نداء الباعة

امتازت مصر — فيما امتازت به — بنداء الباعة، فقد زرت مدنًا شرقية ومدنًا غربية، فلم أرها تحفل بالنداء على المبيع كما حفلت القاهرة، إذ جعلته فنًّا، وأدخلت فيه من أنواع المحسنات ما لم يتهيأ لغيرها.

من ذلك أنها أدخلت فيه فن البلاغة، فملأته بالاستعارات والكنايات والتشبيهات، حتى أصبحت هذه في كثير من الأحوال تحل محل الاسم الحقيقي للأشياء، فمثلًا «بيض اليمام» هو العنب، و«قلل الشربات» هي الكمثرى، و«بير العسل» زنبيل البلح، والبصل كالرمان، والفجل كاللوبيا، وكيزان العسل نوع من التين، وهكذا.

وأحيانًا يذكرون منافعه ويغنيهم هذا عن ذكر اسمه، «فالنافع الله» كناية عن الحلبة المنبتة، و«الشفا من الله» للموز إلى آخره.

وأحيانًا ينسبونه إلى ولي من أولياء الله، كترمس الأنبابي، وحمص السيد، وخس المليجي و«مال الغريب» وهو ولي بالسويس يطلقونه على جوز الهند … إلخ.

وأحيانًا ينسبونه إلى البلد الذي يجود فيه كالملوخية الحبشي، والقلل القناوي، والحرير المحلاوي.

وهكذا جعلوا النداء فنًّا في حين أن ما رأيت في البلاد الأخرى يكتفي باعتها بذكر اسم الشيء مجردًا أو مقرونًا بوصف يدل على الجودة، فأما كثرة التشبيهات والكنايات على النحو الذي أشرت إليه فلم أجدها لغيرها.

ثم هم يدخلون في النداء فنًّا آخر، وهو فن الموسيقى والغناء، فهم يوقعون النداء توقيعًا فنيًّا؛ ومن رزق الصوت الحسن منهم غنى على ما يبيع فأطرب، وتفنن فأجاد، وكم في شوارع القاهرة — ولا سيما في الأحياء الوطنية — من باعة يصففون سلعهم، ويجودون عرضها، ثم يتأنقون في النداء عليها، ويتفننون في الغناء لها، حتى كأنك تسمع مغنيًا بارعًا، وفنانًا مجيدًا، وهذا بائع العرقسوس كثيرًا ما يستعمل الطاسات التي يمسكها، فيوقع عليها توقيعًا موسيقيًّا جميلًا في مهارة وإتقان.

ولا أنسى جماعة كانوا يشتركون في بيع «حب العزيز» في حارتنا، فكانوا يخترعون الأغنيات الكثيرة له، ويحمل أحدهم مزمارًا والآخر دفًّا، ويوقعون الغناء مصحوبًا بالمزمار والدف، فيؤلفون بذلك جوقة موسيقية، أو «تختًا» غنائيًّا بديعًا، فإذا بدءوا هرع إليهم أطفال الحارة وتحلقوا بهم، وأصغوا إلى موسيقاهم وغنائهم، وحملهم الإعجاب بهم على الشراء منهم.

والمصريون مولعون جدًّا بالغناء، تغنوا بالنداء على المبيع كما تغنوا بالقرآن وبالأذان، وفي الأفراح والمآتم، وفي حفلات الزار، وفي مجتمع الذكر.

ومن عجيب الأمر أن هذه الطوابع للأشياء تقليدية متوارثة، وكذا توقيعها الموسيقي، يتلقنها جيل عن جيل، رواها المحدَثون عن الأقدمين، فأما المنتجات الحديثة فلا طابع لها، بل يذكر اسمها مجردًا، كالمانجو فتذكر مجردة أو مع اسم صنفها أو مضافة إلى مستنبتها من غير تشبيه ولا كناية ولا موسيقى، وكالمثلجات وما إلى ذلك من أشياء حديثة، فليس لها طابع قديم، كقلل الشربات، وكيزان العسل، كأن الأقدمين كانوا أكثر فنًّا، وأقدر على الإبداع في التسمية، ولو كان للقدماء صحف كالأهرام والمقطم والبلاغ لصاغوا لها قوالب في النداء عليها، ووضعوا لها توقيعًا يتناسب وقوالبها.

•••

لقد رأيت كثيرًا من المدن الأخرى — شرقية وغربية — تنادي على الأشياء نداءً خاليًا من الفن البلاغي والفن الموسيقي، فينادون على الزهر باسم الزهر، والفحم باسم الفحم، والملح باسم الملح، فإن زادوا شيئًا فوصف بسيط، كأن يقولوا تفاح جميل أو خوخ جيد من غير نغم موسيقي، فما تعليل هذه الظاهرة في مصر، وخاصة القاهرة؟

الواقع أنها ظاهرة بسيطة، ولكن تعليلها معقد محير.

هل سببه توالي البؤس على مصر عصورًا طويلة جعلت الطبيعة له متنفسًا بكثرة الغناء وكثرة الموسيقى؟ ولذلك كانت الطبقة البائسة في الأمة أكثر ميلًا للموسيقى والغناء، يغنون وهم يصنعون، ويغنون وهم يسيرون، ويتنادرون وهم يسمرون، بأكثر من الطبقة الوسطى والراقية.

قد يكون هذا تعليلًا، ولكنه لا يثبت على الامتحان، فهل مصر أبأس من غيرها من بلاد الشرق؟ وهل القاهرة أبأس من غيرها من القرى؟

وقد تكون العلة مزيجًا من أشياء مجتمعة، منها ميل المصريين إلى المبالغة والاحتفال، فمبالغتهم في وصف الأشياء عند البيع واحتفالهم بهذا يشبه مبالغتهم واحتفالهم في الاستقبال والوداع والمآتم والأفراح والولائم وتحية الزائر وما إلى ذلك، فهذه كلها لا تؤدى في بساطة وسهولة ويسر، بل في تعقيد وتركيب ومبالغة، فكان من هذا الباب ميلهم إلى المبالغة في وصف السلع، هذا مع ميلهم إلى المرح وطرق الإغراء ولفت النظر، فدعاهم هذا كله إلى الغناء في النداء وإلى الموسيقى.

وفن ثالث يضاف إلى فن البلاغة وفن الغناء والموسيقى في البيع والشراء، وهو فن العرض، فترى بائع العرقسوس قد وضع في قدره لوحًا طويلًا من الثلج ليبرهن لك على برودته، وبائع اللب قد وضعه على شكل مخروط أو هرم، وبائع الترمس قد زينه بالورد والأزهار، والفاكهي صفف فاكهته في شكل يستحث على الشراء وهكذا، وهو فن كفن الغناء والموسيقى، يدعو إلى لفت النظر، ويغري بالشراء.

•••

ولكن إن كانوا يُحمدون على إدخالهم هذه الفنون الجميلة في البيع، فمن العدل أن يؤاخذوا على إدخال فنون غير جميلة فيه أيضًا.

فمن ذلك كثرة النداء كثرة مزعجة، فالموسيقى إنما تعجب وتطرب بقدر، فإذا زادت عن حدها انقلبت من مُطربة إلى مُصدعة، وهكذا كان الشأن في النداء، فقد زاد حتى صدع، فمن طلوع الشمس إلى منتصف الليل والنداء لا ينقطع، ولا أعلم بلدًا من بلاد الله كثر فيها الباعة المتجولون كثرتهم في القاهرة، ولا أعلم أشد منهم جلبة ومقدرة على الإزعاج، وكلما حاولت الحكومات ضبطهم وتنظيمهم فشلت وأعلنت عجزها، والبطالة عندنا اتخذت من مظاهرها بيع التجول، وما أكثر العاطلين فما أكثر المتجولين، إن فتح الدكان يتطلب تأثيثًا وأجرة وإضاءة وما إلى ذلك، فأما التجول فلا يكلف شيئًا إلا حمل السلع والسير بها، ويكفي أن يكون مع الرجل خمسة قروش أو أقل أو أكثر ليشتري بها كيزان ذرة أو قليلًا من اللب أو حزمًا من الفجل، ليقطع بها الشوارع رافعًا صوته مكررًا نداءه مغنيًا مالئًا الدنيا صياحًا.

وهم يلاحقون الناس حيث كانوا: في البيوت، في المقاهي، في السينما، حتى لتجلس في مقهى فلا تمر لحظة حتى يمر عليك الباعة يتجولون في الداخل والخارج: مواسي حلاقة، ومانجو، وفوط وبشاكير، وخيار مخلل، وكل ما خطر على بالك وكل ما لم يخطر، فكأنك في معرض معكوس، يمر عليك كل شيء بدل أن تمر على كل شيء، فإن أنت طلبت الهدوء والحديث الحلو والسمر الممتع فمحال أن يكون ذلك من غير أن تنقطع كل كلمة من الحديث بنداء بائع.

فإذا أوقعك سوء الحظ بنظرة تدل على رغبتك، أو بإظهار ميلك إلى الشراء، فقد دخلت في قضية طويلة فيها مرافعة من الجانبين، وفيها إقامة الحجج والبراهين على الغلاء والرخص، وفيها الأيمان وفيها المماكسة والممارسة، وأخيرًا فيها عرض الصلح أو رفض الدعوى.

وأظنك تسلم معي أن هذه كلها ليست فنونًا جميلة.

ومنشأ هذه الفنون غير الجميلة شدة فقر البائع وشدة حرص المشتري على أن يشتري الشيء بأبخس ثمن، ففقر البائع حمله على التجول في الشارع لا استئجار دكان، ورضاه بأتفه ربح، والإلحاح في العرض، وبذل الخلق في سبيل قرش يقتات به، وتحمل مشاق السير الطويل الشاق، والعرض المضني، والتحايل والمكر والخداع، وما إلى ذلك، وقاتل الله الفقر.

وحِرص المشتري حمله على الإعراض عن الدكان إلى بائع متجول يستغل فقره وعوزه، فيمارسه ويماكسه حتى يبيعه بالقليل التافه من الربح، أو يشتط في الإلحاح عليه حتى يضطره إلى البيع من غير ربح، وقاتل الله الحرص.

ومن مواضع النقد فن العرض الذي ذكرت، فهو فن بدائي، من جنس عرض الماشية في بعض القرى وفي بعض أحياء القاهرة قبل أن تذبح، وعرض العريس قبل أن يزف، فكان أولى في العرض من لوح الثلج في قدر العرقسوس، وشكل الهرم في بيع اللب، ووضع الأزهار على الترمس، أن يكون أساس العرض الترغيب بالنظافة، فهي أهم شرط من شروط العرض الجيد، فلأن يُعرض الشيء بسيطًا في نظافة خير ألف مرة من أن يعرض عرضًا مركبًا قذرًا، وهذا هو ما ينقص العرض المصري، فإذا روعي أنه بلد يكثر فيه الغبار والذباب، كان هذا العرض القذر من أسوأ الأخطار، ولم تتنبه مصلحة الصحة إلى هذا إلا أخيرًا، وهي اليوم في بدء برنامج طويل عسير.

ويضاف إلى شرط النظافة شرط الجمال، والجمال في العرض خاضع لسنة النشوء والارتقاء ككل شيء؛ فكما تعرض المرأة في الأمة الساذجة جمالها بكثرة حليها، والمبالغة في أصباغها، واختيار أزهى الألوان في ملابسها، ثم يرتقي ذوقها وذوق الناس إلى التجمل بالحلي البسيطة، واختيار الألوان الباهتة، فكذلك الشأن في جمال العرض، يبدأ ساذجًا بالترغيب بكبر الكمية ورخص السعر وبالصوت القوي ونحو ذلك، وينتهي بحسن العرض في وجه الدكاكين، وبالذوق الجميل في الترغيب بالجودة والجمال والإتقان، والفرق بين العرضين كالفرق بين سائل يستثير رحمتك بثيابه المهلهلة وجسمه المشوه، ومبالغته في عرض العجز والعوز، وسائل آخر يعرض فقره بتوقيع قطعة موسيقية، أو رسم صور كاريكاتورية أو ألعاب بهلوانية، فالأول يسترحم بفن القبح، والآخر يسترحم بفن الجمال.

وأخيرًا كل شيء عندنا يحتاج إلى مجهود جبار في إصلاحه، حتى نداء الباعة، وعرض البضاعة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤