مصدر تاريخي مهمل

هناك مصدر هام من مصادر التاريخ الإسلامي لم أرَ إلى الآن من اتجه إليه واستفاد منه مع ما فيه من غنى وثروة، وتظهر أهميته إذا عرفنا أنه يلقي ضوءًا قويًّا على الحياة الاجتماعية في العصر الذي يعرض له، وهذا هو الجانب الضعيف في كتب التاريخ عندنا، فأهم نقطة ترتكز عليها هذه الكتب هي الخلفاء والملوك والأمراء والوزراء، أما الشعب نفسه فلسنا نعرف حالته إلا من ثنايا الكلام ومما يذكر عرضًا لا قصدًا، فإذا كان هذا المصدر الذي أشير إليه يعنى بشرح الحالة الاجتماعية للعصر، فلا شك أنه يكون مصدرًا لا يصح إغفاله، وتجب العناية به.

تلك هي «كتب الفتاوى في الفقه»، وما أكثرها، ووجه أهميتها أن مؤلفها — عادة — يكون من أكبر رجال عصره علمًا وفقهًا ومركزًا، حتى تتجه إليه الأنظار بحكم مركزه العلمي أو منصبه الرسمي، فإذا حدثت أحداث تنازع فيها الناس — وخاصة الأحداث العظام — هرع الناس إليه يستفتونه، وليسوا يقتصرون في مسائل الاستفتاء على المسائل الفقهية بأضيق معانيها، بل على المسائل الاجتماعية بأوسع معانيها، فيكون لنا من هذه الأحداث وشرحها وبيان أسبابها ورأي العلماء فيها صورة بديعة لعقلية الناس في ذلك العصر، ولأسق لذلك مثلًا يوضح الفكرة:

فمثلًا بين يدي الآن «الفتاوى الحديثية» لابن حجر الهيتمي، وهو إمام مشهور مصري الأصل والمنشأ، وعاش بعض زمنه الأخير في مكة، وكان في القرن العاشر الهجري، فقد ولد في محلة أبي الهيتم من أعمال الغربية سنة ٩٠٩ﻫ، ودرس في الأزهر، ورجع الناس إليه في الفتوى، ومنذ سنة ٩٤٠ استقر في مكة وأقام بها إلى أن توفي سنة ٩٧٤، واشتهر اسمه في العالم الإسلامي، واستفتي من جميع الأقطار.

تقرأ هذه الفتاوى فتجد فيها صورًا مختلفة تتبين منها جانبًا من الحياة العقلية للمسلمين في هذا القرن.

فهذه صورة ترينا أن العالم الإسلامي إذ ذاك كان مضطربًا بين حركتين متناقضتين في شأن التصوف وما إليه: إحداهما الحركة التي قام بها ابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨ يطعن فيها على ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين والغزالي وغيرهم من المتصوفة، ويدعو إلى الرجوع للكتاب والسنة، وترك البدع كالتوسل بالأولياء وزيارة القبور وغير ذلك. والأخرى حركة تؤمن بالصوفية وكراماتهم وشطحاتهم إلى أقصى حد.

وقد كانت هاتان الحركتان عنيفتين في عهد ابن تيمية، وكان من جرائهما اضطهاده وسجنه إلى أن مات، فالتف حوله علماء يؤيدونه وعلماء يكفرونه ويناهضونه؛ وانتقلت هاتان الحركتان إلى القرن العاشر الذي تصوره هذه الفتاوى.

وإذ كان ابن حجر هذا فقيهًا شافعيًّا محدثًا متصوفًا، فقد أيد الصوفية وآمن بكل شيء يدعون إليه، وهاجم ابن تيمية في عنف، وادعى أنه لا يقام لكلامه وزن، وأنه مبتدع ضال مضل جاهل غال، وأفاض في مدح الصوفية الذين هاجمهم ابن تيمية، كابن عربي وابن الفارض والغزالي.

وليس يدل هذا القول على رأي ابن حجر وحده، بل يدل على اتجاه العقلية نحو الحركة التي تؤيد الصوفية وخفوت صوت المعارضين؛ لأن كثيرًا من أهل هذا العصر ناصر ابن حجر كما حكى هو، وانضموا إلى الشعب في الانتصار للصوفية بجميع مظاهرها، وقد قص علينا ابن حجر نفسه في هذه الفتاوى أن العالِم — في زمنه — إذا اعتقد في التصوف والمتصوفة أقبل الناس عليه وعلى كتبه وتبركوا به، كالشيخ زكريا الأنصاري، أما إن أنكر على الصوفية شيئًا من أقوالهم صد الناس عنه ولم ينتفعوا بعلمه، كالشيخ البقاعي، فقد كان عالمًا جليلًا، وكان نابغة في حسن العبارة وقوة الذكاء وسعة العلم، وخاصة التفسير والحديث، وألف في تفسير القرآن وفي مناسباته كتبًا — قال ابن حجر عنها: إنها لو كانت للشيخ زكريا لكتبت بماء الذهب، ولكن البقاعي كان يعترض على ابن عربي ويفند بعض أقواله، ويؤلف الكتب في نقده، ويرى في ابن الفارض أنه شاعر جيد، ولكنه متصوف غير جيد، وأنكر على الغزالي قوله: «ليس في الإمكان أبدع مما كان» فهاج عليه العامة، ثم حكم بتكفيره وإهدار دمه، وكاد يتم ذلك لولا تدخل بعض الأمراء في أمره فاستتيب وجدد إسلامه، ودخل عليه بعض أهل العلم فوجده وحده، فما زال يضربه بنعله على رأسه حتى أشرف على التلف، وقام العلماء يؤلفون الكتب في الرد عليه والذب عن الغزالي، وأصيب بضيق التنفس فاعتقدوا أن هذا سر ابن الفارض.

ويرسم الكتاب صورة الاندفاع وراء الاعتقاد بالمغيبات والكرامات والشطحات والجن، وهي صورة تبعث على الشفقة والأسى على ما وصلت إليه العقلية في هذا العصر.

•••

ويصور لنا ابن حجر الجدال حول تعليم البنت الكتابة والقراءة، فيستفتى في ذلك، فيفتي بأنها تعلم العلم، ولكن لا تعلم الكتابة، ويروي حديثًا أن لقمان مر على جارية تعلَّم فقال: «لمن يُصقَل هذا السيف؟» أي أنها تعلم الكتابة لتذبح بها، ويقول: إن المرأة إذا تعلمتها توصلت بها إلى أغراض فاسدة؛ لأنها تبلغ بها في أغراضها ما لم تبلغه برسولها؛ فلأجل ذلك صارت المرأة بعد الكتابة كالسيف الصقيل الذي لا يمر على شيء إلا قطعه، ثم قال: واعلم أن النهي عن تعليم النساء الكتابة لا ينافي طلب تعليمهن القرآن والعلوم والآداب؛ لأن في هذه مصالح عامة من غير خشية مفاسد تتولد منها، بخلاف الكتابة.

ويستفتى في كلمة «الأشراف»: من هم؟ وما تاريخ عمامتهم الخضراء؟ فيذكر أن اسم الشريف كان يطلق في الصدر الأول على من كان من أهل البيت ولو كان عباسيًّا أو عقيليًّا،١ ومنه قول المؤرخين: الشريف العباسي والشريف الزينبي،٢ فلما ولي الفاطميون مصر قصروا الشرف على ذرية الحسن والحسين فقط، واستمر هذا إلى الآن، وأما العمامة الخضراء فلا أصل لها، وإنما حدثت سنة ٧٧٣ هجرية بأمر الملك شعبان بن حسن، وفي ذلك يقول ابن جابر:
نور النبوة في وسيم وجوههم
يغني الشريف عن الطراز الأخضر

فإذا كانت هذه العمامة الخضراء حادثة، فلا يؤمر بها الشريف ولا ينهى عنها غيره.

•••

والفتاوى تدل على انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة بين الشعب وكثرتها كثرة مفرطة، وتناولها أدق الأشياء في المأكل والملبس والزواج والطب وما إلى ذلك، وسيطرتها على عقول الناس وسلوكهم، والخاصة يهرعون إلى المفتين يستفتونهم في شأنها، فبدلًا من أن ينكروها ويبددوها، يجتهدون في الكثير منها أن يجدوا له مخرجًا، فيقولون: رواها فلان في كتابه وفلان في مسنده، ولا يقرون بضعف الضعيف ووضع الموضوع إلا في القليل النادر، ويتركونها تأكل عقول الناس وتشعوذ سلوكهم.

•••

ثم من غريب أمر هؤلاء المفتين من الفقهاء والمحدثين في ذلك العصر أنهم لا يؤمنون بأن هناك علومًا وراء علومهم، ولا تخصصًا وراء تخصصهم، ويؤمنون بأن الفقه والحديث كافيان وحدهما للإجابة عن كل سؤال، سواء اتصل بالتاريخ القديم أو بالطب أو بالفلك أو طبقات الأرض أو ما شئت من العلوم، فإذا سئل المفتي عن شيء من ذلك فما عليه إلا أن يقلب كتبه ليعثر على حديث ضعيف أو قول شيخ قديم، فيكون هو الجواب، وهو الصواب، وهو كل الحق، فالشيخ ابن حجر يُسأل عن السواد الذي في القمر، فيجيب بأن عليًّا — كرم الله وجهه — سئل عن ذلك فقال: هو أثر مسح جناح جبريل؛ لأن الله خلق نور القمر سبعين جزءًا كنور الشمس، فمسحه جبريل بجناحه فمحا منه تسعة وستين جزءًا حولها إلى الشمس، فأذهب منه الضوء وأبقى فيه النور، فذلك قوله تعالى: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً.

ويفتي بأن القمر يقطع الفلك في شهر والشمس لا تقطعه إلا في اثني عشر شهرًا.

ويفتي في المطعومات وما يناسب منها وما لا يناسب، ويفتي في مقدار المدة بين الأنبياء، وفي عدد زوجات سليمان وسرياته إلخ، مما يدل على أن هؤلاء المفتين لا يحترمون للعلم اختصاصه.

•••

ثم كان الناس فارغين يبحثون في أوهام ويتساءلون عما لا يمكن العلم أن يصل إليه، ويتجادلون في فروض، ويضيعون أوقاتهم فيما لا ينبني عليه في الحياة عمل، وهم يتساءلون: هل يجوز زواج الجن؟ وهل يروى عنهم الحديث؟ وهل خلقت الملائكة دفعة واحدة أو على دفعات؟ وهل الجن تتشكل كالملائكة؟ وهل الجن يموتون؟ وهل كان إبليس عارفًا بالله ثم سلب منه ذلك؟ وهل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟ وهل الأفضل المشرق أو المغرب؟ وهل تصح الصلاة خلف الجن؟ وهل أذن للأنبياء أن يخرجوا من قبورهم ويتصرفوا في الملكوت؟ إلخ.

تلك تصورات فاشية بين المسلمين في القرن العاشر، لم يجدوا في الحياة جدًّا فهزلوا، ولم يجدوا من ينير عقولهم فسخفوا، وما زلنا إلى الآن نرث تركتهم المثقلة بالديون، ويعاني المصلحون أشد العناء في محو هذه الأوزار وإزالة هذه الآثار.

•••

هذه بعض صور لما عثرت عليه في هذه الفتاوى، وقبل ذلك قرأت في «فتاوى ابن تيمية» فوجدت فيها من الفوائد التاريخية ما لم أجده في كتب التاريخ نفسها.

أفلست ترى — بعد ذلك — أن هذه الفتاوى مصدر تاريخي هام لتأريخ الحياة الاجتماعية في العصور المختلفة في العصور المختلفة، وأن المؤرخين لم ينصفوا في إهمالها؟

١  نسبة إلى عقيل بن أبي طالب.
٢  نسبة إلى زينب بنت فاطمة، وقد تزوجت بابن عمها عبد الله بن جعفر، ولها منه أولاد كثيرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤