثوبها العنَّابي وطرتها المشتهاة! ونظرت إليه وهمَّت أن تنحرف إلى ناحية الصحراء … ثم؟ إنهما اتفقا على اللقاء لحظة في مفترق الطريق يأخذ منها ويعطيها ولا حاجة بهما إلى مراجعة، وكانت الطريق في تلك الساعة خالية إلا من عابرٍ بعيدٍ أو عابرةٍ بعيدةٍ، ففيمَ انحرفت إلى ناحية الصحراء ولو شاء المراجعة هنالك لما أعانهما غبش المساء؟ إنه حكم العادة على ما يظهر. أما هو فكل ما ساوره في تلك اللحظة خشية الانفراد والأمن من الأنظار، وخشية ما يزجيه الموقف المنفرد من كلمة أو عبرة أو نظرة وجيعة، وخشية الوهن والتردد والإرجاء، وخشية العودة من البداية إلى التيه المفزع الذي أشرف في تلك اللحظة على النهاية، وتلك جرعات لا يطيب للفم أن يترشف منها كل يوم.

أخذ منها وأعطاها، وسلَّم ولم تجبه، أو سلَّمتْ ولم يجبها، أو نسيا السلام والوداع معًا، لا يذكر، وافترقا في طريقين متدابرين.

لو كان همام في غير ذلك الموقف لتذكر وقال وتدبر؛ تذكر مفترق الطريق بالأمس وتذكر مفترق الطريق في هذا المساء، وقارن بين لقاءٍ قلما يضن فيه بشيء ولقاءٍ قلما يُجَاد فيه بسلام الوداع الأخير، ولكنه كان مغمور الفؤاد في جوٍّ من الغم واليأس كجو الضباب الكثيف، لا تسترسل فيه العين إلى مدى بعيد، ولا ترى ما حولها إلا في غلافٍ من نسيج الأطياف، وكل ما يذكره بعدما افترقا أن جسمًا غاب عن النظر ولم يشيعه وهو يغيب.

وسار في وجهة المنزل وكأنه يريد أن يبتعد منه لا أن يدنو إليه بخطاه، وفي يده حقيبة صغيرة لا يدري ماذا يصنع بها، ويزعم أنه يود لو ألقاها في عرض الصحراء لولا ما فيها من حديثٍ يصونه عن الإفشاء … يزعم ذلك ويفهم من حيث لا يشعر أن ساطيًا لو سطا على الحقيبة في تلك اللحظة ليمزقها ويحرقها لذاده عنها كما يذود الشحيح عن بقية ما لديه من حطام.

ثم دخل المنزل وتهافت على أقرب كرسي في أقرب حجرة، فلو شهده شاهد يجهل ما كان فيه لخاله قادمًا من مسيرة أيام لا مسيرة لحظات …

وكان في المنزل عشير قديم يعلم أين ذهب ومن أين عاد، فلما طال سكوت همام وعزوفه قال له صاحبه يمازحه ويسليه: علامَ أنت آسف يا صاح؟ هل تركتَ فيها من بقيةِ وطرٍ تشتهيها؟ هل عندها من متعةٍ لَمْ تستوفِ شبعك منها؟ فما بالك تأسى وتكتئب وقد أراحك الله من رفاتها بعد أن نعمت بروحها ولبابها؟

عزاءٌ حسنٌ حين تكون المرأة التي تفقدها مائدة تفرغ منها وقد أتيت على آخر لقمة منها، أما حين تكون جزءًا من الحياة لا تنفصل إلا فصلت معها من لحمها ودمها وظاهرها وباطنها، فذلك أضعف العزاء، بل هو نقيض العزاء.

إنما يعزيك الزميل الذي تحسه قريبًا بشعورٍ مثل شعورك، ولقد يغنيك من عزائه إحساسك بقربه ساعتئذٍ وهو صامت واجم، دون كلام ولا إيماء.

أما الكلام الذي سمعه همام من صاحبه وهو في جواره فقد تركه يصغي إليه كأنه يتسمَّع ألفاظًا مغلقةً من هاتفٍ لا يراه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤