العام الهجري الجديد

باسم الله نستقبل هذا العام الهجري الجديد، وباسم الله نرجو أن يكون خيرًا من أخيه الراحل، وأن يكون يمنًا وبركة وسعادة للإنسانية عامة، وللعالم الإسلامي خاصة، وأن ينظر فيه المسلمون إلى أنفسهم فيعرفوا مواضع الضعف فيها فيقووها، وإلى مواضع القوة فيزيدوها، وأن ينظر العالم الأوربي إليهم نظرة عادلة، فيعلم أن المسلمين قد شعروا بإنسانيتهم فلم يعد في الإمكان أن يُستعبدوا، وبصروا بأنفسهم فأصبح من العسير أن يستغلوا، وتجاوزوا طور الصبا فلا بد لكسبهم من إخائهم لا سيادتهم، ومن مساواتهم لا السيطرة عليهم، ومن معاملتهم معاملة الإنسان للإنسان، لا معاملة الإنسان للسلع، وفوق ذلك فتكاليف المدنية كثيرة، والقيام بأعبائها شاق عسير، وتسيير آلاتها يحتاج إلى أيد لا عداد لها، وعقول لا تحصى، فلماذا نضعف المدنية بتسليط قوة على قوة بدل أن تتعاون القوتان؟ ولماذا نضيع الوقت في إذلال نصف السكان لنصفهم الآخر، ولا نضع أيدينا بعضها في بعض للتعاون والتساند؟ ولماذا يخيل لقوم ألا ينجحوا إلا بهدم أممهم للأمم الأخرى، مع أنها صالحة كل الصلاحية لتبني كما بنوا، وتشيد كما شيدوا؟ والله قد قسم الخيرات على الناس، فكما جعل أرضًا صناعية وأرضًا زراعية، جعل لعقول الأمم مميزات ولنفوسهم مميزات، ولا شك أن للعالم الإسلامي مميزاتٍ تغل الخير الكثير لو استغلت، وتساعد في بناء المجتمع لو استخدمت.

•••

جرى العالم الأوربي — إلى عهد قريب — على تنحية المسلمين وإبعادهم عن أن يشتركوا في البناء، ورسم خطة محدودة نحوهم، هي خطة المالك للعمال في مزرعته، وخطة صاحب رأس المال للمنتجين في مصنعه، لا خطة تعاون أصحاب رءوس الأموال، ولا خطة الشركاء في الإنتاج.

لقد غزا العالم الأوربي في القرن الماضي العالم الإسلامي بكل قواه، وبعبارة أخرى غزت قارة أوربا الممالك الإسلامية في آسيا وأفريقيا واستعملت في إخضاعها كل أسلحتها، فالمبشرون ينظمون قواهم لنشر دعوتهم في البلاد الإسلامية، ويتخذون لذلك المستشفيات والمدارس والملاجئ ستارًا لنشر دعوتهم، والملحدون يدعون إلى الإلحاد، وينشرون آراءهم في لباقة ومهارة، عارية صريحة، أو تحت ستار من ألوان براقة خداعة، ويأملون أن يتحرر المسلمون من دينهم، فإن ظفروا بذلك فقد ظفروا بنصف المكسب، ورجال السياسة يضعون الخطط لإذلال المسلمين وتحكيم دولهم فيهم، وتسيير الآلات الحكومية في الدول المستعمرة لخدمة الاستعمار، حتى لا يخرجوا قيد شعرة عما رسموا، ولا يفكروا في غير ما خطوا، ورجال الحرب ينفذون ما تشير به السياسة، فمن حدثته نفسه أن يفتح فاه في غير مصلحة الحاكم المستعمر فالويل له، ورجال الاقتصاد من وراء رجال السياسة يدرسون الحالة الاقتصادية للمسلمين دراسة عميقة، ويضعون الوسائل لاستغلالها في مصلحة أممهم، لا مصلحة من يستعمرونهم، فإن عجزوا عن تنفيذها اقتصاديًّا نفذوها سياسيًّا أو حربيًّا، وهكذا.

كان هذا كله، وأكثر من هذا كله، والمسلمون — كانوا — في شغل عن أمورهم، ترضيهم لعب كلعب الأطفال، ويسر كبارهم أن يطعموا أرفه الطعام، ويلبسوا أنعم الثياب، ولا يعنيهم من أمتهم إلا أنفسهم وأولادهم، ثم كانوا — كذلك — كالأطفال في عدم استطاعتهم إدراك المعاني المجردة، فالطفل لا يدرك أبوة ولا أمومة، وإنما يدرك أبًا أو أمًّا.

فكذلك هؤلاء، كانوا لا يدركون المعاني وإنما يدركون الأشخاص، فالفكرة لا تقدر في ذاتها، وإنما تقدر بقائلها، ويكفيهم في هذا المجال التنازع على فتات السلطة التي خلفها لهم المستعمر من موائده، والتنازع على الجاه والتنازع على العرض، وكلمات الصالح العام، ومصلحة الأمة، وخير البلاد، ونحو ذلك، كلمات جوفاء تقال على أفواههم، ولم تسكن قلوبهم، وتقال للتنكيل بخصم سياسي أو للقفز بها إلى الحكم، فإذا حكموا كانوا كسابقيهم، جعجعة ولا طحن، وقول ولا عمل!

•••

مضى على هذه الحال أعوام وأعوام، حتى بدأ النائم يستيقظ، وعمل على هذه اليقظة عوامل، من أخطاء ارتكبها الساسة في الحكم، ومن تعاليمَ أتت مع المدنية الحديثة، ومع الفاتحين في نظم الدولة وحقوق الإنسان، فتسربت إلى القادة، وتقطرت منهم إلى العامة، ومن مبادئَ إنسانيةٍ عامَّةٍ أعلنها قادة السياسة في الحرب العظمى، تبين حقوق الإنسان، أو تستعطف الأمم للدخول في صفها، أو تدعو إلى السلم، إلى غير ذلك من أسباب لا أطيل بذكرها.

غير أني لا أنسى هنا أن أذكر بالفضل قومًا من المنصفين الأوربيين، وقفوا للدفاع عن الإسلام وعن المسلمين، واستطاعوا بأقوالهم وخطبهم وكتبهم أن يعدلوا كثيرًا من الرأي العام الأوربي، فلم يعد الإسلام في نظر كثير منهم — كما كان — ذلك الدين الذي ينفث العصبية والحقد، ولا ذلك الدين الذي لا يصلح للعالم الحاضر ويجب أن يسرع في القضاء عليه قبل أن يموت تدريجًا، ولا ذلك الدين الذي ليس له أسس أخلاقية شريفة، ولا ذلك الدين الذي ليس له تأثير في الضمير إلخ، بل تحول كثير من الرأي العام إلى الاعتراف بصلاحية الإسلام للحياة، وابتنائه على أسس أخلاقية قويمة، كما تحول كثير إلى الوقوف على الحياد، بعد أن كان موقفهم موقف عداء، ثم كان من موضع الإعجاب ما ظهر به المسلمون أنفسهم من مناعة نحو تمسكهم بدينهم وبقوميتهم، فلم يلق التبشير الديني ولا السياسي من النجاح ما كان ينتظر!

•••

تحرك المسلمون يطالبون بحقوقهم، وسببوا بحركاتهم مشاكل للدول التي تحكمهم، ورأى الساسة أن حكمهم لم يصبح من السهولة كما كان، ورأى الاقتصاديون أن الاستغلال في أراضي المملكة الإسلامية أصبح عسيرًا، وأن غفلة المسلمين التي كانت تمكنهم من الاستغلال على أحسن وجه وأيسره قد زالت أو زال أكثرها، فعسر عليهم الإنتاج.

كما صادف أن العالم الأوربي تمزق بالخصومات والعداء، ولم يعد الأوربيون كلهم على اتفاق فيما بينهم، حتى يستطيعوا أن يرسموا خطة واحدة نحو الممالك الإسلامية.

كان من نتيجة ذلك كله أن تحول موقف الدول نحو البلاد الإسلامية تحولًا ظاهرًا، ورأوا أن يصانعوا المسلمين ويحاسنوهم ولا يخاشنوهم، فكانت المعاهدات المختلفة، للأقطار الإسلامية المختلفة، وإلغاء الامتيازات في الدول التي بقيت فيها، إلى كثير من أمثال ذلك.

•••

هذا عرض سينمائي سريع لتاريخ المسلمين الحديث وموقفهم الحديث، ولكن هذا الموقف الجديد يتطلب واجبات جديدة، ويحملهم أعباء ثقالًا، فإحداث الثورة أيسر من استغلالها، إذ هدأت، وإشعال النار أسهل من استخدامها في تسيير القطارات وإدارة الآلات، وقد ظل العالم يشعل النار طوال عهوده، ولكنه لم يعرف أن يستخدم البخار إلا في عهده الحديث، وواجبات العبد أيسر من واجبات السيد، ومسئولية الرجل أعظم من مسئولية الطفل.

فالعالم الإسلامي الآن يقف — لأول مرة — بعد العصور المظلمة — على رجليه، ويحاول أن يدير حكومته بنفسه، ويتحمل غلطاته، ويفخر بحسناته، وقد أصبح لأول مرة في العصور الحديثة عقلًا يدبر بعد أن كان يدًا تدار، وأمسك بيده المصباح، فإما أن يضيء به منزله إذا أحسن استعماله، وإما أن يحرقه إذا أساء استعماله، ووقف الآن يحمل أوزاره وأوزار آبائه، وديونه الثقيلة وديون آبائه، فكان الأمر جدًّا لا لعب فيه، وميدان جهاد لا مسرح مهزلة.

وإن أبواب الجهاد عديدة ليس شيء منها أولى من شيء، وقد علَّمنا الإسلام في تعاليمه الأساسية الأولى أن نعد أنفسنا ما استطعنا من قوة، نتسلح بالعلم كما تسلح القوم بالعلم، ونتسلح بالأداة الصالحة للحكومة كما تسلحوا، ونتدرع بتنفيذ العدل الدقيق كما تدرعوا، وبوحدة الأحزاب عند الخطر كما توحدوا، وبالاستعداد للطوارئ كما استعدوا، وفوق ذلك نتقوى بالخلق كما تقووا.

فأما أن يترك العالم الإسلامي بيوته فوضى، ويتنازع على الرياسة أو على من يمثله في المجتمعات والمؤتمرات، وأما أن تتحارب أحزابه لا للمصلحة القومية، ولكن لتولي الحكم، وأما أن يبذر أمواله على أنواع الترف والكماليات، وهو في أشد الحاجة إلى الضروريات، وأما أن يسير في آلاته الحكومية على أساس المحسوبيات والشهوات لا على أساس العدل الدقيق، وأما، وأما … فضرب من العبث إن اغتفر في الماضى فهو أكبر أنواع الإجرام في الحاضر.

إن موقفنا اليوم موقف التاجر يمارس التجارة لأول عهده، وموقف الشاب أونس منه الرشد فرد إليه ماله وروقب كيف يتصرف، ولسنا في عزلة عن العالم نفعل كما نشاء، وإنما نقف على مسرحٍ نظَّارته كل العالم، وليس لدينا من القوة العلمية والأدبية والحربية ما يحمل العالم على أن يغفر لنا خطايانا ويغمض طرفه عن زللنا، ويقف العالم منا موقف الرقيب ماذا نصنع والراصد ماذا نعمل، وفي أعناقنا تبعاتنا وتبعات أبنائنا من بعدنا.

فلنجعل العالم يهابنا في إجلال، ويحترمنا كصديق، ويعاملنا كشريك، ولا يمس حقوقنا لقوتنا، ويفسح لنا في بناء المدنية لقدرتنا، ويؤمن — بأعمالنا لا بأقوالنا — بأن لنا مجدًا قديمًا أتبعناه بمجد حديث، ولنُسمع من لم يسمع أن المسلمين لم تمتهم الأحداث الثقال، وإنما أنامتهم ثم انتبهوا، وخدرتهم ثم انتعشوا، وأنهم منذ انتبهوا عملوا مع العاملين وجدُّوا مع الجادين.

هذا، أيها العام الجديد، رجاؤنا فيك وأملنا منك، فكن صفحة مجيدة يسجل فيها العالم الإسلامي نبل فعاله وخير أعماله، وكن لهم منارًا حتى يهتدوا بضوئك ويأنسوا بنورك ويبددوا ما يحيط بهم من ظلام، ويضطلعوا فيك بأعبائهم الجسام، حقق الله الآمال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤