في المدنية الحديثة

لعل أهم مظهر من مظاهر المدنية الحديثة أنها جعلت الحياة مؤسسة على العلم.

حاولت أن تغزو كل مرفق من مرافق الحياة وتؤسسه على العلم؛ فالفلاحة مؤسسة على العلم في ري الأراضي وآلات الزرع والحصاد، والزراعة مؤسسة على العلم، في شأن النبات ووقايته، وآفاته وما إلى ذلك، وهكذا في كل شأن من شئون الحياة: تربية الأولاد مؤسسة على العلم، والحياة الاقتصادية مؤسسة على العلم، والحرب مؤسسة على العلم، ولا شيء يحدث اعتباطًا، وإنما هناك درس علمي واستنتاج علمي وبناء العمل على ما وصل إليه العلم.

ولعلك إذا قارنت الشرق بالغرب فأول ما يفجؤك من وجوه الفروق أن الشرق — في كثير من شئونه — لا يسير على مقتضى العلم، والغرب يسير في كل شئونه على العلم.

الفلاح في الشرق يفلح لا على مقتضى العلم، ولكن على مقتضى التقاليد، والعلم يتقدم ويبحث ويخترع، ولا تزال آلات الزراعة عندنا على ما كانت عليه في عهد قدماء المصريين إلا في القليل النادر، وحياة الفلاحين كما كانت في عهد قدماء المصريين كذلك، وقد أحدث العلم ثورة في تربية الأولاد، وسير الغريبون تربيتهم وفق العلم، وحافظنا على تربية أولادنا وفق التقاليد، والتجارة صارت علمًا يدرس، وله نظريات ثابتة بنوا عليها تجارتهم، ونظموا بها دخلهم وخرجهم، وتجارتنا مؤسسة على البركة، إلى آخره.

وهذا الفرق بين المدنية الغربية والمدنية الشرقية هو الذي مكن الغرب من استعمار الشرق، فقد أسس الغرب سفنه على علم الملاحة، وأعد أدوات قتاله حسب علم الميكانيكا والطبيعة والكيمياء، ودرس الجغرافيا، وعرف الأرض وما حوت، وحيي حياته كلها وفق العلم، ودرس الشرق فرآه لا يطبق حياته على العلم، فغزاه بالعلم، واستعمره بالعلم، وتمكن منه بالعلم.

وقد استغلت المدنية الحديثة العلم إلى أقصى حد ممكن، فطبقته على كل مرفق من المرافق، استعملته في الترف والنعيم بما اخترعت من قطارات وسيارات وتلغراف ولاسلكي وكهرباء، واستعملته في شئون الاقتصاد والتجارة، وفي تأسيس البنايات الضخمة والآلات الفخمة، واستخدمته أيام الحرب في الغازات الخانقة والكمامات وأدوات القتال على اختلاف ألوانها وأنواعها.

وكلما كان العلم أمس بالحياة كانت المدنية أكثر به عناية، ولهذا كانت العلوم الطبيعية أكثر العلوم أهمية في نظر المدنية، وقد بلغت هذه العلوم من الرقي حدًّا كبيرًا نفذت به المدنية إلى مناحي الحياة المتشعبة في المنزل وفي الشارع وفي المدينة وفي السلم والحرب.

وكان من نتيجة هذا أن ضعفت العناية بما لم يترتب عليه في الحياة عمل، حتى الفلسفة غلبت عليها الناحية العملية، وعني فيها بالنفس والاجتماع والمنطق أكثر مما عني فيها بما وراء الطبيعة والإلهيات.

ودرات آلة العلم في المدنية الحديثة دورًا عنيفًا وسريعًا، وأحل العلماء في المجتمع محلًّا رفيعًا، وامتلأت أوربا بقاعات البحث، وتخصص العلماء للدرس والاستكشاف، وكلما وصلوا إلى نتيجة علمية أخذها التجار فحولوها إلى صناعة تملأ البيوت وتغزو الأسواق وتنفذ إلى صميم الحياة العملية.

أصبح هذا هو طابع المدنية الحديثة الذي يتجلى في كل مظهر من مظاهرها، كما أصبح هو مقياس رقي الأمم، فالأمة أرقى من أمة؛ لأنها أكثر تقدمًا في العلم وأكثر استخدامًا له في حياتها اليومية، والغرب أسبق من الشرق؛ لأن محصول الغرب العلمي أكبر ولأن سيره على مقتضى العلم أتم.

وهذا هو أيضًا ما يحدد خطة السير التي يجب أن يسيرها الشرق إذا أراد أن يصل إلى ما وصل إليه الغرب، وهذه الخطة تتلخص في أن يجدَّ في العلم ويسير في حياته وفق العلم، وهذا يتطلب تعديلًا في قائمة العلوم كما فعل الغربيون، فيوضع في أولها العلوم الطبيعية من طبيعة وكيمياء وميكانيكا وهندسة وما إلى ذلك، والعلوم الاقتصادية والاجتماعية وما إليها، ثم ثورة على الحياة المؤسسة على التقاليد، وابتداء صفحة من التاريخ مؤسسة على العلم، في الفلاحة والزراعة والتجارة والتربية والتعليم والسياسة وكل شأن من شئون الحياة، فإذا وجه الحياة يتغير، وإذا الشرق سائر سير الغرب، وإذا الركود يتحول إلى حركة، وإذا أخطاء حياتنا تظهر في أشنع صورها، وإذا الخلف يعجب كيف كان يسير السلف.

«العلم وتأسيس الحياة على العلم» هو المبدأ الذي يجب أن يكون شعار الأمم التي تريد النهوض، وهو المفتاح الذي نفتح به أبواب الحياة، وهو المصباح الذي نبصر في ضوئه كل عيوب الحاضر.

الفرق بين مدنية العصور الوسطى والمدنية الحديثة كالفرق بين «الأجزاخانة» ودكان العطار، وكالفرق بين الطب الحديث وطب الرُّكَّة، قد ينفع دكان العطار وقد ينفع طب الركة، ولكن نفعهما مبني على المصادفة والبخت، على حين أن نفع النوع الأول مبني على الدرس ومعرفة السبب والمسبب والعلة والمعلول، إذا نفع النوع الثاني فنفعه تقليد وعقيدة، وإذا نفع الأول فعلم ومنطق.

والفرق بينهما أيضًا كالفرق بين عربات النقل والسيارة، أولاهما كانت تساير الزمن البطيء والحياة البطيئة التي كان الناس يحيونها، والثانية تساير الزمن السريع والحياة السريعة التي يحياها الناس الآن.

ومحال إذا أردت مجاراة الزمان ومواجهة الواقع أن تحارب الأجزاخانة بالعطار والقطار بالعربة، إلا إذا عشت في أتم عزلة عما حولك من العالم، ومحال أن يكون ذلك، فالعلم أيضًا كسر الحدود، وصير العالم وحدة لا وحدات.

لقد آمنت المدنية الحديثة كل الإيمان بقانون السببية، فكل ظاهرة في الوجود إذا حدثت فهناك سبب لحدوثها، وإذا أريد علاجها فلا بد من علم بها ووضع العلاج على أساس العلم بها، تستوي في ذلك الظواهر الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية، على هذا الأساس نظموا حياتهم في الصحة والمرض، في شئون المال، في شئون التربية، في الإقدام على المشروعات، في علاج المشكلات، الدرس أولًا ومعرفة العلل والأسباب والنتائج.

ثم بناء العمل على هذا الدرس، لا شيء يعمل سَبَهْللًا، ولا شيء يعمل اعتباطًا، في المدرسة يبنون حياتهم المدرسية على دراسة النفس وعلم التربية، وفي البيت يبنون حياتهم المالية على قوانين الاقتصاد، وفي حياتهم السياسية على قوانين علم الاجتماع، وفي حياتهم الحربية على علوم الحرب وفنونها وإحصاءاتها وتجاربها الميكانيكية والنفسية، حتى لهوهم ولعبهم مبني على قوانين النفس وقوانين الرياضة.

وبقدر ما توسع القدماء في دائرة القضاء والقدر ضيقت المدنية الحديثة من هذه الدائرة، فالغنى والفقر والصحة والمرض والفساد والصلاح والنصر والهزيمة والنجاح والفشل كانت كلها عند الأقدمين داخلة في دائرة القضاء والقدر، وأكبر جزء منها في المدنية الحديثة داخل في دائرة قانون السببية، وهكذا.

قد صيرت المدنية الحديثة العالم جامعة كبيرة وطبقت عليه نظام الجامعة، جمع للظواهر ودراسة دقيقة لها وإجراء التجارب عليها، وعمل ما يستلزمها من إحصاءات وما إليها، وإبعاد ما ليس للظاهرة المعروضة علاقة بها، واستنتاج الحل لهذه الظواهر بعد الدرس.

والفرق بين جامعة العالم والجامعة الخاصة أنهم في جامعتهم الواسعة يريدون أن يطبقوا ما وصلوا إليه من نتائجَ على الحياة العملية، ويعدون البحوث المجردة بحوثًا ميتة لا حياة فيها ولا روح، ويرون أن العلم ليس للعلم، وإنما هو ليستخدم في الحياة وليُسعد الحياة، وليس العلم اللذة العقلية فقط، ولكنه لتشكيل مرافق الحياة حسب قوانينه، فالطبيعة والكيمياء والميكانيكا والرياضة ليست للزخرف العقلي، ولكنها لبناء الجسور وشق الترع واختراع الآلات لخدمة البشر وكل ضروب المدنية، وما لم ينبنِ عليه عمل فهراء باطل وشعوذة ممقوتة.

•••

هذا أهم فرق — في نظري — بين المدنية الحديثة والقديمة، وبين الأمم المتحضرة وغير المتحضرة، وبين الأمم الحاكمة والأمم المحكومة.

وهذا أيضًا هو الجانب الحسن في المدنية الحديثة وجانب القوة فيها، ولكن هناك من ناحية أخرى وجهًا ضعيفًا، وجهًا ينقص المدنية الحديثة لتكمل، ذلك أن للإنسان، بجانب قوته العاقلة التي نتاجها العلم والتي يرمز إليها عادة بالرأس، قوة أخرى روحية يرمز إليها بالقلب، ومن مظاهرها الدين والمثل العليا للخير والسلوك وما إلى ذلك، ولا بد لخير الإنسانية وسموها من تعادل القوتين ونمائهما معًا.

وقد رأينا المدنية الحديثة تُعلي شأن العقل والعلم علوًّا كبيرًا، ولا تعلي شأن القلب كذلك، حتى لرأيناها تحكم العقل في القلب، والعلم في الدين، والمنطق الجاف في السلوك.

لقد أدى إعلاء شأن العقل والعلم وحده إلى هذه الحروب الطاحنة الدامية، ولو تدخل القلب فأعلى شأن الإنسانية لوقف العلم عند خدمة الحياة، ولم يتعدها إلى إعدام الحياة، كما أدى إعلاء شأن العلم إلى أن وجهوه إلى الدين يشرِّحه كما يشرح الطبيب الجسم، ويحلله كما يحلل الكيمياوي الأشياء، ففقد روحه وفقد قيمته، وفقد الناس احترامه، وأنى للعلم أن يحكَّم فيما ليس من اختصاصه؟ إذ كيف تخضع الحب للمنطق، والشعور للعقل، والعاطفة للبرهان؟ إن تحكيم العلم في هذا كتحكيم العين في المسموع والأذن في المرئي والأنف في الملموس، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ، فلما حلل العلم الدين حوله من عاطفة إنسانية وطموح إلى المثل العليا إلى خدمة اجتماعية، لقد أنشأ الدين مملكة سماوية تشرئب إليها النفوس، وتسمو إليها الأرواح، فجاء العلم يحطم هذه المملكة ويرد الدين إلى حظيرة الواقع ودنيا الجماد.

لقد جاء الدين فدعا إلى إحياء القلب وإحياء البصيرة، وجاء العلم ينكر كل شيء إلا العقل وإلا المنطق، ولا أمل لسعادة الإنسان إلا بحياة عقله وقلبه معًا، واعتراف كل بحدود دائرته من غير أن يتعدى اختصاصه، لقد حول العلم الدين إلى رياضة، وجعل البرهنة عليه من جنس البرهنة على نظرية هندسية، وجهل الفرق بين شيء خارجي يبرهن عليه، وشيء في النفس ينكشف بالشعور، إن الدين شعور وإلهام مركزهما القلب، والعلم يشرح ويوضح ويبرهن ويستمد ذلك من الرأس، إن العلم ليعجز عن إدراك جمال الدين كما يعجز عن الشعور بجمال ازدهار الزهرة وابتسامة الطفل، لقد ملأ العلم الحياة مالًا واختراعًا، ولكن كان شأن الإنسان معه شأن الرجل كثر ماله فأنفق عمره فيه يديره ويدبره حتى لم يجد وقتًا ما يفكر فيه لنفسه، كذلك كان شأن الناس في المدنية الحديثة، تنوعت حياتهم وكثرت تكاليفهم، وازدحمت أوقاتهم، وامتلأت جيوبهم، ولكن فرغت قلوبهم، وعاشوا عيشة صاخبة لا يجدون فيها أنفسهم حتى كأنهم في حلم ثقيل.

كانت نتيجة هذه الحياة التي يعنى فيها بالعلم وحده، ويستخدم العلم فيها للحياة المادية وحدها أن أصبح مقياس الحياة القوة وحدها، القوة في المال وفي الجسم، ثم توجت هذه القوة بالتسلح، وكلما كانت الأمة أمضى سلاحًا وأشد فتكًا وأمعن في التنكيل كان ذلك دليل عظمتها وأدعى إلى احترامها، وهذا بعينه هو المقياس الوحشي القديم الذي كانت تقاس به الأمم أيام بداوتها، وكانت تقاس به الأفراد أيام سذاجتهم، ثم تغير هذا المقياس في حق الأفراد ولم يتغير في حق الأمم، أصبح الفرد يقوَّم بسلوكه وحبه للعدل والحق ونحو ذلك، ولكن لا يزال تقويم الأمم كما كان في نشأتها الأولى، بالقوة.

إن طغيان العلم على الروح والعقل على القلب هو وجه الضعف في المدنية الحديثة، ولا أمل في صلاحها إلا بتعديل عناصرها وحياة قلبها، إذ ذاك تنظر إلى الإنسانية لا إلى القومية، وإلى العدل والحق لا إلى الجنس، وإلى خير العالم كله لا إلى خير جزء منه، وهذا اللون هو لون المدنية المنتظر.

ولعل هذه الحرب بويلاتها تسلم إلى هذه النتيجة، فيعدل الأساس، ويعرف العلم حدوده والقلب حدوده، ويحيا الدين كما حيى العلم، وتزدهر الروح كما ازدهر العقل، ويتسلم زمام الأمم أقواها قلبًا وأحياها ضميرًا، لا أشدها دعابة وأكثرها تهويشًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤