الإنسانية والقومية

فكرة القومية أو الوطنية كانت أثرًا من آثار الثورة الفرنسية، فقبلها لم تكن الدول معروفة على النحو الذي نعرفه الآن، ثم ثار العالم هذه الثورة، وكان من نتائج ثورته انقسامه إلى ممالك على النمط الحالي، وبثت في كل مملكة تعاليم الوطنية تدعو إلى الاحتفاظ بالوطن والتعلق به، وتوجيه كل النظم الاجتماعية والاقتصادية ونظم التربية لخدمته.

حتى أصبح من مميزات القرن التاسع عشر انتشار روح القومية واشتدادها وتجمعها حول المملكة، وتوجيه كل نظم الدولة نحو خدمة هذه النزعة الوطنية، وحل التعصب الوطني محل التعصب الديني الذي كان سائدًا في القرن السابع عشر، فبعد أن كان أكبر الحماسة وأكثر مظاهر التعصب دينيًّا، وأشد النزاع دينيًّا، بين نصارى ومسلمين ويهود، وبين الفرق المختلفة من كل دين بعضها وبعض، أصبح أشد النزاع بين الأمم المختلفة ولو اتحدت دينًا، كما هو المشاهد اليوم، فأكبر النزاع بين أمم متحدة دينًا تقريبًا، وأصبح النزاع بين الوطنية الإنجليزية والوطنية الألمانية، والوطنية الإيطالية والوطنية اليونانية إلخ.

وكان من أثر هذا أن أسست الأخلاق على نفس الأساس السياسي، فكما أن سياسة كل دولة ينبغي أن تخدم مصالح دولتها — أولًا — كذلك أسست الأخلاق على مبدأ القومية، ينظر ساسة كل أمة إلى مصالح أفرادها، وفي مصالح مجموع الأفراد الذين يعيشون داخل حدود الدولة الجغرافية فقط، وكذلك الأخلاق لونت هذا اللون أيضًا، فكانت أخلاقًا قومية دعا إليها مكيافيلي وهوبز وأتباعهما، فعد السلوك فضيلة إذا أطاع الرجل فيه دولته وخدم أمته، بقطع النظر عن أثر هذا السلوك للأمم الأخرى.

والأخلاق القومية تساير السياسة القومية في جميع مراحلها، كلتاهما لا تنظر إلا إلى مصالح قومها، فقد تتنافى السياسة القومية مع العدل العام، فتدعو السياسة إلى اتباع السياسة القومية، وكذلك تدعو الأخلاق القومية، يتجلى هذا في معاملة الأمم بعضها لبعض، وفي معاملة الأمم المستعمرة للأمم المستعمرة، وعلى هذا الأساس وضعت النظم الاقتصادية لكل أمة، من حماية متاجرها ومصنوعاتها، وفرض الضرائب «الجمركية» وهكذا، وعلى هذا الأساس وضعت سياسة الإغارة من دولة على دولة إذا شعرت بقوتها وشعرت بمصالحها الخاصة، من غير نظر إلى شعور الآخرين ومصالحهم، وكذلك أخلاق الأفراد في كل أمة لونت هذا اللون، فالعمل خير إذا مكن أمته من مصلحة عاجلة أو آجلة، وشر إذا أضاع على أمته مصلحة عاجلة أو آجلة.

وقد توجهت هذه النزعة القومية بالحرب العظمى الماضية، وبالحرب الأشد عظمة الحاضرة، فقد تجلت النزعة القومية على أتمها في السياسة والخلق على السواء، فسياسة كل أمة محاربة موجهة إلى مصلحتها وإضعاف عدوها بكل الأساليب الممكنة، وسلوك الأفراد موجه طوعًا أو كرهًا لخدمة السياسة القومية.

•••

وهناك نزعة أخرى مخالفة لهذه كل المخالفة، وهي النزعة الإنسانية لا القومية في السياسة وفي الخلق.

تدعو هذه النزعة إلى النظر إلى الأشياء نظرة واسعة، لا محدودة بحدود الأمة، ولكن بحدود العالم، فالعمل خير إذا زاد خيره عن شره للعالم، وشر إذ زاد شره عن خيره للعالم.

وجدت هذه النزعة قديمًا فقالوا: «الإنسان أخو الإنسان» إلخ، وأيدها بعض الفلاسفة أمثال «كانت» القائل: «لا تعامل إنسانًا ما على أنه وسيلة، ولكن عامل كل إنسان على أنه غاية»، وبنتام القائل: «قدم أكبر خير لأكبر عدد».

يتطلب هذا المبدأ عدم اعتبار أي جنسية أو لون أو أي قومية في حسبان العمل خيرًا أو شرًّا، فالظلم ظلم من غير نظر إلى من وقع منه أو من وقع عليه، والعدل عدل سواء صدر من أسود أو أبيض، وعومل به أسود أو أبيض، ويتطلب هذا النظر كسر الحدود الجغرافية والسياسية والاقتصادية، وتقويم المسائل بالنظر الواسع.

وكانت النصرانية والإسلام أقرب إلى النظر الثاني، فقد أهدرا الجنسية واللونية والقومية واللسان والدم، واعتبر الأساس وحدة العقيدة، فلا فرق أمامها بين أسود وأصفر وأبيض و«لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى»، وكسرا الحدود الجغرافية، فالمسلم — مثلًا — يعد المملكة الإسلامية كلها وطنه، لا فرق بين حجازي وخراساني ومغربي وهندي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، والإسلام كسر الحدود بين الرجل والمرأة، وبين المولى وسيده؛ وفي الحروب الصليبية وقفت الكتلة المسلمة أمام الكتلة النصرانية مهدرتين الجنسية إلا ما كان من اعتبارات شخصية أو تنازع على الرياسة.

وكان اليونان والرومان أميل إلى النظر الأول، فاليوناني سيد، وغيره — مهما كان — عبد، حتى فلاسفتهم كأفلاطون وأرسطو نظروا هذا النظر، ورأوا أن الدم اليوناني سيد الدماء، والرومان رأوا جنسهم فوق الأجناس، فلما فتحوا فتوحهم نظروا إلى الشعوب المفتوحة نظرة ازدراء، فلم يدم ملكهم، وكان من أسباب انهياره اصطدام نظرة النصرانية الواسعة بنظرة الرومان الضيقة، ولكن أثرت نظرة اليونان والرومان القديمة أثرًا كبيرًا في نظرة أوربا الحديثة؛ لأنها وارثتهما، فحييت القومية، وتغلبت النزعة الوطنية، وبعثت نظرة اليونان والرومان أكثر مما بعثت النظرة المسيحية، وقلد الشرق الغرب من اليابان والصين إلى العالم الإسلامي، فأصبحت قومية عراقية وأخرى مصرية وثالثة شامية، وهكذا، طبقًا لفرنسا وإنجلترا وألمانيا وإيطاليا.

•••

ولكن النزعة الإنسانية لم تمت، فظلت تعيش في عقول الفلاسفة وفي رءوس بعض الدعاة، وتتحرك في بعض الضمائر الحية، وتصطدم بالنزعة القومية، فيكون لهذا الاصطدام مظاهر، كالاختلاف في أمريكا: هل تنغمس في سياسة العالم وتصلح منه ما تستطيع وفقًا للنظرة العالمية، أو تنفض يدها من سياسة العالم إلا بما يمس مصالحها الخاصة وفقًا للنظرة القومية؟ وكالخلاف الناشب في أمريكا أيضًا بين أنصار السود الذين يرون إهدار اللون وتحقيق العدل المطلق وفقًا لمبدأ الإنسانية، وأنصار البيض الذين يرون القضاء على السود وفقًا لمبدأ الجنسية، وكالخلاف بين كبار الساسة ممن يعطفون على الأمم المستعمرة ويرون حقها في البقاء وحقها في الاستقلال، وخصومهم الذين يرون عكس ذلك، وهكذا.

ولم تعدم كلتا النظرتين فلاسفة يتحمسون لها ويبدون محاسنها وعيوب الأخرى، فلم تعدم النظرة القومية من يقول: إن القومية هي التي أحيت الشعور وأظهرت التنافس بين الشعوب على أتم وجه، فكان من أثره التقدم العلمي والفني، والحب إذا تشعع وشمل العالم لم يكن له من القوة كما إذا تركز، كما لم تعدم النظرة الإنسانية من يؤيدها بما يحدث من الويلات الحاضرة التي جرتها القومية.

•••

لقد كسر العلم الحدود بين الأمم، وألغى المسافات بين أجزاء العالم، وتبين كل جزء من العالم حاجته إلى كل أجزاء العالم، وأصبح من المستحيل أن تعيش أمة بنفسها ولنفسها، فوسائل النقل هي وسائل العالم، والراديو صوت للعالم، وخيرات العالم للعالم، وشرور العالم مصيبة العالم، المخترعات ملك العالم ونعمته أو شقاؤه، ومحصول الشرق لا يستغني عنه الغرب، وصناعة الغرب لا يستغني عنها الشرق، أفَيُمْكن مع هذا كله أن تكون السياسة قومية فقط والأخلاق قومية فقط، أو يكون شأننا إذًا شأن من يلبس ثوب طفل لرجل أو يقطع المسافة البعيدة بجمل، أو ينير القصر البديع بزيت، أو يواجه المدفع الرشاش بقوس؟

إن مهمة السياسة والأخلاق إنما هي تحديد العلاقات، فإذا تعقدت العلاقات فلحلها نظم، وإذا سذجت فلحلها نظم، وهذه النظم ليست جسمًا صلبًا ولا حجرًا صلدًا، وإنما هي تابعة لنمو الإنسان وتطوره، فسياسة الطفل غير سياسة الرجل، وسياسة البدوي غير سياسة الحضري، وقانون سكان الوبر غير قانون سكان الحضر، فمحال أن تتصور نمو العالم ونمو العلاقة بين أجزائه، ثم تريد أن تحتفظ بنوع السياسة أو نوع الأخلاق الذي يحدد هذه العلاقة.

لست أفهم هذه الحرب إلا أنها ثورة عنيفة على النظم التي تحدد هذه العلاقة، وإعلان دموي بعدم صلاحيتها ومطالبة صاخبة بتغييرها وفق تقدم الإنسانية وتقدم فهمه وعلمه وعلاقاته، ودعوة صريحة بأن علاقات العالم الواسعة تتطلب حتمًا سياسة واسعة وخلقًا واسعًا، وإلا عدت جنونًا.

وأدهش كل الدهش من دعوة إلى جنسية لتحل محل القومية والوطنية! فهذا أيضًا نظر قاصر، ولا فرق في الضيق بين نظرة جنسية ونظرة قومية، والانتقال من هذه إلى تلك ليس إلا انتقالًا من مرض إلى مرض وانتقالًا من فن من الجنون إلى فن آخر.

•••

ليس من الممكن ولا من المصلحة القضاء على الوطنية والقومية، فحب الوطن طبيعي في الإنسان بل والحيوان، والعمل على إسعاده طبيعي أيضًا فيهما، فالطير يحمي وكره، والأسد يحمي عرينه، والبدوي يموت دون قبيلته، والحضري لا يحيا إلا بأمته، ثم هذه الوطنية قد أثرت في الأفراد تأثيرًا سحريًّا، فاستخرجت منهم أقصى ما يمكن من المجهود العقلي والفني والنشاط الفكري والجسمي، ودفعت المدنية خطوات واسعة إلى الإمام، وعرضت مناظر من التضحية هي غاية في الروعة والجمال، وما كان يكون ذلك كله لو طلب من الأفراد أن يعملوا للإنسانية كلها لا لأمتهم، فالقنطار من السكر يحلي حوضًا، ولكن لا يحلي نهرًا، والمصباح الكهربائي قد يضيء غرفة وقد يضيء دارًا، ولكن لا يضيء سماء، فخير لنا أن ننتفع بالسكر على قدر إحلائه والمصباح على قدر إضاءته.

ولكن لم لا تكون علاقة الوطنية بالإنسانية كعلاقة الفرد بأسرته وعلاقة الأسرة بأمتها؟

لقد كان الإنسان قديمًا لا يستطيع التوفيق بين شخصه وأسرته ولا بين أسرته وأمته، وكان يضطرب سلوكه إذا تعارضت هذه المصالح، ولا يزال الإنسان المنحط لا ينظر إلا إلى نفسه أو لا ينظر إلا إلى أسرته، ويفضل أن يتخم هو ولو كان كل من حوله جائعين، وتؤمَّن أسرته ولو كان كل الأسر حوله خائفين، ويسعد هو وأسرته في وسط الشقاء، ولا يرى بأسًا من بؤس عام إذا كان هو وبيته في رخاء — ثم تطور الإنسان ورقى وأصبح ينشد مع أبي العلاء قوله:

فلا هطلت علي ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلادا

ومع البارودي قوله:

أدعو إلى الدار بالسقيا وبي ظمأ
أحق بالري لكني أخو كرم

لقد رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحته الشخصية ومصلحة أسرته، ثم رقى شعوره ورقى عقله حتى وفق بين مصلحة أسرته ومصلحة أمته، ورأى أن ليس من الخير في شيء أن يعيش لنفسه دون أسرته أو لأسرته دون أمته، وبلغ من رقي بعض الأفراد أن يدرك أن خير أسرته وخير أمته يتحدان، فقبل تجنيد أبنائه عن طيب خاطر، ورأى أن مصلحة أسرته ومصلحة أمته في ذلك شيء واحد، ودفع الضرائب راضيًا كذلك، والتزم كل ما توجبه القوانين ولو ضحى ذلك بجزء من ماليته وجزء من حريته، لسمو نظره فوق الاعتبارات الشخصية والاعتبارات العائلية، كل هذا تم مع الاحتفاظ بالأسرة والاحتفاظ بالأمة معًا، فلماذا لا يخطو العالم الإنساني خطوة أخرى في الرقي، فيوحد بين خير الأمة وخير الإنسانية، ويرى خير الأمة من خلال خير الإنسانية، ولا يرى الخير لأمته إذا تعارض مع خير الإنسانية!

لقد حدث هذا فعلًا في بعض المسائل الجزئية كاتحاد البريد بين الأمم، فاحتفظت كل أمة بشخصيتها في نظام البريد وطوابعه واستغلاله، ومع ذلك تقيدت بما هو خير عام للنظام العالمي للبريد، فلو خطونا خطوة أخرى سياسية من هذا القبيل لتحقق هذا الأمل.

لقد لمع هذا الرجاء على أثر الحرب الماضية بتعاليم الرئيس ولسن ووضعه أسسًا لعصبة الأمم، ولكن فشل هذا النظام لأنه كان كالرقعة الجديدة في الثوب البالي، ولم يغير نظام الدول بما يتفق ونظام العصبة، ولا يمكن تحقيق هذا النظام إلا إذا تغير «الطقم» كله من نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، وتوج بالعصبة التي تنسجم وهذا النظام.

ومما لا شك فيه أن العالم مستعد الآن جدًّا لهذه الخطوة، وأن المصائب المرة التي يشهدها، والفجيعة الفظيعة التي يئن منها في الأنفس والأموال والثمرات، ستقربه جدًّا من هذه الغاية، وسيتم هذا الأمل لو وفق قادة السياسة فنظروا إلى العالم من علٍ، ومزجوا نظرتهم المادية بنظرة روحية، وشعورهم القومي بالشعور الإنساني، وفكرتهم العلمية بفكرة أرقى فلسفية.

وهذا ما لا بد — عاجلًا أو آجلًا — أن سيكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤