رحلة! …

– إلى أين — يا قائد الرحلات — رحلتك هذا العيد؟

– إلى الطور.

– فليكن.

«وشددنا رحالنا»، ولكن هذا تعبير لا يعجبني، فقد كان تعبيرًا صحيحًا أيام الجمال والرحال، أما الآن فلم نركب جمالًا ولم نشد رحالًا، وإنما أعددنا السيارات، واختبرنا الآلات، وزودناها بما يكفي من ماء وبنزين، فلنعبر عن ذلك كله تعبيرًا واقعيًّا لا تقليديًّا.

وسرنا على بركة الله نضرب في الصحراء، ونقطع في عشر ساعات ما كانت تقطعه الإبل في عشرة أيام، ولكن ما أعجب العرب! كانوا يركبون الإبل فبلغوا الغاية في التعبير عنها، وعرفوا أجزاءها، وسموا أعضاءها، ووصفوا كل شيء فيها، وأنشأوا حولها أدبًا استوفوا فيه كل معنى رائع وقول جميل، حتى لم يتركوا من بعدهم فيها قولًا لقائل، وأتينا بعدهم فلم نستطع — مع حضارتنا وتقدمنا وزعمنا إرث العرب — أن نضع أسماء عربية لأجزاء السيارة، ولا أن ننشئ حولها أدبًا، لا رائعًا ولا غير رائع، واكتفى خبراؤنا أن ينقلوا أسماءها الإفرنجية، كما نقلوا مسماها الإفرنجي، وأخذنا نصوغ عبارات الإبل للدلالة على سير السيارات، وهكذا نحن عالة على الأوربيين في المسمى، وعالة على قدامى العرب في التعبير عنها، فمتى نشعر بالاستقلال؟

ما لنا ولهذا؟ فقد قطعنا الطريق البديع يجمع بين السهول الفسيحة، والوديان تكتنفها الجبال الجليلة ذات الألوان البديعة، نقرب من البحر فنؤخذ بزرقته وتموجه وحركته، ونبعد عنه فنؤخذ بألوان الأرض المختلفة وجمال وشيها وسكونها، وينظر جميعنا إلى ذلك كله نظرات متفاوتة حسب تفاوتنا في ثقافتنا، هذا عالم جيولوجي يقرأ في كل لون دلالة على نوع من المعدن، وفي كل طبقة دلالة على الأعمار، وهذا أديب لا يعنيه من كل ذلك إلا جمال المنظر وجلاله، وروعته وبهاؤه، وموسيقاه ونغماته، وهذا اقتصادي يقرأ في كل صفحة تطالعه منجمًا مجهولًا وثروة ضائعة، يعلم ويندم، ويدرك ويتحسر، وكلنا يلقي خطرات من فيض علمه أو فيض أدبه، وكلنا يأنس بالطبيعة ويستوحيها ويستوعبها، ومن حين إلى حين ندع الطبيعة وحقائقها وجمالها، ونستمع إلى حديث يسرنا بأفانينه، ويؤلمنا بإعادتنا إلى ما هربنا منه.

وكان جميلًا منظر الغروب في الصحراء والماء، وحنت علينا الشمس فأخذت تلعب أمامنا ألعابًا مدهشة! وآخر ما فعلت أن رسمت لنا في السماء لوحة عجيبة في ألوانها ورسومها وتخطيطها، فلم تدع لونًا إلا عرضته في دقة وإحكام، وجمال وانسجام، ورسمت لنا أشكالًا فوق الهندسية، تسحر النفس، وتأخذ باللب، ثم أشفقت علينا أن نجن بإبداعها فأسرعت في الاحتجاب، وأرسلت إلينا ابنها البار القمر، فلم يلعب بالألوان لعبها، ولم يتفنن في الأشكال أفانينها، ولكن لونه الفضي الواحد جميل في الماء، جميل في الصحراء، وادعٌ في غير عنف، هادئ هدوء الليل، ملهم إلهام الحب.

•••

هذه هي «الطور» أرخى عليها الليل سدوله، وكساها من غموضه فلا ترى إلا أشباحًا: شبح أحجار، وشبح أبنية، وشبح شجر، فلندعها في غموضها وسدولها حتى تأتي إلينا الشمس القوية ثانية فتمزق حجبها، وتكشف أستارها، ولنَنَمِ الآن نحلم بجمال ما رأينا، ونذوق ما ادخرنا.

وأصبحنا فارتدنا البلد، أبنية حديثة جميلة نظيفة متفرقة، بنيت كلها على أساس فكرة «المحجر الصحي» حيث يعود الحجاج يقيمون فيه أيامًا للتحقق من صحتهم، فهذه حجر الحجاج، وهذه بيوت الأطباء، وهذه المباخر للتعقيم، وهذه أبنية الموظفين لخدمة هذه الفكرة، ودعانا الشوق إلى ارتياد مكان نزلنا فيه حين عدنا من الحج منذ ثلاث سنين، فاستعدنا ذكريات الحج ومن صحبنا وما لقينا، وكيف كنا في سجن لطيف لا نقدر على ما نقدر عليه اليوم من الطواف في البلد ورؤيته.

وعلى مدى الطرف رأينا مكانًا يعج بالناس، عليه حراس أقوياء، شاكو السلاح.

– ما هذا أيها الدليل؟

– إنه مجمع المجرمين الخطرين، خيف منهم أثناء الحرب، فتُحُري عنهم في أنحاء القطر بشهادة العمد والمشايخ وأمثالهم، وجمعوا جموعًا وأرسلوا إلى هذا المحجر تباعًا، ألف وراء ألف يقدمهم ألف حتى زادوا على ثلاثة آلاف، وهم متخصصون في نواح من الإجرام مختلفة: منهم المتخصص في القتل، ومنهم في تسميم المواشي، ومنهم في المكيفات، ومنهم في السرقة، إلى ما شئت من أنواع الإجرام، قد بلغ من مهارتهم أنهم يجرمون ويختفون ولا تثبت عليهم التهمة فيعاقبوا، فلم يكونوا في السجون، أو حكم عليهم بمدد انتهوا منها، ويُخشى أن يعودوا إلى ما ارتكبوا، وليست الحكومة فارغة لهم حتى تفكر في شئونهم مع تحملها أعباء الحرب بل خشية الحرب، فحشدتهم إلى الطور حتى تأمن شرهم وتوفر على الناس ويلهم.

– ولكن لماذا اختاروا لهم هذه البقعة؟

– اختاروها لبعدها وانقطاعها، حتى يسهل مراقبتهم، ويصعب فرارهم، ولعلهم اختاروها لأنهم سيكونون على بعد أمتار من الحجاج، فيكون في البقعة أطهر قوم وأخبث قوم، فلعل بركة الحجاج تنضح على خبث المجرمين فتزيل إجرامهم وتمحو الشر من نفوسهم، كما يذهب الماء الطهور بالخبث.

وأحسست بما يجذبني نحوهم، فقربت من سورهم بقدر ما يسمح النظام بالقرب منهم، ومشى أمامى «تابور» منهم عند عودتهم من عمل كلفوه، فتفرست في وجوههم وقرأت في سحنهم، ورثيت لحالهم، ووددت لو سمحت الظروف بأن أعاشرهم، وأدرس نفسيتهم، وأقف على خواطرهم، وكيف يأكلون ويشربون، وكيف يتحدثون — إذًا لكان كل هذا مادة خصبة للأديب والنفسي والاجتماعي، يشرفون منها على مجال فسيح في الأدب والنفس والاجتماع.

ورأيت بعض شبابيكهم عريت منها أخشابها، فسألت عن سبب ذلك، فعلمت أنهم أحيانًا يعوزهم الدفء فيقلعون أخشاب الشبابيك يستدفئون بنارها، وأحيانًا يعوزهم التدخين على نمط خاص فيأخذون عوامات السيفونات يتخذون منها «جوزة» للتدخين، إلى كثير من أمثال ذلك، ولولا أصحابي لوقفت بجانبهم طويلًا أعيش في لذة الدرس لأحوالهم ومعيشتهم وبؤسهم والبؤس منهم.

أيتها النفس، لقد جئنا للرياضة وخلفنا الدرس في القاهرة، فارأفي بنفسك وتروضي ولا تدرسي.

وهذا دير كبير من سلسلة أديار في الصحراء، يدل حسن موقعها على دقة ذوق منشئيها، فقد عرفوا خير الأمكنة ينعمون فيها بالهدوء، ويقربون فيها من الله، أُرهف حسهم فلم يحتملوا أباطيل الدنيا، وفشلوا في الدنيا فأدركوا أنهم خلقوا للآخرة، وخافوا أن تغويهم زخارف الحياة فهربوا إلى حيث تنقطع عنهم أسباب الغواية، وقاسوا أبعاد الدنيا وأبعاد الآخرة، ووزنوا لذائذ الدنيا ولذائذ الآخرة، وحاولوا أن يجمعوا بين الأبعاد المختلفة واللذائذ المختلفة، فرأوا من اختلاف طبائعها ما يحيل الجمع بينها، ففضلوا ما يطول على ما يقصر، وما يبقى على ما يفنى، وصدمتهم الدنيا صدمة عنيفة ففروا منها حتى لا تتكرر، ولفظوا الحياة أو لفظتهم الحياة فعاشوا على هامشها، وثاروا على الطبيعة الإنسانية فهربوا من العمار إلى الخراب، ولكن سرعان ما خضعوا للطبيعة، فأخذوا يعمرون الخراب، وينشئون من الصحراء جنانًا تزهر بالنخيل والأعناب.

ومشينا ومشينا، ووصلنا إلى عين ماء بني عليها حوض يخرج الماء من جانب عذبًا دافئًا، ويخرج من جانب آخر فيسيل في الوادي، فتنبت منه الأعشاب والأشجار والنخيل، وتزين الصحراء بجمال الخضرة.

ونتسلق الجبال فنحس بما خلفته الحضارة في نفوسنا من أثقال وأوبئة، حتى نعيا من السير اليسير وتنقطع أنفاسنا من الصعود القليل، ونفقد مزايا العيشة البسيطة الطبيعية الملائمة للصحة، ولكننا نكدّ ونجدّ حتى نبلغ القمة، وقد بلغ منا الإعياء مبلغه، وإذا بمنظر رائع تنسينا لذاته ما نالنا من الضنى، ننظر يمنة فهذا واد فسيح، وصحراء جرداء نثرت فيها أشجار تكافح للحياة، وننظر يسرة فهذا بحر يعج بالموج وبالحياة، وأمامك جبال متسلسلة تبعث فيك الروعة والجلال، وتتناغم كل هذه المناظر فتؤلف موسيقى يعجز عن وصفها البيان.

ونعود إلى مأوانا فنسمر سمرًا لذيذًا فيه الفكاهة الحلوة، والقصص الممتع، والحديث يجري عذبًا في غير كلفة ولا تصنع ولا منطق، ويملأ وقتنا شاعر يطربنا من إنشائه ومن إنشاده، وتضيق بنا الحجرة فنخرج إلى الجو الطلق والسماء الصافية، والبحر يلاعبه القمر.

ثم إذا خلوت إلى نفسي لا يبرح خيالي حال المعتقلين من المجرمين، أمن الحق أن يحشر المجرمون المتنوعون في مكان واحد، فيكون كل مجرم أستاذًا في نوع إجرامه يلقنه تلاميذه، فإذا هم جميعًا مجرمون في كل أنواع الإجرام؟ أمن الحق أن نضعهم في هذا المحجر الصحي الذي صرف في أبنيته نحو مليون من الجنيهات، فنعيده إلى مكان غير صحي بفضل ما تسببه معيشة هؤلاء المعتقلين من الأوبئة والأمراض؟ أمن الحق أن نقيد هؤلاء في حريتهم ثم نضيق عليهم في معيشتهم من حيث الأكل والدفء ووسائل الحياة، فيفشو فيهم المرض وتكثر الوفيات؟ قد يصح أن نذهب إلى هذا ونقول: إنهم مجرمون خطرون، فليتهم يموتون فتستريح الأمة منهم، ويستريحوا هم من أنفسهم، ولكنهم لم يحاكموا، ولم يحكم عليهم بالإعدام، فإلى أن يصلح القانون إن كان فيه نقص يجب أن يتمتعوا ولو بأقل ما يتمتع به الإنسان من ضرورة الحياة.

ولكني أعود فأكرر على مسامعي أني أتيت للرياضة ولم آت للدرس، فويح نفسي من نفسي، ولا سبيل للرياضة الحقة إلا إذا خلعت نفسي إن عزمت على الرياضة، وحبذا هذا لو كان في الإمكان.

•••

وقضينا في الطور ثلاثة أيام كثلاثة الحجر الصحي، ننعم فيها بالعيشة البسيطة، ونهرب من تكاليف الحياة، ونمعن مرة في الصحراء، ونمشي مرة على هامش البحر، ونرقى جبلًا ونهبط واديًا، حتى مرت كأنها حلم لذيذ.

واعتزمنا العودة فأخذنا على أنفسنا أن ننعم بمنظر لم نره في المجيء.

قمنا قبل الفجر والطبيعة كلها نائمة والقمر قد أضناه السير فَعَلَا وجهه الشحوب، وأدى رسالته فاعتزم الراحة، وعلم بقدوم أمه الشمس فأخلى لها الطريق، وسارت سيارتنا تقلق السكون بأزيزها، وبدت تباشير الصباح، ومحت آية النهار آية الليل، وطلعت الشمس فأضفت على الكون من شعاعها الذهبي الجميل، وعادت مناظر الصحراء والماء تعرض علينا من جديد، من غير أن تفقد شيئًا من روعتها الأولى وجمالها، وكانت فصول الرواية طويلة غير مملولة، وصحبنا الشمس في كل حالاتها، واستقبلنا القمر في طلعته كما ودعناه في غيبته.

وتزودنا من محاسن الطبيعة ما تزودنا، وقربنا من خالقها ما استطعنا.

ثم ها هي أضواء القاهرة وضوضاؤها تردنا إلى حياتها المعقدة وتكاليفها الشاقة، وها هم باعة الجرائد يتصايحون يذكروننا بما نسينا من شئون الحرب وويلاتها، وها هي أماكننا المحدودة وأبنيتنا المتلاصقة تحجبنا عن الطبيعة وجمالها، وها هي حياتنا الأولى تعود سيرتها وتتكرر نغمتها، حتى تسنح لنا الفرصة فنفر منها في رحلة أخرى إن شاء الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤