القانون الطبيعي

كل ما عرفنا من قوانين الطبيعة والكيمياء وقوانين الفلك، وما اكتشفنا من قوانين العلوم على اختلاف أنواعها قوانين طبيعية، أو هي سنة الله في خلقه لا تقبل تبديلًا ولا تحويلًا.

لقد تمت الطبيعة وتمت قوانينها، فكل ما في الطبيعة خاضع لقوانينها لا يستطيع الخروج عنها مهما حاول.

وليست قوانين الطبيعة كقوانيننا الوضعية تعذر بالجهل ولا تعاقب إلا بعد إعلانها، بل هي توقع عقوبتها علم الناس أو جلهوا، قصدوا أو لم يقصدوا، فمن تعاطى سمًّا على أنه سكر عوقب بالموت، ولو جهل، ولو حسنت نيته.

والطبيعة قاسية كل القسوة في تطبيق قوانينها، لا ترحم من خالفها، ولا تغفر — مرة — ذنب من يتجرأ على نظامها، سواء عندها الصغير والكبير، والطفل الرضيع، والشيخ الهرم، لا ترحم طفلًا؛ لأنه وحيد أمه، ولا كبيرًا؛ لأنه عائل أسرته، من تعرض للنار احترق مهما كان شأنه، ومن سقط من أعلى خضع لقانون الجاذبية من غير نظر إلى أي ظرف من ظروف السقوط.

وهي في قسوتها ديمقراطية كل الديمقراطية، سواء عندها الغني والفقير، والملك والسوقة، وصاحب الحول والطول، ومن لا حول له ولا طول، كلهم يخضع لقوانينها كما يخضع الجماد، وتجري عليه أحكامها كما تجري على الريشة في الهواء.

وقوانينها أشكال وألوان: منها ما ينفذ سريعًا كسرعة البرق، حاسمًا كحد السيف، ومنها ما ينفذ بطيئًا بطء السلحفاة، هذا يكسر قوانين الطبيعة بسقوطه من نافذة، أو احتراقه بنار، أو اصطدامه بقطار، فينفذ عليه القضاء العاجل، وهذا يكسر قوانين الطبيعة بالإتخام أو بكثرة التدخين أو بإدمان السكر أو بتعاطي المخدرات، فتنفذ فيه الطبيعة قوانينها بهدوء حتى لا يشعر بها، وتهدمه في بطء كأنها لا تهدمه، هي تغضب حينًا فتضرب الضربة القاضية في سرعة وعجلة، وتهدأ حينًا فتطحن طحنًا بطيئًا ولكن ناعمًا، وهي في الحالين بالمرصاد لا تنسى ولا ترحم، ولا تصدر حكمًا مع وقف التنفيذ، إنما تجعل بعض أحكامها مشمولًا بالنفاذ العاجل، وبعض أحكامها مشمولًا بصيغة التنفيذ الهادئ، ولكنه تنفيذ على كل حال، وتنفيذ من غير إخلال.

وهذه القوانين الطبيعية تختلف وضوحًا وخفاءً، وبساطة وتعقدًا، فقد تبلغ من الوضوح والبساطة ما يدركه كل الناس كقوانين الطبيعة والكيمياء وظواهر الطبيعة، وقد تغمض وتتعقد حتى لا يدركها إلا الخاصة، وحتى لا يدركها الخاصة، وتاريخ الإنسان ليس إلا سلسلة لمحاولة فهم القوانين الطبيعية، وتضييق دائرة المجهول منها وتوسيع دائرة المعلوم، ولا يزال المدى أمامه فسيحًا لمعرفة ما جهل وتوضيح ما غمض، وسواء من قوانينها ما عرفنا وما لم نعرف، فهي تجري علينا حكمها وتنفذ فينا إرادتها.

وكلما كان المخلوق ساذجًا منحطًّا كانت قوانينه الطبيعية سهلة يسيرة واضحة، وكلما رقي تعقدت قوانينه وكثرت واشتبكت، ومن سوء حظ الإنسان، أو حسن حظه، كما تشاء، أنه أرقى المخلوقات الأرضية، فقوانينه الطبيعية أعقد القوانين وأغمضها، وأكثرها تركبًا واشتباكًا.

هذا جسمه يخضع لقوانين طبيعية كالتي يخضع لها الجماد والنبات والحيوان، وهذه نفسه تخضع لقوانين أشد غموضًا وتعقدًا لم يبلغ اكتشافها مبلغ اكتشاف قوانين الجماد، وهذه علاقته بالبيئة الجغرافية جعلته خاضعًا لقوانينها، فشكلت شكلًا خاصًّا جسمه وعقله، وحددت نشاطه، وحكمت حكمها في طبيعة عمله ومنهجه في العمل، ورسمت خطاه في مدنيته، وهذه أخلاقه خاضعة في تكوينها لقوانين الوراثة وقوانين الكسب، فما كان وراثيًّا منها فله قوانينه، وكان من أثر هذه القوانين للوراثة والاكتساب اختلافُ الأفراد فيما بينهم قوة وضعفًا، وذكاءً وغباءً، وصلاحًا وفسادًا.

فإذا نحن نظرنا إلى مجموعة من الناس — كأمة — وجدنا هذه الجمعية خاضعة لقوانين طبيعية من حيث شئونها الاقتصادية ونظمها الاجتماعية والسياسية، وهي خاضعة في كل خطوة من خطوات تقدمها أو تدهورها إلى هذه القوانين الطبيعية، ومن أجل الاختلاف في هذه القوانين الطبيعية اختلفت الأمم كما اختلف الأفراد قوة وضعفًا وتماسكًا وانحلالًا، وصلاحية للبقاء وعدم صلاحية.

وشأن قوانين الجماعات كشأن قوانين الأفراد في قوتها ومضائها وعدم تخلفها، وإن اختلفت عنها في أن الأولى أصعب إدراكًا وأشد اشتباكًا.

أما بعد، فما السعادة والشقاء، و ما النجاح والفشل؟ ليست هذه الألفاظ إلا تعبيرًا آخر مرادفًا للسير على قوانين الطبيعة أو الخروج عليها.

إن للطبيعة إرادة لا تقهر، فمعاكسة قوانينها سبب الشقاء وسبب الفشل، وإطاعتها سبب السعادة وسبب النجاح.

قد يغتر ضيق النظر فيرى أمثلة من مخالفة قوانين الطبيعة ومعها سعادة، قد يرى قوانين الصحة تخالف ومع ذلك يبقى الجسم صحيحًا، ويرى قوانين الأخلاق — وهي فرع من فروع القوانين الطبيعية — تخالف ثم يصحبها نجاح، وقوانين الاقتصاد تخالف ومع هذا يكون الغنى، ثم تطاع ويكون مع الطاعة الفقر، وهكذا، قد يكون هذا منظرًا شائعًا في الحياة اليومية، ولكن استتبع كل مثال تجد في الحكم نتيجة قصر في النظر وخطأ في التقدير.

هذا الذي استغفل قوانين الصحة فأفرط في الأكل أو في السكر أو نحو ذلك ينفذ فيه القانون الطبيعي أمره ولكن في هوادة على النحو الذي وصفت، حتى ينتهي أمره بالتنفيذ التام، فإذا هو صريع المخالفة، وهذا الخائن أو الكاذب قد ينجح، ولكن نجاحه إلى حين، وحتى لو نجح طويلًا فقد عاقبته الطبيعة بأن استلبت منه احترامه لنفسه وضميره وحبه للحقيقة، ومنحته شعوره بالضعة وبالدناءة، فكانت النتيجة أن ذبحه نجاحه، إن الطبيعة لا تهتم كثيرًا أن يغتني الخائن أو الكاذب أو يفتقر، ولكنها تهتم كثيرًا أن تنزل العقوبة بنفسه وأن تسلبها أحسن صفاتها، ولا تقصر في ذلك أبدًا.

•••

أهم ما تفضل به أمةٌ أمةً إيمانُها بالقوانين الطبيعية، وإيمانها بأنها لا تتخلف، وجدّها في أن تعرفها وتكتشفها وأن تبني حياتها على وفقها، فالفرق بين أمة راقية وأمة منحطة أن الأولى تسير في كل شأن من شئونها على الكثير مما عرفته من قوانين الطبيعة، فهي تربي أطفالها حسب قوانين الطبيعة، وتزرع أرضها حسب قوانين الزراعة، تنظم ماليتها حسبما وصل إليه علم المال، وتقيم حكومتها حسب قوانين العدالة، وهكذا هي في حياتها، مقدمات ونتائح، وقياس أحد أركانه دائمًا قوانين الطبيعة، وأما الثانية فتسير حيثما اتفق، تزرع حسب التقاليد، والتقاليد ليست قانونًا طبيعيًّا، وإنما القانون الطبيعي علم الزراعة، وتربي أطفالها كما اتفق، وتنفق ميزانيتها حسب الشهوة، وتمشي يمنة أو يسرة اعتباطًا، فتكون النتيجة دائمًا فشلًا؛ لأن السير الغامض غير المؤسس على علم عرضة دائمًا لمعارضة القوانين الطبيعية.

الأمة المنحطة تتسع عندها جدًّا دائرة الأوهام، وتضيق فيها جدًّا دائرة الإيمان بالعلم والقوانين الطبيعية، فالزرع ينمو أو يهلك لغير سبب، والطفل يصح أو يمرض للجن، والتاجر ينجح أو يفشل للحظ، والزوجان يسعدان أو يشقيان للقسمة، والسماء تمطر أو لا تمطر للغضب، والعُمل يعمل أو لا يعمل بالاستخارة، والإنسان يرزق أو لا يرزق بمجرد التوكل، ونتيجة هذا من غير شك أن الأمة التي تسير على هذا المنهج تنهار أمام الأمة تسير حسب قوانين الطبيعة، وأن الأمتين إذا تزاحمتا كان الفوز لمن يسير على قوانين الطبيعة.

إن مزرعة تزرع بالعلم خير لا محالة من مزرعة تزرع بالتقاليد، وإلا كان علم الزراعة غير صحيح، وإن تاجرًا يسير على قوانين الاقتصاد ينجح لا محالة أكثر من تاجر يسير بالبركة، وإلا كان علم الاقتصاد خطأ، وهذا هو وحده السر في نجاح الأجنبي حيث يفشل المواطن، إنه يسير في تجارته ومعيشته وجده ولهوه حسب قوانين الطبيعة فينجح، ويسير المواطن حيثما اتفق فيفشل، لو تكشف قوانين الطبيعة لإنسان لقرأ المستقبل قراءة لا تخطئ؛ لأن خالق العالم خلقه على قاعدة السبب والمسبب والمقدمات والنتائح، فلو أدركنا كل المقدمات والأسباب لجزمنا جزمًا قاطعًا بالنتائح والمسببات.

وأهم عمل المصلحين — في كل أمة — على اختلاف أنواعهم ليس إلا اكتشاف قوانين الطبيعة وحمل الناس على السير على وفقها، فالعالم ليس إلا مكتشفًا لهذه القوانين مسجلًا لها راصدًا لنتائجها، والمصلح الاجتماعي ليس إلا رجلًا عرف بعض هذه القوانين، ورأى أمته تسير على عكسها فدعاها للسير على وفقها، وماذا يفعل المصلح الديني؟ إنه يرى أن قومه غلبت عليهم الأوهام، وأضلتهم عقائدُ فاسدةٌ أعمت أبصارهم وأصمت آذانهم، فأخذ يفتحها لتدرك الكون وقوانينه، خير ما يعمله رجال الدين لأمتهم أن يؤسسوا حياة الناس على قوانين الطبيعة، ويدعوا الناس للسير على قوانينها المعقولة، وفي الحق أن قوانين الطبيعة هي في لغة الدين سنن الله، وإرادة الطبيعة هي إرادة الله، وأن السير على وفقها تقديس لأوامر الله.

ولقد بلغ من تقديس الدين لها أن عد خرقها معجزة الأنبياء، أما وقد ختم الأنبياء، فقد ختمت المعجزات، واطردت قوانين الطبيعة فلا تتخلف، وقد قال تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ومن كلماته تعالى قوانينه التي بثها في كونه، ويعجبني ما روي عن عمر بن الخطاب أنه ذكر عنده الغيلان وأنها تتحول من خلق إلى خلق فقال عمر: «ليس أحد يتحول عن خلقه الذي خلق له».

وعمل السحر ونحوه ليس قلبًا للقوانين الطبيعية وكسرًا لها، وإنما هو تخييل كما عبر الله عن ذلك أصدق تعبير، إذ قال: فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ.

ومما يؤسف له أن مرت على الناس عصور مظلمة دعا فيها بعض عامة المتدينين إلى زلزلة العقائد في هذه القوانين الطبيعية، فالماء يسار عليه، والأرض تطوى للمشي عليها من أقصاها إلى أقصاها في لحظة، والفاكهة تحضر بتحريك يد في الهواء، ونحو ذلك — مع أن خاصة الصوفية كانوا يتبرءون من ذلك وينهون عنه، فكان «سهل التستري» يقول: «أكبر الكرامات أن تبدل خلقًا مذمومًا من أخلاقك» وجاء رجل فقال له: إن الناس يقولون: إنك تمشي على الماء! فقال: سل مؤذن المحلة فإنه رجل صالح لا يكذب. قال: فسألته، فقال المؤذن: «لا أدري هذا، ولكني أعلم أنه نزل الحوض في بعض الأيام فوقع فيه فلو لم أخرجه لبقي فيه أبدًا».

فلما اعتقد العامة في تخلف القوانين الطبيعية بنوا حياتهم اليومية حيثما اتفق، فليزرع الزارع كما شاء، فقد تنقلب القوانين الطبيعية فينجح المهمل ويفشل المدقق، وليسرف التاجر كما يهوى وليسر سبهللًا، فقد يرزق الأخرق ويحرم الحذِر، ومثل ذلك الصانع في صناعته والعامل في عمله، والموظف في وظيفته، والأم في تربية الولد، والأب في الإنفاق على الأسرة، ليست هناك غاية محددة يسعى إليها بخطوات محددة، إذ ليس هناك إيمان بقانون السببية ولا بالقوانين الطبيعية.

وهكذا أصبح هذا الشأن مرضًا من أمراض المجتمع الخطيرة، لا بد أن يتكاتف رجال الدين والمصلحون الاجتماعيون على القضاء عليه، حتى يؤمن الناس أن لا تبديل لكلمات الله، ولا تبديل لقانون الطبيعة، ولا نجاح لأمة أو فرد إلا بإطاعة هذه القوانين وتعديل الحياة على وفقها.

يجب أن يفهم الناس أن الموت والحياة قانون طبيعي، وأن الغنى والفقر قانون طبيعي، وأن الصحة والمرض قانون طبيعي، وأن صلاح الناشئين وفسادهم بالوراثة والتربية قانون طبيعي، وأن الهزيمة والنصر قانون طبيعي، وأن موقف الأمم في سلم العالم قانون طبيعي، وأن من أراد من الأمم أن يرقى لا بد أن يعمل مقدمات الرقي الطبيعية ليصل إلى النتيجة الطبيعية، وأن الله ربط الأسباب بالمسببات ربطًا محكمًا، وجعل بين المقدمات والنتائج عروة وثقى لا انفصام لها، وأن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وأن من زرع الحنظل جنى الحنظل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤