الزعماء الثلاثة

أغسطس سنة ١٩٤١

في هذا الشهر من هذا العام مات زعيمان جليلان: زعيم هندي روحاني هو تاغور، وزعيم مصري مالي هو طلعت حرب، وفي هذا الشهر منذ أربعة عشر عامًا مات زعيم مصري سياسي هو سعد زغلول، فكان لأغسطس حق الفخر في احتوائه هؤلاء العظماء إن حق لشهر أن يفخر باعتدائه واحتوائه، أو له حق الخجل عن عمله، إذ حرم أممهم وعالمهم الفخر بقيادتهم والانتفاع بمواهبهم، أو هو لا يفخر ولا يخجل، لأن الدهر له مقاييس غير مقاييسنا، ونظرات غير نظراتنا، وله عذره في أن الموت لا يعدو أشخاص الزعماء وأجسادهم، أما أفكارهم ومبادئهم فحية أبدًا، خالدة أبدًا، إن عدا الدهر عليهم يومًا فلا يضن يومًا آخر أن يبعث من يأخذ رايتهم، ويسير قدمًا إلى غايتهم، وينقل التقدم من ميدان إلى ميدان، فإن أساء فقد كفَّر، وإن أمات فقد أحيا.

كان كل زعيم من هؤلاء عظيمًا وكان كل ينظر إلى الحياة من زاوية آمن بها، وضحى لها، وفني فيها، ووصل إلى أعماقها، فاستخرج مكنونها، وأضاء ظلامها، وشوَّق إليها، واستحث أتباعه أن يؤمنوا إيمانه، وينظروا نظرته، ويسيروا سيرته، وقد أوتوا جميعًا من حرارة العقيدة وجميل البيان وصفاء الإيمان ما أنجح دعوتهم، ونصر مبادئهم، فماتوا وقد لوَّنوا عالمهم بلونهم، ورفعوا أتباعهم إلى قريب من منزلتهم، ونشروا الإيمان بالفكرة والكفر بالعقبات، وبثوا الاعتزاز بالمبدأ والاستهزاء بالصعوبات، فكان لهم بعض ما أرادوا، والزمن كفيل أن يحقق كل ما أرادوا.

•••

فأما «تاغور» فرجل روحاني، هو خلاصة أفكار الهند، وعصارة نزعاتها الروحية والحلولية، عبر عنها بأساليب العصر الحديث ولغته وروحه، لا فرق عنده بين الحق والخلق ولا بين الله والعالم، فالعالم مظهر الله، والطبيعة شعاره، وهو — تعالى — حالٌّ في كل ذرة من ذرات العالم، تراه في رمال الصحراء، وفي صفاء الماء، وفي أوراق الأشجار، وفي تفتح الأزهار، وفي البعوضة فما فوقها، وفي النجوم فما دونها، يتجلى في كل شيء حسب استعداده، ولا شيء سوى الله، والكائنات أجزاء منه وأبعاض له، وكلها كله، فهي وهو كأمواج البحر في البحر:

فما البحر إلا الموج لا شيء غيره
وإن فرَّقَتْه كثرةُ المتعدَّد

فمن مزامير تاغور: «هو الله في كل شيء: في الماء وفي النار، وفي العشب والشجر، هذا إلهنا، الذي تعنو له وجوهنا».

أداه هذا النظر إلى أن يألف الطبيعة ويهيم بها ويتذوقها بحواسه كلها وبروحه كلها، وينفق الساعات ذوات العدد في الاستمتاع بجمالها والإصغاء إليها وعبادة الله فيها.

كما أداه ذلك إلى أن يكره من المدنية الحديثة عنفها في محاربة الطبيعة، ومحاولتها إخضاعها وإذلالها، كأن نزعة الحرب فيها عمت كل شيء، فالإنسان يحارب الطبيعة، والإنسان يحارب الإنسان، والطبقات تحارب الطبقات، وروحانية تاغور تدعو إلى الحب لا الحرب، فحب الطبيعة، وحب الإنسان، وحب العالم، لأنه يحب الله فيحب مظهره، ويرى الله في كل شيء فيحبه فيه.

وهو روحاني، يرى أن المادة ليست كل شيء، وأن لنا روحًا غير مادتنا، وأن ليست علاقة فكرنا بمخنا علاقة معلول بعلة، وأن لنا صلة بالأرض وصلة بالسماء، ومن أجل هذا نعى على المدنية الغربية أنها تعنى بالمادة ولا تعنى بالروح، فهي تعبد المادة وتفكر في المادة، وينقصها التأمل الشرقي، كما ينقص الشرقي العمل الغربي وقوة الإرادة الغربية حتى تتعادل الكفتان، ويكمل العنصران.

كانت هذه عناصر دينه، ثم هو منح قوة فنية رائعة، وثقافة عصرية واسعة، واطلاعًا على العالم برحلاته العديدة إلى أوربا وأمريكا واليابان، ونظرًا نافذًا إلى بواطن الأمور، وملكًا لناصية اللغة الإنجليزية كملكه لناصية لغته الأصلية، فصب فيهما آراءه وفنونه، ونشر تعاليمه بشعره ونثره وقصصه وموسيقاه، فسمعها العالم، ووجد فيها نوعًا من الغذاء الصالح الجديد يخالف في عناصره عناصر الغذاء الغربي القديم، لقد جلجل صوته بكل النغمات: في جمال الطبيعة، وحب الأطفال، وحب البساطة، وحب الله، وترك من كل ذلك ثروة للعالم سوف تنقضي السنون ولمَّا يهضموها.

وكان ينظر إلى السياسة كما ينظر إلى الفلسفة، إنما يهمه من النظم السياسية آثارها في الحياة الاجتماعية، ويقوِّم أنواع الاستقلال بقدر ما تستتبع من إصلاح.

•••

ولئن كان تاغور رجلًا «مثاليًّا» يغوص تارة إلى أعماق الماء، ويجوز مرة أجواز الفضاء، ويرى في كل شيء من نبات وحيوان وجماد شيئًا وراء ظاهره، وروحًا وراء مادته، وإلهًا وراء شكله — «فسعدٌ» رجل واقعي يفهم الحياة كما تبدو للعين، وكما يدل عليها الحس والعقل، لا الشعر ولا الخيال.

فإن كان كل إنسان كما يقولون إما أفلاطونيًّا أو أرسططاليسيًّا، فتاغور أفلاطوني، وسعد أرسططاليسي.

نشأ محاميًا يرى دنيا الوقائع، ويدرس قانون الحوادث، ويوكل عن الخصم فيدرس قضيته، ويكيف موقفه، فما زال يكبر في حرفته بتقدمه في سنه ونضجه في عقله، حتى صار وكيل الأمة، يدرس قضيتها، ويكيف موقفها، ولكن قضية الفرد مهما عظمت سهلٌ أمرها يسير حلها، وخصمه مهما عظم في مثل منزلته أو قريب منها، أما قضية الأمة فمعقدة أشد تعقيد، والخصم فيها قوي عنيد، يلجأ في المحاربة إلى كل الوسائل: إلى الإغراء والتهديد، وإلى المال والحديد، وما ظنك بخصم في يده كل قوى الاستعمار، من علم ومال، وقوة ودهاء، وحيلٍ وأفانينَ، وجنة ونار، وإغداق من نعيم، وإلقاء في جحيم، وموكله أعزل، قريب عهد بحيل الاستعمار ودهائه، وألاعيب السياسة وتلونها؟ لا بد لمن يقف للدفاع في مثل هذه القضية من مواهب نادرة، وقدرة قادرة، فهو — من ناحية — عليه أن يقدم السلاح لقومه، ومن ناحية — عليه أن يجرد السلاح من خصمه، وعليه أن يكون فيهم رأيًا عامًّا يعقل ويشعر، ويتحمس ويطيع، ويضحي ويصبر، وعليه أن يكون من الأمة كتلة متجمعة ترهب المنافقين فلا تسمع لهم ركزًا، وتحير المستعمرين فلا يجد دعاؤهم منفذًا، وعليه أن يتقدم الصفوف فيحدد السير يمينًا ويسارًا وهجومًا وانتظارًا، ثم هو — إذ يحمل اللواء — يتعرض لكثرة السهام، فلا يزيده ذلك إلا قوة، وينفى ويحبس ويشرد، فيكسبه ذلك صفاء في نفسه وقوة في يقينه، ويزيد الأمة إيمانًا به والتفافًا حوله، فتضحي من تضحيته، وتقتبس من شعلته، وتلتهب من حرارته، وتأخذها حالة أشبه بنوبة عصبية، أو غيبوبة صوفية: تؤمن به إيمان العجائز، وتطيعه طاعة المريد للشيخ، وتصم أذنها عن دسيسة الدساسين ومؤامرات المنافقين، ولا يزالون هو وهم في جهادهم حتى يصلوا إلى الغاية أو يقربوا منها.

كذلك كان سعيه، وكذلك كانت أمته، بصر من قومه فعرف مواضع ضعفهم وقوتهم، وعرف كيف يعالج الضعف ويزيد القوة، وبصر بأساليبِ الاستعمارِ فعرف كيف يصابرها ويجابهها، وأوتي من فن الخطابة معجزته، ومن اللَّسَن سحره، فما خطب إلا ألهب ولا جادل إلا غلب، ولو كانت قضية الاستقلال يقضى فيها بالمنطق والحق لكسبها في يومه، ولكن الاستعمار لا يسمع للمنطق، وإنما يسمع للقوة، فلتكن قوة الأمة في وحدتها وفي إجماعها وفي حماستها، وفي شل حركة خصمها، وفي التشهير به، وفي الاحتجاج عليه، وفي تغذية هذه الحركات في كل حين، وفي كل مناسبة، وفي خلق المناسبة، فكان كذلك، يغذي الصحف بآرائه، ويغذي الأسماع بخطبه، ويلهب النفوس ببيانه، وينقض تدبير الخصم بإحكام تدبيره، ويطلع كل حين بجديد، ولولا منافذ ضيقة خفية دخل منها الخصم فأفسد بعض الحركة، وشوه منظر الإجماع، لكان له في حياته ما أراد لقومه، ولو استعرضت حال الأمة حين تسلمها وحين سلمها لرأيت كيف كان عظيمًا في نفسه، عظيمًا في أثره.

لقد غنى تاغور وغنى سعد، فكان لكلٍّ صوته، ولكل نغمته، فأما صوت تاغور فهادئ وديع، يسمعه الرحيم فيذرف من العين دمعة، ويسمعه العاشق فيقبِّل الطفل في مهده، ويتبسم للبستان لزهره، ويقبل الجمال حيث كان، ويسمعه المتدين فيسجد للطبيعة وبهائها وسحرها وفتنتها، ويسمعه الظلمة فيسخرون، والقساة فيستهزئون، وأما صوت سعد، فيدوي كالرعد، يسمعه المظلوم فيثور، والظالم فيغضب، ويهيج وينقم، فإذا صراع عنيف بين المظلوم والظالم، ومعركة حامية بين المسلوب والسالب، صوت تاغور يؤثر ولكن كالماء في الصخر، وصوت سعد يؤثر ولكن كالريح العاتية في الأشجار الخاوية، ولكلٍّ فضل.

•••

وأما طلعت حرب فغض نظره عن السماء ونجومها، والبحار وأمواجها، والأزهار وجمالها، كما لوى وجهه عن السياسة ونارها، وحدَّق في الذهب والفضة والأوراق المالية، وسال لعابه لها حتى كاد يلتهمها، ولكن لم ينظر إليها لنفسه كما فعل غيره، وإلا ما كان عظيمًا ولا زعيمًا، إنما أدرك قيمتها لقومه، فسعى لها سعيه، وأنفق في ذلك عمره، رأى المال عصب الحياة، فأيقن أنه إذا قويت الأعصاب قويت الحياة.

قد كان سعد يرى الاستقلال كل شيء، فإذا كان كانت الحرية وكان العلم وكان الخلق وكان المال، وكان «طلعت» يرى المال كل شيء، فإذا كان كانت الحرية وكان العلم وكان الخلق وكان الاستقلال، فكان لكل سيرته، ولكل وجهة هو موليها، رأى «طلعت» أن كل مرض اجتماعي علاجه المال، فعلاج الفقر المال، وعلاج الجريمة المال، وعلاج البطالة المال، وعلاج الجهل المال، وعلاج الاستعباد المال، فكأن المال هو السحر الحال، ما يمس من مرض إلا كان فيه الشفاء، إن الفلاح بائس لفقره ومريض لفقره وجاهل لفقره ومجرم لفقره، والعاطل عاطل لفقره أو فقر بلده، فلا مشروعات ولا جمعيات ولا نقابات ولا شركات، ومن كان في يده المال ولم يعرف كيف يستخدمه كان ماله والفقر سواء، والأجانب يحتلوننا بالمال والعمل أكثر مما يحتلوننا بالسيف والسياسة، وأمة واحدة تحتلنا سياسيًّا، وكل الأمم تحتلنا ماليًّا، ولا ينفع استقلال من غير مال، كما لا ينفع السيف ولا قَتَّال، فلتستقلّ مصر أول كل شيء بمالها، بإنشاء بنكها، وليعمل المصريون في كل أنواع النتاج المصرية حتى السمك والأصداف، ولتمتد اليد المصرية حتى تقلب الأرض وتستخرج خيرها من بطونها، ولتنقب في الصحراء حتى تستخرج كنوزها من أحضانها، فإذا كان ذلك فلا عاطل ولا فقير، بل إن كان كذلك فلا استعمار، فإنما أساس الاستعمار الاستغلال، ثم لنعبر ماءنا بسفننا، وهواءنا بطياراتنا، ونلهو في مسارحنا، ونلبس من مزارعنا، ولا بأس أن نستجلب اليوم بعض الشيء من الخارج فسيكون لنا كل شيء غدًا من الداخل، ولنتوسع في كل جهة، ولنمتد في كل اتجاه، وليكن ذلك كله عرضة للخطأ، ولا بأس، فالإقدام مع احتمال الخطأ خير من الإحجام مع الصواب، وسنتعلم من خطئنا أكثر مما نتعلم من صوابنا.

هكذا فكر وقدر، ثم فكر وقدر، ثم أراد وعمل، فكان له بعض ما أراد، ولولا أنه سمح لمخلوقة أن تدخل باب أعماله اسمها «المجاملة»، ولولا أنه لم يُحكم التجريد بين نفسه وعمله، ولولا أن بعضهم استباح لنفسه من الأموال المصرية ما لم يستبحه من الأموال الأجنبية، لكان له أكثر ما أراد — ومع هذا فأي عظيم لم تكن له هنات؟!

لقد ترك مصر ولها مؤسسات مصرية تعتز بها، ولها آمال اقتصادية مرسومة محدودة تسعى لاستكمالها، وترك الشرق العربي كله له أمل كأمل مصر، وسعي في سبيل الاستقلال الاقتصادي كسعي مصر، وخلق عند هؤلاء وهؤلاء شعورًا حساسًا بالوطنية المالية، وفكرًا مفتوحًا للحالة الاقتصادية، وإدراكًا صحيحًا للأهمية التجارية والصناعية.

•••

رحمهم الله جميعًا، فقد كان كلٌّ عظيمًا في ناحيته، نافذ النظر إلى زاويته، وأكثر الله من أمثالهم، فالزمان شحيح في السماح بهم، وصدق الشاعر:

بغاث الطير أكثرها فراخًا
وأم الصقر مقلات نزور

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤