موسم الرجاء

حدثني صديقي قال: كانت الساعة السابعة صباحًا بالتوقيت الجديد، أي ما يساوي السادسة بالتوقيت القديم، وانتبهت من نومي فإذا الجرس يدق، فظننته اللَّبان قد تقدم موعده، أو بائع الخبز قد أعجله أمر.

ولكن الخادم قد جاء يخبرني أن زائرًا بالباب لم يشأ أن يذكر اسمه.

– ليتفضل. فلا بد أن يكون قريبًا أتى بأمر مفاجئ أو بنبأ خطير، وجال في ذهني كل الاحتمالات لهذا الضيف — لعل فلانًا قريبنا المريض قد مات، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ولكن بالأمس كانوا يقولون: إن صحته تحسنت. ومع ذلك فمن يدري؟ فالموت لا ضابط له، قد يموت الصحيح ويصح السقيم، وربما كان تحسنه صحوة الموت، وإذا كان كذلك فماذا يصنع أهله وولده؟ أمري وأمرهم إلى الله.

ولكن لا، ربما كان الزائر فلانًا قريبنا الآخر، وربما جاء يقص عليَّ نزاعًا جديدًا بينه وبين أسرته، فما أكثر ما يتنازعون، وما أكثر ما يتحاكمون! ولكن لا بد أن ما دعاه إلى الحضور في هذا الصباح المبكر معركة حامية، أخشى أن تكون قد انتهت بالفراق، أو بحادث فظيع، مسكينة هذه الأسرة! الزوج طيب، والزوجة طيبة، ولكن الخطأ وقع في المزج لا في العناصر، كالسكر الطيب يراد منه أن يذوب في الليمون الطيب، أو ككتاب الفقه أعطي لأديب، أو ككتاب في حساب المثلثات أعطي لفقيه.

وربما، وربما، وجال في ذهني كل الفروض الممكنة لهذه الزيارة المبكرة، وفُتح الباب، فإذا الزائر ليس شيئًا من هذا كله، وإذا هو إنسان لو ظللت طول النهار أحدس فيمن هو لم يقع حدسي عليه.

– أهلًا وسهلًا. بكم.

– لا مؤاخذة، فربما أزعجتك.

– لا إزعاج، فقد اعتدت البكور.

– إنما أردت أن أستوثق من وجودكم في البيت قبل خروجكم، وقد أعيتني مقابلتكم أمس، فقد حضرت في الساعة التاسعة مساءً والعاشرة والحادية عشرة، فلم يكن لي شرف مقابلتكم.

– أنا آسف على تعبكم.

– إن شاء الله تكون صحة الأنجال جميعًا بخير.

– الحمد لله.

– أين صيَّفتم هذا العام؟

– في رأس البر.

– رأس البر جميلة، ولي فيها ذكريات طيبة … وهي تفضل الإسكندرية بجفاف هوائها ورخص أسعارها.

– نعم.

– وإن شاء الله يكون ابنك فلان قد نجح هذا العام.

– الحمد لله.

– لقد درست له، وكان شيطانًا، وكم حدثت له حوادث معي … ولكنه ذكي جدًّا، وأخلاقه قوية، ولا عجب، فالشيء من معدنه لا يستغرب.

– أشكرك.

– وبهذه المناسبة أهنئك على مقالك الأخير في «مجلة …»، فقد كان مقالًا ممتعًا حقًّا، وقد سمعت الثناء عليه من كل من قابلته، وأصدقك أني حريص كل الحرص على تتبع كل ما تكتب وما تذيع، وأشتري هذه المجلة فلا أقرأ فيها إلا مقالك، وأحيانًا أقرأ مقال «فلان» أيضًا.

– أشكرك، تفضل القهوة.

– أخشى أن أكون قد أقلقت راحتك وأضعت عليك زمنك، ووقتك ثمين وأعمالك كثيرة وكل دقيقة من وقتك فيها نفع للناس.

– أشكرك.

– الأمر وما فيه أن لي مسألة بسيطة يكفي فيها كلمة منك لتتم على خير وجه، لقد مضى عليَّ في الدرجة عشر سنوات، والآن قد خلت الدرجة التي فوقها، وأنا أحق الناس بها لجدي في عملي وشهادة رؤسائي بحسن كفايتي.

– سأدرس المسألة — إن شاء الله — فمتى وجدت أحقيتك ساعدتك.

– ثق كل الثقة بما أقول.

– وأنت ثق كل الثقة بما أقول.

– هل أعتبر المسألة منتهية؟

– منتهية عند الحد الذي ذكرت.

– أنا متأكد من عطفك عليَّ ومساعدتك لي، وإن شاء الله تتم على يديك — السلام عليكم.

– عليكم السلام — شرفتم.

وعدت أقارن بين ما حدستُ وما وجدتُ، فبسمت وعجبت!

وبعد أن انتهى التبسم والعجب دق جرس التليفون.

– فلان؟

– نعم.

– وأنا فلان.

– أهلًا وسهلًا.

– لي ولد نبيه جدًّا، ولكن خانه الامتحان فتأخر في الترتيب، ولم يأخذ النصاب الذي يستحق به المجانية، وأريده مجانًا.

وتليفون ثان وثالث ورابع وخامس، حتى وضعت حدًّا للتليفون.

ثم ذهبت إلى محل عملي.

فهذا فلان يود أن يوظَّف، وهذا يود أن ينتقل، وهذا يود أن يتخطى ابنه القوانين الموضوعة في السن أو المجانية أو في نصاب الدرجات. فأما العمل وكيف يرقى وكيف يحسَّن فلم ينله من الزمن إلا قليل.

وعدت مصدوعًا واسترحت قليلًا، ونزلت لعمل آخر، فإذا هو من جنس العمل الأول.

وزرت يومًا صديقًا فإذا حاله أسوأ من حالي: غرفة تملأ وتفرغ، ثم تملأ ثم تفرغ، وكلهم في المطالب متشابه.

•••

هذا موسم الرجاء «في المعارف»، ولكل وزارة وكل مصلحة موسم، فوزارة العدل لها موسم كهذا في كل حركة قضائية، ووزارة الأشغال في معرض الأعمال، وهكذا.

رحماك اللهم، أين نجد مع هذا كله أنفسنا؟ وأين يجد الموظفون أنفسهم؟ وأين يجدون أوقاتهم لأعمالهم؟

ما معنى هذا كله؟

معناه أن الناس يفهمون أن ليس في البلد قانون محترم، ولا قواعد مرعية، ولا عدل، ولا حق، ولا جد في تنفيذ عمل، ولا همة في تسيير الأمور، وأن العصا السحرية التي تفعل كل ذلك هي الرجاء والرجاء وحده، فهو الذي يستطيع أن يعطي مَن لا يستحق ويحرم المستحق، وهو الذي يؤخر مَن حقه التقديم ويقدم من حقه التأخير، وهو الذي ينهي العمل في لحظة، وبغيره ينام سنين.

معناه ضياع زمن المرجوِّ في مقابلات وزيارات وتحيات، وضياع زمن الراجي في «اللف» على أصحاب الأعمال ومن بيدهم زمام الأمور، وإهمال ما عُهد إليه من عمل.

معناه أن مقاييس العدالة والحق مقاييس ضائعة، ومقاييس الخلق لا قيمة لها، وأن المقاييس الصحيحة النفاذة هي مقاييس الجاه والرجاء والنفوذ والسلطان؛ فهي التي تجعل غير الكفء كفؤًا، وغير الصالح صالحًا. ونتيجة هذا — لا محالة — إهمال الكفء وحرمان الصالح.

شيء من شيئين: إما أن يكون هذا صحيحًا فالراجون معذورون، واللوم كله يقع على من بيدهم الأمور؛ فقد أضاعوا المقاييس الصحيحة، وأحلوا محلها المقاييس الزائفة، وأهملوا العدل والحق، وأحلوا محلهما الجاه والرجاء، فعرف الناس الطريق الذي يؤدي للغرض فسلكوه، والمقدمات التي توصل للنتيجة فاتبعوها، ولا لوم عليهم في ذلك، فمن السخف أن تكلفهم السير في طريق غير مؤد إلى غرض.

وفي هذه الحالة كان يجب مصارحة الناس بالحقائق، وتسمية الأشياء بأسمائها، وعدم الخداع بوضع قوانين ولوائح وتعليمات وقيود وشروط، والجهر بأن ليس هناك سبيل للتنفيذ إلا سبيل الرجاء.

وإما ألا يكون الأمر كذلك، وأنه يجري حسب العدل والحق، فيجب أن يفهم الناس ذلك بالقول والعمل، وألا يسمع منهم رجاء، إلا شكوى من عدم تحقيق العدل وتنفيذ الحق.

لقد عرفنا من الناس المهارة في هذا الباب، والحس الدقيق في شئونه، فهم يكثرون الرجاء حيث تسمع الآذان رجاءهم، وحيث تتأثر بتوسلاتهم، ويقلونه حيث تصم الآذان وتغلق الأبواب وتجهم الوجوه عند طلبهم ما ليس بحق وما لا ينطبق على قانون أو عدل.

أؤكد أن أكثر من نصف أوقات رؤساء المصالح وسائر الموظفين ضائع في مثل هذه التوافه من الأمور، ولو سد هذا الباب لاستفدنا فائدة مزدوجة: تفرغ الموظف لعمله الأساسي حتى يجيده ويتقنه، وشعور الناس والموظفين باحترام العدالة، وأن الرجاء لا يقدم المسألة ولا يؤخرها، واطمئنان ذي الجاه وعديم الجاه إلى أن حقه واصل إليه لا محالة.

وذلك لا يكون إلا بدروس قاسية من الموظفين، يحترمون فيها العدل مهما كانت نتائجه، ويلبون فيها صوت الضمير مهما أغضب، ويشمئزون ممن يحاول أن يميلهم عن الحق مهما كان ذا جاه وسلطان.

لا شك أن العدل مر، والحق صبر، ولكنه أحلى عند الرجل النبيل من القول المعسول والتصرف المزيف.

إن ذيوع الترجي في الأمة علامة الخراب في أخلاقها، فالرجاء يُشيع في الراجي ذل السؤال، ويشيع في المرجو صلف المتصدق، وكبرياء المحسن لغير وجه الله، وهو يبث في الراجي والمرجو معًا الاستهزاء بالعدل والسخرية بالحق، ويقلب المسألة من حق وواجب إلى علاقة شخصية، هي علاقة المستجدَى منه، أو علاقة المدل بجاهه على من لا جاه له.

لا بد أن يفهم الناس أن كل رئيس مصلحة، وكل من بيده أمر من أمور الناس قاض، له حرمة القضاء، وله الحق أن يطلب من الناس أن يؤمنوا بنزاهته، فكما لا يصح أن يرجى القاضي في قضية معروضة عليه، لا يصح أن يرجى أولو الأمر فيما بين أيديهم من أعمال.

وواجب أن نوجه الطلبين في وقت واحد، فنطلب من أصحاب الحاجات أن يكفوا عن رجائهم، ونطلب من الموظف أن يعمل ما يفهم الناس أن الرجاء لا يجدي، وأن الحق بطبيعته نافذ والعدل محترم، والعمل سائر إلى نهايته.

كان الناس ولا يزالون يَعدُّون من المثل العليا للرجل الطيب أن يمضي أكثر أوقاته في قضاء الحاجات، فهو يتلقى في صباحه ومسائه الوافدين والمترددين، هذا يطلب وظيفة، وهذا يطلب نقله إلى مصر، وهذا يطلب إلحاق ابنه بمدرسة، إلخ، ثم يستقل عربته ويدور على المصالح، وينتقل من وزارة العدل إلى وزارة المعارف إلى وزارة الأشغال وهلم جرًّا، فإذا جاء إلى بيته استراح قليلًا، ثم استقبل في بيته في المساء من قابلوه في الصباح ليخبرهم بنتيجة مساعيه، وليستقبل غيرهم بمساعيهم الجديدة، وكانوا يسمون مثل هذا «كعبة القصاد» و«محط الآمال» إلى غير ذلك من الأوصاف.

وكان الناس يقيسون النائب في البرلمان بمقدار قضائه هذه الأعمال، فمن كان أكثر تقبلًا للرجاء، وأكثر مسعًى في تحقيقه، وأعظم جاهًا عند من يرجوهم، فهو خير نائب وإلا فلا.

ولكن الأمة إذا رقيت ينبغي أن تغير وجهة نظرها في هذا وذاك، يجب ألا تعد رجلًا طيبًا من يقبل كل رجاء، ويعين على كل مطلب، إنما هو رجل طيب إذا اقتصر في قبول الرجاء على أحد أمرين: إما رجاء في ماله الخاص، وإما رجاء قد بني على درس، وتحقق من مظلمة يرى من الواجب رفعها وإحلال العدل محلها، وأما غير هذين فتخريب للقانون، وإهدار للأخلاق، وتحطيم للعدالة، ومما يؤسف له أن أكثر الرجاء من هذا النوع الأخير! حتى لقد يبلغ ببعضهم أن يرجو في إنجاح ساقط في الامتحان، أو عفو عن مجرم، أو تعيين آخر شخص في الامتحان وترك الأول، أو إعطاء صدقة لغني وتفضيله على فقير، أو نحو ذلك من ضروب الإجرام، وليس هذا يصح أن يسمى «كعبة القصاد»، ولكنه «عون المجرمين».

والمثل الأعلى للنائب ليس الذي يحقق مطالب الناخبين مهما ساءت، ويسعى على أبواب المصالح للرجاء في كل ما هب ودب، إنما هو من خصص أكبر مجهوده لدراسة المصالح العامة للأمة، والمصالح العامة لدائرته، فإن بقي في زمنه فضل أو في مجهوده بقية، فالرجاء في رفع الظلم عمن ظُلم، والإعانة على إيصال العدل لمن لم يصل إليه العدل.

وبودي لو بطل الرجاء كله واقتصر الأمر على مطالبة الناس بحقوقهم، ولو كان الأمر بيدي لأمرت أن يوضع على باب حجرة كل موظف لوحة كتب فيها «ممنوع الرجاء» كتلك التي يكتب فيها «ممنوع البصق» لو تنفع اللوحات!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤