التقليم والتطعيم في اللغة

ما قلناه من إجراء العمليتين في الأدب يصدق تمام الصدق على اللغة، فمادة اللغة العربية تحتاج إلى تقليم وتطعيم.

ذلك أن اللغة عَرَض من أعراض الأمة تتقدم بتقدمها وتنحط بانحطاطها، فلغة العرب في الجاهلية كانت تكفي لحاجاتهم القليلة ومنازع نفوسهم المحدودة وشئونهم الاجتماعية الأولية، فلما جاء الإسلام لم يرَ اللغة الجاهلية كافية له، فنماها من ناحيتين: من ناحية استعمال الكلمات الجاهلية في معان جديدة لم تكن تستعمل فيها من قبل، ومن ناحية تعريب كلمات من لغات أخرى، وهكذا كان الشأن في العصر الأموي والعصر العباسي، ولو أحصينا مفردات اللغة في هذه العصور المختلفة لوجدناها قليلة نسبيًّا في الجاهلية، كثيرة في صدر الإسلام، كثيرة جدًّا في العصر العباسي، وليس الأمر في ذلك مقصورًا على مفردات اللغة وعدد كلماتها، بل نجد كلمات ماتت بموت مدلولها في الجاهلية وكلمات ظلت حية في العصور المختلفة لحاجة الأمة إليها.

كانت إذًا عملية التقليم والتطعيم مستمرة في هذه العصور، تحكم بالإعدام على الألفاظ التي لا تحتاج إليها أو التي تستثقلها، وتقتبس من العبرانية والسريانية والهيروغليفية والحبشية والفارسية واليونانية واللاتينية وغيرها ألفاظًا جديدة حسبما تدعو إليه الحياة اليومية الواقعية.

متى تعد اللغة راقية وافية؟

عندي أن مقياس ذلك شيئان أساسيان:
  • (١)

    أن تكون في طبيعة اللغة مرونة من اشتقاق وارتجال ووضع ومجاز ونقل عن لغة أخرى، وهكذا يمكن أصحابها أن يقلبوا الكلمات ويصوغوها حسب تعدد المعاني وتغيراتها الدقيقة.

  • (٢)

    أن تسد حاجة المتكلمين بها، وتوفر ما وصلت إليه أمتها من علوم وفنون، وتعبر عما يشعرون به ويفكرون فيه في شمول ودقة وإحكام، ولكن بشرط أن تكون الأمة بلغت مبلغًا كبيرًا في الحضارة، أما إذا كانت الأمة أولية ولغتها مثلها أولية فلا يكفي لعدها راقية أن تسد حاجتها.

ويخيَّل إلي أن الشرط الأول يجعل اللغة راقية، والشرط الثاني يجعلها وافية، وهما معًا يجعلانها راقية وافية.

واللغة العربية — في ضوء هذا الذي ذكرنا — راقية بمرونتها التامة، غير وافية الآن؛ لأنها لا تطابُقَ بينها وبين حاجاتنا، ولا تسد كل ما وصل إليه العلم والفن والفكر من إنتاج، فالعلماء والفنانون لا يجدون فيها كفايتهم، والصناع والعمال لا يعبرون بها عما في أيديهم، والمفكرون يتعثرون في التعبير بها عن بعض أفكارهم.

وإذا كانت اللغة العربية بطبيعتها راقية كان العيب ليس عيبًا ذاتيًّا فيها، وإنما عيبها عيب القائمين عليها المصرفين لزمامها المالكين لقيادتها.

ولا بد — لمعالجتها — من هاتين العمليتين: «التقليم والتطعيم».

فأما التقليم فإن معاجمنا مملوءة بكلمات لا حاجة لنا بها ومترادفات كثيرة للشيء الواحد يكفينا بعضها، والزمن قد فعل فعله المعقول فأهمل كلماتٍ كثيرةً لم يستعملها الكتاب ولا الشعراء ولا المؤلفون ولا المتحدثون فيما ينتجون، ولم يشعروا يومًا ما بحاجتهم إليها لِغناء غيرها عنها، أو لانعدام مدلولها في حياتهم اليومية.

والسبب في هذه الكثرة البالغة المتجاوزة الحد في متن اللغة أن اللغة العربية كانت لغة قبائل متعددة، لكل قبيلة ألفاظها وتراكيبها في حدودها المعقولة وحاجاتها المتداولة، فجاء العلماء في آخر العصر الأموي وصدر العصر العباسي، فجمعوا ما وصلوا إليه من كل هذه اللغات من غير تفريق ولا تمييز، ومن غير أن يفردوا كل قبيلة بألفاظها، فكان لنا من ذلك كله ثروة كبيرة لا حاجة لنا بها إلا في شرح ما ورد عن هذه القبائل من أدب، أما حياتنا اليومية وتفكيرنا وأدواتنا فليست تحتاج إلى شيء كثير من هذا المترادف.

ومما يؤسف له أن هؤلاء العلماء عنوا في عملهم بالجمع، ولم يعنوا بجانب ذلك بالاختيار، مع أن الاختيار عمل لا يقل شأنًا عن عملية الجمع.

وأكثر من هذا داعيًا للأسف أنهم قصروا جمعهم على اللغات الممعنة في جزيرة العرب البعيدة عن الحضارة، كتميم وقيس وأسد وهُذَيْل، ولم يرضوا أن يأخذوا شيئًا من المتاخمين لأهل الحضر لفساد لغتهم في زعمهم، مع أنهم لو أخذوا عنهم لأمدونا بألفاظ كثيرة نحن أحوج إليها في حضارتنا؛ فقالوا: لا نأخذ من لخم وجذام لمجاورتهم أهل مصر، ولا من قضاعة وغسان لمجاورتهم أهل الشام، ولا من تغلب لمجاورتهم سكان الجزيرة، ولا من اليمن لمخالطتهم الهند والحبشة، وتفرغوا فقط لجمع لغة العرب الصرفة المنزهة عن الاختلاط، وهي وجهة نظر قد تكون صحيحة لو أنهم لم يقتصروا عليها، وجمعوا معها اللغات المتاخمة؛ لأنها أغنى وأوفر وأقرب لسد حاجة المدنية والحضارة.

أرادوا — لقصر نظرهم — أن يقتصر الناس على استعمال الألفاظ العربية الصحيحة المستعملة في جزيرة العرب، وفاتهم أن هذا مستحيل، وأن الناس بعد مدنيتهم لا تكفيهم لغة بداوتهم، كما لا يكفي ثوب الطفل لجسم الرجل.

ولذلك اضطر المؤلفون والأدباء والكتاب والمتحدثون ألا يخضعوا لحكمهم وأن يستعملوا الكلمات غير العربية، سدًّا لحاجتهم، وطبقًا لمقتضيات أحوالهم، واضطر أصحاب المعاجم أن يدخلوا في معاجمهم الكلمات الأعجمية المعربة والمصطلحات العلمية المستحدثة، كما فعل صاحب القاموس المحيط، فقد تضخم معجمه بهذا كله، وكما فعل أكثر منه صاحب تاج العروس في شرح القاموس.

•••

عملية التقليم هذه تتطلب أن نستبعد الألفاظ التي لسنا في حاجة إليها، وأن نخلي مكانها لما نحتاج إليه، فليس فخر اللغة أن يكون فيها ثمانون اسمًا للعسل، وخمسون للأسد، وأربعمائة للداهية إلخ. بل يكفي من كل ذلك أربعة ألفاظ أو خمسة، ثم نفسح المجال لأسماء المخترعات الحديثة والمصطلحات الجديدة، نعم يجب أن تكون هناك معاجم تحوي كل ما أثر عن العرب، ولكنها تكون معاجم تاريخية يرجع إليها الخاصة، أما المعاجم التعليمية التي تكون بأيدي جمهور الناس فيقتصر فيها على الكلمات الحية.

لقد قالوا: إن كتاب الصحاح اشتمل على أربعين ألف مادة، والقاموس على ستين ألفًا، ولسان العرب على ثمانين ألفًا، فما أحوجنا إلى إماتة نصف هذا العدد على الأقل، لنحيي مكانه ما نحن في حاجة إلى إحيائه.

ثم هذه المعاجم اللغوية محتاجة أيضًا إلى تقليم من نوع آخر، وهو كثرة ما ورد فيها من تخريف يفسد العقل، ففيها — مثلًا — أن: «القاف جبل محيط بالأرض أو من زمرد، وما من بلد إلا وفيه عرق منه»، وفيها: «أن الهرمين بناءان أزليان بمصر بناهما إدريس — عليه السلام — أو بناهما سنان بن المشلشل، أو بناهما الأوائل لما علموا بالطوفان من جهة النجوم، وفيهما كل طب وسحر وطلسم» وفيها: «أن أبا عروة رجل كان يصيح بالأسد فيموت فيشق بطنه فيوجد قلبه قد زال عن موضعه»، إلى كثير من أمثال هذا الهذيان.

كل هذا يجب أن يقلم، ويقلم أيضًا التفسير الذي كان جاريًا على ما كان معروفًا أيام المعاجم القديمة ثم تغير بتقدم العلوم، فتفسير الكسوف والخسوف والظواهر الطبيعية والنبات والحيوان وما إلى ذلك كله يجب أن يكون حسبما وصل إليه العلم الحديث، لا حسب ما كان معروفًا في العهد القديم.

لسنا في حاجة إلى أن يكون للأسد خمسون اسمًا وللعسل ثمانون وللسيف أكثر من ذلك، إنما نحن في أشد الحاجة إلى أن يكون لكل شيء تقع عليه حواسنا وكل معنى تصل إليه عقولنا اسم نصطلح عليه ونتبادل به التعبير عنه، ولا يكون ذلك إلا بإغفال كثير مما ورد في المعاجم مما لا نحسه ولا نحتاج إليه، ولا يمس شيئًا من حياتنا الواقعية.

فإذا أعدمنا هذا الذي لا نحتاج إليه فتلك عملية التقليم، ثم تأتي بعد ذلك عملية التطعيم بأن نملأ المكان الذي فرغ من إزالة الألفاظ الميتة باستعمال كلمات للدلالة على كل شيء نحسه أو نشعر به أو نفكر فيه، إما بالتعريب والوضع أو توسيع معاني الكلمات القديمة.

وهذا ما فعلته الأمم الحية كلها، وفعله العرب أنفسهم والمستعربون الأولون، لقد كانوا يأكلون الثريد والمضيرة، ثم صاروا يأكلون الفالوذج والسكباج والكباب، فلما أكلوها عربوا أسماءها وأدخلوها في لغتهم، وكانوا يسمعون الصنج والمزمار، فصاروا يسمعون الناي والقانون والبربط، فلما سمعوها عربوها، وكانوا يسكنون في الخيام، فصاروا يسكنون الدور مزينة بالفسيفساء والقاشاني، فلما استعملوها عربوها، وما كانوا يعرفون علمًا، ثم عرفوه، فواجهوا مصطلحات العلوم من جبر وهندسة ومنطق وطب وفلسفة، فمرنوا لها وتغلبوا على صعوبتها، وجعلوا لكل شيء لفظًا منقولًا أو مرتجلًا أو مشتقًّا، فكانت لغتهم تطابق معيشتهم.

أفليس غريبًا بعد ذلك أن نجمد على ما وصلوا إليه مع أن المدنية والحضارة والعلم والصناعة ووسائل المعيشة لم تقف حيث وقفوا، ونمت أضعاف ما كانت؟

أخطر خطأ في هذا الباب اعتقادنا أن اللغة مقدسة، فنعبدها ونجلها، ولا ندخل عليها تغييرًا ولا تعديلًا، مع أن اللغة خادمتنا وليست سيدتنا ولا إلهنا، هي التي تخضع لنا، لا نحن الذين نخضع لها، هي عرض من أعراض حياتنا كالثوب نلبسه والمتاع نستخدمه والبيت نسكنه، وكل شيء من ذلك يجب أن يخضع لظروفنا ومقتضيات أحوالنا، يغير الثوب حسب تغير الجسم، ويبدل بناء البيت حسبما تتطلبه راحتنا، ويصلح المتاع حسب موقفه منا: وهكذا اللغة هي آلة خادمة ذليلة للتعبير عما في نفوسنا، نملكها ولا تملكنا، وتقدسنا ولا نقدسها، ويجب أن تموت أجزاؤها وتحيى أجزاؤها وتخلق أجزاؤها حسب حاجتنا، وأن تتشكل لنا لا أن نتشكل لها، وإلا كانت لغة أثرية لا لغة حية.

إن كانت اللغة غير مقدسة فمعاجمها غير مقدسة، يجب أن تخضع لكل تقدم علمي نصل إليه، فتعريف الألفاظ يجب أن يكون حسبما أقره العلم الحديث، واللفظ إذا استعمله جيلنا ولم يكن في المعاجم وجاريًا على النمط العربي يجب أن يدون فيها، ولا يحتج بأنه غير موجود في المعاجم القديمة، ولا نصغي إلى هؤلاء المتزمتين الذين يصرخون دائمًا في وجهنا: «إن هذا ليس في القاموس» كأن القاموس كتاب منزَّل يتعبد به — إن هذا النمط من القول شل للفكر وعقدة في اللسان وتعويق للأقلام، وحرام ما نحن فيه من ضياع أوقات المدرسين والمفتشين في الجدال في أن هذه الكلمة في المعجم أو ليست فيه، وفي سبيل ذلك تضيع قيمة المعاني والأفكار والأساليب.

كم أعمارٍ ضاعت في هذا الباب على غير جدوى، وكم صحائف سودت في هذا الموضوع من غير طائل، وكل هذا مبني على هذا الخطأ في تقديس اللغة.

ما يضرنا أن نستعمل تعبير «من جديد» إذا استسغناه ولو لم يرد في المعاجم؟ وما يضرنا استعمال كلمة «هناء» إذا أقرها أدباؤنا ولو لم توجد في المعاجم؟ ولماذا نفحم في الإجابة إذا قال قائل: إنها وردت في كتاب «العمدة» أو في مقدمة ابن خلدون، ولا يكون لنا الحق الذي كان لابن رشيق وابن خلدون؟!

لقد ظنوا أن «القاموس» نص على كل لفظ عربي، فما لم يوجد فيه فليس بعربي، وهذا غير صحيح مطلقًا، فهو لم يذكر «الرحمن الرحيم» في رحم، وقال: «الشنار أقبح العيب والعار» ولم يذكر العار في مادته، وقال في أول كتابه: «الحمد لله منطق البلغاء باللغى في البوادي»، ولم يذكر في مادة لغة أنها تجمع على لُغَى، وقال في الخطبة أيضا: «فصرفت صَوْبَ هذا القصد عناني» ولم يذكر في مادة صوب أن من معانيها الجهة، إلى كثير من أمثال ذلك.

وهَبْ أن العرب لم ينطقوا بها، فلماذا لا ننطق بها نحن إذا جرت على أساليب العرب وأوزانها وأصولها؟!

كل ما في الأمر أن المسألة لا يصح أن تكون فوضى ينطق كل من شاء بما شاء، وإلا انقلبت الحرية إلى عكس المراد منها، فاللغة مواضعات ووسيلة للتفاهم في حدود معقولة، إنما الواجب أن يكون في الأمة متخصصون مرنون أحرار عالمون بالعربية وأسرارها مطلعون على حاجة الأمة ومطالبها اللغوية، يوسعون على الناس في كلامهم وفق أسس اللغة ويضعون لها ما هي في حاجة إليه.

وهذا هو عمل المجامع اللغوية لو أنها قامت بواجبها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤