المثقفون والسعادة

قرأت قول المتنبي:

ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم

وقرأت قول الآخر:

كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه
وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأفهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا

وقول ابن المعتز:

وحلاوة الدنيا لجاهلها
ومرارة الدنيا لمن عقلا

وقول ابن نباتة:

من لي بعيش الأغبياء فإنه
لا عيش إلا عيش من لم يعلم

وقرأت كثيرًا مثل هذا في الشعر العربي يدور حول لعنة العالَم، لأنه يعذِّب العالِم ويسعد الجاهل.

فتساءلت: هل هذا صحيح؟ هل العلماء في جملتهم أشقى من الجهلاء؟ وهل العلم يسبب الشقاء والجهل يسبب السعادة؟

إن كان هذا صحيحًا، وكان العالَم إنما يسعى وراء السعادة، فالنتيجة المنطقية لهذا أنه يجب علينا محاربة العلم ونشر الجهل، وإغلاق المدارس، وعد تأليف الكتب جريمة وطبعها جريمة والجامعة جريمة، وكل حركة علمية جريمة، لأنها تبعد من السعادة التي هي غاية الإنسان بطبعه، أو على الأقل يجب أن تكون غايته.

إذا فلا بد أن يكون أحد الرأيين خطأ، أما والناس يكادون يجمعون على فضل العلم وأنه وسيلة من وسائل السعادة، فوجب أن يكون الرأي الأول باطلًا، ولكن أين وجه البطلان؟

وجه البطلان من نواح عدة: أولها — سوء تصور الناس للسعادة، فالرأي السائد فيها أنها حياة كسل لا يكدرها عمل، وحياة حقوق لا واجب فيها، وحياة لذة مشتعلة لا خمود لها، وأكل شهي من غير عناء، وتنوع ملاذ من غير انقطاع، وارتواء باللذات من غير جهد، وبعد للآلام من غير أن يتعب في إبعادها، وحضور لكل ما يخطر بباله من مسرة من غير نصَب في جلبها، ونحو ذلك.

وهو تصور فاش بين الناس حتى عقلائهم، ومن لم يقله جهارًا اعتنقه سرًّا، ومن لم ينله طمع فيه، وتحرق شوقًا إليه، ومن حُرِمَه في الدنيا أمله في الجنة، وجعل عبادته وسيلة لإدراكه.

وهو تصور لمعنى السعادة باطل، وفهم خاطئ، وإني لأتخيل حياة من هذا النوع أشبعت فيها كل الرغبات من غير جهد، وأتصور رجلًا أجري عليه كل أنواع النعيم: من قصور فخمة وحور وولدان وكل ما تشتهي الأعين وتلذ الأنفس، فأجده بعد قليل قد صرخ من السعادة واشتاق إلى الشقاء، وإن شئت فقل: إنه يبحث عن سعادته في شقائه، ويستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويطلب الفوم والعدس والبصل بدلًا من المن والسلوى، ويفضل المرأة الشوهاء على المرأة الحسناء، ويشتهي جلسة على التراب بدل الأرائك والحرائر، ويتمنى ساعة عذاب يتقي بها شر هذا النعيم المقيم.

هذا هو الإنسان، وهذه طبيعته، ليست سعادته في هدوء متطامن، ولا في ركود مستمر، وإنما هي كما قال القائل:

سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا

والسعادة إنما هي في السعي للغرض أكثر منها في الغرض، والطريق إلى الغاية هو السعادة لا الغاية، وإنما يسعد الإنسان باستخدام قواه وملكاته لبلوغ غايته، فإذا بلغها تفتحت له غايات جديدة، وبذل فيها جهودًا جديدة، وظهر في أثناء الطريق صعوبات استخرجت أقصى الجهد في التغلب عليها، فشعر بلذة الجهد ولذة الغلبة ولذة اعتداده بشخصيته واستخدامه ملكاته واستكماله نفسه أكثر من لذته بالغاية نفسها.

فلما تصور الناس السعادة بمعناها الخامل الذي ذكرنا، نظروا فوجدوا كثيرًا من العقلاء والعلماء محرومين منها، فأفاض المحرومون في الشكوى، وصبوا على العالم سخطهم، ولو حسبوا حساب لذاتهم في السعي، ولذاتهم العقلية في فهم الكون، ولذاتهم في الكد في الطريق، وإن لم يبلغوا الغاية، ولو وزنوا بالميزان الحقيقي سعادة الجهلاء، ولم يبالغوا في تقديرها، لو فعلوا كل ذلك لصححوا حكمهم، وأدركوا خطأهم، ولقللوا من سخطهم على الزمان، ولعنتهم للدهر، وعتبهم على القدر.

وهب أن العلماء أشقى من الجهلاء، وأن العالِمَ لم يسعد بعلمه، بل ساءت معيشته بعلمه، وأن علمه كان نقمة عليه، وأن العلم وسع نظره فأدرك واجباته وتبعاته، وأرهف حسه فجعله يألم مما لا يألم منه الجاهل، وأبعد طموحه فصار لا يرضى بما يرضى به العامي، ووسع حوض لذته (كما يعبر الفرنج) فأصبح لا يملؤه إلا الكثير، وقد كان — وهو جاهل — كالطفل، حوض لذته ضيق يملؤه القليل، وكبرت نفسه وبعدت غايته، فأصبح يدرك أن ما ناله من اللذائذ ناقص مهما كان.

هب كل ذلك كذلك، فهناك الخطأ الثاني الخطير، وهو مقياس الأشياء بمقياس الفردية، فعلى مر آلاف السنين وصل العقلاء والعلماء والنوابغ إلى نتيجة باهرة تلو نتيجة باهرة، وإلى مخترع لنفع الإنسانية تلو مخترع، حتى وصل العالم بفضل هذه المجهودات والمخترعات إلى حضارته الحاضرة ومدنيته الحديثة، وكان سعي العلماء في طريقهم شاقًّا عسيرًا، وقامت في وجوههم صعوبات يعجز القلم عن وصفها، وذهب كثير منهم ضحايا في سبيل غايتهم، ولم يكونوا يتحملون هذه المشقات والتضحيات في سبيل فرديتهم وذاتيتهم، إنما يتحملونها في سبيل الجمعية القومية أو الإنسانية، وكانوا يتلذذون من تضحيتهم أكثر من تلذذ المادي بشهواته.

فهب أن العلماء شقوا أكثر مما شقي الجهلاء، وسعدوا أقل مما سعد الجهلاء، فماذا يضيرنا ما دام العالم كان أسعد وكان أرقى وكان في جملته أصلح؟

فلا يصح للعلماء أن يبكوا لشقائهم أفرادًا ما دامت الجمعية الإنسانية تستفيد من جدهم وشقائهم، كما لا يصح أن نسمع لشكوى فرد نزعت ملكيته لفتح شارع عام، أو جنود قتلوا في سبيل انتصار أمتهم، أو أطباء ماتوا في سبيل مكافحة وباء، بل لا يصح أن يتقدم أحد من هؤلاء بالشكوى، لأن العالم علمنا بطريق سيره أن العبرة بتقدم المجموع ولو فني الأفراد في أثناء سيره، والفرق بين أمة منحطة وأمة راقية نظرة الأولى إلى صالح بعض الأفراد أو بعض الأحزاب، ونظرة الثانية إلى الصالح العام.

فغلطُ العلماء والعقلاء والمخترعين الذين يشكون نشأ من أنهم نظروا إلى أنفسهم كأنهم آلات مستقلة، ولم ينظروا إليها كأنهم تروس في الآلة الضخمة، آلة الأمة أو آلة الإنسانية، وخطؤهم أيضًا نشأ من اعتقادهم أن علمهم وثقافتهم وقوة عقلهم — إنما ركبت فيهم لنفع أفرادهم، وأن غايتهم استفادتهم منها لنفع أشخاصهم، وليس ذلك بصحيح، فكل الملكات الممتازة في الأفراد، وكل قدرة على الاختراع والتثقيف وبث المبادئ، إنما منحت للأفراد لخدمة الجماعة وترقيتها، فمتى أدت هذا الغرض فلا يهمنا بعدُ عاش أفرادها في بؤس أو رخاء، في نعيم أو شقاء.

•••

ولكن … من طبيعة الثقافة أنها ترقي العقل وترقي المشاعر، ومتى رقي العقل والمشاعر كان صاحبهما أقدر على اللذة، كما يكون أكثر تعرضًا للألم، فمتى وجد في ظروف مناسبة كان أسعد من الجاهل، ومتى وجد في ظروف غير مناسبة كان أشقى من الجاهل، والمثقف بعقله الراقي كثير التساؤل: ما الحياة؟ وما الغرض منها؟ وما قيمتي فيها؟ ثم هو واسع الطموح كثير التطلع لحالة خير من حالته، وكلما أدرك حالة تطلع لما هو خير منها، ثم هو جيد التقدير، يقدر نفسه ويقدر من حوله، فيرى من حقه ومن حق ثقافته ومن حق سعة عقله، أن ينعم في الحياة المادية بأكثر مما ينعم الجاهل، ويرى واجبًا على المجتمع الذي يعيش فيه أن يكرمه نظير علمه الذي يخدمهم به، فتوفر له وسائل العيش ووسائل السعادة حسب نظره، فلماذا تطلب منه التضحية فقط، ولا يطلب من الأمة أن تضحي بجزء من مادتها ليضحي هو بأغلى من ذلك، بعقله وصحته ونفسه أحيانا؟

هذه هي وجهة نظره، وهذا هو سبب شقائه، وهي وإن كانت وجهة نظر صحيحة معقولة، إلا أنها معقدة، وتعقيدها آت من قلة الثقافة في العالم، لا من كثرة الثقافة، فغير المثقفين — وهم السواد الأعظم — لا يقدرون عظم ما يبذله المثقف، وهم يقدرون الأشياء على مقدار عقلهم القاصر، وهم الذين في يدهم السلطة والمال، فهم معذورون إذا لم يوفروا للعالم والنابغة وسائل العيش حسب نظره وتقديره هو، ومن أجل هذا كلما انتشرت الثقافة في أمة وتولى زمامها مثقفوها، كان علماؤها ونوابغها أسعد حالًا؛ وكذلك من أسباب شقائهم عدم تنظيم قُوَى المجتمع على قواعدَ معقولةٍ، والفوضى في تقويم الأشياء والمعاني، وتمسك من بيدهم السلطة بالتسعيرة القديمة، ولكن العالم يسير إلى تنظيم كيانه، وإلى إصلاح عيوبه، وإلى ضبط فوضاه، وإذ ذاك — ونرجو أن يكون قريبًا — تكون ثقافة العالم، ونبوغ النابغ، وأدب الأديب، وعقل العاقل موضع التقدير.

ولكن إلى أن يتم هذا لا بد أن ننظر لصالح المجتمع أكثر من صالح الأفراد، وأن ندعو إلى انتشار الثقافة لا انكماشها، وكثرة العلماء لا قلتهم، وألا نعبأ بمن يشقى من العلماء إذا كان في شقائهم سعادة المجموع، وأن نطالبهم أن يصوغوا أنفسهم حتى يجدوا سعادتهم في علمهم وشعورهم برقيهم، وكما قالوا: «لأن تكون سقراط ساخطًا خير من أن تكون أبله راضيًا».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤