التقليم والتطعيم في الأدب

جرني التفكير في «الأغاني المصرية» إلى توسيع النظر في الفنون والآداب المصرية والعربية، فوجدتها كلها تحتاج إلى عمليتين هامتين خطيرتين: أولاهما عملية التقليم، والثانية عملية التطعيم، ولأقتصر في حديثي اليوم على التمثيل بالأدب العربي، فهو أخطر الفنون وأكثرها أثرًا في حياة الشعوب.

•••

واضح أن آداب الأمم تختلف باختلاف شخصياتها ومميزاتها وميولها، كما تختلف باختلاف أمزجة أدبائها، وكما تختلف باختلاف بيئتها، سواء كانت بيئة طبيعية من جو ووضع جغرافي، أو بيئة اجتماعية من سياسةٍ ودينٍ وأوضاعٍ وتقاليدَ ونحو ذلك.

والأدب عامة يتطور بتطور الأمة، ويتفاعل معها، فيوثر فيها ويتأثر بها، وإنك لتستطيع — بالنظر العميق — إذا درست أدب أي أمة في أي عصر أن تستنتج منه حالة الأمة الاجتماعية، وظروفها السياسية، ونظم حكمها، وحالة شعبها.

إن كان كذلك فمن المحال أن تعيش أمة على الأدب القديم وحده، أو على أدب العصور الوسطى فقط، وإلا كانت كالتاجر يعيش على تصفح دفاتره القديمة فحسب، وهذا علامة الإفلاس.

إن أدب كل أمة يرسم المثل الأعلى لها، والمثل الأعلى ليس صورة ثابتة متحجرة، بل هو مرن، ويجب أن يكون مرنًا، ويختلف بتقدم الإنسان وتغير ظروفه وملابساته، ويتقدم كلما خطا الإنسان خطوة إلى الأمام.

وهذا هو الشأن في الأدب العربي، فهو ليس أدب أمة واحدة، بل هو أدب أمم مختلفة في عناصرها، ونوع ثقافتها، ودرجة عقليتها، وموقع إقليمها، كما هو أدب أمم مختلفة العصور والأزمنة، والوضع السياسي، والحالة الاقتصادية، والمعيشة الاجتماعية — وهو في عصوره المختلفة قد صور المثل الأعلى أشكالًا وألوانًا، فالمثل الأعلى الجاهلي غيره في العصر الأموي، وهما غيره في العصر العباسي، وهو في العراق غيره في مصر.

وأمم الشرق في العصر الحاضر من حيث موقفها من المدنية الغربية، ومن حيث آمالها السياسية، ومن حيث عواطفها القومية، ومن حيث نظمها الاجتماعية، لا بد لها من مثل عليا جديدة تحض الجيل الجديد على الطموح إليه والسعي وراءه وإلهاب العواطف لنيله، وهذه وظيفة الأدب في كل أمة، ومنها الأدب العربي.

في الأدب العربي القديم لا نجد كل غذائنا، وفي الأغاني القديمة لا نجد ما يغذي كل عواطفنا، وفي كل فنوننا القديمة لا نجد ما يرسم كل مثلنا الأعلى الذي ننشده.

لقد قامت مناظره مرة في أن الأدب العربي القديم يصلح غذاء للجيل الحاضر أو لا يصلح، فاخترت الشق الثاني، ولست أعني أنه قليل القيمة أو عديم المنفعة، ولكن أعني أنه وحده لا يكفي في الغذاء، وأنه ينقصه كثير من أنواع «الفيتامين»، ليصلح به العقل وترقى به العواطف.

وللوصول إلى هذا الغرض لا بد من العمليتين اللتين أشرت إليهما، وهما التقليم والتطعيم.

أما «التقليم» فأعني به أن الأدب العربي مثله مثل تل كبير من قمح، بعضه طين اختلط بالقمح فيجب أن ينقى منه، وبعضه حب مسوس يجب أن يستبعد، وبعضه صالح يجب أن يفرز وحده لنستعين به على الغذاء الصالح، لقد كان كله صالحًا، أو على الأقل نتاجًا طبيعيًّا لعصره، ولكن ما كان صالحًا لعصر قد لا يصلح لعصر آخر.

إن الأوضاع السياسية للأمم — مثلًا — غيرت نظرة العصور الماضية إلى الحكام، فيجب أن نغربل الأدب القديم، فلا نقر منه ما يضع من شأن الأمة كأمة ويقدس الحاكم كحاكم، والعلم بالأحوال الاقتصادية غيَّر من نظرنا إلى الفقر، فلم يجعله قضاءً وقدرًا فقط، بل جعله نتيجة طبيعية لحالة الأمة ووجوه دخلها وخرجها، ونظام ميزانيتها ومواردها ومصادرها، فالأدب العربي الذي يبعث على الرضا بالفقر كنتيجة محتومة لا دخل للأمة ونظامها فيه يجب أن يستبعد، وأحوال الأمم كلها الآن تستدعي نفوسًا قوية في إيمانها، قوية في عقيدتها، قوية في عواطفها، فلنقس الأدب العربي بهذا المقياس، فما كان منه يبعث على الميوعة، وعلى الانهماك في الشهوات، وعلى الخذلان وضعف الثقة بالنفس والثقة بالأمة والثقة بالله يجب أن يعدم.

إن الأمم الآن تتطلب التضحية، تتطلب مثلًا أعلى أساسه خير المجتمع لا خير الفرد وحده، وتتطلب إعداد الفرد للكفاح، فما كان من الأدب العربي يدعو الفرد أن يبحث عن لذته مهما كانت نتائجها على المجتمع يجب أن يُنحى، والأدب الذي عماده أن فلانًا أعطاه من مال الأمة لقصيدة أشاد فيها بذكره فجعله ملكًا فوق البشر، ليس صالحًا لجيلنا بحال من الأحوال، بل إن مدح الملوك والأمراء والحكام يجب أن يكون أساسه العدل وخدمة الرعية، وأداء ما عهد إليهم بذمة وصدق، سواء أعطوا مالهم الخاص أو منعوا، كرموا أو بخلوا، وأن الأدب الذي يخيف من الموت، ويجعل الحياة كلها توقعًا للموت، وخوفًا من الموت، يجب أن يموت، ويحل محله تقديس الحياة والعمل للحياة، حياة الأمة وحياة الفرد، ولا بأس بالموت إذا الموت نزل!

•••

امتحنْتُ هذه النظرية فقرأت كتابًا من كتب الأدب العربية، فوجدتني في كل صفحة من صفحات الكتاب قد علقت — في ذهني — على بعض الجمل بأنها غير صالحة، لأنها تبعث الضعف، وبعضها غير صالح، لأن العلم الحديث أثبت كذبه، وبعضها غير صالح، لأنه كان مثلًا أعلى قديمًا وليس مثلًا أعلى حديثًا، وبعضها صالح كل الصلاحية، لأنه يناسب زمننا كما كان مناسبًا لزمنه، فهو مستحق للبقاء.

قرأت مثلًا قول المغيرة بن شعبة: «أحب الإمارة لثلاث، وأكرهها لثلاث: أحبها لرفع الأولياء، ووضع الأعداء، واسترخاص الأشياء، وأكرهها لروعة البريد، وفوت العزل، وشماتة العدو»، فقلت: إن هذا نظر غير صائب، وشعور غير نبيل، إنما تحب الإمارة للعدالة، وإيصال الحقوق لأصحابها، وتحقيق ما أمكن من إصلاح، أما حبها لنفع الصديق وضر العدو ونحو ذلك فنظر سطحي سخيف، لا يصح أن يعرض على النشء.

وقرأت قول القائل: «كان الناس ورقًا لا شوك فيه، فصاروا شوكًا لا ورق فيه».

فقلت: هذا غير صحيح وإن حسن لفظه؛ لأنه في كل أمة، وفي كل عصر، وفي كل جماعة، ورق وشوك، فلا يخدعنك حسن التعبير عن فساد المعنى.

وقرأت خطبة لسعيد بن سويد: «لا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلًا بالسيف، ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاء بالحق، وأخذ بالعدل».

فقلت: هذا قول حق، يصلح لكل زمان ومكان، ويصح أن يعلم لكل ناشئ، ويردده كل متأدب.

وقرأت قول الشاعر:

أشرقْتَ حتى تركْتَ الشمس ساجية
كأنما أُلبست دكنًا من الحلل
وراح نقعك في أجفانها كحلًا
وما عهدنا بجفن الشمس من كحل
لقد حقنت دم العليا بجود يد
مخضوبة بدماء المحل والبخل
أظما إلى رشفها يومًا فيصدفني
عنها تعرض سيل العارض الهطل

فقلت: إن هذا الضرب لا يعجبني، رجل أعطى الشاعر قبضة من مال، فجعله أكثر إشراقًا من الشمس، وجعل يده مخضوبة بالدم من قتل البخل إلخ، وهي معان مبتذلة، وموقف استجداء وضيع، وعاطفة شخصية جزئية حقيرة، فهذا الضرب لا أشجع عليه، ولا أقدمه مثالًا يحتذى، وخير منه قول المتنبي في المديح:

إذا الدولة استكفت به في ملمة
كفاها، فكان السيف والكف والقلبا

إلخ.

وقرأت من الأمثال قولهم: «الوقت كالسيف، إن لم تقطعه قطعك»، فقلت: قول مبهرج، ولا معنى له، فليس بصحيح أن السيف إن لم تقطعه قطعك.

وقرأت قول الشاعر:

تطامن للزمان يجزك عفوًا
وإن قالوا ذليل قل ذليل

فقلت هذا شعر يجب أن يضرب به وجه ناظمه الحقير.

وقرأت نصيحة عمرو بن عتبة لمعلم ولده: «روهم من الحديث أشرفه، ومن الشعر أعفه»، فقلت: قول شريف صحيح. ثم قرأت قوله: «ولا تنقلهم من علم إلى علم حتى يحكموه، فإن ازدحام الكلام في القلب مشغلة للفهم» فقلت: هذا غير صحيح فيما أثبت علم التربية الحديث.

وبجانب ذلك قرأت أدبًا جيدًا كل الجودة، حقًّا كل الحق، نافعًا لأن يكون جزءًا من مثلنا الذي ننشده، لا أطيل بذكره لكثرته.

وهكذا وجدت فيما استعرضت خيرًا كثيرًا، وشرًّا كثيرًا، فلا بد من التقليم والتطهير واستبقاء الأصلح.

خرجت من فكرة «التقليم» هذه بأنَّ أُولي الرأي في الأمة يجب أن يكون لهم غرض واضح معين في تربية النشء، ووضع أسس ثابتة في التربية، ورسم مثل أعلى واضح جلي، فإذا تم ذلك وجب على كل طائفة أن تسعى لتحقيق هذا الغرض، والأدباء والفنانون في طليعة هذه الطوائف، يجب أن يعيدوا النظر في الأدب والفن، فلا يضعوا في يد النشء من الأدب العربي والغناء والأناشيد والتصوير، إلا ما ينسجم مع هذا المثل، وإلا كنا كطائفة تغزل غزلًا، وتأتي طائفة أخرى فتنقض غزلها.

إن عملية التقليم هذه تكسبنا عينًا ناقدة نفرز بها الجيد من الرديء، ونميز بها الصالح من الطالح، في الشعر والخطب والأمثال والحكم والقصص والأغاني والروايات، وكل ضرب من ضروب الأدب، وكل نوع من أنواع الفن.

إن الأدب العربي في جملته نوعان: نوع غير صالح لحياتنا الواقعية التي نحياها الآن، ولا يتفق مع مثلنا الأعلى الذي ننشده في هذا الزمان، وهذا يجب أن يوضع في متحف، كالآثار القديمة، يعنى به الخاصة وحدهم ومؤرخو الأدب فقط، ونوع صالح لزماننا ومثلنا، وهذا وحده هو الذي نسلمه لنشئنا، ونصوغ منه أمانينا، ويستشهد به أبناؤنا، ويحفظ منه جيلنا.

إنَّا بعرضنا كل الأدب العربي على الناشئين بغثه وسمينه وصحيحه وفاسده — من غير «تقليم» — نضع في أذهانهم صورًا مختلفة متناقضة لمثل مختلفة يضرب بعضها وجه بعض، ولا نكون لهم مثلًا أعلى منسجمًا، فتكون النتيجة بلبلة الأفكار، وحيرة الأذهان واضطراب الناشئ يمينًا ويسارًا، وأمامًا وخلفًا، وفي هذا ضرر بَيِّنٌ على عقله وعواطفه.

ما بالنا في فروع العلم المختلفة نعلمه ما أثبت العلم صحته في الطبيعة والكيمياء والرياضة والجغرافية وعلم الأحياء، ولا نعلمه بجانبه ما أثبت العلم فساده من سطحية الأرض، ودوران الشمس حولها، وخلق الحي من غير الحي ونحوها، ثم لا نفعل ذلك في الأدب، فنعلمه ما صح وما فسد، وما يبعث عواطف مريضة بجانب ما يبعث عواطف صحيحة؟!

لا بد أن يكون لنا منهج واحد وأسلوب واحد في هذا وذاك، وإلا كنا نزن بميزانين ونكيل بكيلين.

•••

هذه العملية الأولى، وأما العملية الثانية وهي «التطعيم» فأعني بها أننا ندرس وجوه النقص في أدبنا وفننا، فيعكف أدباؤنا على ملاقاته، وندرس مثلنا الأعلى فنرى ما يدعمه ويقويه مما ليس في أدبنا فنخلقه، ونجعل هذا النوع وما استصفيناه من الأدب القديم غذاءنا.

لشد ما نحتاج في أدبنا إلى الإكثار من تحليل الشخصيات العظيمة لتخلق فينا عظماءَ جددًا، ولشد ما نحتاج إلى الكتب الجذابة لنشئنا لتغذيتهم بالمبادئ القويمة، ولشد ما نحتاج إلى شعر في الطبيعة وجمالها، وإلى شعر جاد قوي أخلاقي روحي نابع من خيال رفيع، ولشد ما نحتاج إلى القصص تشرح العيوب الاجتماعية وتستغفل القارئ فتضع له الدواء القوي المر أثناء تلذذه بحادثة أو منظر! إلى نحو ذلك.

عملية «التقليم والتطعيم» هي قانون الحياة، نشذب الشجر لينبت العود الصالح، ونقطع العضو الفاسد في الجسم حتى لا يسري فساده إلى السليم، ونطعم الشجرة لتنتج خير الثمار وأحسن الأزهار، ونضحي في كل شيء بالقليل لنغنم الكثير وندفن الميت لنستقبل الحي. فما لنا لا نفعل ذلك في الأدب والفن؟!

لقد مر على العالم الإسلامي عصور حية زاهرة أنتجت أدبًا حيًّا زاهرًا، ومر عليه عصور ميتة جامدة أنبتت أدبًا ميتًا جامدًا، ولا بد لنا من التنقية والاختيار.

وعلى الجملة لا يمكن أن يصلح أدبنا وفننا إلا بعمليتي التقليم والتطعيم، ولو كره الكافرون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤