أوقات الفراغ

حُدثت أن جنديًّا أجنبيًّا ظريفًا رأى في مقهى بحلوان رجلين يلعبان النرد، وكانت الساعة السابعة مساءً، فتقدم إليهما بكل أدب واحترام، وحياهما ثم سألهما: من أي وقت بدأتما اللعب؟

– من الساعة الرابعة.

– وإلى متى؟

– إلى الثامنة أو التاسعة.

– وما عملكما؟

– مدرسان.

فانهال عليهما ضربًا ولكمًا، وقال: أما لكما عمل تعملانه، أو رياضة تقومان بها، أو خدمة اجتماعية تؤديانها؟

•••

ليت لنا مشرفين من هذا القبيل يعزِّرون من أضاع وقته على هذا النمط، إذًا ما نجا من الضرب واللكم إلا القليل!

فالمقاهي والأندية مزدحمة بالناس في الصباح والمساء، والوقت فيها ضائع بين لاعب نرد، ولاعب شطرنج، وشارب «شيشة»، ومتحدث حديثًا فارغًا.

في مصر آلاف الموظفين يفرغون من عملهم في الساعة الثانية بعد ظهر ويعودون في الثامنة صباحًا، فسائلهم كيف قضوا ثماني عشرة ساعة في كل يوم؟ وهل استفادوا من زمنهم في عقلهم أو جسمهم، أو عملوا عملًا نافعًا لأنفسهم أو أمتهم؟

وفي البيوت نصف عدد الأمة من النساء، فكيف يقضين أوقات فراغهن؟

وفي المنازل آلاف الآلاف من طلبة المدارس، يقضون أربعة أشهر أو خمسة إجازة صيفية، فهل تساءل الآباء كيف يُقضَى هذا الوقت الطويل فيما يعود بالنفع على جسمهم وعقلهم؟

إذا كان الزمن هو المادة «الخامة» لاستغلال المال وتحصيل العلم وكسب الصحة، فكم أضعنا من كل ذلك؟ وكم أعمار تضيع في عبث، لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة.

من نتيجة ضياع الزمن ضياع كثير من منابع الثروة، كان يمكن أن تستغل لولا إهمال الزمان وجهل باستعماله؛ فكم من الأراضي البور كان يمكن أن تصلح، ومن الشركات يمكن أن تؤسس، ومن المؤسسات المختلفة يمكن أن تنشأ وتدار بجزء من الزمان الفارغ.

ومن نتيجة ضياع الزمن كساد الكتب والمجلات الجدية في مصر والشرق، فهي لا تطبع إلا نسبة غريبة لعدد المتعلمين، وما يطبع لا ينفق إلا أقله، هذا على قلة ما تصدره المطابع من الكتب والمجلات؛ إذ ليس هناك عقل يطلب الغذاء ولكن معدات تضج بالتخمة، وليس هناك نفوس تألم من الجهل، ولكن أجسام تخلد إلى الراحة، إن شئت أن تندهش حقًّا فاجمع ما يطبع من المجلات الجدية في مصر، وهي أربع أو خمس، وانسبها لعدد المتعلمين، واستبعد منها ما يرسل إلى العالم العربي، تدرك مقدار الخمول الذهني، والفقر العقلي، والجمود النفسي.

والشأن في عالم المال كالشأن في عالم الكتب، فهناك القناعة بالقليل والرضا بما قسم الله والنوم على الوظيفة، والعمل الراتب الذي لا يدعو إلى جهد، ولا يبعث على تفكير؛ ثم هناك الفكر المضني، وإفساح الطريق للأجنبي النشيط الذي يعرف كيف يستغل زمنه.

•••

لست أريد من المحافظة على الزمن أن يملأ كله بالعمل وأن تكون الحياة كلها جدًّا لا هزل فيها، وأن تكون عابسة لا ضحك فيها، فقد كان هذا هو المثل الأعلى في القرون الوسطى، وكان خير الناس من جد ولم يهزل، وعبس ولم يضحك، وواصل العمل وواصل العبادة، واستحضر الموت في كل لحظة، فلم يدخل السرور قلبه، ورؤي مهمومًا دائمًا كأنما هو راجع من جنازة، ثم كان من خير ما اتجه إليه دعاة العصر الحديث أن السرور والضحك واللعب في جزء معقول من الزمن ينفع الخق أكثر من الجد الدائم والوقار المتصل.

واستكشف علماء النفس أن مثل هؤلاء المتزمتين المدمنين على الجد، كانوا أقرب إلى القسوة على الناس، وأقلهم بهم رحمة، وأبعدهم عن التسامح، وعلى يد أمثال هؤلاء قامت محاكم التفتيش في أوربا، وعذب الناس على يد زياد والحجاج وأبي مسلم الخراساني وأمثالهم من المسرفين في الجد، وعلى العكس من ذلك كان الإحسان والتسامح والعفو والرحمة ممن كانوا يجدون ويلعبون، ويعملون ويمرحون.

إنما أريد ألا تكون أوقات الفراغ طاغية على أوقات العمل، وألا تكون أوقات الفراغ هي صميم الحياة، وأوقات العمل على هامشها، بل أريد — أكثر من ذلك — أن تكون أوقات الفراغ خاضعة لحكم العقل كأوقات العمل، فإننا في العمل نعمل لغاية، فيجب أن نصرف أوقات الفراغ لغاية كذلك، إما لفائدة صحية كالألعاب الرياضية، وإما للذة نفسية كالمطالعات العلمية أو الأدبية.

أما أن تكون الغاية هي قتل الوقت، فليست غاية مشروعة، لأن الوقت هو الحياة، فقتل الوقت قتل الحياة؛ فالذين يصرفون أوقاتهم الطويلة في نرد أو شطرنج لا يعملون لغاية يرتضيها العقل، وكذلك الذين يتسكعون في المقاهي والأندية والطرقات لا يطلبون إلا قتل الوقت كأن الوقت عدو من أعدائهم.

مفتاح العلاج لهذه المشكلة الاعتقاد بأن الإنسان يستطيع أن يغير موضوعات حبه وكرهه كما يشاء، ويستطيع أن يغير ذوقه كما يشاء، فيستطيع أن يمرن ذوقه على أشياء لم يكن يتذوقها من قبل، وعلى كراهية أشياء كان يحبها من قبل، ففي استطاعة أغلب الناس — إذا قويت إرادتهم — أن يقسموا أوقات فراغهم إلى ما ينفعهم صحيًّا، وإلى ما ينفعهم عقليًّا.

ومن الأسف أن عامة الناس يعتقدون أن قراءة القصص الخفيفة والمجلات الرخيصة كافية لغذاء عقولهم، فهم يلتهمونها التهامًا، ويكتفون بها في لذتهم العقلية، وهي ليست إلا مخدرًا للعقل، أو منبهًا للغرائز الجنسية، وقليل من الصبر وقوة الإرادة يجعل المتعلم صالحًا للدراسة الجدية والقراءة المفيدة، وكل مثقف يستطيع أن يخلق في نفسه هوى لشيء جدي في نوع من أنواع المعارف يدرسه ويتوسع فيه ويتعمقه، سواء كان أدبًا أو حيوانًا أو أزهارًا أو ميكانيكا أو تاريخ عصر من العصور أو أي ضرب من ضروب المعارف الإنسانية، ثم يثير رغبته فيه، ثم يخصص جزءًا من يومه لدراسته والاهتمام به، فإذا هو إنسان آخر له ناحية من نواحي القوة، وله شخصيته المحترمة، وإذا الأمة غنية بأبنائها في شتى فروع العلم والمعارف والفنون، تعتمد على كلٍّ فيما تخصص فيه من نواحي الحياة، وإذا الناس في مجالسهم يرقى حديثهم، ويستفيد كل من كل في نوع معارفه وضروب تخصصه، وإذا الثقافة ارتقت والعقول اتسعت والحياة سمت.

إذ ذاك يشعر الناس أن عليهم واجبًا أن يغذوا عقولهم كما يغذون معداتهم، وأن لا حياة لهم بدون غذاء، وإذ ذاك تنشط حركة التأليف والترجمة والنشر، بل وإذ ذاك يرتقي اللهو في دور السينما والغناء، لأن العقول المثقفة لا يلذها إلا عرض مثقف يلائم الذوق المثقف.

اجعل شعارك دائمًا أن تسائل نفسك: «ماذا عملت في وقت فراغك؟» هل كسبت صحة أو مالًا أو علمًا؟ وهل خضع وقت فراغك لحكم عقلك، فكان لك غاية محدودة صرفت فيها زمنك؟ إن كان كذلك فقد نجحت، وإلا فحاول حتى تنجح، فقليل من الزمن يخصص كل يوم لشيء معين قد يغير مجرى الحياة ويجعلها أقوم مما تتصور وأرقى مما تتخيل.

إن الأمة الآن تعيش عُشر ما ينبغي أن تعيش، أو أقل من ذلك، سواء في إنتاجها المالي، أو ثقافتها العقلية، أو حالتها الصحية، وباقي حياتها هدر، في كسل أو خمول، أو بين نرد وشطرنج، أو في لا شيء، ولا ينقصها لتعيش كما ينبغي إلا أن تكتشف طريقة ملء الزمن وخضوعه لحكم العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤